من منا؟ لا يستكين بين الفينة والأخرى، إلى نوستالجيا ذاك الطفل البعيد الذي يكتسيه؟ فتعيده إلى حقبة سحيقة خلت، كان الواحد تحت كنفها منسجما مع جسده وأفكاره وأحاسيسه، متكلما بحلمه، متأملا بقلبه.
من منا؟ لاتعتقله على سبيل الهروب نحو منفى اختياريا، فتشكل له ملاذا وتوازنا نفسيا، ذكريات أولى سنواته بحجرات المدرسة، وهو طفل صغير؟ أكانت جميلة أم سيئة؟ خصبة أم مقفرة؟ سعيدة أم حزينة؟ المهم، شيء رفيع جدا، غير قابل للتفسير، ينتشلنا كلما أحسسنا بالسأم حيال الحاضر، فنشرد ونحلق عائدين صوب ذاك الزمان، محاولين إعادة تحسس ملامحه….
هكذا، أنا مستمر في استعادة الحي الأول وأبنائه والجيران والدكاكين والفرن وسهرات المقبرة والحمام ومغامراتنا وألعابنا ومراكش التي كانت منا وإلينا وعنا وفينا، أما اليوم فهي غير ذاك تماما، ثم طيبوبة الجميع. لكن، أهم فصول الذاكرة، مدرسون ومربون، استوطنوا كياني إلى الأبد، فتركوا نقوشا لاتمحى، لأني ببساطة أحببتهم بصدق، ولأنهم ببساطة أيضا، كانوا وبقوا رائعين ومدهشين:
*الكتّاب: أعود إلى أواخر السبعينات، كان كتّاب"الانبعاث"، هكذا اسمه، ملتصقا بمنزلنا، ولأن المرض بدأ جديا يأكل جسد أبي فأضحى شبه مقعد، ستتبنى أمي مسؤولية ضرورة ولوجي الكتّاب، قبل بلوغي السن القانوني، الذي يؤهلني للتسجيل ضمن أسلاك المدرسة العمومية. توطدت علاقات والداي، بالمعلم السي عبد اللطيف، الذي كلما استحضرت طيفه إلا وتجسد أمامي شحما ولحما، حضور المرحوم "بوجميع"عضو فرقة ناس الغيوان: شعره، شاربه، طريقة لباسه. كان صارما قدر لطفه، تعلمت عنده ألفبائيات العربية والفرنسية وقواعد الحساب. يراكم على مكتبه المترهل، حزمة من العصي، بيد أن الأسوأ، النوبة الهستيرية التي تزوره بين الفينة والأخرى، تفقده عقله لثوان، فيقدم على تمزيق الدفاتر ويلقي باللوازم المدرسية من النافذة، ومع استفحال الحالة يشرع في لطم السبورة بجمجمته، ثم يتسمر جامدا واللعاب يتدفق من فمه، إلى أن يستعيد وعيه. خلال إحدى جلساتنا الأسروية، حكيت الأمر لأبي بعد تكرره غير مامرة، تفاجأت أنه محيط بالسر، وألزمني كي أتكتم على الأمر: الرجل، مثل أغلب شباب السبعينات، قضى ردحا من الوقت داخل الأقبية المظلمة لأجهزة الاعتقال، مما أثر على سلامته العقلية. أدركت سن السابعة، ازدادت حالة أبي ترديا، معلم الكتّاب هو من تكفل بمقتضيات انتقالي إلى المدرسة، وأوصى بي خيرا. طيفه، لايفارقني.
*السنة الأولى في سلك الابتدائي: أو القسم التحضيري، مثلما سمي لعقود، كان المعلم جميلا شكلا وثري مضمونا، مختلفا عن صنف زملائه. شخص صاحب ملامح شامية وجسد تبدو عليه آثار النعمة. مختلف الرسومات المرافقة لنصوص قراءة "بوكماخ"، نقلها كما أنزلت، بعبقرية بيكاسو، إلى السبورة. لعله الوحيد، الذي عاينت لديه، دلالات الثقافة البصرية.
*السنة الثانية: لازلت ألتقي معلم الفصل حتى اللحظة، مترجلا بخطى سريعة أو ممتطيا دراجته الهوائية: البنية النحيفة، الوجه المتشنج، وكيفية تصفيف تلك الشعيرات التي أبقاها رأسه. دأب على بدء الحصة، بأداء جماعي لبعض الأناشيد الوطنية والدينية، مع براعته في تقديم عروض ومسابقات فنية، تلهب حواسنا. عندما يرتفع صوت الآذان، يوقف الحفل بسرعة، يأمرنا بالصمت والتأمل، ثم يصعد طاولة، سيضفي ارتفاعها عن الأرض طولا إلى قامته الطويلة، المحدودبة قليلا، فيبدو وهو غارق في تخشعه، كبرج آيل للسقوط.
*السنة الثالثة: لم يكن "السي خليفة"، بحدبه وعطفه على جميع التلاميذ، فقط مجرد معلم تعجبني كيفية ثنائه علي، كلما استظهرت نصا من النصوص، بل هو من ضمني إلى صدره بحنان دافئ، لما أخبرته بوفاة أبي، مهدئا من روعي، بنبرة لازال صداها يرن في دواخلي: ((لاتحزن يابني! أنا في مقام والدك)). كلمات، لايدرك وقعها، غير طفل صغير، حزين وضائع وتائه.
*السنة الخامسة: نعم، انه ''السي حديدو''، أستعيد كنيته على الوجه الصحيح. كان لايتوقف عن قضم التمر، لذا ظهرباستمرار شكل وزرته غير معتدل، لأن جيبها الأيمن، حشاه بكمية وافرة من التمر. حقا، يفسح لنا مجال النقاش، لكن حينما نقذفه بسيل من الأسئلة، يركبه غضب عفاريت الأرض والسماء، ويلوح نحو الأعلى بسياطه اللاسع، متوعدا الجميع بالعقاب، دون أن يتوقف عن الإلقاء بحبات التمر إلى فمه. لما يسري مفعول الأخير، ويستعيد هدوءه، يشرع في كتابة نص طويل على امتداد حيز السبورة، مع تقعيده نحويا وإعرابيا.
