الفصل الأول
مخطوبان منذ فترة طويلة حتى ليكادا ينسيان تاريخ خطوبتهما ..
وزواجهما موعِدُهُ بظهر الغيب مرتبطٌ بحلّ أزمتهما ..وأزمتهما جزءٌ من أزمة البلد ..وأزمة البلد جزءٌ من أزمةٍ عالمية .. والأزمة العالمية محشورة حالياً في عنق الزجاجة كما يقول المحلّلون.
ولا حلّ لها كما يرى (أحمد) في فلسفته التي ما فتئ يفلسفها ويطوّرها ويفنّدها ويصوّرها بأنها أزمة مخلوق يهوى عنق الزجاجة بفطرته ..كالفأر يرى ثقباً في جدار فيحاول الدخول منه حشراً، وعندما يكتشف أنّه فارغ يندب حظه ويحاول الخروج وويله من القطّ الذي ينتظر!
ويكتب عن ذلك مقالاتٍ ما قرأها غيره .وكثُرت كتاباته حتى غصّت بها صفحاته ، ومن جملة ماكتب أنّ أزمة المخلوق على الأرض تبدأ عندما يحاول أن يخرج من عنق الزجاجة بعد تسعة أشهر من الحبس في رحم أمه ..ثم يقضي حياته مكافحاً لمعاودة الدخول إلى عنق زجاجة أخرى بما يسمّونه ليلة الدخلة !
الكتابة الذاتية تريحُه كمَن يشخّص مرضاً ويُحيله لمَن يُعالجه ..ويعرف أنْ لا علاجَ إلا الزّمن ..والوقت الذي يمرّ قد يتكفّل بمعالجة الأزمات بطريقة نسيانها أوتناسيها أو.. تجاوزها .
يبوح ببعض فلسفاته لخطيبته التي تعشق كلماته ..فتعزف معه على نفس اللحن ويعتبران ذلك مادةً ممتعة للحوار في جلساتهما معاً ..أما كلام العشق فقد استكبرا عليه وصار نوعاً من السّخف المكرّر .
يتواعدان في كلّ يوم تقريباً ..وفي المقهى الصغير عينه ..وطاولتهما سُمّيت باسمهما ومحجوزة لهما ..فروّاد ذلك المقهى يعرفون بعضهم بالتقادم .. كموظفين في دائرة حكومية يجلسون إلى طاولاتهم ولا يعملون شيئاً إلا تعقيد معاملات المواطنين ..لكنهم مداوِمون ومياومون ..وإن تأخّروا يعاقبونهم ..وهناك مراقبٌ للدوام ومراقبٌ يراقب المراقب .. وإن انسحبوا من دوامهم فتلك إجازة ساعيّة .. المهمّ أن تكون على رأس عملك وإن كنت لا تعمل شيئاً..وما سبق جزء من فلسفته التي وافقت عليها بسخرية وحسرة .
إن أتى قبلها – وهو غالباً ما يحدث – واحتلّ مقعده ..فله جريدته وعناوينها فقط وكلماتها المتقاطعة ..ويبدأ بقراءة برجه وبرجها الفلكيّ ..
وإن جاءت متأخّرة فلا تعتذر ولا يريد منها اعتذاراً ..
متّفقان على أنّ جلستهما لا جديد فيها ولا شيءَ مهمّ ليقولانه ..وجلستهما سويّة ما هي إلا بديلٌ عن قيلولة بعد الظهر وقتلٌ للوقت الذي ينتظران وميضاً من تحسّنٍ فيه على حين غرّة ..هكذا قالت أبراج الحظ في جريدة اليوم .
قهوة ونرجيلة وبعدها مشوارٌ يستندان فيه إلى بعضهما ..فيشتري لها علكة تعلك نصفها في الليل وتترك نصفها للدوام في اليوم التالي ..أو يملأ جيبها بحفنةٍ من المكسّرات والبذور المالحة الرخيصة ..تعطيها بعض السعادة عندما تفلقها نصفين وتتفل قشورها في هواء الطريق
أما إذا جاءت قبله فلها هاتفها الجوّال تتصفّحه ..أو تلعب لعبة المزرعة السعيدة ..أو تريه بعض الطرائف المسجّلة من مواقع التواصل الاجتماعي ..فيضحكان بطريقة العدوى ..ويعلّقان على بعضها قولاً فقط أو يخجلان من التعليق ..وفي الفترة الأخيرة صارت صفحاتهما بلا تعليق لأنّ التكرار أصبح قاتلاً ولا شيء جديد ..وأحمد يرى تلك الصفحات نوعاً من الثرثرة وفلسفاتٍ ذاتية أيضاً لأناسٍ بلا جمهور ، فيرضون بإعجاباتٍ صارت مرسومة بالرموز كي لا يتعذّب القارئ بكتابة أعجبني .
قال لها بعد أن طوى الجريدة :
-يضحكون علينا بقولهم يجب أن تصبروا فوطنكم يمرّ في (عنق الزجاجة) ..وبعده انفراجٌ وانبلاجٌ للفجر وانفتاحٌ للأفق ..يخدّروننا ببنج الكلمات الرنّانة ..وما أظنّنا إلا خارجين من عنق وداخلين في عنق آخر.. أدهى وأمرّ وأدقّ وأطول رقبة ..وكلّ أزمةٍ تليها أزماتٌ وأزمات ..
