كان ياما كان، إذا مرة واحدة كان، عشرين مرة ما كان، في غابر الأزمان، في أحد المَضاربْ، اضرب المضروب، وقَبِّلْ يدَ الضاربْ، أطعمْ الشبعانَ ليملأ خاصرتيهِ، ولا تضربِ الجَوعان إلا على أليتيهِ، وكان ثمة بلد، أغلى على أهله من المال والولد، النورجُ يدور كالصحن، والغربالُ دائماً في التبن، أرضُه شاسعة، وشمسُه ساطعة، وناسُه رائعة.
وكان لهذا البلد ملك، لا هو بالمحبوب ولا المكروه، والشعب لا يخضع له إلا بما تقتضيه نواميس الخضوع المكتوبة، وإذا مر الملكُ بالناس في ساحة أو شارع أو زقاق، فإنهم يتابعون أعمالهم دون أن يقفوا احتراماً له، وكانوا لا يذكرون ملكَهم بخير أو شر، فكأنه غير موجود من عين أصله، وكأنهم يعيشون من دون ملك.
وذات يوم، جاء إلى الساحة العامة في ذلك البلد رجلٌ راكضٌ لاهث، اعتلى مسطبة عالية، وخاطب الناس قائلاً:
- هلموا إلي يا شباب، يا ناس، يا عالَمْ، يا هوه، تعالوا فاسمعوا مني ما شاهدتُه، وما يوقف شعر الرؤوس من فرط الاندهاش..
فتداخلت أصواتهم وهم يصيحون به:
- إحك يا غليظ!
- قل، تكلم!
- ماذا شاهدتَ يا حقير؟!
فقال:
- كنت مريضاً بالريح والدوالي في ساقيَّ، فوصف لي الحكيم المشي الطويل، فمشيت،..
ضحك بعض الحاضرين حتى انقلبوا على أقفيتهم، وغضب البعض الآخر حتى انطمرت أعينهم، وقالوا له هازئين، حانقين:
- الله يشفيك يا عم.
- تباً لك، ألهذا وقفت بنا خطيباً؟!
- تُضْرَبَنَّ في شَكلك المبعجر كالدب!
- اخرس، مفضوح !
- انزل، عكروت!
فقال وهو يهدئهم بإشارة من أصابعه:
- حُلمَكم علي أرجوكم. لقد مشيت، كما وصف لي الحكيم، أياماً وليالي، حتى وصلتُ الجبل العالي المطل على المملكة المجاورة، فتسلقتُه، ورأيت هناك ما تقشعر له الأبدان، وتشيب لهوله الولدان. أجل، صدقوني، رأيتُ منصة عظيمة منصوبة، والناس يمرون من تحتها أفواجاً وأفراداً، على إيقاع الطبول، والهتاف والزغاريد، ويحيون ملكهم. والله إني لا أطنب ولا أبالغ، لقد ظلوا يمرون من تحت المنصة ساعتين رمليتين، وربما أكثر،.. ولأنني مللت منهم، فقد تركتهم على هذه الحال وجئت مسرعاً لأخبركم بما رأيت.
لم يصدق الناس ما سمعوه من هذا الرجل، وصرخوا فيه ملء حناجرهم:
- اسكت، مجنون!
- انزل، مأفون!
- كُلْ هواء!
وهاجموه، وشحطوه عن المسطبة، وحولوه إلى ممسحة!
غير أنه كان قد غرس فيهم بذرة الفضول وحب الاستطلاع، فناموا على الموضوع حيناً من الزمن، ثم استيقظوا وشرعوا يتسللون- جماعات وفُرادى- إلى الجبل الذي يطل على المملكة المجاورة، وهناك تأكد لهم أن ما أبلغهم به الرجل صحيح، بل إن الرجل قَصَّـرَ في وصف مشاعر الحب التي يكنُّها شعبُ تلك المملكة لملكهم، فهي في الواقع أكبر بكثير مما روى الرجل، فعادوا إلى ساحة مملكتهم، وشرعوا يبكون ويلطمون خدودهم، متحسرين على أن الله تعالى لم يرزقهم بملك محبوب كجيرانهم!
