كتاب كامل جورج سلوم - الفصل السادس من رواية عنق الزجاجة

الفصل السادس -

جدران زجاجية..



في غرفتها صارتِ السّاعة الرملية صديقتَها وجليستها ونديمتها وكليمتها .. فلا تملّ مراقبة حبيباتها المُنسابة .. وصار تقليبُها ديدَنها

وصمْتُ الليل وانتفاءُ الضّجيج يجعل لكلّ شيء أصواتاً مسموعة ..

ولا يسمع الإنسان خفقانَ قلبه عادةً .. لكنّ الخائفَ قد يسمعه كآلةٍ تطرق جدار الصدر محشورةً بين الأضلاع الحابسة كقنبلةٍ موقوتة .. ولا يعرف إلا الخالق متى ستنفجر .. وهي ستنفجرُ حتماً.

والضغطُ المرتفع قد يجعلكَ تشعر بدفقات الدم تدكُّ رأسكَ كمطرقةٍ تصدّعُه ، وكمحقنةٍ تحقنُه وتحشوه حشواً حتى الانفجار.. أو حتى الانهيار فيقولون انهارت أعصابه.

والهارب من يومه ويركض إلى المجهول قد يسمع لهاثَه أيضاً !.. وينظر إلى الخلف في سباقه مع الزمن ويتفاجأ إذ لا أحد يلحقه .. لكنه يستمرّ في الهروب ، وهذا ما يسمّونه هروباً إلى الأمام في تحاليلهم السياسيّة.

وصارت - وهي تتأمّل ساعتَها الرملية - تحسُّ بصوتٍ ناعم لحبيبات الرمل كدبيب النمل وهو يدخل جُحرَه .. وعندما ترتطم الحبيبة بالقاع الزجاجي سقوطاً تصدر صدىً .. كقطرات الماء المتسرّبة إلى أرض حجرةٍ فارغة تتنقّط برتابة ، وقد يستعملونها للتعذيب في سجنٍ انفراديٍّ مظلم ..

هناك آلةٌ للقتل وتقطع الرؤوس وترميها في الجب..وفوهة الجب هي عنق الزجاجة ، وترتطم الرؤوس الأولى وتصيح وقد انفصلت عن أجسادها .. ثم تتراكم الرؤوس على الرؤوس .. وتتدحرج .. وتتكدّس كهرمٍ رمليّ صغير دائريّ القاعدة.

وبدأت تسمع الحبيبات تقول لبعضها .. استعدّوا للانقلاب القادم .. وتنقلب الزجاجة بهم ، وعليهم ثانيةً وثالثة ( وإلى ما شاء الله ) أن يمرّوا من عنقها الضيّق في أزماتٍ متلاحقة ما عاشوا وما عاشت ساعتهم.



إنّ عنق الزجاجة المُقبِلين على دخوله موجودٌ في جسدها وهي من تملكه .. والداخل ليس فأراً .. إنّما أفعى بحراشفَ قاسية مخرّشة للجدران وإن دخلت ستلدغ حتماً وتنفث فيها سمومها.

وخُيّل إليها أنّها وصديقها محبوسان في تلك الساعة الزجاجية كبديلٍ عن حبيبات الرمل .. والسجنُ الزجاجيُّ الأملس أشدُّ وطأةً من قضبان الحديد لأنه يحبسكَ حتى عن الهواء الذي تتنفّسه .. والزجاج ولو بدا شفّافاً فهو لعمري أقسى من الحديد..

تخيّلَتْ كلاً منهما محصوراً في حوجلته ويتواصلان عبر عنق الزجاجة فقط .. يراها وتراه من عينٍ سحريّة ويتبادلان كلامَ الحبِّ .. ويرسِلانه حبّاتٍ وحبّاتْ ورشَقاتٍ ورشقات من تلك الفتحة الضيّقة..

وتُثار لواعجهما ويدفعهما الحنين ويقتربان من العنق لوصالٍ ما .. حتى ليَشعُران بأنفاسِ بعضِهما قريبةً وحارّة..

