بانياسيس - اللا.. نص غير مجنس

رأيت الإسكافي تحت سلم مترو الأنفاق يتحدث على هاتفه ، المكان كان مغمورا بالقاذورات والأبوال السوداء الملتصقة بالحيطان وأكوام من أكياس الشيبسي الخالية وبرتقالة فاسدة وبراز كلب أزداد صفرة وانكمش متحجرا في شبه نصف دائرة..وفي الوسط جلس الإسكافي الذي لا يمكن تبين ملامحه من السناج الأسود الذي يلوث السماء من عوادم السيارات ومصنع سجائر ضخم وسط المباني السكنية. كل هذا مر بي في ثواني فقط لكن ما أوقفني هو أن الاسكافي لم يكن يتحدث إلى هاتفه بل إلى فرشاة الأحذية الخشبية. كان يتحدث بجدية والفرشاة على أذنه اليسرى .. الناس مروا كثيرا من حوله وربما أعرض البعض عن تلميع أحذيتهم عنده لما رأوه مشغولا بحديث طويل مع هاتفه المختفي داخل قبضته الضخمة ذات الأصابع المتورمة والمتسخة.
يمين السلالم كان نفق الجيزة الصغيرة محشوا بالسيارات المجنونة في تحليقها فوق الأسفلت فجلست على الإفريز..وأخرجت سجارة -كنت أدخن في ذلك الوقت- وأخذت أتأمل الاسكافي الذي ظل يتحدث ويتحدث إلى فرشاته الخشبية ، كان مبتسما وأسنانه البنية القذرة تبرز من أعماق فمه الذي التصقت به خيوط لعاب بيضاء...
فتيات يمرن بقربي وهن كعادتهن يثرثرن عن شخص غير حاضر معهن.. أسمعهن يتحدثن دائما عن كائن شيطاني شرير... مهما مرت فتيات إلا وكان الشرير عالقا في ألسنتهن. ولا زال الإسكافي يتحدث إلى فرشاته الخشبية. على ناصية أخرى رأيت الصبي الذي يعمل في محل القصب يهرول مسرعا وهو يمسك يده اليمنى وعرفت أنه أدخل قصب السكر للمكبس الأسطواني الضخم فارتشف هذا الأخير يده مع سيقان القصب..انقطع أربعة من أصابعه وبقى إبهامه وصاحب المحل يصفعه في قفاه غاضبا .. لم أفهم سر غضبه..لكنني أنا كذلك أشعر بالغضب في مثل تلك المواقف .. بدلا عن الحزن أشعر بالغضب وهذا دليل على اختلالات في الجهاز العصبي الذي يعكس الاستجابات المنطقية للمؤثرات الخارجية. أعرف أن هناك من ينفجرون ضاحكين عند خبر موت أحد أقاربهم بدلا عن البكاء ، وهناك من يبكون في لحظات الفرح..هذا التضارب في سلوك الجهاز العصبي ليس مستغربا ، فالناس يضحكون عندما ينزلق شخص ويسقط على الأرض....إن هذا مشهد لا يمكن أن تتجنبه أي مسرحية هزلية ومع ذلك فالناس يضحكون رغم أن تلك السقطة قد تسبب ألما أو كسرا يصعب شفاؤه...الأطفال يضحكون أيضا لأنهم لا يعرفون عواقب الأشياء ولكن لماذا يفعلها البالغون؟ ليس لأنهم لا يعرفون العواقب ولكن لأنهم مختلون عصبيا...إن الشيء الوحيد الذي يفزعهم هو رؤية الدم الأحمر ينفجر من رأس شخص سقط ومع ذلك فهم يشربون أي مشروب أحمر كالدم بلا أدنى تردد.. اللون في الحالتين واحد ولكن هناك وعي بسبب اللون في الجرح ووعي بسبب اللون الأحمر في العصير...إنهم في الواقع يفزعون من سبب الدم وليس الدم نفسه بل في الواقع يفزعون من تجسد العاقبة أمام أعينهم وليس سبب الدم .. بل في الأساس لا تفزعهم تلك العاقبة في حد ذاتها بل يفزعهم خيال أن يكونوا هم يوما ما محل ذلك الذي ينزف رأسه دما.. فليس للدائرة أضلاع ولا نهاية ولا بداية.....والاسكافي لا يزال يتحدث إلى هاتفه الخشبي.
