على مهل راح يحدق في العالم المنتصب قبالة القضبان .ومن ثنايا تفرعات تؤجج توقده الداخلي , امتدت بسائط نسجت رحابها السنون , و أحلام وردية قادته كي يشق الطريق التي انتهت به الى حيث هو الآن .
أكانت رغنته حقا الطاقة التي شحنت قواه ودفعته بلا هوادة كي يسلك ذلك المسار , أم أن انغلاق الأبواب في وجهه دفعه كي يتجه صوب الباب الوحيد الذي ظل مفتوحا ؟
يحرك رأسه بشكل ينم عن عدم التصديق , مستبعدا أن يكون عامل ما هو الحاسم في كل ما جرى , لكن ذاكرته تستطيع أن تستعيد كل الوقائع التي أفضت به الى حيث هو الآن.
كان أبوه قد مات مخلفا اياه و جوقة من البنات , و أهم من ذلك وضعية بئيسة أنهت التاريخ االطويل لاحتجاب أمه عن العالم , و الذي ابتدأ عند منتصف طفولتها حين سيقت عروسا لبيت عبد القادر المتجبر . وزواج أمه هو تاريخ أطول زواج في حياة أبيه الذي عبرت حياته سبع نساء , أنهى علاقته بهن بعبارة كان يطلقها عادة في لحظة غضب . ولئن كان قد استقر في علاقته الأخيرة مع امه , فذلك راجع لكونها أنجبيه هو , الذكر الوحيد بعد أن انتهت الولادات السابقة بهجرانه البيت الذي كان يمتد لعدة شهور .
الا أن حادثا لا علاقة له بأمور الزوجية كاد أن ينهي هذه العلاقة . ذلك أن عبد القادر المتجبر اقتحم الحي اليهودي في المدينة التي كان يقطنها أيام " العدوان الثلاثي " و أوقع العديد من الضحايا اليهود بمديته , سجن على اثرها لزمن ليس بالقصير . لكنه مع ذلك أمر الزوجة بعدم مغادرة البيت . ال انها لم تجد دافعا لذلك لكونها كانت تتوصل بكل ما كانت تجد نفسها في حاجة اليه . ولم تعرف أنه لم يكن مصدر كل ما كانت تتوصل به الا حين غادر السجن .
تنامت شكوكه وعظمت وساوسه , وكاد الأمر يصل الى نهايته . لكن تبين أنه وقف على كل الخبايا .غير لم يقدم أي اعتذار .
رحل عن المدينة , و اكتملت فرحته حين أتى هو الى هذا العالم .
ما يذكه عن أبيه شيئين . حرصه الشديد على حفظ القرآن , وهو من أجل ذلك ضاعف أجر الفقيه عدة مرات الشئ الذي دفع بالآخرين للاحتجاج كونه يدفع الفقيه للتمييز بين تلامذته . أما الشئ الثاني فهو يوم وجد أباه يبكي في غرفة مهجورة داخل البيت . جرى الى أمه . أبلغها الخبر . أمه انخرطت بدورها في البكاء دون أن تعلم سببا لذلك . جرت اليه . وحين رآهما قادمين . تماسك الرجل . سألته الزوجة بحنو و انكسار فظيع : ما يبكيك ياعبد القادر ؟
أشاح الرجل بوجهه الى الجهة الأخرى و جاء صوته مفعما بالحزن و الألم : لقد انهزم عبد الناصر .
لم تدرك الزوجة معنى لما قال الرجل , لكنها لو سئلت تلك اللحظة من يكون عبد الناصر لأجابت بأنه نبي , و أن نعجزته هي أنه جعل صخرا صلبا كعبد القادر المتجبر يبكي . ليس وحدها , جل سكان القرية الذين لم يعرفوا دلالات الحدث من خلال ما جرى , بل من خلال دموع عبد القادر المتجبر .
لكن عبد القادر بعد ذلك مات بعد أن حضر في بيته كل مظاهر الأفراح و السعادة ما لم تتحرر فلسطين ويومها ابتدأ المشكل .
تغير كل شئ .مرض أبيه امتص كل مالية الأسرة , وحين مات كان الرجل الوحيد في البيت . لم يشفع له سنه المبكر و لا نحافة جسمه من اعفائه من مسؤوليات هي من اختصاص الكبار . و اللحظات الوحيدة التي التي كانت تذكره أنه مازال طفلا هي حين كان صراخ الآخرين يعلو في وجهه.أو حين كانت السياط تصر على تلوين جسده .
