نقوس المهدي - حين كان الحب ديني وإيماني..

ثلاثة تجلو عن القلب الحزن
الماء والخضرة والوجه الحسن
أبو نواس

جربت جميع الصيغ الممكنة كي أقنع روحي بما لا يجعل مجالا للشك فيما إذا كان لكلمات الحب والعشق والغرام والتتيم والهيام والهوى صيغة للجمع ، أسوة بسائر الأسماء والمفردات فلم أفلح ، ربما لنبل الكلمة ، وصدق طويتها، وصفاء نيتها ، وعدم تورطها في الحربائية وامعانها في التشظي والاختلاف ، فيما أننا نجد هناك بالمقابل عدة أصناف وأنواع وألوان وصيغ للحب والعشق والهيام ، وهلم تطريزا بمختلف توائم المترادفات والمسميات وصنوفها ومكابداتها ومحائنها المستعصية على التخمين والتصنيف والعلاج، والتي انكوى بكيمياء لظاها الحريف العديد من العشاق عبر التاريخ الذي لا تخلو منعرجاته من صدمات وكدمات وانكسارات وتباريح ، ومن تحبيرات مثالية ، وحمق وجنون لا يعافى احتار في امره امهر النطاسيين والحكماء ، وحرقة لا تكاد تنطفئ الا بطلوع الروح من البدن ، قبل ان تبيد هذا الشغف شرائع العولمة بطوربيداتها المدمرة ، وتفتح الباب امام طبعة جديدة ومنقحة ومعدلة من الحب العابر للقارات، عشق بجلاجل كاللعنة ، لا هو عذري ولا إباحي ، ولا بشرقي ولا غربي . لهذا وربما لخطأ وسوء في تقدير الخواتم او لحسن الطالع ايضا لم نكن نعير هذه العاطفة النبيلة كثير اعتبار ، فكانت حياتنا محطات عابرة لحب عابر، وفواصل لا تكاد تنتهي الا لتورط القلب في عشق جديد ، وعشقت بدوري كثيرات ، وهفا فؤادي لكل من حرضني على مفاتنها طرف البصر ، سواء من كن يمعن في الصد ، ويشهرن وسطى اصابعهن في وجهي ، او من يفتر مبسمهن عن ضحكة ماكرة ، واعتقدت انهن احببني ، أو هكذا كنت أتوهم ، ليستغلن سذاجتي كي أكتب لهن مواضيع الانشاء ، سذاجة عاطفية اكتسبتها من قراءاتي لقصص المنفلوطي وأحمد سعيد العريان ومحمد عطية الابراشي وجبران خليل جبران ، ورواية البؤساء من ترجمة دار العلم للملايين ، وبخاصة رواية بول وفرجيني لبرنار دو سان بيير التي استنبتها طيب الذكر سليل البكائين مصطفى لطفي المنفلوطي وسقاها بالدموع ورعاها بالسهاد ، وكنت أستغرق بدوري في بكاء مرير خلال كل قراءة لها لندرة الكتب والقصص في محيط ذلك الوقت.

ولعل اول عشق هز كياني وعشقت بموجبه بعنف رواية باولو كويلهو المائزة : "Sur le bord de la rivière Piedra je me suis assise et j ai pleuré ". " على ضفة نهر بييدرا جلست ثم بكيت" ، كان لصبية بدوية من بوادي الرحامنة، حيث كنت أتردد خلال كل عطلة صيف، وأنا ابن خمسة عشرة عثرة ، لأرعى البقر مع فتيان وفتيات القرية ، ونسبح في الغدران الموحلة ، او نغوص عميقا في الطمي المعجون بالبول ، عرايا الا من ستر الرحمان ، لم تكن البيكينيات والمنهدات قد خلقت بعد في ذلك الزمان ، بل ولم تكن تلك الفيوض الكريمة بقدودها المقدودة تحرك سواكن شهواتنا الدفينة ، ولا بقادرة على إحداث خدش فادح في شرف القبيلة المصان ، لعدم تبرعم رمان وأزهار ورياحين وزنابق في الجسد ، كانت صدورهن ملحوسة تماما ، لم تجد عليهن الطبيعة بنصيبهن من فاكهة النساء اللذيذة بعد ، هكذا كنا جديرين بطفولتنا ، كصوفيين يخمد ذلك النوع من الحب الكتيم الصبوات في النفس بدل تأجيج أوارها ، ويطفئ الرغبات في مهدها عوض إضرام اللهب والحرائق في هشيم الروح..

