عبدالله البقالي - حكاية شعب

بلا استئذان كان صوتهم يخترقني، و يبيح لنفسه الوصول إلى عمق جوارحني قبل عقلي، لأتحول إلى مجرد ورقة تتراقص على إيقاع الهبات و الذبذبات التي كانت تبثها حناجرهم. أصوات تغذيها الحرقة التي كانت قادرة على ترميد الستائر التي هدفت الى حجبهم و حشرهم خلف المشاهد. و لأان الإرادة و سلطة الألم لا يمكن للكائن أن يكون فيها ممثلا، فقد كانت ملامح وجوههم المتحدية، تفرض نفسها و تشد الأنظار التي راحت تتابع مشهد الحلم المطوق بالعزم الذي صنع هالة تحميه من زفير غطرسة رغبت في وأده و شطبه.
بقد كانوا هناك و قد توشحوا بالبياض، يقاومون به القتامة التي بحثت عن مدخل تجفف من خلاله منابع صمودهم. و ذلك ما جعلهم كسفينة بعثت كل الإشارات المعبرة عن التعلق بالحياة. و استنفرت كل ما لديها من إمكانيات من أجل مجابهة الأمواج العاتية التي كانت تأتيها من كل صوب.
مظاهرة ذلك الحشد من الشابات و الشباب كانت المعركة الأكثر صدقا مقارنة بتلك التي تحولت بفعل التخاذل إلى ما يشبه طقوسا موسمية فلكلورية.
في الامام كانت تسير أفواج من حشود تنتمي لأطياف شتى. مسيرات طويلة ركز منظموها على الشكل الخارجي. اللباس الموحد. اليافطات الرفيعة المزينة بخطوط و ألوان متناسقة فيها الكثير من الإبداع. مكبرات صوت ضخمة و اخرى يدوية تتردد عبرها شعارات اشبه بتذكارات تعود لعقود خلت. لكن حشد الشباب كان هو الأقل. غير أن العدد لم يكن له معنى. ملامح المتفرجين و رواد المقاهي كانت تفيد ذلك. صوتهم كان له القدرة تشكيل ملامح السامعين بالتفاعل المطلوب مع الأنين المتعالي عبر نبرات أصواتهم. و لهذا كانت الشفاه تتجمد. و التعاليق و الابتسامات الساخرة تختفي. و المسامع كانت ترهف السمع لالتقاط أصواتهم المتسللة من بين موجات اللغط المتعالي من كل الجهات. و حين اطمأنوا من ان اصواتهم تحدث التأثير المطلوب، و ان لا شئ يعترضها من الوصول إلى قلوب الناس، عرضوا حكايتهم. حكاية المصير فيها كان هو القضية، و القضية هي المصير. حكوا عن كل شئ. عن عشق أتلف تفاصيله الدجى ليكشف النهار عن حلم حين صحا. فقس الحلم و نما. تمالك نفسه و حبا. غازلته الحياة فشدا. و حين لامس مسالك الامان كنا. باندهاش صار ينظر، من زيف من؟ ينبوع الحياة الذي جف، أم زمن النخاسة قد رنا؟
الكسوف لم يكن عابرا . و زهرة الحياة لا يحييها الظلام. و في الفاصل بين غروب سريع ، و شروق بعيد تؤقت دقائقه عقوق السنين و جشع النافذين، أدركوا ان العزم هو الفارق بين التمني و العيش الحقيقي. و أن الشمس هذه المرة في حاجة إلى من يكنس طريق شروقها.
تطلعوا لمن حولهم. التقطوا أصداء أقفال دور النخاسة الصدئة ، و سمعوا صرير أبوابها و راوا النخاسين يبحثون عن الأصفاد المنسية. هل هم في زمنهم ام في زمن يلبس أسمال الماضي النجسة؟
تحسسوا معاصم أياديهم. نظروا لأرجلهم . أدركوا ان الفارق بين خفتهم و الخطى المثقلة بجر السلاسل هو فارق بين ومضة كلمة و همس شفاه. و هالتهم البساط القادمة الخالية من الألوان ، حيث لن يكون بمقدورهم ان يحلموا مجددا. لأانهم سيحيون أزمنة مبتورة من صيرورتها. مجرد مقتطعات لن تؤهلم لشئ أكثر ما ستربطهم برحى تطحن احلامهم. و بين هول المصير الكامن في الامام، كانوا يسترقون النظر للخلف، و على محياهم تساؤل: هل هو يقصون حكاية تخصهم ام يحكون حكاية شعب؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...