عالم جديد امتد أمامه . رأى بعينيه الأشياء الجميلة تنجذب بتأثير غامض لتختفي خلف بوابة سميكة ,يمتد خلفها عالم مبهم يقطنه أناس يحتاج الى تمحيص كي يقنع نفسه أنه من فصيلتهم .وجوده بينهم كان يؤكد أنه مخلوق غريب تمرد على معادلة فما كان من مبدعه الا أن حرمه من ألوان الحياة. لكنه كان يسمح لخياله ان يعاند الحقيقة .كان يحلم أحيانا أنه من هناك .في العالم الآخر .عالم سيحرق أسماله حين يهم بالدخول اليه. سيرتدي أفخر الثياب , و أذناه ستستريح من الصراخ , و ستألف الأصوات الجميلة الحالمة .سوف لن تمتص المراعي أوقاته , و لن ينفق عمره على بيع خضراوات لا تجد من يشتريها .سيرتاح من صارخ أمه و مطارداتها الليلية حين يهرب من البيت .لكن هل من الممكن أن يحلم بأم أخرى ؟
السؤال قطع شريط حلمه .هل يكره أمه ؟
مد خطوات كأنما كان يريد أن يهرب من السؤال .قدماه قادته الى احدى حلقات السوق الأسبوعي كما تعود أن يفعل . الراوي كان بارعا تلك المرة .لكن ليست طريقته في السرد هي من جذبته .
سمع شيئا مذهلا .أفاد الراوي أن كل الحيوانات كان أصلها انسان , لكن لسوء تصرفها المتمثل في الاستهزاء من خيرات الله , فقد غضب منها و مسخها على الشكل الذي هي عليه الآن .
استغرب الأمر .وحد في ذلك امتيازا و ليس عقابا. أطلق لخياله العنان .سيطير . ستصير الدنيا ملكا له . لن ينظر بحسرة الى المسافرين وهم ينظرون من نوافذ الحافلات وهم ماضين في رحلات يجوبون فيها رحاب المعمور .لن يصير في حاجة الى مال .جناحاه ستحملاه الى حيث شاء .و ريشه سيجعله في غنى عن تلك الأسمال الرثة التي تميزه عن سائر الخليقة .سيحلق فوق البراري , سيشاهد المدن و يزور السواحل ليتأكد من أن البحر أزرق.
اقترب من الراوي و سأله : ماذا كان المالك الحزين في الأصل ؟
- لقد كان طالب علم ومن حفظة القرآن .
- ماذا فعل حتى صار كذلك ؟
- لقد توضأ باللبن .
تضاعف فرحه . الوصفة سهلة و في متناوله .لكن لماذا اختار أن يكون مالكا حزينا ؟ ربما لأنه أقل عرضة للخطر بالنسبة للطيور الاخرى مادام لا أحد يطمع في لحمه و لأنه يسمح له بالعيش بالقرب من الانسان , وهذا سيبقيه قريبا من أسرته .
أشاع الخبر بين أقرانه الذين رافقوه الى حيث ستتم عملية المسخ .صعد أعلى التلة . توضأ باللبن و أقرانه ينظرون اليه باحاسيس مختلفة .بدا ينظر الى أطرافه منتظرا تحولها الى أجنحة و الشعر الى ريش .
انفض الرفاق بعد طول انتظار . هم هو الآخر أن ينزل محبطا . لكن اعتقادا مفاده أن العملية ربما تتطلب نوعا من السرية أبقاه هناك . وسيطر الاندهاش و التساؤل على الجميع حين لم يظهر له وجود في الصباح , البعض من الرفاق كانوا ينظروت للسماء لمعرفة من من الطيور يمكن أن يكون صديقهم .لكن المسألة تحولت الى سخرية حين رآه الأطفال واقفا متأخرا بباب الفصل .و تصاعدت حدتها حين سأله المدرس : أراك مازلت انسانا . هل شاب ما قمت به خطأما أفسد المعادلة ؟
لاذ بالصمت بينما ظل المدرس مصرا على الجواب .ثم جاء صوته خافتا بعد مدة : أظن أن عملية الوضوء لم تكن سليمة .
اندهش المدرس و قال : كيف ؟
- تحلق الأطفال حولي جعلني أخجل من الاستنجاء .