أما معلم الفرنسية والحساب خلال نفس السنة، فلم تكن تكفي جديته وعشقه للعمل التربوي، الحصص المحدد له رسميا، بل يجبرنا على العودة في المساء إلى المدرسة، كي يمدنا بدروس إضافية، لكن تميزه عن مآلات الزمن الحاضر، هو أنه يقوم بذلك العمل مجانا وبإلحاح منه كي يحضر جميع التلاميذ، معاقبا صبيحة اليوم الموالي، المتخلفين عن الحضور.
*الأولى إعدادي: شابة شقراء في بداية عقدها الثالث، شبيهة بفرنسيات الموجة الشبابية لموجة الهبيزم، عقد الستينات. لذلك، بقينا لأسابيع طويلة في جدال مستمر بخصوص أصلها، هل هي نصرانية أم مغربية؟ أم نصف و نصف؟ "مازموزيل" (يقصدdemoiselle)، كما نادى عليها أحد التلاميذ وقد اختلطت لديه لهجة الصعيد المصري بالفرنسية، نتيجة إدماننا آنذاك على الدراما المصرية، لم تنطق أمامنا داخل الفصل بحرف عربي، مما زكى الرأي القائل أنها حتما رومية، وإن أكدت لنا مرارا أن الخطوة الجوهرية لتعلم لغة يتمثل في الانكباب على التكلم بها. لكن، ستحدث واقعة لم تكن في الحسبان، بحيث ونحن منهمكون ذات يوم في إنجاز تمرين داخل الفصل، لاحظنا الأستاذة قد انتفضت بسرعة من مكتبتها مهرولة نحو أقصى زاوية في القسم، التفتنا جميعا وراءها، اكتشفنا والانذهال يكاد يفقدنا صوابنا، أن أحد التلاميذ مستغرق في ممارسة العادة السرية، بكل علنية. أطبقت عليه، ثم أمطرته بوابل من الصفعات والشتائم، له ولنا، لكن هذه المرة، بغير الفرنسية تماما: يانذل، ياحقير، يا ابن الكلبة، ياسفلة، يامتخلفين….
* الأولى إعدادي: على النقيض، من زميلتها السابقة، ستخبرنا العجوز الشقراء التي درستنا الرياضيات، منذ الوهلة الأولى بأنها مغتربة وبالضبط من بلاد رومانيا الشيوعية. ملامح وجهها الدقيقة بما يكفي، توحي لمن يصادفها دون معرفة سابقة بخصالها، أنها سيدة صعبة المراس وقاسية، والحقيقة لقد عاملتنا بطريقة في غاية الرقي واللطف. ألهمتنا طريقة خاصة في فهم المعادلات الرياضية، مما أثر إيجابا على مستوانا المعرفي. خلال التصحيح، لايتجه تركيزها مباشرة إلى النتيجة النهائية، كما السائد لدينا، بالتالي إما عشرة أو صفر، بل تتابع معك بتأن تمرحلات حل المعادلة خطوة بخطوة، وتمنحك تنقيطا يعكس قدراتك على الاستدلال.
*الأولى إعدادي: لم يكن أستاذ التربية البدنية، الذي قطن ذات حينا طيلة سنوات، بالإنسان المهرطق أو "الفرّاع"، كما نعته وراء ظهره مجموعة من التلاميذ، فقط لأنه يلزمنا مرتين في الأسبوع على الأقل، كي نركض خلفه لمدة نصف ساعة وبإيقاع سريع نسبيا، فنطوي على جميع الجهات، الخلاء المجاور للمدرسة، صارخا في وجوهنا كي لا نتوقف، لأن الركض يشكل عصب الرياضة. بل ونحن مع بداية سنوات الثمانينات، أبان قياسا للفترة عن تكوين نظري وبيداغوجي عميقين، بحيث تحولت لديه حصة التربية البدنية إلى رافد، تنصب فيه روافد متعددة، تتوزع بين الطبي والبيولوجي والروحي وأساسا الأخلاقي.
*الثانية إعدادي: أستاذ مادة الاجتماعيات أو "كيفين كيغان"كما لقبناه، لأنه صورة طبق الأصل عن اللاعب الانجليزي الشهير. غلبت على نطقه اللغة العربية، النبرة الأمازيغية، إضافة إلى انجرافه بعيدا عن الدرس، نحو نقاشات سياسية ثورية تجاوزت قدراتنا على الإدراك. خلال صبيحة، وقد بدا الغضب مسيطرا عليه، أخرج من محفظته دون سابق إنذار مجلة ''الزحف الأخضر''التي تصدر في ليبيا، مؤكدا أمامنا، كأنه في تجمع خطابي جماهيري، أن: ((القذافي هو الزعيم الأول في العالم الثالث !!))، و: ((الاشتراكية تعتبر حلا نهائيا لكل مظاهر الاستغلال، والماركسيين هم أولاد الشعب الرجال !!)).
*الرابعة إعدادي: يستحيل أن تمضي حصة إبراهيم الزدودي، أستاذ اللغة العربية، دون استظهار قصيدة زهرة المدائن للشاعر سعيد عقل، التي غنتها فيروز بروعة. هو، أول من ألح علينا، بضرورة الاطلاع على نصوص نزار قباني، كان شديد الإعجاب به، بحيث لايكف عن الاستشهاد بمقاطعه، وخاصة حسب الأستاذ دائما كونه الدبلوماسي الذي تكلم الكون شعرا. ولكي ينمي عندنا هرمون القراءة، أتى بفكرة خزانة القسم المتنقلة، بحيث يكفي التلميذ شراء كتاب واحد بدريهمات معدودة، وبحكم قانون الاستعارة والتبادل مع باقي زملائه، سيتمكن أوتوماتيكيا من قراءة عشرات الكتب ….
