رحل ثانى اثنين اعتبرهما الأديب الكبير يحيى حقى حملة لواء الأدب الساخر فى مصر فأهداهما كتابه « فكرة فابتسامة»: (إلى محمد عفيفى ومحمود السعدنى، لأنهما يحملان لواء الفكاهة فى بلدنا، ويشيعان الفرح فى قلوب أهله). رحل محمد عفيفى عام 1981بعد رحلة ممتدة أنتج فيها أدبا مائزا يهدف إلى التحايل على تأزمات الحياة بالسخرية منها والضحك منها وعليها، إلى الحد الذى جعله يأبى أن يكون خبر نعيه مؤلما أو مسببا للحزن لمحبيه، فكتب نعيه قبل موته بنفس طريقته ليسخر من الموت ويرسم ابتسامة نادرة التواجد على وجه قارئ لصفحة الوفيات:(عزيزى القارئ: يؤسفنى أن أخطرك بشىء قد يحزنك بعض الشىء وذلك بأننى قد توفيت، وأنا طبعا لا أكتب هذه الكلمة بعد الوفاة (دى صعبة شوية) وإنما اكتبها قبل ذلك، وأوصيت بأن تنشر بعد وفاتى، وذلك لاعتقادى بأن الموت شىء خاص لا يستدعى ازعاج الآخرين بإرسال التلغرافات والتزاحم حول مسجد عمر مكرم حيث تقام عادة ليالى العزاء. وإذا أحزنتك هذه الكلمات، فلا مانع من أن تحزن بعض الشىء، ولكن أرجو ألا تحزن كثيرا».
هكذا كان أسلوب عفيفى خفيفا محببا للنفس يعتمد على اللغة الأنيقة والتعبير البسيط لتجتمع فى أعماله سمات الأدب والفكاهة التى تعتمد على اللعب بالكلمات العادية لتعطى مدلولات غير عادية وغير متوقعة على الإطلاق، ثم جاء رحيل الولد الشقى محمود السعدنى ليثير تساؤلا مهما عن حال الأدب الساخر الذى برع فيه هو الآخر بحيث صارت له بصمة واضحة تدل على كتاباته خفيفة الظل فائقة الجودة ولو تم اخفاء اسمه من عليها. والسؤال هو هل يمكن أن نعتبر ما يصدره الظرفاء والمستظرفون من خفيفى الظل هذه الأيام – وهم كثرة - أدبا ساخرا ؟ أم أنها مجرد قفشات الغرض منها استلاب الضحكات عنوة من الأصدقاء والمعارف ومن يسعدهم الحظ بنسخة مجانية من الكتاب؟ وهل كان هدف محمود السعدنى ومن قبله محمد عفيفى استلاب ضحكات القراء؟ هل كانت الكتابة الساخرة بالنسبة لهما نوعا من النكات أو الحكايات الطريفة التى من الممكن أن يتسلى بها رواد مقهى أو جلسة سمر على شاطئ النيل مثلا؟.
من الملاحظ كثرة الإصدارات التى يصنفها أصحابها تحت مسمى أدب ساخر، ووفقا لهذا التصنيف يتوقع القارئ أن يجد عملا تتوافر فيه شروط الكتابة الأدبية ومقومات العمل الساخر من حيث الفكرة وأسلوب التناول الذى يجعله جديرا بأن يضمه كتاب منشور. وبما أن الكتابة شكل من أشكال الإبداع الذى يعرفه الدكتور مراد وهبة بأنه:«قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع» فقد اشتمل هذا التعريف على عنصرين، الأول هو تكوين علاقات جديدة، والثانى تغيير الواقع. وإذا استثنينا الجزء الخاص بتغيير الواقع لصعوبة هذا التصور أو مثاليته، وأيضا كمبرر لالتماس بعض المميزات لهذا النوع الجديد من الكتابة، لوجدنا أنه لا يندرج تحت مسمى «ابداع» فلا فكر فيه ولا مضمون ولا وجود للعقل فى أغلب الأعمال المتواجدة الآن، بل إن تغييب العقل والإعلاء من شأن القهقهات هى الرسالة المتفق عليها، فتظهر «المسخرة» فى أوضح صورها حيث تقتصر على توثيق لغة الشوارع والمقاهى كما هى دون أى تصرف أو مجهود من الكاتب المزعوم. وعلى العكس لم يكن هدف عفيفى والسعدنى الاضحاك أو المؤانسة فى ليل السامر، كتب عفيفى «تائه فى لندن»، وكتب السعدنى «حمار من الشرق» ليجمعا بين أدب الرحلات والسرد الخفيف والروح المرحة الشفيفة دون ابتذال المباشرة والنقل التوثيقى للأحداث. وفى أكثر كتب السعدنى الساخرة جدية «الولد الشقى فى السجن» يقص حكايا مأساوية لخارجين عن القانون ويوضح الجانب الخفى من حيواتهم التى لا تخلو من بعض شهامة ومروءة بخفة روح يرسم بها ضحكة غير مفتعلة، وفى ذات الوقت يثير دمعة أسى على حال بعضهم مثل سيد الحليوة، أو البحار اليابانى صديق اليانكى وغيرهما. وفى كتاب عفيفى «للكبار فقط» والذى قد يوحى عنوانه للبعض أخيلة تتجاوز حاجز الملابس، فقد ضم مجموعة كاملة من الحكم والأقوال المأثورة ترسم بسمة تنطلق من فكرة ناقدة لواقع ومشكلة حياتية بأقل الكلمات وأكثرها دلالة وأبسطها ليخاطب بها الرجل العادى والمثقف فى نفس الوقت.
