تناسلت البيوت العشوائية على هامش المدينة كالنار في الهشيم أو كالفِطر حين انحبس المطر لسنوات، ومسَّت المجاعة كل الأرجاء، هاجرت أفواج البدو من القرى إلى الحواضر، وضاقت المدن، على بساطتها، بسكانها وضيوفها المهاجرين. بُنيتْ على الهامش، هذه المنازل، في حارات لا يميز بعضها عن بعض سوى أسماء أزقة وأرقام بيوت، تنعدم فيها المرافق الصحية، يقضي الناس حاجاتهم الطبيعية في الخلاء أو في علب الزيت أو تصبير الخضروات، قبل تطور البلاستيك، ويُقذفُ ما بها من قذارة قرب السور المحيط بالحارة الذي تحول مع مرور الوقت إلى مزبلة كبيرة تنفث روائح كريهة، وخاصة، أثناء الليل. على الطرف الآخر من الحي توجد ساقية ماء وحيدة، يجتمع القوم حولها طيلة النهار وجزء من الليل لجلب الماء إلى المنازل. عندما يسقط المطر تتغير الأشياء، وتصبح الدنيا غير الدنيا، تتبلل الأرض وتتحول التربة إلى وَحْل يعيق حركة المرور، ويسيء لنظافة الملابس.
تفصلنا عن الأحياء المجاورة، مسافة كبيرة، أرض خلاء جرداء، نعبرها للوصول إلى تلك الأحياء، حيث النور يتلألأ ليلا والمقاهي بأضوائها الكثيفة، والمحلات التجارية ذات الواجهات الزجاجية المثيرة، والشوارع المرصوصة بالإسفلت والنظيفة، والحركة الدؤوب. فرق شاسع بيننا وبينهم كأننا في ملجأ بعيد أو في قرية أصيبت بوباء ما، فعُزِلتْ عن باقي الأحياء خوفا من انتشار العدوى.. وعند الرجوع لا سيما ليلا تتحول هذه الأرض الخلاء الجرداء إلى معبر مخيف، قد يعترض سبيلك بعض اللصوص الذين لا هَمَّ لهم سوى السرقة بالعنف، ويمكن في بعض الأحيان أن تتعرض لما هو أفظع من ذلك، وتصبح مذموما في الحي يُشار إليك بالأصابع، كم سمعنا مثل هذه القصص، نرويها فيما بيننا، ويرويها لنا آخرون، تختلف فيها الصفات والأسماء وتبقى الأحداث هي هي.
عندما يحل الظلام يَبِيتُ الحي في عزلة تامة، ويتحول إلى مجموعة من العوالم الصغيرة؛ فالأطفال يجلسون على سور قصير من الحجارة يحيط ببيت بائعة النعناع⑴ ويحكون قصصا عن الأشباح والجن والعفاريت، ورغم الخوف الذي يصيبهم لا ينفكون يتابعون تلك القصص، ويختمونها بالرجوع إلى البيوت جريا وخوفا مما قد يحدث بعد أن تنادي إحدى الأمهات ابنها لكي يعود إلى البيت. والكهول والشيوخ غالبا ما يجلسون قرب دكان البقالة والتبغ للعب الورق و"الضامة"، يدخنون ويرتشفون بعض السوائل الغازية، أو الشاي الذي يطبخه بائع المواد الغذائية مقابل ثمن يؤديه المنهزمون، يكثر الكلام حول لعبة "الضامة"⑵، ويتحول إلى قهقهات تملأ المكان ضجيجا. الشبان تجمعهم كرة القدم وتفرقهم، يتفقون على الفريق الوطني، ويختلفون حول فرق محلية. يتبادلون التهم حول خيانة مكتب هذا الفريق أو ذاك، أو صراع جمعيات مشجعي فريق ما حول الأحقية في المشاركة في تدبير شؤون النادي بجوار المكتب المسير، كل طرف يلصق صفة عدم الأهلية بالطرف الآخر حتى تتعب الحناجر، وتتسلل من الجمع فرادى وثنائي إلى أن ينفض الجمع. تغيب النساء خلف الأبواب بعد تجمعات يمتزج فيها الحزن بالضحك والغناء، يعود الأطفال والرجال والشبان إلى منازلهم، يبيت الحي مقفرا إلا من الحراس الليليين وبعض الكلاب. تنتشر السكينة بعدما يخلد الكل إلى النوم.