الرابعة إعدادي: يشير التاريخ هنا تقريبا إلى الموسم الدراسي(1984 -1985)، أتذكر كاللحظة أستاذ مادة التربية الإسلامية، بمعطفه الطويل الذي يلف جسده الضئيل طيلة فصل البرد، حيث اتسمت مراكش وقتها بشتائها القارس. يأتي كل صبيحة شبه نائم، ممددا على طريقته البهلوانية، فوق دراجته النارية من نوع"موبيليت عسلية"، المعروفة آنذاك، في الأوساط الشعبية بصلابة عودها. لايمكنه، الشروع في الحصة، قبل توجهه إلينا باستفساره الأساس: هل تابعتم بالأمس النشرة الإخبارية؟ غالبا ماكان جوابنا إيجابا، مادامت الأسر كانت تتحلق بمتعة حول التلفيزيون، الذي شكل وسيلة الترفيه اليتيمة، كما أنه لم يكن ضيفا ثقيلا جدا وفارغا، كما وضعه الآن، بل يبادر إلى زيارة خفيفة، تمتد من الساعة السادسة ونصف تقريبا حتى الحادية عشر. يسألنا، عن رأينا بخصوص قضايا الساعة، ثم ينتقل إلى الدرس. جمع بشكل عقلاني عميق، بين الدين والماركسية، دائم الاستشهاد بحسن حنفي، محلقا نحو إمارة عمر بن الخطاب وعدالته المثلى، في نفس مقام إشادته بالمواقف التاريخية لكنيسة أمريكا اللاتينية، ودورها في مناهضة الديكتاتوريات ومساعدة الفقراء. دروس، في غاية الإفادة والمتعة والجدة، قياسا لأعمارنا. أيضا، اشتهر لدينا، بوصف "الإمعة"، بحيث لما يقوم تلميذ إلى السبورة، بهدف تقديم عرض حول قضية من القضايا، وحينما ينتابه شيء من التلعثم، يبادر الأستاذ في الوقت المناسب، معيدا له توازنه، مهدئا من روعه بابتسامة حكيمة يردفها بجملته –الترياق: اعتبر هؤلاء يابني-أي نحن المستمعين-مجرد إمعات، وأنت أفطنهم.
كذلك، لايمكنني أن أنسى بالعودة إلى السنة ذاتها، محمد الأنصاري مدرس اللغة الفرنسية: شخص يعكس أقصى درجات الأناقة والرقي، وإن أفقده الغضب أحيانا صوابه، فيخرس شغبنا على الفور بكلمة أو كلمتين من جوف القاموس الشعبي المراكشي المسمى ب"التلصاق". قد يزداد نفوره، إذا أصدر أحدنا بصيص قهقهة، جراء الحمولة المستفزة، لفكاهيته السوداء. كان يتكلم الفرنسية بطلاقة واسترسال، مانحا المخارج حقها من الإشباع النبري والدلالي، مشيرا علينا بضرورة الانكباب على سماع أشرطة جاك بريل وشارل أزنافور وإيديت بياف. بيد أنه، عوض هؤلاء، سيدندن لحظات صمته شاردا لدقائق طويلة خلف النافذة المطلة على ساحة مدرستنا، بالمقطع الشهير، لجون سلفر: خمسة عشر رجلا، ماتوا من أجل صندوق، آه آه آه ! في إحالة طفولية واضحة، على سلسلة الرسوم المتحركة"جزيرة الكنز"، التي شكلت لنا، إلى جانب "سندباد" و"غرندايزر"، فسحة استراحة مسائية لامناص منها، بعد الرجوع من المدرسة وقبل الانكباب على إنجاز واجبات يوم مدرسي جديد.
السنة الخامسة: أو الأولى في سلك الثانوي، كانت حبلى بأشياء جميلة: سن المراهقة، أولى قصص الحب العذرية، أغاني وأفلام عبد الحليم حافظ، البطولة المدرسية في كرة القدم عشية كل سبت، الخرجات الجماعية بين الفينة والثانية إلى البساتين والحدائق، حيث كان صديقنا المكنى ب"الحاج" والملقب ب"شتيليكي"لأنه أظهر دائما براعة في خط الدفاع على منوال المدافع الألماني المشهور وقتها، يتحفنا على أوتار قيتارته بأغنية"حكمت لقدار"الحزينة لجماعة لرصاد المراكشية، ثم اكتشافنا لمتعة القراءة، نتيجة العوالم الواسعة التي فتحتها تجربة المكتبة المتنقلة، حيث تعرفنا صدفة على روائع صنع الله إبراهيم والطيب صالح ومحمد زفزاف وتوفيق الحكيم وكاتب ياسين وكافكا والعقاد وجبران وتولستوي والخبز الحافي لشكري، التي تبادلناها سرا تجنبا لأعين الوشاة بسبب قانون حظرها، كما استمعنا خلسة في ساعات متأخرة من الليل، على صوت خافت جدا، لأشرطة مارسيل خليفة والشيخ إمام وأحمد قعبور وسعيد المغربي….