قيل إن السعدنى دخل السجن بعد أن أطلق مزحة «نكتة» معينة، ولكن حتى هذه النكتة كانت راقية اللغة محكمة الكلمات لا توجد بها كلمة نابية واحدة أو سباب لأى فرد ينتقده فيها. وهذا عكس الكتابات الحالية التى تشبه الفقاقيع كمحاولات فاشلة لخلق نوع من المتعة المفتعلة ينتهى أثرها بغلق الكتاب ثم التخلص منه عن طريق بائع الروبابيكيا ولكن هل منا من تخلص من كتب السعدنى أو عفيفى؟ كانت كتابة عفيفى والسعدنى محاولة للتقليل من وقع ضائقة أو التحايل والالتفاف على واقع متأزم مع مواصلة العمل بالكتابة الناقدة للواقع، و لم تكن نوعا من التهافت على اصدار الكتب بغرض الحصول على لقب كاتب ساخر. وللحق فإن تدهور حال الكتابة الساخرة فى مصر تشبه تماما تدهور حال الأفلام الكوميدية التى أصبحت هى الأخرى تعتمد على فجاجة البطل المعتوه الذى يتحدث بطريقة غريبة ليسرق ضحكة من جيب دافعى تذاكر السينما. وكما أن هناك فى السيرك المهرج، ظهرت مجموعة من مهرجى الكتابة يعتبرون أن الضحك صناعة وليس فنا ولا أدبا على شاكلة «المهنة مزة والدلع سنكوح» وهؤلاء يخاطبهم محمد عفيفى قائلا» يا أيها الصارخون فى مكبرات الصوت، آه لو تعلمون كم تحتاج أصواتكم إلى مصغرات
هكذا كان أسلوب عفيفى خفيفا محببا للنفس يعتمد على اللغة الأنيقة والتعبير البسيط لتجتمع فى أعماله سمات الأدب والفكاهة التى تعتمد على اللعب بالكلمات العادية لتعطى مدلولات غير عادية وغير متوقعة على الإطلاق، ثم جاء رحيل الولد الشقى محمود السعدنى ليثير تساؤلا مهما عن حال الأدب الساخر الذى برع فيه هو الآخر بحيث صارت له بصمة واضحة تدل على كتاباته خفيفة الظل فائقة الجودة ولو تم اخفاء اسمه من عليها. والسؤال هو هل يمكن أن نعتبر ما يصدره الظرفاء والمستظرفون من خفيفى الظل هذه الأيام – وهم كثرة - أدبا ساخرا ؟ أم أنها مجرد قفشات الغرض منها استلاب الضحكات عنوة من الأصدقاء والمعارف ومن يسعدهم الحظ بنسخة مجانية من الكتاب؟ وهل كان هدف محمود السعدنى ومن قبله محمد عفيفى استلاب ضحكات القراء؟ هل كانت الكتابة الساخرة بالنسبة لهما نوعا من النكات أو الحكايات الطريفة التى من الممكن أن يتسلى بها رواد مقهى أو جلسة سمر على شاطئ النيل مثلا؟.
