النص الاول : الخبز الابيض .
ما كرهت في طفولتي شيئا كخبز الشعير . بل لم يكن الأمر مجرد كراهية , فقد اعتقدت طويلا أن مسألة الوسامة و بياض البشرة مردها الى الخبز الأبيض . و ان السواد و بشاعة الصورة مردها الى خبز الشعير وأن الافراط في تناول هذا الخبز يفضي حتما الى التهلكة.
هكذا نشأ موقفي المتصلب من هذا الخبز , موقف لم أكن أعي أني من خلاله كنت أكشف الوضعية الاقتصادية الهشة للأسرة الشئ الذي كان يغضب الوالدة , بل ويدفعها الى أعلى درجات الغضب فلا ترى من غير تغيير موقفي سبيلا لاعادة الامور الى حالها.
في البدء كانت تحاول ذلك بهدوء . تحاورني , تحاول افهامي أن حشو المعدة بخبز الشعير أفضل من تركها فارغة أو المبيت معصب البطن . وحين لم تكن تجد صدى لما كانت تسعى اليه .كانت تنظر الي بحنق ثم تصرخ في : ليتك عشت عام -البون- و لو ليوم واحد " لكن لا بأس ستعرف عنه كل شيئ عندما تكبر , الا أني أتساءل عن جدوى ما يملأون به مسامعكم في المدارس ان كانوا لا يحدثونكم عن أحداث مهمة كعام البون
تصمت للحظات ثم تضيف : وحتى لو فعلوا فلن يكون ذلك ابدا بقتامة ما عشناه.
يشدني التقديم مثلما يحدث عادة و وعندما تأكدت من استعدادي للاستماع أضافت : في تلك الايام أمحلت السماء فقحلت الأرض , طال الانتظار , امتدت الأيادي لما كان مخزونا فنفذ . وفي لحظة تغير كل شئ , وبدا و كأن الحياة حنت لبدايتها جارفة في نكوصها كل ما تم تحصيله عبر مسارها الطويل. تصور, أطنان الذهب و أموال المعمور ما عادت تساوي شيئا أمام رغيف يملأ البطن , و أراض لا يحدها البصر قويضت بحفنة من حبوب الشعير. لذلك كم غني زاد غنى وكم فقير زاد فقرا.
تصمت من جديد , تحني رأسها ثم تشير به محركة محاولة رسم حجم المعانات التي عاشتها ثم تضيف : آه يا ولد لو رأيت هيام الناس في البراري و الفلاة باحثين عن أي شئ يخرج من صلب الأرض . لو رأيت البشر الذي كان يعلو وجوههم وهم يعودون فرحين حتى ولو كانوا محملين بجذور مرة لا تستصاغ . لكنها كانت تتحول الى أرغفة تضمن الاستمرار . ولو رأيت حسرة من ضاق بهم الأفق حين لم يجدوا شيئا يملأون به أفواه أطفالهم فاحتاروا ولم يعرفوا أيضعون حدا لعذابهم بشنق أنفسهم أم يعطلون ذاكرتهم و يهيمون على وجه الأرض متناسين أن لهم أطفالا جياعا ينتظرون عودتهم.
تتوقف عن الحكي , يهيمن على المكان صمت طويل ثقيل مفعم بالحزن والألم , يتباطأ الزمن راسما مسارا تمتد سكته على قلوب المغلوبين البائسين الذين يمتص صرخاتهم هدير حركات دواليبه العملاقة .
تتضخم خلايا الوجدان لتطل على العالم من خلال مجهر دقيق يرصد النوايا و الأحاسيس في أرحامها
ينبثق شعور من خوف مريع . خوف من كل شئ . من الحياة والموت , من الطبيعة و الانسان .فضاء الغرفة نفسه كان يبدو حابلا بالتواطؤ ينطق بتهديد صارخ بكونه يستطيع أن ينتفض ضد سكونه ويرسل جنودا صاعقة متعطشة لشئ ما , لكن هذا الشئ سيكون حتما كالجنون , كالهلاك , كالدمار.
جنودا , بل أرواحا ستنبثق من لا شئ , لكنها في تحولها ستستعير أجساد الآباء الذين قتلهم الغم ووجوه الأطفال الذين انتهت بهم أحابيل وجشع السادة الى فائضين عن الوجود لا يستحقون لقمة من مخزوناتهم المكدسة.
ترعبني الصور , أبحث عن ملاذ , عن شئ ينتزعني من أعماقي .أنظر الى جنباتي مدركا أن لا مخرج من الورطة . التقت عيناي بعينيها . قرأت بوضوح رجاءها . ارتدت دعوتها خيبة بعد أن اصطدمت باعتذاري . ارتفعت كلماتها بنبرة مغايرة : هيا تقدم الى المائدة فأنا متعبة أريد أن أستريح.