تمثلنا لأول مرة كنه وماهية، مادة التاريخ، باحترافية معرفية على يد الأستاذ الدربوش مبارك. من الصدف العجيبة، أن سيمياء وجهه تنحو منحى ارستقراطيا، تماما كالمؤرخ عبد الله العروي، مشتركا معه في كثير من توقد نظرته. لحظتها، لم تكن لنا أدنى إشارة عن الأخير، إلا عندما أكد لنا الأستاذ، أن تلاميذ في مرحلتنا، عليهم أن يبدأوا بقراءة نصوص العروي والجابري. لقد اجتمعت لدى صاحبنا، مواصفات ستمنحه حضورا مميزا. متمكن من تخصصه، ذكي وجدي، ثم جذاب. هكذا، كلما أتينا على سيرته في تجمعاتنا، إلا وتستبق التلميذات نحو طرح السؤال التقليدي: أمتزوج هو أم ليس بعد؟ بعد نميمة طويلة، يخلصن إلى أنه حتما لازال عازبا، لأن أصابع يديه تخلو من خاتم !نتغامز نحن التلاميذ فيما بيننا، متفقين بكيفية أثيرية على القصد من حديثهن. لكن، خلال أول لقاء به بعد انصرام إحدى العطل، وقع طارئان اعتبرا في سياقهما مهمان. الأول، تكدر معه صفو الإناث، والثاني أدخل بهجة التشفي إلى قلوب، من جعلهم باستمرارموضوع سخرية أمام باقي الفصل، جراء انتقاداته اللاذعة للغتهم العربية الركيكة: بدت أنامله اليمنى مزينة بخاتم زواج ذهبي أصفر، منهيا قطعا هيام الحالمات به، بالتالي لم يعد مشروعا، ممكنا لبعضهن. ثم مع نهاية الحصة، بينما يعلو صراخه في وجوهنا كي نستعد للمقبل، قال: "ينبغي حتما، أن أقلِّب الدفاتر"، عوض "أراقب أو أعاين "، لأن "أقلِّب"كلمة تنتمي للغة الدارجة. انبعثت ضحكات في الصفوف، بينما غطت حمرة وجهه نتيجة شعوره بحرارة الزلة، فزم شفتيه وخرج. في نهاية المطاف، ماذا بوسع الواحد أن يقول، فقط لكل فرس كبوة؟.
على النقيض من الوضع الاعتباري، الذي حظي به مدرس الاجتماعيات، كان زميله في اللغة العربية أقل شغفا بواجبه، لكنه أكثر اهتماما بتلميذات الفصل، بحيث لا يتوقف صاحب "رأيت وردة ترقص في الحفل" و"راقصت وردة في الحفل"، الواردتين على لسانه بمناسبة وغير مناسبة، عن الانسياق وراء سيل من النعوت، تعكس ضمنيا طبيعة تقييمه لمحاسن كل واحدة، مثلا إذا كانت قصيرة ومكتنزة، سيلجأ إلى صيغة((يالله أصويصيطة-تصغير للصوصيط "النقانق"، المنيدة "-تصغير للمونادا -تشبيه ضمني بقاروة المشروب الغازي))، أو((للا الصفصافة، البلوطة، النوارة))، إن بدت صاحبة قوام طويلة…. كان ضعيفا في مادة النصوص والنحو، مقابل تميزه في درس المؤلفات، فشذ ألبابنا وحواسنا طيلة السنة أثناء تحليله لمؤلف توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف"، إلى درجة أنه بعد مرور الآن ما يقارب ثلاثين سنة، على ذلك العهد، لازلت بين الفينة والثانية أعاود قراءة العمل، ساعيا كي أبعث من رقادها ذات أجواء النص، كما ألهمنا إياها. أيضا، مازاد من متعة حصة المؤلفات، كونها الموعد الأسبوعي، الذي نفعل فيه عمليا شعار الخزانة المتنقلة، مما سيمنح كل تلميذ فرصة جديدة كي يعاشر كاتبا مغايرا لسابقه.
يستحيل، أن أشرد نحو تلك السنة دائما، دون الوقوف عند اسم وهيئة المشرفة على مادة اللغة الفرنسية. إنها الأستاذة نوال، الذكية والجميلة والفاتنة. ربما، معطيات كانت كافية، كي يبدي نحوها كل الفصل بما في ذلك رؤوس العصابة المارقين، نوعا من التهيب. عينان تشعان إغراء، ملامح غجرية وجسد ناغل. شاعرية، سيكتمل ألقها مع سلاسة فرنسيتها، لذا كان طبيعيا أن نتابع معها سطرا بسطر فقرات رواية "le lion "للكاتب الفرنسي ذي الأصول الأرجنتينية، جوزيف كيسيل.
السنة السادسة: لم يفصح خلال أي لحظة من اللحظات عن عقيدته السياسية، لكننا أدركنا عبر إيحاءات انتقاداته الدقيقة للوضع العام، أنه ليس بالمدرس العادي، بل حتما قد خبر تنظيميا ونضاليا الإطارات الطلابية والنقابية والحزبية، سنوات السبعينات والثمانينات. جسم نحيف، جمجمة فاضت نسبيا عن حجمها المفترض، شارب كث وأشعث أخفى كليا شفتيه الرقيقتين، ملامح أقرب إلى إعلان الضجر، مدخن شره، حد اصفرار أظافر يده اليمنى. هكذا، كان أستاذ اللغة العربية، الذي اكتشفنا معه لأول مرة بارت ولوكاتش ولوسيان غولدمان وجدانوف وباختين والشكلانيين والأدب الواقعي، ثم بالأخص الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي.
أما أستاذ الانجليزية، فقد كان بوهيميا بكل ماتحمله الكلمة من دلالة، انتمى قلبا وقالبا، إلى الغيفاريين والنموذج الطليعي لسنوات الستينات. شعر طويل مسدل إلى الكتفين، لحية كثيفة، سراويل جينز بغير لون جراء طول الاستعمال، أحدية رياضية، ونظارة شمسية سوداء مستمرة فوق عينيه، صباحا ومساء. لم يفوت أية فرصة، كي يحثنا على إدمان سماع موسيقى بوب مارلي وحفظ كلمات أغانيه، كمدخل أساسي حسب وجهة نظره لتعلم الانجليزية، مضيفا بأن زعيم الريغي، يعتبر أفضل من يطرب بتلك اللغة.