والناس نيام، وفي وقت أحلامهم الصغيرة، يتحرك شبح امرأة من مكان إلى آخر، من المنزل المرقم بواحد وعشرين في الزقاق الخلفي إلى بيت خلف شجرة تين عتيقة، إنها فطومة، عادة دأبت عليها منذ مدة ليست بالقصيرة، تنتظر حتى تنقطع الأرجل من الطريق، وتتسلل إلى بيت بوعزة⑶ الثعلب لتسرق لحظات متعة؛ خمر وجنس. هي المرأة القادمة من سهول الشاوية⑷أيام شبابها، حين تزوجت بأحد أبناء القبيلة، إلى الدارالبيضاء، عاشت مع زوجها حياة بمرها وحلوها قبل أن يسرقه الموت، إثر حادثة شغل في ورشة للبناء. تعاطفت النسوة مع محنتها، وكن لا يتحدثن عن سيرتها إلا سرا، ويجدن لها الأعذار.
في إحدى الليالي من شهر يناير القارس برده، ولما انزوى الكل في بيوتهم طالبين الدفء ونوما هادئا وأحلاما سعيدة، وبعد الفجر بالذات سُمعتْ جلبة المصلين العائدين من صلاة الصبح، فخرج الناس من بيوتهم لمعرفة ما يجري من أحداث، وإذا بهم يعرفون أن جثة امرأة قد أُلْقِيَ بها في الممر الخلفي، إنها جثة فطومة. فشرعت الأسئلة تتناسل من بعضها البعض:
ـ من القاتل؟ ـ من الفاعل؟! ـ أيمكن أن يتحول الحي إلى مرتع للجريمة، وأن يرتكب أحد ما هذه الجناية ؟
ـ أيمكن أن يكون الثعلب؟، ولكن الثعلب رجل مسالم يخاف من نباح كلب، وكيف له أن يقتل امرأة تؤنسه ليلا وتبدد عنه وحشة الظلمة وتدفئ فراشه أيام البرد وتلبي رغباته الشهوانية.
وصل الخبر إلى مخفر الشرطة فحضر البوليس، أنواع البوليس، كل الرتب والدَّرَجَات. قاموا بواجبهم؛ اطلعوا على الجثة وأخذوا لها صورا، ثم دخلوا إلى بيت بوعزة الثعلب فوجدوه هامدا هو الآخر بدون حراك، مطعون بسكين في البطن والعنق. أخرجوا جثته وحملوها مع الأخرى في سيارة الإسعاف، ثم انصرفوا لحالهم ما عدا الشرطة العلمية التي ظلت رابضة في المكان تستقصي الحقائق، وتبحث عما يمكن أن يكون مفيدا في البحث.
الدارالبيضاء في 30/11/2016
⑴ ـ نبات يستعمل مع الشاي الأخضر، يعطي نكهة خاصة، وهو أنواع
⑵ ـ لعبة محلية لها رقعة مثل رقعة الشطرنج، إلا أن اختلافا كبيرا بين اللعبتين
⑶ـ اسم محلي محول عن اسم "أبوعزة"
⑷ـ منطقة من مناطق المغرب، ذات سهول شاسعة وتربة جيدة
تفصلنا عن الأحياء المجاورة، مسافة كبيرة، أرض خلاء جرداء، نعبرها للوصول إلى تلك الأحياء، حيث النور يتلألأ ليلا والمقاهي بأضوائها الكثيفة، والمحلات التجارية ذات الواجهات الزجاجية المثيرة، والشوارع المرصوصة بالإسفلت والنظيفة، والحركة الدؤوب. فرق شاسع بيننا وبينهم كأننا في ملجأ بعيد أو في قرية أصيبت بوباء ما، فعُزِلتْ عن باقي الأحياء خوفا من انتشار العدوى.. وعند الرجوع لا سيما ليلا تتحول هذه الأرض الخلاء الجرداء إلى معبر مخيف، قد يعترض سبيلك بعض اللصوص الذين لا هَمَّ لهم سوى السرقة بالعنف، ويمكن في بعض الأحيان أن تتعرض لما هو أفظع من ذلك، وتصبح مذموما في الحي يُشار إليك بالأصابع، كم سمعنا مثل هذه القصص، نرويها فيما بيننا، ويرويها لنا آخرون، تختلف فيها الصفات والأسماء وتبقى الأحداث هي هي.