يضيق المجال .ادفع الكلمات في حلقي فلا أستطيع , أحاول من جديد . أجهش بالبكاء فتطاوعني الكلمات و أصرخ : ولكنه يقتل يا أمي .
يعود الزمن الى حركيته على ايقاع انتفاضتها . تلوح لي الأشياء كأنما أراها من مجرة بعيدة . شئ واحد كان يتناهى الي , هدير خفقان قلبي.
كأسير مهان كنت أزحف اتجاه المائدة , أمد يدا مرتعشة دون ان أحدد لها وجهة . تصطدم به , ملمسه الخشن , تضاريسه المتذبذبة , لونه المتعفن , شذرات التبن التي تلمع بفعل انعكاس الضياء . أقتطع شدقا , أمرره بالصحن, ألقمه فمي , أمضغه ممتزجا بالمرق والدموع المالحة . أدكه بأسناني كأنما كنت أريد أن أفنيه و أتخلص منه الى الأبد .أدفعه اتجاه حلقي , تكبر الممانعة , أمضغ من جديد وأحاول ابتلاعه . تنسد المسالك لتصير لبنة لا ممر يخترقها . أتصنع الانشغال بالمضغ . تنفتح الذاكرة , يلوح لي "حمور " كلب سائق الحافلة التي تربط القرية بالمدينة , حمور في سباته المأجور الممتد من مغادرة الحافلة صباحا الى حين عودتها مساء حيث يستيقظ من نومه فجأة و يبدأ في النباح , ثم يعدو بكل قواه ليختفي خلف منعرجات الطريق الغربية و ليظهر بعد ذلك من جديد متقدما الناقلة مشكلا ما بشبه طلعة موكب . وليحوم حولها حين تتوقف بسرعة مذهلة . ترحاب كان سائق الحافلة ذو الشارب الطويل يسر له , فيتجه صحبة حمور بعد أن يترجل الى بائعة الخبز حيث يشتري رغيفا أو رغيفين أبيضين . يقطعهما و يلقي بهما الى حمور قطعة قطعة.
يلتقط حمور القطع مبرزا مهارته في التقاط الأشياء . يتجمع الأطفال مشكلين حلقة , متابعين بانتباه طقوس وجبات حمور , وكان يحدث أن يرفع عينيه و هو يضغط بفكيه القويتين قطعة من الخبز فتلتقي عيناه بعيون المتحلقين فيبدو و كأنه يقول : آسف من أجلكم يا صغار , لكن لا تغتروا , فليست كل الكلاب تحصل على خبز أبيض مثلي .
يرتفع صوت الوالدة منتزعا اياي من شرودي : لن تبارح المائدة قبل أن تنهي حصتك من الطعام.
حكم عن أي جرم ؟.. مجرد قضاء ؟.. ولماذا لا يروق لهذا القضاء سوى أن يتخذ هذا اللون القاتم في حين أن بوسعه أن يكون أفضل دون أن يتطلب ذلك تضحيات و لا رسوما ولا استنزافا للطاقات ولا أي شئ آخر؟؟؟.
يتقوى الرفض داخلي . أبصق لقمة استعصى علي بلعها فيبدأ الجلد .
بقوة كانت تزجرني , وباصرار رهيب كانت تحاول استئصال جذور كنه مزعج من داخلي . لكني بنفس الاصرار كنت أستميت, أقاوم , شئ واحد كان يتغير في , لون جلدي..
أركن الى الزاوية , أنتحب , أبحث عن ذنب لا يغتفر ارتكبته , عن سبب يشفع للوالدة ما فعلت بي.
استدرت جهتها .بقيت مصعوقا . قرأت بوضوح هزيمتها , و أهم من ذلك الدمعة التي لم تفلح في اخفائها . اقتربت مني , رجتني أن أكف عن البكاء على غير عادتها . تحدثت بوضوح تلك المرة . اعترفت أن ليس بمقدورها أن تشتري الدقيق لتصنع الخبز الأبيض . تحدثت عن أشياء أخرى , عن الحياة , عن تكاليف العيش الباهضة . هدأ روعي فجنحت الى المصالحة , لكن شيئا مهما تغير داخلي تلك اللحظة , اذ ما عادت الدنيا واحة مستوية كما كنت أراها من قبل , و الناس ما عادوا سواسية كما كنت أراهم بل صاروا نوعين . نوع يعيش بالخبز الأبيض , ونوع لا يقوى على ذلك.