انفجر المدرس ضاحكا و قال : صحيح أننا في زمن ما عاد فيه كافيا أن تكون بشرا كي تكون انسانا . لكن الانسان يبقى في الأخير انسانا , و الذي يمكن أن يتغير هو علاقة الانسان بالانسان. تعال الى هنا.
رسم المدرس نفطتين واحدة في الأعلى و الثانية في الأسفل و قال .
" هنا في الأعلى من ينعمون بالنعيم , و هنا في الأسفل من يكتوون بنار الجحيم . وهذه المسافة الفاصلة بين النقطتين تختصر كل شئ . انها ليست فاصلا مكانيا و لا زمانيا . بل هي فاصل بين من تأتيه الحياة طائعة لتعرض عليه مفاتنها , و بين من يجري خلفها بكل قواه فلا يحصل منها في النهاية الا على على القدر الذي يبقيه حيا كي يدير الدواليب التي تصنع سعادة الآخرين . بين النقطتين هناك فاصل قوامه الدساتير و البشر و الهراوات و الرصاص . سيبدو لك كل هذا في صورة حكم عادل , لكن ستلاحظ من غير عناء أن عينيه تنظر بتركيز الى الأسفل و أذنيه تنصت بامعان الى الأعلى حيث ينبه باستمرار الى المنافذ التي يتسرب منها ذلك الهواء الحار القادم من الأسفل . و يبقى ان اقول في الأخير أن هذا الحاجز ليس منيعا بما فيه الكفاية .
لم يفقه شيئا مما قاله المدرس . لكنه على الدوام كان يحس أن في ذلك شحنة قوية , بل فيه ما تعنيه شخصيا .
مرة استفاق من شروده ووجد ألأكل الذي وضعته امه قد صار باردا . بدأ يتأمله ثم سأل أمه : لماذا لم يحرم الله الفول و العدس ؟
تطاير صواب الأم و انفجرت صارخة فيه : لتحمد الله لكونك لم تمت جوعا لحد الآن , ثم ماذا ترك أبوك ؟ المعامل ؟ الشركات ؟ الضيعات ؟ البنوك ؟.....
لم يرغب في أن يسمع المزيد .بل لم يسمع بقية ما قالته .كان مأخوذا بذلك الفوران الذي كان يتدافع داخله . لم ير نقطا باردة هامدة كما رسمها المعلم على السبورة .بل رأى وجوها و حالات تنبض بالحياة . رأى صورا تفيض بؤسا و أخرى تنضح بالسعادة . رأى الفرق المروع بين من تستنفر الدنيا ساعة مولده مسترخصة كل شئ من أجل استقباله , و بين من لا يعلن قدومه سوى زغردة خافتة تقطع بزفير عميق عنوانا لعمر شقي قد بدأ .
حمل شيئا , هو نفسه لا يعرف ما ا كان .هوى به على الجدار . لا يعرف ان كان قد أصابه أم لا . لا يعرف ان أحدث به شرخا ام لا. لكن الذي يذكر هو أن شريطا امتد حول عينيه , و أن آخر لف يديه . و أنه قذف ليقطع رحلة أخرى تفاوتت فيها النقط . و التباين بينها كان كافيا ليصهر الروح والجسد .
و حين كان ينهار , كان يكتشف أنه كان يحب أمه كثيرا . و في عزلته الطويلة , كان يتمنى أن يسمع صوتها حتى لو كان صراخها القديم .
لكن وهو واقف الآن وراء القضبان , لم يأت صوتها من ذاكرته بل كانت هي نفسها ماثلة أمامه .وحين راعها ما رأت صرخت بأعلى صوتها : أين جبروتك يا عبد القادر ؟
أحس أن ماردا عظيما قد أدخل يده الى عمق جسده , وبقوة سحب كل ما فيه حتى روحه .شخص ببصره اليها . قرأ كل شئ . تأملها . ود لو يعود الزمن من حيث أتى . لو يقلص أطرافه وجسده و يعود الى صباه ليرمي بنفسه في حضنها .هم أن يخطو ا تجاهها .اصطدم بالقضبان . اقتربت منه . تحدثت بنبرة مغايرة : أنا فخورة بك أيها الشقي .
أحس أن كل شراسة الوجود تستوطن جسده .و أن القضبان تتفكك بين أصابعه . لكن مع ذلك لم يمنع دمعات ساخنة من أن تنحدر على وجنتيه . مدت اصبعا من بين القضبان لتمسحها . انها من نفس حجم الدموع التي ترقرقت في مقلتي عبد القادر المتجبر يوم انهزم عبد الناصر .