عندما يحل الظلام يَبِيتُ الحي في عزلة تامة، ويتحول إلى مجموعة من العوالم الصغيرة؛ فالأطفال يجلسون على سور قصير من الحجارة يحيط ببيت بائعة النعناع⑴ ويحكون قصصا عن الأشباح والجن والعفاريت، ورغم الخوف الذي يصيبهم لا ينفكون يتابعون تلك القصص، ويختمونها بالرجوع إلى البيوت جريا وخوفا مما قد يحدث بعد أن تنادي إحدى الأمهات ابنها لكي يعود إلى البيت. والكهول والشيوخ غالبا ما يجلسون قرب دكان البقالة والتبغ للعب الورق و"الضامة"، يدخنون ويرتشفون بعض السوائل الغازية، أو الشاي الذي يطبخه بائع المواد الغذائية مقابل ثمن يؤديه المنهزمون، يكثر الكلام حول لعبة "الضامة"⑵، ويتحول إلى قهقهات تملأ المكان ضجيجا. الشبان تجمعهم كرة القدم وتفرقهم، يتفقون على الفريق الوطني، ويختلفون حول فرق محلية. يتبادلون التهم حول خيانة مكتب هذا الفريق أو ذاك، أو صراع جمعيات مشجعي فريق ما حول الأحقية في المشاركة في تدبير شؤون النادي بجوار المكتب المسير، كل طرف يلصق صفة عدم الأهلية بالطرف الآخر حتى تتعب الحناجر، وتتسلل من الجمع فرادى وثنائي إلى أن ينفض الجمع. تغيب النساء خلف الأبواب بعد تجمعات يمتزج فيها الحزن بالضحك والغناء، يعود الأطفال والرجال والشبان إلى منازلهم، يبيت الحي مقفرا إلا من الحراس الليليين وبعض الكلاب. تنتشر السكينة بعدما يخلد الكل إلى النوم.
والناس نيام، وفي وقت أحلامهم الصغيرة، يتحرك شبح امرأة من مكان إلى آخر، من المنزل المرقم بواحد وعشرين في الزقاق الخلفي إلى بيت خلف شجرة تين عتيقة، إنها فطومة، عادة دأبت عليها منذ مدة ليست بالقصيرة، تنتظر حتى تنقطع الأرجل من الطريق، وتتسلل إلى بيت بوعزة⑶ الثعلب لتسرق لحظات متعة؛ خمر وجنس. هي المرأة القادمة من سهول الشاوية⑷أيام شبابها، حين تزوجت بأحد أبناء القبيلة، إلى الدارالبيضاء، عاشت مع زوجها حياة بمرها وحلوها قبل أن يسرقه الموت، إثر حادثة شغل في ورشة للبناء. تعاطفت النسوة مع محنتها، وكن لا يتحدثن عن سيرتها إلا سرا، ويجدن لها الأعذار.
في إحدى الليالي من شهر يناير القارس برده، ولما انزوى الكل في بيوتهم طالبين الدفء ونوما هادئا وأحلاما سعيدة، وبعد الفجر بالذات سُمعتْ جلبة المصلين العائدين من صلاة الصبح، فخرج الناس من بيوتهم لمعرفة ما يجري من أحداث، وإذا بهم يعرفون أن جثة امرأة قد أُلْقِيَ بها في الممر الخلفي، إنها جثة فطومة. فشرعت الأسئلة تتناسل من بعضها البعض:
ـ من القاتل؟ ـ من الفاعل؟! ـ أيمكن أن يتحول الحي إلى مرتع للجريمة، وأن يرتكب أحد ما هذه الجناية ؟
ـ أيمكن أن يكون الثعلب؟، ولكن الثعلب رجل مسالم يخاف من نباح كلب، وكيف له أن يقتل امرأة تؤنسه ليلا وتبدد عنه وحشة الظلمة وتدفئ فراشه أيام البرد وتلبي رغباته الشهوانية.
وصل الخبر إلى مخفر الشرطة فحضر البوليس، أنواع البوليس، كل الرتب والدَّرَجَات. قاموا بواجبهم؛ اطلعوا على الجثة وأخذوا لها صورا، ثم دخلوا إلى بيت بوعزة الثعلب فوجدوه هامدا هو الآخر بدون حراك، مطعون بسكين في البطن والعنق. أخرجوا جثته وحملوها مع الأخرى في سيارة الإسعاف، ثم انصرفوا لحالهم ما عدا الشرطة العلمية التي ظلت رابضة في المكان تستقصي الحقائق، وتبحث عما يمكن أن يكون مفيدا في البحث.
الدارالبيضاء في 30/11/2016
⑴ ـ نبات يستعمل مع الشاي الأخضر، يعطي نكهة خاصة، وهو أنواع
⑵ ـ لعبة محلية لها رقعة مثل رقعة الشطرنج، إلا أن اختلافا كبيرا بين اللعبتين
⑶ـ اسم محلي محول عن اسم "أبوعزة"
⑷ـ منطقة من مناطق المغرب، ذات سهول شاسعة وتربة جيدة