عدت الى المائدة من غير اكراه . التهمت كل حصتي من خبز الشعير و كأني بذلك كنت احاول ان التهم ما تراءى لي من صور وفوارق
عبدالله البقالي
ما كرهت في طفولتي شيئا كخبز الشعير . بل لم يكن الأمر مجرد كراهية , فقد اعتقدت طويلا أن مسألة الوسامة و بياض البشرة مردها الى الخبز الأبيض . و ان السواد و بشاعة الصورة مردها الى خبز الشعير وأن الافراط في تناول هذا الخبز يفضي حتما الى التهلكة.
هكذا نشأ موقفي المتصلب من هذا الخبز , موقف لم أكن أعي أني من خلاله كنت أكشف الوضعية الاقتصادية الهشة للأسرة الشئ الذي كان يغضب الوالدة , بل ويدفعها الى أعلى درجات الغضب فلا ترى من غير تغيير موقفي سبيلا لاعادة الامور الى حالها.
في البدء كانت تحاول ذلك بهدوء . تحاورني , تحاول افهامي أن حشو المعدة بخبز الشعير أفضل من تركها فارغة أو المبيت معصب البطن . وحين لم تكن تجد صدى لما كانت تسعى اليه .كانت تنظر الي بحنق ثم تصرخ في : ليتك عشت عام -البون- و لو ليوم واحد " لكن لا بأس ستعرف عنه كل شيئ عندما تكبر , الا أني أتساءل عن جدوى ما يملأون به مسامعكم في المدارس ان كانوا لا يحدثونكم عن أحداث مهمة كعام البون
تصمت للحظات ثم تضيف : وحتى لو فعلوا فلن يكون ذلك ابدا بقتامة ما عشناه.
يشدني التقديم مثلما يحدث عادة و وعندما تأكدت من استعدادي للاستماع أضافت : في تلك الايام أمحلت السماء فقحلت الأرض , طال الانتظار , امتدت الأيادي لما كان مخزونا فنفذ . وفي لحظة تغير كل شئ , وبدا و كأن الحياة حنت لبدايتها جارفة في نكوصها كل ما تم تحصيله عبر مسارها الطويل. تصور, أطنان الذهب و أموال المعمور ما عادت تساوي شيئا أمام رغيف يملأ البطن , و أراض لا يحدها البصر قويضت بحفنة من حبوب الشعير. لذلك كم غني زاد غنى وكم فقير زاد فقرا.
تصمت من جديد , تحني رأسها ثم تشير به محركة محاولة رسم حجم المعانات التي عاشتها ثم تضيف : آه يا ولد لو رأيت هيام الناس في البراري و الفلاة باحثين عن أي شئ يخرج من صلب الأرض . لو رأيت البشر الذي كان يعلو وجوههم وهم يعودون فرحين حتى ولو كانوا محملين بجذور مرة لا تستصاغ . لكنها كانت تتحول الى أرغفة تضمن الاستمرار . ولو رأيت حسرة من ضاق بهم الأفق حين لم يجدوا شيئا يملأون به أفواه أطفالهم فاحتاروا ولم يعرفوا أيضعون حدا لعذابهم بشنق أنفسهم أم يعطلون ذاكرتهم و يهيمون على وجه الأرض متناسين أن لهم أطفالا جياعا ينتظرون عودتهم.
تتوقف عن الحكي , يهيمن على المكان صمت طويل ثقيل مفعم بالحزن والألم , يتباطأ الزمن راسما مسارا تمتد سكته على قلوب المغلوبين البائسين الذين يمتص صرخاتهم هدير حركات دواليبه العملاقة .
تتضخم خلايا الوجدان لتطل على العالم من خلال مجهر دقيق يرصد النوايا و الأحاسيس في أرحامها
ينبثق شعور من خوف مريع . خوف من كل شئ . من الحياة والموت , من الطبيعة و الانسان .فضاء الغرفة نفسه كان يبدو حابلا بالتواطؤ ينطق بتهديد صارخ بكونه يستطيع أن ينتفض ضد سكونه ويرسل جنودا صاعقة متعطشة لشئ ما , لكن هذا الشئ سيكون حتما كالجنون , كالهلاك , كالدمار.
جنودا , بل أرواحا ستنبثق من لا شئ , لكنها في تحولها ستستعير أجساد الآباء الذين قتلهم الغم ووجوه الأطفال الذين انتهت بهم أحابيل وجشع السادة الى فائضين عن الوجود لا يستحقون لقمة من مخزوناتهم المكدسة.
ترعبني الصور , أبحث عن ملاذ , عن شئ ينتزعني من أعماقي .أنظر الى جنباتي مدركا أن لا مخرج من الورطة . التقت عيناي بعينيها . قرأت بوضوح رجاءها . ارتدت دعوتها خيبة بعد أن اصطدمت باعتذاري . ارتفعت كلماتها بنبرة مغايرة : هيا تقدم الى المائدة فأنا متعبة أريد أن أستريح.