وفجأة وقف شيخ مسن، وقال:
- يا شباب، ما لكم وما لهذه اللبكة؟ وما به ملكنا؟ ماذا يفعل لنا؟ إنه رجل طيب، يقوم بواجباته الملكية على الوجه الأكمل، ولا يؤذي أحداً،.. فاسمعوا من هذه اللحية واتركوا كل شيء على حاله.
هجموا على الشيخ ثائرين، وهم يصيحون به:
- اسكت يا غبي!
- كل هواء، فأنت لا تفهم!
- اخرس يا خرفان النحس!
وشدوه من دشداشته وحولوه إلى ممسحة!
ومشوا غاضبين نحو شرفة الملك، وقفوا تحتها وهم يصرخون:
- اخرج!
- قليل الحياء!
- كريه!
- خامل!
فلما خرج لهم الملك، وهو يعرك عينيه مندهشاً، تابعوا تقريعهم له قائلين:
- افرقنا برائحة طيبة!
- تَنَحَّ!
- نحن لا نحبك!
- ولا نكرهك!
- من أنت بين الملوك يا صعلوك؟!
تبسم الملك، جرياً على عادة الملوك الطيبين، وقال لشعبه الغاضب:
- أنا تحت أمركم، ولكننا لا نستطيع أن نتفاهم بهذه الصيغة العصبية، فأرجوكم شكلوا وفداً من حكمائكم، وليصعدْ إليَّ الوفدُ في العجل.
وكان الأمر.
اجتمع الملك مع الوفد قرابة الساعة، ثم زودهم بمهمات رسمية تقضي بالسفر إلى المملكة المجاورة والوقوف على الأسباب والعوامل التي تجعل الناس هناك يحبون ملكهم على هذا النحو الصارخ.
ذهب الوفد إلى المملكة المجاورة، أقاموا فيها شهراً، ثم عادوا، وقابلوا ملكهم الطيب في اجتماع مغلق.
سألهم الملك:
- هل عرفتم لماذا يحب شعبُ تلك المملكة ملكَهم إلى هذا الحد الغريب؟
قال كبير الموفدين:
- للمسألة وجهان يا مولاي، فأنا سألت أبناء الشعب هناك عن سر حبهم لملكهم، فقالوا لي إن الحب من عند الله ولا يد لهم فيه. ولذلك لا ينفكون يسيرون في الأزقة ويهتفون له:
ملك الزمان
حبيب الشبعان والجوعان
الكسيان والعريان
يحبك الجميع
الشيخ والرضيع
صوتك سحر
ورائحتك عطر.
قال الملك:
- هذا أحد الوجهين، فما هو الوجه الآخر؟
وقف كبير الموفَدين، وغمز للملك بعينه، طالباً منه السماح بأن يهمس في أذنه بزوج من الكلام. فوافق الملك، ودخلا معاً إلى غرفة الاجتماعات السرية، حيث أفهمه كبير الموفدين أن الحب لا يمكن أن يخرج من فراغ، ويحتاج منه إلى شغل، وشرح له ألفباء ذلك الشغل مثلما همس له الناس في المملكة المجاورة.
خرج الملك الطيب إلى الشرفة، وخطب في الجماهير المحتشدة، قائلاً:
- معكم حق يا أبنائي الأعزاء، معكم حق في كل شيء قلتموه، أجل، إنَّ الممالكَ التي لا تحبُّ شعوبُها ملوكَها لآيلة إلى الزوال. لذلك امنحوني مهلة شهر واحد ولسوف أجعلكم تحبونني أكثر من كل الممالك، بعون الله.