مستوى الباكلوريا: عبقرية عمر لمحمود عباس العقاد، والإيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي، بالرغم من ترجمتها العربية السيئة، المتداولة وقتها، ورغم تباعد الأفقين، فقد توفرت لدى أستاذ العربية، مايكفي من المهارات العلمية والبيداغوجية، كي ييسر لنا الطبقات المفهومية العويصة لبناءات نظرية من ذلك المستوى. تلمسنا معه، المرجعيات الثاوية الموجهة لتأويلات العقاد، لاسيما قواعد علم النفس الايطالي لومبروزو، أو تجليات حالات الوعي الثلاثة للفكر العربي المعاصر، كما سبر أغوارها العروي.
إذا تصادف وشاهدت أستاذ الفرنسية للوهلة الأولى، تعتقده إفريقيا من جنوب الصحراء، كأنه مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال، يعيش بين ظهرانينا. بشرة موغلة في السواد، أسنان مرتبة كالبنيان المرصوص، تشع بياضا. يخاطبنا والخجل باد على محياه، مما يضيع جوانب شتى من غنى وزخم مايأتي به إلينا. تأثرا به، بدأت أقرأ صمويل بيكيت ويوجين يونسكو وجان جينيه، بفضله وضعت اليد على كتابات عالمية من قبيل: في انتظار غودو والمغنية الصلعاء ووحيد القرن كما اكتشفت معه مناحي الفلسفية الوجودية….
بعد سنوات طويلة، ومرور مدة طويلة على زمن هؤلاء، وبعد تجارب أخرى، ولجت المدرسة ثانية كمدرس هذه المرة، بدا إلي من الساعات الأولى، أن التلميذ لم يعد هو التلميذ، والمدرس صار غير المدرس، والمدرسة تخلفت عن المدرسة بل الأفق الذي توخيناه صغارا وشبابا تحت كنف هؤلاء، لم يعد هو الأفق.
د. سعيد بوخليط
من منا؟ لاتعتقله على سبيل الهروب نحو منفى اختياريا، فتشكل له ملاذا وتوازنا نفسيا، ذكريات أولى سنواته بحجرات المدرسة، وهو طفل صغير؟ أكانت جميلة أم سيئة؟ خصبة أم مقفرة؟ سعيدة أم حزينة؟ المهم، شيء رفيع جدا، غير قابل للتفسير، ينتشلنا كلما أحسسنا بالسأم حيال الحاضر، فنشرد ونحلق عائدين صوب ذاك الزمان، محاولين إعادة تحسس ملامحه….
هكذا، أنا مستمر في استعادة الحي الأول وأبنائه والجيران والدكاكين والفرن وسهرات المقبرة والحمام ومغامراتنا وألعابنا ومراكش التي كانت منا وإلينا وعنا وفينا، أما اليوم فهي غير ذاك تماما، ثم طيبوبة الجميع. لكن، أهم فصول الذاكرة، مدرسون ومربون، استوطنوا كياني إلى الأبد، فتركوا نقوشا لاتمحى، لأني ببساطة أحببتهم بصدق، ولأنهم ببساطة أيضا، كانوا وبقوا رائعين ومدهشين:
*الكتّاب: أعود إلى أواخر السبعينات، كان كتّاب"الانبعاث"، هكذا اسمه، ملتصقا بمنزلنا، ولأن المرض بدأ جديا يأكل جسد أبي فأضحى شبه مقعد، ستتبنى أمي مسؤولية ضرورة ولوجي الكتّاب، قبل بلوغي السن القانوني، الذي يؤهلني للتسجيل ضمن أسلاك المدرسة العمومية. توطدت علاقات والداي، بالمعلم السي عبد اللطيف، الذي كلما استحضرت طيفه إلا وتجسد أمامي شحما ولحما، حضور المرحوم "بوجميع"عضو فرقة ناس الغيوان: شعره، شاربه، طريقة لباسه. كان صارما قدر لطفه، تعلمت عنده ألفبائيات العربية والفرنسية وقواعد الحساب. يراكم على مكتبه المترهل، حزمة من العصي، بيد أن الأسوأ، النوبة الهستيرية التي تزوره بين الفينة والأخرى، تفقده عقله لثوان، فيقدم على تمزيق الدفاتر ويلقي باللوازم المدرسية من النافذة، ومع استفحال الحالة يشرع في لطم السبورة بجمجمته، ثم يتسمر جامدا واللعاب يتدفق من فمه، إلى أن يستعيد وعيه. خلال إحدى جلساتنا الأسروية، حكيت الأمر لأبي بعد تكرره غير مامرة، تفاجأت أنه محيط بالسر، وألزمني كي أتكتم على الأمر: الرجل، مثل أغلب شباب السبعينات، قضى ردحا من الوقت داخل الأقبية المظلمة لأجهزة الاعتقال، مما أثر على سلامته العقلية. أدركت سن السابعة، ازدادت حالة أبي ترديا، معلم الكتّاب هو من تكفل بمقتضيات انتقالي إلى المدرسة، وأوصى بي خيرا. طيفه، لايفارقني.
*السنة الأولى في سلك الابتدائي: أو القسم التحضيري، مثلما سمي لعقود، كان المعلم جميلا شكلا وثري مضمونا، مختلفا عن صنف زملائه. شخص صاحب ملامح شامية وجسد تبدو عليه آثار النعمة. مختلف الرسومات المرافقة لنصوص قراءة "بوكماخ"، نقلها كما أنزلت، بعبقرية بيكاسو، إلى السبورة. لعله الوحيد، الذي عاينت لديه، دلالات الثقافة البصرية.