يضيق المجال .ادفع الكلمات في حلقي فلا أستطيع , أحاول من جديد . أجهش بالبكاء فتطاوعني الكلمات و أصرخ : ولكنه يقتل يا أمي .
يعود الزمن الى حركيته على ايقاع انتفاضتها . تلوح لي الأشياء كأنما أراها من مجرة بعيدة . شئ واحد كان يتناهى الي , هدير خفقان قلبي.
كأسير مهان كنت أزحف اتجاه المائدة , أمد يدا مرتعشة دون ان أحدد لها وجهة . تصطدم به , ملمسه الخشن , تضاريسه المتذبذبة , لونه المتعفن , شذرات التبن التي تلمع بفعل انعكاس الضياء . أقتطع شدقا , أمرره بالصحن, ألقمه فمي , أمضغه ممتزجا بالمرق والدموع المالحة . أدكه بأسناني كأنما كنت أريد أن أفنيه و أتخلص منه الى الأبد .أدفعه اتجاه حلقي , تكبر الممانعة , أمضغ من جديد وأحاول ابتلاعه . تنسد المسالك لتصير لبنة لا ممر يخترقها . أتصنع الانشغال بالمضغ . تنفتح الذاكرة , يلوح لي "حمور " كلب سائق الحافلة التي تربط القرية بالمدينة , حمور في سباته المأجور الممتد من مغادرة الحافلة صباحا الى حين عودتها مساء حيث يستيقظ من نومه فجأة و يبدأ في النباح , ثم يعدو بكل قواه ليختفي خلف منعرجات الطريق الغربية و ليظهر بعد ذلك من جديد متقدما الناقلة مشكلا ما بشبه طلعة موكب . وليحوم حولها حين تتوقف بسرعة مذهلة . ترحاب كان سائق الحافلة ذو الشارب الطويل يسر له , فيتجه صحبة حمور بعد أن يترجل الى بائعة الخبز حيث يشتري رغيفا أو رغيفين أبيضين . يقطعهما و يلقي بهما الى حمور قطعة قطعة.
يلتقط حمور القطع مبرزا مهارته في التقاط الأشياء . يتجمع الأطفال مشكلين حلقة , متابعين بانتباه طقوس وجبات حمور , وكان يحدث أن يرفع عينيه و هو يضغط بفكيه القويتين قطعة من الخبز فتلتقي عيناه بعيون المتحلقين فيبدو و كأنه يقول : آسف من أجلكم يا صغار , لكن لا تغتروا , فليست كل الكلاب تحصل على خبز أبيض مثلي .
يرتفع صوت الوالدة منتزعا اياي من شرودي : لن تبارح المائدة قبل أن تنهي حصتك من الطعام.
حكم عن أي جرم ؟.. مجرد قضاء ؟.. ولماذا لا يروق لهذا القضاء سوى أن يتخذ هذا اللون القاتم في حين أن بوسعه أن يكون أفضل دون أن يتطلب ذلك تضحيات و لا رسوما ولا استنزافا للطاقات ولا أي شئ آخر؟؟؟.
يتقوى الرفض داخلي . أبصق لقمة استعصى علي بلعها فيبدأ الجلد .
بقوة كانت تزجرني , وباصرار رهيب كانت تحاول استئصال جذور كنه مزعج من داخلي . لكني بنفس الاصرار كنت أستميت, أقاوم , شئ واحد كان يتغير في , لون جلدي..
أركن الى الزاوية , أنتحب , أبحث عن ذنب لا يغتفر ارتكبته , عن سبب يشفع للوالدة ما فعلت بي.
استدرت جهتها .بقيت مصعوقا . قرأت بوضوح هزيمتها , و أهم من ذلك الدمعة التي لم تفلح في اخفائها . اقتربت مني , رجتني أن أكف عن البكاء على غير عادتها . تحدثت بوضوح تلك المرة . اعترفت أن ليس بمقدورها أن تشتري الدقيق لتصنع الخبز الأبيض . تحدثت عن أشياء أخرى , عن الحياة , عن تكاليف العيش الباهضة . هدأ روعي فجنحت الى المصالحة , لكن شيئا مهما تغير داخلي تلك اللحظة , اذ ما عادت الدنيا واحة مستوية كما كنت أراها من قبل , و الناس ما عادوا سواسية كما كنت أراهم بل صاروا نوعين . نوع يعيش بالخبز الأبيض , ونوع لا يقوى على ذلك.
عدت الى المائدة من غير اكراه . التهمت كل حصتي من خبز الشعير و كأني بذلك كنت احاول ان التهم ما تراءى لي من صور وفوارق
عبدالله البقالي