حسن إغلان - غيمة "فيتا"

اسمها فكتوريا victoria ، يسميها أصدقاؤها فيتا vita ، ليست كنوع من الدلال بل كنوع من اختصار الإسم أو على الأقل فيما يسمى تحت المخدات باقتصاد الأسماء، vita امرأة قادمة من شرق أوربا هكذا حكت لي (نطاليا) اليوم. حكت حكايتها وطويناها في مكان ما كلما تذكرتها تذكرت الرحيل، رحلة امرأة عطشانة لماء الغرب. تركت أوكرانيا حين أضحى الدولار عملة لكل الناس، بحثت عن الدولار بالأحرى عن شكله فلم تجده فقررت الرحيل بشتى الطرق لمعانقته ولأخذ صورة معه في إحدى الحدائق المغلفة بالرذاذ، ورحلت دون التيقن من المعنى، حملت حقيبتها وجواز سفر تركت ابنتها الوحيدة للمجهول، كان الاشتغال الأول هو عمل الجسد، أو الكيفية التي يتكلم فيها الجسد وهو مرفوع بالشراب والضوء،كانت اللغة عائقا أمام جسدها الذي يبعث يقيم الإيقاع بشكل يشي المتعة، تعلمت قليلا من الكطلانية، وتعلمت كيف تسحر الرجال بأصابعها ،وكيف توقظ القنافذ المختبئة بلسانها،وكيف تموسق جسدها حين الرقص بطريقة أهل البلد، وحدست من بعيد أن الجسد رأس مال يغري حامله إلى السكن بين النجوم المتلألئة في السماء، وتعلمت أكثر لغة الليل، بما تحمله من كوابيس وأحلام، من حمقى وقديسين، من شعراء ومخنثين، من شجر ورمال، من شاطئ وعود ثقاب، من طريقة ارتداء الهواء، ومن أقنعة تتستر خلف أقنعة لأسماء وبلدان أخرى...كان الطريق إلى العمل شاقا يحمله الليل بكل كائناته ،وحين تمطر السماء تبحث عن مكان يليق بتفريق رجليها ومد يدها اليمنى لالتقاط سيارة ما توصلها إلى ذاك المرقص القريب من مطار GIRONA .Vita تقترب من تسديد دينها لتخلص رقبتها من مقصلة مافيا القوادة، لم يبق لها غير القليل، وحين تعد مدخولها الليلي تعجنه قليلا بفرحة دامغة لتحلم قليلا بين العجين والأيام القادمة...


ثمة كوابيس تخلط عجين vitaوترميه بعيدا، ترميه إلى كابوس آخر تحتسي فيه كأسا من الذل القاتل، كابوس يأتيها ببذلة شرطي يطلب منها أوراقها الرسمية ليعتقلها هي وزميلاتها.تسأل ما العمل؟ السؤال الذي حفظته vita في أول درس من دروس الدعم المدرسي ولم يفارقها حتى عند حدود رؤية الدولار وأخذ صورة معه: تقول نتانيا : مسكينة هي vita امراة تطرز منديل الإجابة على سؤال المدرسة بالماء، ترتقه بأعواد الثقاب، لكنها تنتظر، حين حملوها إلى المطار لترحيلها رفقة زميلاتها تذكرت أحد أصدقائها، تلفنت له للتو... فكان الخلاص، خلاصها من العودة إلى ابنتها حافية القدمين واليدين، وخلاصها من مافيا القوادة...قبلت vita أرض كطالانيا وهرولت مع أصحابها إلى بيته، هنا، توقفت نطاليا عن حكي ما تبقى من حكاية الفقر والقهر والجنس والسمسرة والقوادة وأشياء أخرى.
جلسنا في المقهى الذي تشتغل فيهvitaكنادلة بأوراق عمل رسمية وإقامة دائمة بكطالانيا، حيتنا كما يفعل الإسبان تماما، وشربنا القهوة الأمريكية وكأسا من الجعة الباردة، لم نتكلم معا كثيرا، فصيف كطالانيا هو صيف جمع المال حيث السياح من كل حدب وصوب يتجولون على موج شواطئها ويتدفقون... وأشكال أخرى من مطبخ مطاعمها وآخرون يقرعون الكؤوس في بارتها ومراقصها الليلية، تنتقل vita كفراشة بين الطاولات، تقدم هذا الطلب وتطلب الآخر من كونتوار، وحين ودعناها طلبت منا أن نتناول العشاء في بيتها. طيبة هي هذه المرأة، بابتسامة تغطي جسد ابنتها بل وتغطي بنوع من الرقة عينيها كأنها لا تريد لهما أن تصابا بريح عاتية قادمة من هنا أو هناك ،في اليوم التالي أي يوم الاثنين حيث عطلة [A1] vita الأسبوعية ذهبت برفقتي زوجتي ونتاليا تحزم زوجها بيدها اليسرى، دخلنا الشقة نسيت رقمها ولكنها في الطابق الثاني،شقة بصالون مفتوح تؤطره لوحات تشكيلية، ونحن نتوقف عند اللوحة الأولى بحثت عن توقيعها المدفون تحت إطارها،وإن كان يظهر الحرف الأول من اسم vita. لوحة عادية لكن في اختلاط ألوانها ثمة حزن يوقظ النور القادم من أعلى اللوحة. ثمة غيم يتكئ أعلى إيقاع داكن، ثمة سواد يتكئ أعلى بياض لم تهيئه الصياغة بعد. ثمة شبح أو شجرة أو سمكة يدفن الرؤية من بعيد، قالت زوجتي ما الذي أعجبك في هذه اللوحة؟ قلت لها: تلك الغيمة التي تغطيها، لأول مرة عرفت أن vita ترسم وإن كانت لا تعلن ذلك بل هي تجد في رسوماتها نوعا من تدبير فضاء البيت كما تغيير أفرشة البيت تماما أو غسل أوانيه، في الجهة الأخرى مطبخ صغير وحمام وغرفتان تغلقان حكايا المرأة التي لا تعرفها لا نتاليا ولا ابنتها، في الجهة الأخرى من الشقة شرفة تطل على حديقة يجد فيها بعض العشاق حكايا لستر لذتهم، أو تجد فيها مغربية مكانا لتخزين القبل تحت الشجر.رحبت بنا vitaوحكيت لها حكايتها التي كتبتها في الطريق قالت: تلك ليست هي حكايتي، وزوج نطاليا يترجم ما تقوله vita ، قلت لها: أنا لا يهمني تطابق الحكايات ولكن ما يهمني هو خلق حكاية أخرى وأنا أطل من شرفة بيتك ولا يهمني أن أرى بعيون ابنتك كالا gala . حكايتان تتكئان على بعضهما، ربما يتناسلان تحت تلك الغيمة الحزينة المدفونة داخل إطار أسود ، قالت تلك حكايتك مع الكتابة ما الذي يهمني من زبون يريد شرب القهوة بالفودكا فهذا شأنه والزبون كما يكرر عادة صاحب المقهى: الزبون ملك. مثلك أنت أيضا أمام حاسوبك المحمول أو أوراقك البيضاء، فأنت السلطان والكاتب بينما أنا امرأة اختبأت بين الموج لتعيد لابنتها حلمى أنا... شربت vita وحين اقتربت الدوخة قالت: غدا سأحكي لك الحكاية قلت لها: شكرا، وحملت الغيمة من لوحتها غطيت بها زوجتي وعدنا إلى البيت.



الأحد 16 غشت 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...