وكانت مهلة الشهر كافية للملك لكي يبني المؤسسات الخاصة التي تجعل الشعوب تحب الملوك، وعلى إثر ذلك أصبح الناس في مملكته يحبونه حباً جماً، ويركضون في أزقة المملكة هاتفين:
ملك الملوك
كثر محبوك
ومات شانئوك
إن الجميع
الشيخ والرضيع
والشاب والبنت والحرمة
يستحقون أن تدوسهم بالجزمة!
وكان لهذا البلد ملك، لا هو بالمحبوب ولا المكروه، والشعب لا يخضع له إلا بما تقتضيه نواميس الخضوع المكتوبة، وإذا مر الملكُ بالناس في ساحة أو شارع أو زقاق، فإنهم يتابعون أعمالهم دون أن يقفوا احتراماً له، وكانوا لا يذكرون ملكَهم بخير أو شر، فكأنه غير موجود من عين أصله، وكأنهم يعيشون من دون ملك.
وذات يوم، جاء إلى الساحة العامة في ذلك البلد رجلٌ راكضٌ لاهث، اعتلى مسطبة عالية، وخاطب الناس قائلاً:
- هلموا إلي يا شباب، يا ناس، يا عالَمْ، يا هوه، تعالوا فاسمعوا مني ما شاهدتُه، وما يوقف شعر الرؤوس من فرط الاندهاش..
فتداخلت أصواتهم وهم يصيحون به:
- إحك يا غليظ!
- قل، تكلم!
- ماذا شاهدتَ يا حقير؟!
فقال:
- كنت مريضاً بالريح والدوالي في ساقيَّ، فوصف لي الحكيم المشي الطويل، فمشيت،..
ضحك بعض الحاضرين حتى انقلبوا على أقفيتهم، وغضب البعض الآخر حتى انطمرت أعينهم، وقالوا له هازئين، حانقين:
- الله يشفيك يا عم.
- تباً لك، ألهذا وقفت بنا خطيباً؟!
- تُضْرَبَنَّ في شَكلك المبعجر كالدب!
- اخرس، مفضوح !
- انزل، عكروت!
فقال وهو يهدئهم بإشارة من أصابعه:
- حُلمَكم علي أرجوكم. لقد مشيت، كما وصف لي الحكيم، أياماً وليالي، حتى وصلتُ الجبل العالي المطل على المملكة المجاورة، فتسلقتُه، ورأيت هناك ما تقشعر له الأبدان، وتشيب لهوله الولدان. أجل، صدقوني، رأيتُ منصة عظيمة منصوبة، والناس يمرون من تحتها أفواجاً وأفراداً، على إيقاع الطبول، والهتاف والزغاريد، ويحيون ملكهم. والله إني لا أطنب ولا أبالغ، لقد ظلوا يمرون من تحت المنصة ساعتين رمليتين، وربما أكثر،.. ولأنني مللت منهم، فقد تركتهم على هذه الحال وجئت مسرعاً لأخبركم بما رأيت.
لم يصدق الناس ما سمعوه من هذا الرجل، وصرخوا فيه ملء حناجرهم:
- اسكت، مجنون!
- انزل، مأفون!
- كُلْ هواء!
وهاجموه، وشحطوه عن المسطبة، وحولوه إلى ممسحة!
غير أنه كان قد غرس فيهم بذرة الفضول وحب الاستطلاع، فناموا على الموضوع حيناً من الزمن، ثم استيقظوا وشرعوا يتسللون- جماعات وفُرادى- إلى الجبل الذي يطل على المملكة المجاورة، وهناك تأكد لهم أن ما أبلغهم به الرجل صحيح، بل إن الرجل قَصَّـرَ في وصف مشاعر الحب التي يكنُّها شعبُ تلك المملكة لملكهم، فهي في الواقع أكبر بكثير مما روى الرجل، فعادوا إلى ساحة مملكتهم، وشرعوا يبكون ويلطمون خدودهم، متحسرين على أن الله تعالى لم يرزقهم بملك محبوب كجيرانهم!