*السنة الثانية: لازلت ألتقي معلم الفصل حتى اللحظة، مترجلا بخطى سريعة أو ممتطيا دراجته الهوائية: البنية النحيفة، الوجه المتشنج، وكيفية تصفيف تلك الشعيرات التي أبقاها رأسه. دأب على بدء الحصة، بأداء جماعي لبعض الأناشيد الوطنية والدينية، مع براعته في تقديم عروض ومسابقات فنية، تلهب حواسنا. عندما يرتفع صوت الآذان، يوقف الحفل بسرعة، يأمرنا بالصمت والتأمل، ثم يصعد طاولة، سيضفي ارتفاعها عن الأرض طولا إلى قامته الطويلة، المحدودبة قليلا، فيبدو وهو غارق في تخشعه، كبرج آيل للسقوط.
*السنة الثالثة: لم يكن "السي خليفة"، بحدبه وعطفه على جميع التلاميذ، فقط مجرد معلم تعجبني كيفية ثنائه علي، كلما استظهرت نصا من النصوص، بل هو من ضمني إلى صدره بحنان دافئ، لما أخبرته بوفاة أبي، مهدئا من روعي، بنبرة لازال صداها يرن في دواخلي: ((لاتحزن يابني! أنا في مقام والدك)). كلمات، لايدرك وقعها، غير طفل صغير، حزين وضائع وتائه.
*السنة الخامسة: نعم، انه ''السي حديدو''، أستعيد كنيته على الوجه الصحيح. كان لايتوقف عن قضم التمر، لذا ظهرباستمرار شكل وزرته غير معتدل، لأن جيبها الأيمن، حشاه بكمية وافرة من التمر. حقا، يفسح لنا مجال النقاش، لكن حينما نقذفه بسيل من الأسئلة، يركبه غضب عفاريت الأرض والسماء، ويلوح نحو الأعلى بسياطه اللاسع، متوعدا الجميع بالعقاب، دون أن يتوقف عن الإلقاء بحبات التمر إلى فمه. لما يسري مفعول الأخير، ويستعيد هدوءه، يشرع في كتابة نص طويل على امتداد حيز السبورة، مع تقعيده نحويا وإعرابيا.
أما معلم الفرنسية والحساب خلال نفس السنة، فلم تكن تكفي جديته وعشقه للعمل التربوي، الحصص المحدد له رسميا، بل يجبرنا على العودة في المساء إلى المدرسة، كي يمدنا بدروس إضافية، لكن تميزه عن مآلات الزمن الحاضر، هو أنه يقوم بذلك العمل مجانا وبإلحاح منه كي يحضر جميع التلاميذ، معاقبا صبيحة اليوم الموالي، المتخلفين عن الحضور.
*الأولى إعدادي: شابة شقراء في بداية عقدها الثالث، شبيهة بفرنسيات الموجة الشبابية لموجة الهبيزم، عقد الستينات. لذلك، بقينا لأسابيع طويلة في جدال مستمر بخصوص أصلها، هل هي نصرانية أم مغربية؟ أم نصف و نصف؟ "مازموزيل" (يقصدdemoiselle)، كما نادى عليها أحد التلاميذ وقد اختلطت لديه لهجة الصعيد المصري بالفرنسية، نتيجة إدماننا آنذاك على الدراما المصرية، لم تنطق أمامنا داخل الفصل بحرف عربي، مما زكى الرأي القائل أنها حتما رومية، وإن أكدت لنا مرارا أن الخطوة الجوهرية لتعلم لغة يتمثل في الانكباب على التكلم بها. لكن، ستحدث واقعة لم تكن في الحسبان، بحيث ونحن منهمكون ذات يوم في إنجاز تمرين داخل الفصل، لاحظنا الأستاذة قد انتفضت بسرعة من مكتبتها مهرولة نحو أقصى زاوية في القسم، التفتنا جميعا وراءها، اكتشفنا والانذهال يكاد يفقدنا صوابنا، أن أحد التلاميذ مستغرق في ممارسة العادة السرية، بكل علنية. أطبقت عليه، ثم أمطرته بوابل من الصفعات والشتائم، له ولنا، لكن هذه المرة، بغير الفرنسية تماما: يانذل، ياحقير، يا ابن الكلبة، ياسفلة، يامتخلفين….
* الأولى إعدادي: على النقيض، من زميلتها السابقة، ستخبرنا العجوز الشقراء التي درستنا الرياضيات، منذ الوهلة الأولى بأنها مغتربة وبالضبط من بلاد رومانيا الشيوعية. ملامح وجهها الدقيقة بما يكفي، توحي لمن يصادفها دون معرفة سابقة بخصالها، أنها سيدة صعبة المراس وقاسية، والحقيقة لقد عاملتنا بطريقة في غاية الرقي واللطف. ألهمتنا طريقة خاصة في فهم المعادلات الرياضية، مما أثر إيجابا على مستوانا المعرفي. خلال التصحيح، لايتجه تركيزها مباشرة إلى النتيجة النهائية، كما السائد لدينا، بالتالي إما عشرة أو صفر، بل تتابع معك بتأن تمرحلات حل المعادلة خطوة بخطوة، وتمنحك تنقيطا يعكس قدراتك على الاستدلال.
*الأولى إعدادي: لم يكن أستاذ التربية البدنية، الذي قطن ذات حينا طيلة سنوات، بالإنسان المهرطق أو "الفرّاع"، كما نعته وراء ظهره مجموعة من التلاميذ، فقط لأنه يلزمنا مرتين في الأسبوع على الأقل، كي نركض خلفه لمدة نصف ساعة وبإيقاع سريع نسبيا، فنطوي على جميع الجهات، الخلاء المجاور للمدرسة، صارخا في وجوهنا كي لا نتوقف، لأن الركض يشكل عصب الرياضة. بل ونحن مع بداية سنوات الثمانينات، أبان قياسا للفترة عن تكوين نظري وبيداغوجي عميقين، بحيث تحولت لديه حصة التربية البدنية إلى رافد، تنصب فيه روافد متعددة، تتوزع بين الطبي والبيولوجي والروحي وأساسا الأخلاقي.