عبد الله البقالي
أكانت رغنته حقا الطاقة التي شحنت قواه ودفعته بلا هوادة كي يسلك ذلك المسار , أم أن انغلاق الأبواب في وجهه دفعه كي يتجه صوب الباب الوحيد الذي ظل مفتوحا ؟
يحرك رأسه بشكل ينم عن عدم التصديق , مستبعدا أن يكون عامل ما هو الحاسم في كل ما جرى , لكن ذاكرته تستطيع أن تستعيد كل الوقائع التي أفضت به الى حيث هو الآن.
كان أبوه قد مات مخلفا اياه و جوقة من البنات , و أهم من ذلك وضعية بئيسة أنهت التاريخ االطويل لاحتجاب أمه عن العالم , و الذي ابتدأ عند منتصف طفولتها حين سيقت عروسا لبيت عبد القادر المتجبر . وزواج أمه هو تاريخ أطول زواج في حياة أبيه الذي عبرت حياته سبع نساء , أنهى علاقته بهن بعبارة كان يطلقها عادة في لحظة غضب . ولئن كان قد استقر في علاقته الأخيرة مع امه , فذلك راجع لكونها أنجبيه هو , الذكر الوحيد بعد أن انتهت الولادات السابقة بهجرانه البيت الذي كان يمتد لعدة شهور .
الا أن حادثا لا علاقة له بأمور الزوجية كاد أن ينهي هذه العلاقة . ذلك أن عبد القادر المتجبر اقتحم الحي اليهودي في المدينة التي كان يقطنها أيام " العدوان الثلاثي " و أوقع العديد من الضحايا اليهود بمديته , سجن على اثرها لزمن ليس بالقصير . لكنه مع ذلك أمر الزوجة بعدم مغادرة البيت . ال انها لم تجد دافعا لذلك لكونها كانت تتوصل بكل ما كانت تجد نفسها في حاجة اليه . ولم تعرف أنه لم يكن مصدر كل ما كانت تتوصل به الا حين غادر السجن .
تنامت شكوكه وعظمت وساوسه , وكاد الأمر يصل الى نهايته . لكن تبين أنه وقف على كل الخبايا .غير لم يقدم أي اعتذار .
رحل عن المدينة , و اكتملت فرحته حين أتى هو الى هذا العالم .
ما يذكه عن أبيه شيئين . حرصه الشديد على حفظ القرآن , وهو من أجل ذلك ضاعف أجر الفقيه عدة مرات الشئ الذي دفع بالآخرين للاحتجاج كونه يدفع الفقيه للتمييز بين تلامذته . أما الشئ الثاني فهو يوم وجد أباه يبكي في غرفة مهجورة داخل البيت . جرى الى أمه . أبلغها الخبر . أمه انخرطت بدورها في البكاء دون أن تعلم سببا لذلك . جرت اليه . وحين رآهما قادمين . تماسك الرجل . سألته الزوجة بحنو و انكسار فظيع : ما يبكيك ياعبد القادر ؟
أشاح الرجل بوجهه الى الجهة الأخرى و جاء صوته مفعما بالحزن و الألم : لقد انهزم عبد الناصر .
لم تدرك الزوجة معنى لما قال الرجل , لكنها لو سئلت تلك اللحظة من يكون عبد الناصر لأجابت بأنه نبي , و أن نعجزته هي أنه جعل صخرا صلبا كعبد القادر المتجبر يبكي . ليس وحدها , جل سكان القرية الذين لم يعرفوا دلالات الحدث من خلال ما جرى , بل من خلال دموع عبد القادر المتجبر .
لكن عبد القادر بعد ذلك مات بعد أن حضر في بيته كل مظاهر الأفراح و السعادة ما لم تتحرر فلسطين ويومها ابتدأ المشكل .
تغير كل شئ .مرض أبيه امتص كل مالية الأسرة , وحين مات كان الرجل الوحيد في البيت . لم يشفع له سنه المبكر و لا نحافة جسمه من اعفائه من مسؤوليات هي من اختصاص الكبار . و اللحظات الوحيدة التي التي كانت تذكره أنه مازال طفلا هي حين كان صراخ الآخرين يعلو في وجهه.أو حين كانت السياط تصر على تلوين جسده .