وفجأة وقف شيخ مسن، وقال:
- يا شباب، ما لكم وما لهذه اللبكة؟ وما به ملكنا؟ ماذا يفعل لنا؟ إنه رجل طيب، يقوم بواجباته الملكية على الوجه الأكمل، ولا يؤذي أحداً،.. فاسمعوا من هذه اللحية واتركوا كل شيء على حاله.
هجموا على الشيخ ثائرين، وهم يصيحون به:
- اسكت يا غبي!
- كل هواء، فأنت لا تفهم!
- اخرس يا خرفان النحس!
وشدوه من دشداشته وحولوه إلى ممسحة!
ومشوا غاضبين نحو شرفة الملك، وقفوا تحتها وهم يصرخون:
- اخرج!
- قليل الحياء!
- كريه!
- خامل!
فلما خرج لهم الملك، وهو يعرك عينيه مندهشاً، تابعوا تقريعهم له قائلين:
- افرقنا برائحة طيبة!
- تَنَحَّ!
- نحن لا نحبك!
- ولا نكرهك!
- من أنت بين الملوك يا صعلوك؟!
تبسم الملك، جرياً على عادة الملوك الطيبين، وقال لشعبه الغاضب:
- أنا تحت أمركم، ولكننا لا نستطيع أن نتفاهم بهذه الصيغة العصبية، فأرجوكم شكلوا وفداً من حكمائكم، وليصعدْ إليَّ الوفدُ في العجل.
وكان الأمر.
اجتمع الملك مع الوفد قرابة الساعة، ثم زودهم بمهمات رسمية تقضي بالسفر إلى المملكة المجاورة والوقوف على الأسباب والعوامل التي تجعل الناس هناك يحبون ملكهم على هذا النحو الصارخ.
ذهب الوفد إلى المملكة المجاورة، أقاموا فيها شهراً، ثم عادوا، وقابلوا ملكهم الطيب في اجتماع مغلق.
سألهم الملك:
- هل عرفتم لماذا يحب شعبُ تلك المملكة ملكَهم إلى هذا الحد الغريب؟
قال كبير الموفدين:
- للمسألة وجهان يا مولاي، فأنا سألت أبناء الشعب هناك عن سر حبهم لملكهم، فقالوا لي إن الحب من عند الله ولا يد لهم فيه. ولذلك لا ينفكون يسيرون في الأزقة ويهتفون له:
ملك الزمان
حبيب الشبعان والجوعان
الكسيان والعريان
يحبك الجميع
الشيخ والرضيع
صوتك سحر
ورائحتك عطر.
قال الملك:
- هذا أحد الوجهين، فما هو الوجه الآخر؟
وقف كبير الموفَدين، وغمز للملك بعينه، طالباً منه السماح بأن يهمس في أذنه بزوج من الكلام. فوافق الملك، ودخلا معاً إلى غرفة الاجتماعات السرية، حيث أفهمه كبير الموفدين أن الحب لا يمكن أن يخرج من فراغ، ويحتاج منه إلى شغل، وشرح له ألفباء ذلك الشغل مثلما همس له الناس في المملكة المجاورة.
خرج الملك الطيب إلى الشرفة، وخطب في الجماهير المحتشدة، قائلاً:
- معكم حق يا أبنائي الأعزاء، معكم حق في كل شيء قلتموه، أجل، إنَّ الممالكَ التي لا تحبُّ شعوبُها ملوكَها لآيلة إلى الزوال. لذلك امنحوني مهلة شهر واحد ولسوف أجعلكم تحبونني أكثر من كل الممالك، بعون الله.
وكانت مهلة الشهر كافية للملك لكي يبني المؤسسات الخاصة التي تجعل الشعوب تحب الملوك، وعلى إثر ذلك أصبح الناس في مملكته يحبونه حباً جماً، ويركضون في أزقة المملكة هاتفين:
ملك الملوك
كثر محبوك
ومات شانئوك
إن الجميع
الشيخ والرضيع
والشاب والبنت والحرمة
يستحقون أن تدوسهم بالجزمة!