*الثانية إعدادي: أستاذ مادة الاجتماعيات أو "كيفين كيغان"كما لقبناه، لأنه صورة طبق الأصل عن اللاعب الانجليزي الشهير. غلبت على نطقه اللغة العربية، النبرة الأمازيغية، إضافة إلى انجرافه بعيدا عن الدرس، نحو نقاشات سياسية ثورية تجاوزت قدراتنا على الإدراك. خلال صبيحة، وقد بدا الغضب مسيطرا عليه، أخرج من محفظته دون سابق إنذار مجلة ''الزحف الأخضر''التي تصدر في ليبيا، مؤكدا أمامنا، كأنه في تجمع خطابي جماهيري، أن: ((القذافي هو الزعيم الأول في العالم الثالث !!))، و: ((الاشتراكية تعتبر حلا نهائيا لكل مظاهر الاستغلال، والماركسيين هم أولاد الشعب الرجال !!)).
*الرابعة إعدادي: يستحيل أن تمضي حصة إبراهيم الزدودي، أستاذ اللغة العربية، دون استظهار قصيدة زهرة المدائن للشاعر سعيد عقل، التي غنتها فيروز بروعة. هو، أول من ألح علينا، بضرورة الاطلاع على نصوص نزار قباني، كان شديد الإعجاب به، بحيث لايكف عن الاستشهاد بمقاطعه، وخاصة حسب الأستاذ دائما كونه الدبلوماسي الذي تكلم الكون شعرا. ولكي ينمي عندنا هرمون القراءة، أتى بفكرة خزانة القسم المتنقلة، بحيث يكفي التلميذ شراء كتاب واحد بدريهمات معدودة، وبحكم قانون الاستعارة والتبادل مع باقي زملائه، سيتمكن أوتوماتيكيا من قراءة عشرات الكتب ….
الرابعة إعدادي: يشير التاريخ هنا تقريبا إلى الموسم الدراسي(1984 -1985)، أتذكر كاللحظة أستاذ مادة التربية الإسلامية، بمعطفه الطويل الذي يلف جسده الضئيل طيلة فصل البرد، حيث اتسمت مراكش وقتها بشتائها القارس. يأتي كل صبيحة شبه نائم، ممددا على طريقته البهلوانية، فوق دراجته النارية من نوع"موبيليت عسلية"، المعروفة آنذاك، في الأوساط الشعبية بصلابة عودها. لايمكنه، الشروع في الحصة، قبل توجهه إلينا باستفساره الأساس: هل تابعتم بالأمس النشرة الإخبارية؟ غالبا ماكان جوابنا إيجابا، مادامت الأسر كانت تتحلق بمتعة حول التلفيزيون، الذي شكل وسيلة الترفيه اليتيمة، كما أنه لم يكن ضيفا ثقيلا جدا وفارغا، كما وضعه الآن، بل يبادر إلى زيارة خفيفة، تمتد من الساعة السادسة ونصف تقريبا حتى الحادية عشر. يسألنا، عن رأينا بخصوص قضايا الساعة، ثم ينتقل إلى الدرس. جمع بشكل عقلاني عميق، بين الدين والماركسية، دائم الاستشهاد بحسن حنفي، محلقا نحو إمارة عمر بن الخطاب وعدالته المثلى، في نفس مقام إشادته بالمواقف التاريخية لكنيسة أمريكا اللاتينية، ودورها في مناهضة الديكتاتوريات ومساعدة الفقراء. دروس، في غاية الإفادة والمتعة والجدة، قياسا لأعمارنا. أيضا، اشتهر لدينا، بوصف "الإمعة"، بحيث لما يقوم تلميذ إلى السبورة، بهدف تقديم عرض حول قضية من القضايا، وحينما ينتابه شيء من التلعثم، يبادر الأستاذ في الوقت المناسب، معيدا له توازنه، مهدئا من روعه بابتسامة حكيمة يردفها بجملته –الترياق: اعتبر هؤلاء يابني-أي نحن المستمعين-مجرد إمعات، وأنت أفطنهم.
كذلك، لايمكنني أن أنسى بالعودة إلى السنة ذاتها، محمد الأنصاري مدرس اللغة الفرنسية: شخص يعكس أقصى درجات الأناقة والرقي، وإن أفقده الغضب أحيانا صوابه، فيخرس شغبنا على الفور بكلمة أو كلمتين من جوف القاموس الشعبي المراكشي المسمى ب"التلصاق". قد يزداد نفوره، إذا أصدر أحدنا بصيص قهقهة، جراء الحمولة المستفزة، لفكاهيته السوداء. كان يتكلم الفرنسية بطلاقة واسترسال، مانحا المخارج حقها من الإشباع النبري والدلالي، مشيرا علينا بضرورة الانكباب على سماع أشرطة جاك بريل وشارل أزنافور وإيديت بياف. بيد أنه، عوض هؤلاء، سيدندن لحظات صمته شاردا لدقائق طويلة خلف النافذة المطلة على ساحة مدرستنا، بالمقطع الشهير، لجون سلفر: خمسة عشر رجلا، ماتوا من أجل صندوق، آه آه آه ! في إحالة طفولية واضحة، على سلسلة الرسوم المتحركة"جزيرة الكنز"، التي شكلت لنا، إلى جانب "سندباد" و"غرندايزر"، فسحة استراحة مسائية لامناص منها، بعد الرجوع من المدرسة وقبل الانكباب على إنجاز واجبات يوم مدرسي جديد.