هل تعرفين بلاداً اسمها (جمهورية عنق الزجاجة )؟..كانت موجودة فعلاً في القرن الماضي
قالت ضاحكة :
-كل فترة تأتيني بتعبيرٍ سياسيّ قرأتَ عنه وتحاول تطبيقه عليّ.. سياسة عضّ الأصابع مؤلمة وعضضنا أصابع بعضنا وخسرت الرّهان يا مسكين لأني عضضتُ إصبعكَ بأسناني وعضضتَ إصبعي بشفتيك ..أما سياسة العصا والجزرة فما أحببت تطبيقها لأنها تحتاج ركوباً وقلت لي نؤجّلها لما بعد الزواج !
تلك التشبيهات الدّارجة يقذفها المحللون السياسيون في مسمع المواطن البسيط ولا يفهم منها إلا سياسة العصا الغليظة ..أما عنق الزجاجة فهو نغمةٌ جديدة ..فعن أي زجاجة يتحدّثون ؟
وما هو محتواها ؟..
قالت ذلك وامتدّت يدُها إلى قنينة ماء موضوعة أمامهما ..وتابعَت:
-أما الغنيُّ فزجاجته من الخمر الغالي أو العطر النفيس ..والفقير مثلنا زجاجته من ماء الصنبور مُعادٌ تعبئتها ..والأكثر فقراً تكون من الفخّار فلا تبين رواسبها ويسهل كسرها ..فعن أي زجاجة يتحدّثون ؟
قالت ذلك ..وصبّت بعضَ الماء في كأسها وهزّته قليلاً فارتجف سطحه كموجةٍ صامتة لا تزعج أحداً ..وتابعت :
-وحتى الكأس دخل في السياسة عندما قالوا لنا ..يجب أن ننظر للقسم الملآن منه فقط ..ونصبر ..ولو نظرتَ للنصف الفارغ ستكتئب ويحلّ عليك الأسى واليأس والإحباط والقنوط ..ويقلقون من تذمّر المواطن ونفاذ صبره ويقولون انتبه من سياسة قلب الكأس وقلب الطاولة ..ما علينا ..وكلّه كلام جرائد ..
اشرب قهوتك وتعال نقلب فناجيننا الفارغة ..وقلب الفنجان مسموحٌ ومنصوحٌ به فنقرأ طالعنا في تضاعيف القهوة ..
مخطوبان منذ فترة طويلة حتى ليكادا ينسيان تاريخ خطوبتهما ..
وزواجهما موعِدُهُ بظهر الغيب مرتبطٌ بحلّ أزمتهما ..وأزمتهما جزءٌ من أزمة البلد ..وأزمة البلد جزءٌ من أزمةٍ عالمية .. والأزمة العالمية محشورة حالياً في عنق الزجاجة كما يقول المحلّلون.
ولا حلّ لها كما يرى (أحمد) في فلسفته التي ما فتئ يفلسفها ويطوّرها ويفنّدها ويصوّرها بأنها أزمة مخلوق يهوى عنق الزجاجة بفطرته ..كالفأر يرى ثقباً في جدار فيحاول الدخول منه حشراً، وعندما يكتشف أنّه فارغ يندب حظه ويحاول الخروج وويله من القطّ الذي ينتظر!
ويكتب عن ذلك مقالاتٍ ما قرأها غيره .وكثُرت كتاباته حتى غصّت بها صفحاته ، ومن جملة ماكتب أنّ أزمة المخلوق على الأرض تبدأ عندما يحاول أن يخرج من عنق الزجاجة بعد تسعة أشهر من الحبس في رحم أمه ..ثم يقضي حياته مكافحاً لمعاودة الدخول إلى عنق زجاجة أخرى بما يسمّونه ليلة الدخلة !
الكتابة الذاتية تريحُه كمَن يشخّص مرضاً ويُحيله لمَن يُعالجه ..ويعرف أنْ لا علاجَ إلا الزّمن ..والوقت الذي يمرّ قد يتكفّل بمعالجة الأزمات بطريقة نسيانها أوتناسيها أو.. تجاوزها .
يبوح ببعض فلسفاته لخطيبته التي تعشق كلماته ..فتعزف معه على نفس اللحن ويعتبران ذلك مادةً ممتعة للحوار في جلساتهما معاً ..أما كلام العشق فقد استكبرا عليه وصار نوعاً من السّخف المكرّر .
يتواعدان في كلّ يوم تقريباً ..وفي المقهى الصغير عينه ..وطاولتهما سُمّيت باسمهما ومحجوزة لهما ..فروّاد ذلك المقهى يعرفون بعضهم بالتقادم .. كموظفين في دائرة حكومية يجلسون إلى طاولاتهم ولا يعملون شيئاً إلا تعقيد معاملات المواطنين ..لكنهم مداوِمون ومياومون ..وإن تأخّروا يعاقبونهم ..وهناك مراقبٌ للدوام ومراقبٌ يراقب المراقب .. وإن انسحبوا من دوامهم فتلك إجازة ساعيّة .. المهمّ أن تكون على رأس عملك وإن كنت لا تعمل شيئاً..وما سبق جزء من فلسفته التي وافقت عليها بسخرية وحسرة .