قد تلتقي أصابعهما أولاً .. أو ألسنتهما اللزجة التي يُمكِنها العبور .. كالسجناء عندما يُزارون وتماسُ الأصابع عبر القضبان الحديدية قد يكون كافياً للوصال وتبادل بعض الشحنات .. لكنّ التّماسَ هنا يتمُّ فقط عبر عنق الزجاجة.

والشرطيّ الرقيب ينهَرْهُما ويقول إنّ الزيارةَ انتهَتْ .. وفعلاً يقلب الزجاجة ويتباعد أحدهما إلى القاع سقوطاً والثاني في الدّهليز المستدق .. وبعدها عليهما البَدء من جديد في رحلة الاقتراب من العنق ومحاولة المرور والتمرير المرّ.. والتمريرُ ممنوع .. كالسّجناء تماماً يُمنَع أن تُمرِّرَ لهم ورقةً مكتوبة إلا إن شاهَدَها الرّقيب ووافق عليها.

ونصفُ ساعةٍ لن تكونَ كافيةً لمعاودة الاقتراب والتمرير .. والسطوح الملساء للزجاج تمنع التشبّث في الدهاليز.. يجب أن يكون نصفُ الساعةِ أطول زمناً.

وتخيّلته يقول لها :

- يدي سأمرّرها لتلتقطَ يدك.. وعندها نتشابك ومهما انقلب بنا الزمان فلن أفلتكِ ولن تنفكَّ عُرانا .. كانتحار العشاق في اليابان يتماسكان ببعضهما ويلقيان بروحيهما من أعلى الجرف إلى الهاوية.

ولكن هيهات أنْ تمرَّ يدُهُ الكبيرة ولا يدها الصغيرة .

بحثت في حقيبتها عن قلمٍ يكتب على الزجاج فما وجدت إلا علبة طلاء الأظافر .. بللت ريشتها بالأحمر القرميديّ ورسمت الحرف الأول من اسميهما على الحجرتين العلوية والسفلية.. ألِفٌ وياء .. أي أحمد وياسمين .. وكانت الألف فوق الياء ثم صارت تحتها بانقلاب الساعة .. وبينهما تخرّ الحروف الباقية وتُختَصَر كلّ الكلمات بلا فواصل ولا علاماتٍ للترقيم.

وضحِكَتْ كثيراً من أفكارها وتخيّلاتها .. ضحكت بصوتٍ عالٍ لوحدها كمجنونٍ يستحي ويستفيق من فصامه على صوت ضحِكاته الانفراديّة .. ويتلفّت يُمنةً أو يسرة خشية أن يكون أحدٌ قد سمعه وهو يضحك لوحده..

اضحكي وقهقهي يا ياسمين وقد انكشف سرّ عنق الزجاجة المقدّس !

اضحكي لتفاهةِ الوصال عبر عنق الزجاجة .

اضحكي لبساطة الوصال وغريزيّته .

شيءٌ واحد يمرّره الرجل للمرأة عبر عنق زجاجتها

شيءٌ واحدٌ يملكه الذكر لوحده دوناً عن الأنثى .. ويستطيع الدخول والإنزلاق بسلاسة عبر عنق الزجاجة الضيّق!

هكذا ببساطة المحبة وشهوانيتها المشتركة يرتخي عنق الزجاجة وينفتح متلقّياً رسالةً من قضيب ..وبقسوة الرّغبة والكره يصبح القضيب مسماراً يُدَقُّ في عنق الزجاجة .. ويصبح إسفيناً .. وقد يكون خازوقاً إن كانت رافضةً له.

وهكذا تكون قمّة الحب بين رجلٍ وامرأة إدخالٌ بالتراضي في عنق الزجاجة ..وقمة الكره والعدوانية والعقاب إدخالٌ أيضاً في عنق الزجاجة بما يُسمّى اغتصاباً .. والإدخال الأول يهللون له والثاني يعاقبونه.

والقضيّة واحدة ..عنق الزجاجة ..تبّاً لك يا عنق الزجاجة .
التفاعلات: ماماس أمرير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...