أحمد صبحي النبعوني - حلم في زمن الطفولة.. قصة قصيرة

الطفولة.. قصة حلم، وقصيدة أمل، وخاطرة عذوبة.
لا أعرف من أين اتت هذه الفكرة لدرجة أنها عشعشت في ذهني و لم تعد تهجره ، فكرة أن اصبح فارسا ويكون لدي الحصان الخاص بي ، علما إننا كنت أعيش وسط مدينة مع عائلتي ، لربما تكون هذه الفكرة أو الحلم غرس في مخيلتي من خلال مشاهدة المسلسلات البدوية على التلفاز بالابيض و الاسود .
كنت في الخامسة من العمر تقريبا ؛ اجلس امام بيتنا على الرصيف اشاهد الصبية الذين يكبرونني بالعمر يذهبون ويأتون وهم يركبون الحمير .. و على ظهر كل حمار خرج مملوء بالاكياس يوصلونها الى بيوت الناس لقاء اجر بسيط ..
و الحمار هو الحيوان الاقرب إلى الحصان لذا تولدت في عقلي فكرة امتلاك حمار صغير .. لما لا و انا كل يوم اشاهد الكثير من الحمير الشاردة دون صاحب تمر في شارعنا .. لكن هذه الحمير كانت كبيرة و عالية و كنت اخشى الاقتراب منها لأنها كانت ترفس اي شخص غريب يقترب منها ..
مشكلة الحياة إنك تحب شيء و في نفس الوقت تخشى منه أيضا ..
و الحب ينمو في كل مرحلة على حدة تدريجياً، حيث يصاحبه الشعور بالخوف من فقدان الشخص الذي تحبه، أو الخوف من خيانة الشخص الذي تحبه لك، أو الخوف من عدم استطاعتكما على استمرار علاقتكما، والخوف من أمور أخرى كثيرة تصاحب الحب بتدرجاته. أما انا فكان خوفي الأكبر هو ان انال رفسة قوية من الحمار .. لذا كنت أخشى لمسه أو حتى الاقتراب منه .. !
و هكذا تمر الأيام دون ان استطيع التغلب على فكرتي او حلمي في ان يصبح لدي حمارا مثل بقية الصبية الكبار ..
لم يكن يبعد بيتنا عن مركز المدينة كثيرا الذي كان يخترقها وادي صغير لنهر جاف لا يمتلأ بالماء سوى في نهاية فصل الشتاء لعدة اسابيع ثم يجف .. و في هذا الوادي كنت دائما اشاهد الحمير الكبيرة و الصغيرة لذا اتخذت قراري أن أمتلك حمارا صغيرا يكون وديعا و مطيعا استطيع أن اربطه بحبل و اقوده كيفما يحلو لي و من ثم استطيع ركوبه و أجعله يجري بسرعة و أنا على ظهره ..
بعد عدة مشاهدات و محاولات فاشلة نجحت في ايجاد الحمار الصغير في هذا الوداي الذي استسلم لي بسهولة دون مشاكسة منه ، ربطته بحبل ، كنت احمله لهذا الغرض دائما مع عصا و اخذت اجر الحمار الصغير معي إلى البيت .
وفي بيتنا كان هناك حوش كبير يتسع لتربية عشرة حمير و ليس لحمار واحد فقط .. كانت كل البيوت و الجدران من الطين المخلوط مع القش الناعم و من النادر ان تجد بيتا من الاسمنت في مدينتنا الطينية ، الطين كان محور حياتنا اليومية في كل الفصول . في الشتاء كان يعجن بماء المطر ويصبح وحلا يملأ الطرقات و الشوارع و في الصيف تختلط حبات الغبار الطينية مع الرياح لتغطي كل طقوس حياتنا بلون التراب ..
لكننا كنا معتادين على هذا الأمر .
أخيرا وصلت إلى باب بيتنا وبيدي الحبل و أنا أسحب الحمار خلفي ، عند باب حوش بيتنا على اليمين كان مطبخ بيتنا و الحمام ، تدخل إلى المطبخ أولا و من ثم إلى الحمام . ادخلت الحمار إلى الداخل وفجاة و حتى لا يكتمل حلمي في نهايته يدخل الحمار إلى المطبخ ومن ثم إلى الحمام فبدأ هنا صراخ و هلع اخواتي البنات الأكبر سنا من هذا الحمار مما أدى إلى تدخل اخوتي الذكور لأخراج وطرد الحمار من الحمام و إلى الشارع فورا ، لكن المشكلة أن ارض الحمام كانت مبللة بماء الصابون وكلما حاولوا أخوتي دفش الحمار نحو الباب كانت حوافر الحمار تتزحلق وتعود إلى مكانها و هكذا بعد عدة محاولات وبعد مرور أكثر من نصف ساعة استطاعوا اخراج الحمار إلى الشارع .. و هكذا تبخر حلمي بكل سهولة ، و نلت نصيبي الكافي من التوبيخ و الضرب .
توسعت و كبرت مديتنا و هدمت كافة البيوت الطينية و استبدلت بأخرى من الاسمنت و لم يعد هناك حمير تتجول في الشوارع لنقل حاجات الناس من السوق إلى بيوتها و استبدلت بسيارات خدمة
و كبرت أنا و انتقلت اسرتي إلى بيت أخر في المدينة .. لكنها تبقى ذكريات الطفولة البريئة ..
ما زالت باقية بكل عنفوانها حتى و أنا بعيد عن الوطن بألاف الأميال .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...