عالم جديد امتد أمامه . رأى بعينيه الأشياء الجميلة تنجذب بتأثير غامض لتختفي خلف بوابة سميكة ,يمتد خلفها عالم مبهم يقطنه أناس يحتاج الى تمحيص كي يقنع نفسه أنه من فصيلتهم .وجوده بينهم كان يؤكد أنه مخلوق غريب تمرد على معادلة فما كان من مبدعه الا أن حرمه من ألوان الحياة. لكنه كان يسمح لخياله ان يعاند الحقيقة .كان يحلم أحيانا أنه من هناك .في العالم الآخر .عالم سيحرق أسماله حين يهم بالدخول اليه. سيرتدي أفخر الثياب , و أذناه ستستريح من الصراخ , و ستألف الأصوات الجميلة الحالمة .سوف لن تمتص المراعي أوقاته , و لن ينفق عمره على بيع خضراوات لا تجد من يشتريها .سيرتاح من صارخ أمه و مطارداتها الليلية حين يهرب من البيت .لكن هل من الممكن أن يحلم بأم أخرى ؟
السؤال قطع شريط حلمه .هل يكره أمه ؟
مد خطوات كأنما كان يريد أن يهرب من السؤال .قدماه قادته الى احدى حلقات السوق الأسبوعي كما تعود أن يفعل . الراوي كان بارعا تلك المرة .لكن ليست طريقته في السرد هي من جذبته .
سمع شيئا مذهلا .أفاد الراوي أن كل الحيوانات كان أصلها انسان , لكن لسوء تصرفها المتمثل في الاستهزاء من خيرات الله , فقد غضب منها و مسخها على الشكل الذي هي عليه الآن .
استغرب الأمر .وحد في ذلك امتيازا و ليس عقابا. أطلق لخياله العنان .سيطير . ستصير الدنيا ملكا له . لن ينظر بحسرة الى المسافرين وهم ينظرون من نوافذ الحافلات وهم ماضين في رحلات يجوبون فيها رحاب المعمور .لن يصير في حاجة الى مال .جناحاه ستحملاه الى حيث شاء .و ريشه سيجعله في غنى عن تلك الأسمال الرثة التي تميزه عن سائر الخليقة .سيحلق فوق البراري , سيشاهد المدن و يزور السواحل ليتأكد من أن البحر أزرق.
اقترب من الراوي و سأله : ماذا كان المالك الحزين في الأصل ؟
- لقد كان طالب علم ومن حفظة القرآن .
- ماذا فعل حتى صار كذلك ؟
- لقد توضأ باللبن .
تضاعف فرحه . الوصفة سهلة و في متناوله .لكن لماذا اختار أن يكون مالكا حزينا ؟ ربما لأنه أقل عرضة للخطر بالنسبة للطيور الاخرى مادام لا أحد يطمع في لحمه و لأنه يسمح له بالعيش بالقرب من الانسان , وهذا سيبقيه قريبا من أسرته .
أشاع الخبر بين أقرانه الذين رافقوه الى حيث ستتم عملية المسخ .صعد أعلى التلة . توضأ باللبن و أقرانه ينظرون اليه باحاسيس مختلفة .بدا ينظر الى أطرافه منتظرا تحولها الى أجنحة و الشعر الى ريش .
انفض الرفاق بعد طول انتظار . هم هو الآخر أن ينزل محبطا . لكن اعتقادا مفاده أن العملية ربما تتطلب نوعا من السرية أبقاه هناك . وسيطر الاندهاش و التساؤل على الجميع حين لم يظهر له وجود في الصباح , البعض من الرفاق كانوا ينظروت للسماء لمعرفة من من الطيور يمكن أن يكون صديقهم .لكن المسألة تحولت الى سخرية حين رآه الأطفال واقفا متأخرا بباب الفصل .و تصاعدت حدتها حين سأله المدرس : أراك مازلت انسانا . هل شاب ما قمت به خطأما أفسد المعادلة ؟
لاذ بالصمت بينما ظل المدرس مصرا على الجواب .ثم جاء صوته خافتا بعد مدة : أظن أن عملية الوضوء لم تكن سليمة .
اندهش المدرس و قال : كيف ؟
- تحلق الأطفال حولي جعلني أخجل من الاستنجاء .
انفجر المدرس ضاحكا و قال : صحيح أننا في زمن ما عاد فيه كافيا أن تكون بشرا كي تكون انسانا . لكن الانسان يبقى في الأخير انسانا , و الذي يمكن أن يتغير هو علاقة الانسان بالانسان. تعال الى هنا.