إن أتى قبلها – وهو غالباً ما يحدث – واحتلّ مقعده ..فله جريدته وعناوينها فقط وكلماتها المتقاطعة ..ويبدأ بقراءة برجه وبرجها الفلكيّ ..
وإن جاءت متأخّرة فلا تعتذر ولا يريد منها اعتذاراً ..
متّفقان على أنّ جلستهما لا جديد فيها ولا شيءَ مهمّ ليقولانه ..وجلستهما سويّة ما هي إلا بديلٌ عن قيلولة بعد الظهر وقتلٌ للوقت الذي ينتظران وميضاً من تحسّنٍ فيه على حين غرّة ..هكذا قالت أبراج الحظ في جريدة اليوم .
قهوة ونرجيلة وبعدها مشوارٌ يستندان فيه إلى بعضهما ..فيشتري لها علكة تعلك نصفها في الليل وتترك نصفها للدوام في اليوم التالي ..أو يملأ جيبها بحفنةٍ من المكسّرات والبذور المالحة الرخيصة ..تعطيها بعض السعادة عندما تفلقها نصفين وتتفل قشورها في هواء الطريق
أما إذا جاءت قبله فلها هاتفها الجوّال تتصفّحه ..أو تلعب لعبة المزرعة السعيدة ..أو تريه بعض الطرائف المسجّلة من مواقع التواصل الاجتماعي ..فيضحكان بطريقة العدوى ..ويعلّقان على بعضها قولاً فقط أو يخجلان من التعليق ..وفي الفترة الأخيرة صارت صفحاتهما بلا تعليق لأنّ التكرار أصبح قاتلاً ولا شيء جديد ..وأحمد يرى تلك الصفحات نوعاً من الثرثرة وفلسفاتٍ ذاتية أيضاً لأناسٍ بلا جمهور ، فيرضون بإعجاباتٍ صارت مرسومة بالرموز كي لا يتعذّب القارئ بكتابة أعجبني .
قال لها بعد أن طوى الجريدة :
-يضحكون علينا بقولهم يجب أن تصبروا فوطنكم يمرّ في (عنق الزجاجة) ..وبعده انفراجٌ وانبلاجٌ للفجر وانفتاحٌ للأفق ..يخدّروننا ببنج الكلمات الرنّانة ..وما أظنّنا إلا خارجين من عنق وداخلين في عنق آخر.. أدهى وأمرّ وأدقّ وأطول رقبة ..وكلّ أزمةٍ تليها أزماتٌ وأزمات ..
هل تعرفين بلاداً اسمها (جمهورية عنق الزجاجة )؟..كانت موجودة فعلاً في القرن الماضي
قالت ضاحكة :
-كل فترة تأتيني بتعبيرٍ سياسيّ قرأتَ عنه وتحاول تطبيقه عليّ.. سياسة عضّ الأصابع مؤلمة وعضضنا أصابع بعضنا وخسرت الرّهان يا مسكين لأني عضضتُ إصبعكَ بأسناني وعضضتَ إصبعي بشفتيك ..أما سياسة العصا والجزرة فما أحببت تطبيقها لأنها تحتاج ركوباً وقلت لي نؤجّلها لما بعد الزواج !
تلك التشبيهات الدّارجة يقذفها المحللون السياسيون في مسمع المواطن البسيط ولا يفهم منها إلا سياسة العصا الغليظة ..أما عنق الزجاجة فهو نغمةٌ جديدة ..فعن أي زجاجة يتحدّثون ؟
وما هو محتواها ؟..
قالت ذلك وامتدّت يدُها إلى قنينة ماء موضوعة أمامهما ..وتابعَت:
-أما الغنيُّ فزجاجته من الخمر الغالي أو العطر النفيس ..والفقير مثلنا زجاجته من ماء الصنبور مُعادٌ تعبئتها ..والأكثر فقراً تكون من الفخّار فلا تبين رواسبها ويسهل كسرها ..فعن أي زجاجة يتحدّثون ؟
قالت ذلك ..وصبّت بعضَ الماء في كأسها وهزّته قليلاً فارتجف سطحه كموجةٍ صامتة لا تزعج أحداً ..وتابعت :
-وحتى الكأس دخل في السياسة عندما قالوا لنا ..يجب أن ننظر للقسم الملآن منه فقط ..ونصبر ..ولو نظرتَ للنصف الفارغ ستكتئب ويحلّ عليك الأسى واليأس والإحباط والقنوط ..ويقلقون من تذمّر المواطن ونفاذ صبره ويقولون انتبه من سياسة قلب الكأس وقلب الطاولة ..ما علينا ..وكلّه كلام جرائد ..
اشرب قهوتك وتعال نقلب فناجيننا الفارغة ..وقلب الفنجان مسموحٌ ومنصوحٌ به فنقرأ طالعنا في تضاعيف القهوة ..