كتب اتشيبي عن أشياء تداعى..واشتهرت روايته التي لم اقرأها ومع ذلك اتخذت ضدها موقفا سلبيا. ربما لأنني لا أرى الأشياء تتداعى أبدا.. تتداعى كلمة سخيفة تخلق نوعا من السلاسل الخفية التي تجر كتلا من الوقائع وراء بعضها..لو كانت الحياة هكذا لكان كل الناس قد عرفوا مستقبلهم حتى لو كان التداعي هو الإنهيار... لكن من قال أن هذا الاسكافي الذي يحلم بهاتف محمول فيتقمص حلمه مع فرشاته لن يصبح مليونيرا يوما ما...هل يشعر الناس بأن ما يفعله هذا الإسكافي جنونا وهو يتقمص حلمه مع خشبة.. في الواقع من ذا الذي لا يفعل ما يفعله الإسكافي منذ اللحظة التي يمارسون فيها العادة السرية متقمصين صورة ممثلة عارية أو مطرب وسيم مرورا بتلك الحالات المستمرة من التقمص للخيال والذي يرسم تجاعيد الجدية حين يؤدون مهاما تافهة جدا...إنهم يتقمصون أهمية في خيالهم ليتمكنوا من متابعة الأنشطة التافهة بصبر... بلا شعور بأهمية ما تعمل ستفقد حماسة (أن) تعمله...تخيل أن كتابة قصة تافهة كهذه يمكن أن تحرر العبيد المغيبين مسحوقي المعنى داخل مكابس النظام الرأسمالي في أمريكا والدكتاتورية في الصين والاضطرار في اليابان .. حيث الكل يجب أن يعمل..يجب أن يعمل أي يجب أن يضحي باكتشاف ذاته ليسحق ذاته ذاتها من أجل أن يظل حيا فقط....لقد فعل هذا الاسكافي العكس ، لقد ضحى بعشرة أحذية على الأقل مقابل اكتشاف ذاته مع خشبة صماء...إنه يكتشف كيف يدير حديثا عبر هاتف محمول وأن يظل مبتسما طيلة الوقت ليس قهرا كما تفعل فتيات الإعلانات وإنما بابتسامة نمت من بذرة الفرح وأورقت داخل دماغه ثم فسرتها تلك الكتلة الدهنية داخل الجمجمة كمط للشفاه وفغر للفاه .. تلك الحركة البسيطة رغم أنها أكثر تعقيدا مما نظن -أو أظن- منعا للتعميم ؛ أن تمط شفتيك وتجعلهما في شكل منحنى خطي أطرافه لأعلى ومدبب لأسفل... إنها حركة تعني شيئا عندما تكون حقيقية .. وتكون حقيقية عندما تحدث بعفوية .. وتكون صفراء..هكذا أسموها ..ابتسامة صفراء..لماذا صفراء وليست حمراء أو خضراء أو بيضاء..؟ لا إجابة.. إن الناس خلقوا مجازات كثيرة لا معنى لها ليتمكنوا من وصف ما لا يمكن وصفه..ابتسامة صفراء..تعني شفتين ملتزمتين بالقانون الشكلي ولكن فارغتين موضوعيا مما يجب أن تعبران عنه وهو إن جهازنا العصبي مغتبط.. إنها ابتسامة تعني اللا ابتسام..تعني القرف أو الامتعاض أو التقزز أو السخرية أو التعجرف أو ادعاء النصر أمام هزيمة واضحة كالشمس...لكن الإسكافي كان ملتزما بعفوية الابتسام رغم عدم عفوية السبب...هذا يعني أنه كان غارقا في الغوص داخل ذاته ليكتشف أسماكها الملونة..
لمحني وأنا أنظر إليه ، لم يشعر بالخجل ولم يضطرب بل اتسعت ابتسامته...فذهبت إليه...وقفت أمامه ، رفع رأسه وهو لا يزال مبتسما ومتحدثا إلى فرشاته... أبعد الفرشاة عن أذنه اليسرى وقال هامسا بجزل:
- يريد التحدث إليك...
مد لي بفرشاته فقلت دون أن أخرج يدي من جيبي بنطلوني..
- لو كانت أنثى لتحدثت إليها لكنني لا أحب الحديث بالهاتف مع الرجال...أفضل أن ألتقي بهم وجها لوجه..
رمش بعينيه وقال معترضا:
- هذا ليس رجلا..
قلت:
- امرأة..
نفض رأسه سلبا... ثم غمز بعينه اليمنى وقال وابتسامته تتسع:
- إنه لا شيء من ذلك...
رفعت حاجبي بحيرة ثم مددت يدي وتناولت الفرشات الخشبية...وضعتها على أذني وأنا أراقب المارة .. هل سيسخرون مني؟ انسرب صوت موسيقى كريستالية من داخل الفرشاة الخشبية...
سمعت صوت جوقة تترنم بكلمات غير مفهومة ، سألت الإسكافي:
- لم أستطع تحديد طبيعة المغنين..لا هو صوت ذكور كامل ولا صوت إناث كامل..لا صوت بالغين ولا أطفال... صوت غريب جدا لم أسمع مثله من قبل..
ظل رافعا رأسه وابتسامته أكثر اتساعا من ذي قبل..ثم غمغم وهو حتى لا يريد أن يخرج صوت كلماته بوضوح حتى لا يتخلى عن ابتسامته:
- اصبر.. استمع ولا تتعجل...
كانت الجوقة تترنم بأغنية تحتويها موسيقى الكريستالات ، قطبت وجهي محاولا التركيز في كلماتهم الغامضة.....قلت بصوت خفيض:
- ماذا تغنون؟
سمعت الجوقة تضحك مغتبطة مبتهجة من سؤالي فابتسمت.. كانت الجوقة تضحك بصوت بديع شديد الدفء.. قلت ممازحا:
- تسخرون مني؟
ازداد ضحك الجوقة .. وشعرت بغبطة فاتسعت ابتسامتي...رحت أسألهم متظاهرا بالاعتراض على ضحكهم ليزدادوا ضحكا... وتزداد ابتسامتي اتساعا....لا أعرف لماذا تسربت فرحة ما إلى أعماقي هكذا.. ظللت أحدثهم وأنا ابتعد عن الإسكافي .. لم التفت ورائي.. كنت قد عشقت صوت ضحكاتهم .. سرت وسرت وأنا اتحدث لفرشاة الاسكافي الخشبية....كانت ابتسامتي أوسع من كل هذا العالم.. هذا العالم اللا.....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...