كانت قصيدة غزلية ، حواء رحمانية فيها مزيج من ملاحة وبداعة أعاريب الصحراء ، ورقة ودلال وغنج العرب المتغربين ، خرافة بقد نخلة ورقبة ظبي ، وخدين من ورد ، وساقين من عاج ، وقدمي غزال تدوسان قلبي الرهيف ، وتمشيان بي إلى حيث شطآن الإثم . هكذا لا أزال أتخيلها ، بتولا تتخايل في طيلسان الحسن والجمال ، هفهافة توشك أن تذوب من فرط رقتها وخفرها ، يتضوع منها طيب القرنفل ، ويفوح شذا الخزامى من غذائرها ، ومن كفيها يشع سواد حناء ، عينان كحيلتان من دون كحل ، وفما مختوما ، وشفتان زهرتان ، وخدان شقائق نعمان بغمازتين ، وشعر كحلي يؤطر سحنة ملائكية يشوب بياضها تورد وخفر حينما تديم النظر اليها ، لم نبح لبعضنا ابدا بهوانا ، كنا فقط نرسم اقمارا وشموسا وطيورا وبراري ونحلم ، نداول بيننا الغازا وحكايات لا تدر الضحك والتعجب ، ونحكي عن ملائكة وجنان وفراديس ، ونكتفي من الغنيمة بالنظر ، كانت النظرات تسري في دواخلنا كسريان الماء في الارض اليباب ، وكفيلة بري عطش الاوصال المحرومة ، واستغوار مناطق قصية في اغوار النفس فتحركها بلطف ، لطف عفيف لا تزأر بمفعوله الغواية في داوخلنا ولا تتحرك قيد رغبة ..، هكذا كنا سادرين في جناتنا ، وهكذا أصبحت راعيا من أجلها ، إلا أن أقبل عصر ذلك اليوم شقيقها ليخبرها بان عمتها الغنية اتت من مدينة الرباط لتاخدها معها، أصرت على أن أصحبها الى مشارف الدوار ، وعند الوداع ابقينا ايدينا في بعضها لوقت يسير ، لا استطيع تكهن كم دام ، تبادلنا كلمات خجولة ، وآهات كتيمة ، واستلت يدها من بين يدي وانصرفت ، فيما قبعت على حاشية أحد المجاري واستغرقت في نوبة بكاء لم تلحقني الافاقة منه الا والليل قد عسعس ، والعتمة قد عامت على الخيام ، واستشبحت الطرقات والحقول.
بعد ذلك بسنين أحببت بعنف فتاة جميلة في خفر اسمها "م".. أحببتها لحد الجنون ، أحببتها ، حبا ملك علي جوارحي وكياني .. ودمر وجداني ، ووقفت لي عائلتي حاجزا دونه ، كنت أتتبع خطواتها وهي بطريقها إلى المدرسة .. فلا أنا بمستطاعي تكليمها ، ولا هي قادرة على أن تلتفت .. شيء ما يمنعها بالرغم من أنها تحس ..
و الآن و على مسافة أربعين محطة من ذلك الحب البعيد الأليم الكسيح ، لا يزال الحنين إلى ذلك الحب الافلاطوني لي بالمرصاد، يترصدني ويستأسد علي كلما حاصرتني الذكريات البعيدة ، و كلما تذكرتها .. ويزرع في حياتي قنابل موقوتة ، ويبعث في دواخلي رعشة عنيفة لا هي بالدغدغة ولا هي بالهزة ولا بالزلزلة .. فأتذكر انه كان لي قلب أنا أيضا ، وسكن العشق مفاصلي ولبث يتلبس كياني كالمارد لردح من الوقت غير يسير، بالرغم من أني لم أحب بعد ذلك أبدا .. وحينما نويت الزواج خطبت صباح يوم الأحد ، وتزوجت مساء نهار السبت الموالي..

الجمعة 27 ابريل 2012

* من مجموعة ( ...إلخ) - 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...