من الملاحظ كثرة الإصدارات التى يصنفها أصحابها تحت مسمى أدب ساخر، ووفقا لهذا التصنيف يتوقع القارئ أن يجد عملا تتوافر فيه شروط الكتابة الأدبية ومقومات العمل الساخر من حيث الفكرة وأسلوب التناول الذى يجعله جديرا بأن يضمه كتاب منشور. وبما أن الكتابة شكل من أشكال الإبداع الذى يعرفه الدكتور مراد وهبة بأنه:«قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع» فقد اشتمل هذا التعريف على عنصرين، الأول هو تكوين علاقات جديدة، والثانى تغيير الواقع. وإذا استثنينا الجزء الخاص بتغيير الواقع لصعوبة هذا التصور أو مثاليته، وأيضا كمبرر لالتماس بعض المميزات لهذا النوع الجديد من الكتابة، لوجدنا أنه لا يندرج تحت مسمى «ابداع» فلا فكر فيه ولا مضمون ولا وجود للعقل فى أغلب الأعمال المتواجدة الآن، بل إن تغييب العقل والإعلاء من شأن القهقهات هى الرسالة المتفق عليها، فتظهر «المسخرة» فى أوضح صورها حيث تقتصر على توثيق لغة الشوارع والمقاهى كما هى دون أى تصرف أو مجهود من الكاتب المزعوم. وعلى العكس لم يكن هدف عفيفى والسعدنى الاضحاك أو المؤانسة فى ليل السامر، كتب عفيفى «تائه فى لندن»، وكتب السعدنى «حمار من الشرق» ليجمعا بين أدب الرحلات والسرد الخفيف والروح المرحة الشفيفة دون ابتذال المباشرة والنقل التوثيقى للأحداث. وفى أكثر كتب السعدنى الساخرة جدية «الولد الشقى فى السجن» يقص حكايا مأساوية لخارجين عن القانون ويوضح الجانب الخفى من حيواتهم التى لا تخلو من بعض شهامة ومروءة بخفة روح يرسم بها ضحكة غير مفتعلة، وفى ذات الوقت يثير دمعة أسى على حال بعضهم مثل سيد الحليوة، أو البحار اليابانى صديق اليانكى وغيرهما. وفى كتاب عفيفى «للكبار فقط» والذى قد يوحى عنوانه للبعض أخيلة تتجاوز حاجز الملابس، فقد ضم مجموعة كاملة من الحكم والأقوال المأثورة ترسم بسمة تنطلق من فكرة ناقدة لواقع ومشكلة حياتية بأقل الكلمات وأكثرها دلالة وأبسطها ليخاطب بها الرجل العادى والمثقف فى نفس الوقت.
قيل إن السعدنى دخل السجن بعد أن أطلق مزحة «نكتة» معينة، ولكن حتى هذه النكتة كانت راقية اللغة محكمة الكلمات لا توجد بها كلمة نابية واحدة أو سباب لأى فرد ينتقده فيها. وهذا عكس الكتابات الحالية التى تشبه الفقاقيع كمحاولات فاشلة لخلق نوع من المتعة المفتعلة ينتهى أثرها بغلق الكتاب ثم التخلص منه عن طريق بائع الروبابيكيا ولكن هل منا من تخلص من كتب السعدنى أو عفيفى؟ كانت كتابة عفيفى والسعدنى محاولة للتقليل من وقع ضائقة أو التحايل والالتفاف على واقع متأزم مع مواصلة العمل بالكتابة الناقدة للواقع، و لم تكن نوعا من التهافت على اصدار الكتب بغرض الحصول على لقب كاتب ساخر. وللحق فإن تدهور حال الكتابة الساخرة فى مصر تشبه تماما تدهور حال الأفلام الكوميدية التى أصبحت هى الأخرى تعتمد على فجاجة البطل المعتوه الذى يتحدث بطريقة غريبة ليسرق ضحكة من جيب دافعى تذاكر السينما. وكما أن هناك فى السيرك المهرج، ظهرت مجموعة من مهرجى الكتابة يعتبرون أن الضحك صناعة وليس فنا ولا أدبا على شاكلة «المهنة مزة والدلع سنكوح» وهؤلاء يخاطبهم محمد عفيفى قائلا» يا أيها الصارخون فى مكبرات الصوت، آه لو تعلمون كم تحتاج أصواتكم إلى مصغرات