رسم المدرس نفطتين واحدة في الأعلى و الثانية في الأسفل و قال .
" هنا في الأعلى من ينعمون بالنعيم , و هنا في الأسفل من يكتوون بنار الجحيم . وهذه المسافة الفاصلة بين النقطتين تختصر كل شئ . انها ليست فاصلا مكانيا و لا زمانيا . بل هي فاصل بين من تأتيه الحياة طائعة لتعرض عليه مفاتنها , و بين من يجري خلفها بكل قواه فلا يحصل منها في النهاية الا على على القدر الذي يبقيه حيا كي يدير الدواليب التي تصنع سعادة الآخرين . بين النقطتين هناك فاصل قوامه الدساتير و البشر و الهراوات و الرصاص . سيبدو لك كل هذا في صورة حكم عادل , لكن ستلاحظ من غير عناء أن عينيه تنظر بتركيز الى الأسفل و أذنيه تنصت بامعان الى الأعلى حيث ينبه باستمرار الى المنافذ التي يتسرب منها ذلك الهواء الحار القادم من الأسفل . و يبقى ان اقول في الأخير أن هذا الحاجز ليس منيعا بما فيه الكفاية .
لم يفقه شيئا مما قاله المدرس . لكنه على الدوام كان يحس أن في ذلك شحنة قوية , بل فيه ما تعنيه شخصيا .
مرة استفاق من شروده ووجد ألأكل الذي وضعته امه قد صار باردا . بدأ يتأمله ثم سأل أمه : لماذا لم يحرم الله الفول و العدس ؟
تطاير صواب الأم و انفجرت صارخة فيه : لتحمد الله لكونك لم تمت جوعا لحد الآن , ثم ماذا ترك أبوك ؟ المعامل ؟ الشركات ؟ الضيعات ؟ البنوك ؟.....
لم يرغب في أن يسمع المزيد .بل لم يسمع بقية ما قالته .كان مأخوذا بذلك الفوران الذي كان يتدافع داخله . لم ير نقطا باردة هامدة كما رسمها المعلم على السبورة .بل رأى وجوها و حالات تنبض بالحياة . رأى صورا تفيض بؤسا و أخرى تنضح بالسعادة . رأى الفرق المروع بين من تستنفر الدنيا ساعة مولده مسترخصة كل شئ من أجل استقباله , و بين من لا يعلن قدومه سوى زغردة خافتة تقطع بزفير عميق عنوانا لعمر شقي قد بدأ .
حمل شيئا , هو نفسه لا يعرف ما ا كان .هوى به على الجدار . لا يعرف ان كان قد أصابه أم لا . لا يعرف ان أحدث به شرخا ام لا. لكن الذي يذكر هو أن شريطا امتد حول عينيه , و أن آخر لف يديه . و أنه قذف ليقطع رحلة أخرى تفاوتت فيها النقط . و التباين بينها كان كافيا ليصهر الروح والجسد .
و حين كان ينهار , كان يكتشف أنه كان يحب أمه كثيرا . و في عزلته الطويلة , كان يتمنى أن يسمع صوتها حتى لو كان صراخها القديم .
لكن وهو واقف الآن وراء القضبان , لم يأت صوتها من ذاكرته بل كانت هي نفسها ماثلة أمامه .وحين راعها ما رأت صرخت بأعلى صوتها : أين جبروتك يا عبد القادر ؟
أحس أن ماردا عظيما قد أدخل يده الى عمق جسده , وبقوة سحب كل ما فيه حتى روحه .شخص ببصره اليها . قرأ كل شئ . تأملها . ود لو يعود الزمن من حيث أتى . لو يقلص أطرافه وجسده و يعود الى صباه ليرمي بنفسه في حضنها .هم أن يخطو ا تجاهها .اصطدم بالقضبان . اقتربت منه . تحدثت بنبرة مغايرة : أنا فخورة بك أيها الشقي .
أحس أن كل شراسة الوجود تستوطن جسده .و أن القضبان تتفكك بين أصابعه . لكن مع ذلك لم يمنع دمعات ساخنة من أن تنحدر على وجنتيه . مدت اصبعا من بين القضبان لتمسحها . انها من نفس حجم الدموع التي ترقرقت في مقلتي عبد القادر المتجبر يوم انهزم عبد الناصر .
عبد الله البقالي