السنة الخامسة: أو الأولى في سلك الثانوي، كانت حبلى بأشياء جميلة: سن المراهقة، أولى قصص الحب العذرية، أغاني وأفلام عبد الحليم حافظ، البطولة المدرسية في كرة القدم عشية كل سبت، الخرجات الجماعية بين الفينة والثانية إلى البساتين والحدائق، حيث كان صديقنا المكنى ب"الحاج" والملقب ب"شتيليكي"لأنه أظهر دائما براعة في خط الدفاع على منوال المدافع الألماني المشهور وقتها، يتحفنا على أوتار قيتارته بأغنية"حكمت لقدار"الحزينة لجماعة لرصاد المراكشية، ثم اكتشافنا لمتعة القراءة، نتيجة العوالم الواسعة التي فتحتها تجربة المكتبة المتنقلة، حيث تعرفنا صدفة على روائع صنع الله إبراهيم والطيب صالح ومحمد زفزاف وتوفيق الحكيم وكاتب ياسين وكافكا والعقاد وجبران وتولستوي والخبز الحافي لشكري، التي تبادلناها سرا تجنبا لأعين الوشاة بسبب قانون حظرها، كما استمعنا خلسة في ساعات متأخرة من الليل، على صوت خافت جدا، لأشرطة مارسيل خليفة والشيخ إمام وأحمد قعبور وسعيد المغربي….
تمثلنا لأول مرة كنه وماهية، مادة التاريخ، باحترافية معرفية على يد الأستاذ الدربوش مبارك. من الصدف العجيبة، أن سيمياء وجهه تنحو منحى ارستقراطيا، تماما كالمؤرخ عبد الله العروي، مشتركا معه في كثير من توقد نظرته. لحظتها، لم تكن لنا أدنى إشارة عن الأخير، إلا عندما أكد لنا الأستاذ، أن تلاميذ في مرحلتنا، عليهم أن يبدأوا بقراءة نصوص العروي والجابري. لقد اجتمعت لدى صاحبنا، مواصفات ستمنحه حضورا مميزا. متمكن من تخصصه، ذكي وجدي، ثم جذاب. هكذا، كلما أتينا على سيرته في تجمعاتنا، إلا وتستبق التلميذات نحو طرح السؤال التقليدي: أمتزوج هو أم ليس بعد؟ بعد نميمة طويلة، يخلصن إلى أنه حتما لازال عازبا، لأن أصابع يديه تخلو من خاتم !نتغامز نحن التلاميذ فيما بيننا، متفقين بكيفية أثيرية على القصد من حديثهن. لكن، خلال أول لقاء به بعد انصرام إحدى العطل، وقع طارئان اعتبرا في سياقهما مهمان. الأول، تكدر معه صفو الإناث، والثاني أدخل بهجة التشفي إلى قلوب، من جعلهم باستمرارموضوع سخرية أمام باقي الفصل، جراء انتقاداته اللاذعة للغتهم العربية الركيكة: بدت أنامله اليمنى مزينة بخاتم زواج ذهبي أصفر، منهيا قطعا هيام الحالمات به، بالتالي لم يعد مشروعا، ممكنا لبعضهن. ثم مع نهاية الحصة، بينما يعلو صراخه في وجوهنا كي نستعد للمقبل، قال: "ينبغي حتما، أن أقلِّب الدفاتر"، عوض "أراقب أو أعاين "، لأن "أقلِّب"كلمة تنتمي للغة الدارجة. انبعثت ضحكات في الصفوف، بينما غطت حمرة وجهه نتيجة شعوره بحرارة الزلة، فزم شفتيه وخرج. في نهاية المطاف، ماذا بوسع الواحد أن يقول، فقط لكل فرس كبوة؟.
على النقيض من الوضع الاعتباري، الذي حظي به مدرس الاجتماعيات، كان زميله في اللغة العربية أقل شغفا بواجبه، لكنه أكثر اهتماما بتلميذات الفصل، بحيث لا يتوقف صاحب "رأيت وردة ترقص في الحفل" و"راقصت وردة في الحفل"، الواردتين على لسانه بمناسبة وغير مناسبة، عن الانسياق وراء سيل من النعوت، تعكس ضمنيا طبيعة تقييمه لمحاسن كل واحدة، مثلا إذا كانت قصيرة ومكتنزة، سيلجأ إلى صيغة((يالله أصويصيطة-تصغير للصوصيط "النقانق"، المنيدة "-تصغير للمونادا -تشبيه ضمني بقاروة المشروب الغازي))، أو((للا الصفصافة، البلوطة، النوارة))، إن بدت صاحبة قوام طويلة…. كان ضعيفا في مادة النصوص والنحو، مقابل تميزه في درس المؤلفات، فشذ ألبابنا وحواسنا طيلة السنة أثناء تحليله لمؤلف توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف"، إلى درجة أنه بعد مرور الآن ما يقارب ثلاثين سنة، على ذلك العهد، لازلت بين الفينة والثانية أعاود قراءة العمل، ساعيا كي أبعث من رقادها ذات أجواء النص، كما ألهمنا إياها. أيضا، مازاد من متعة حصة المؤلفات، كونها الموعد الأسبوعي، الذي نفعل فيه عمليا شعار الخزانة المتنقلة، مما سيمنح كل تلميذ فرصة جديدة كي يعاشر كاتبا مغايرا لسابقه.
يستحيل، أن أشرد نحو تلك السنة دائما، دون الوقوف عند اسم وهيئة المشرفة على مادة اللغة الفرنسية. إنها الأستاذة نوال، الذكية والجميلة والفاتنة. ربما، معطيات كانت كافية، كي يبدي نحوها كل الفصل بما في ذلك رؤوس العصابة المارقين، نوعا من التهيب. عينان تشعان إغراء، ملامح غجرية وجسد ناغل. شاعرية، سيكتمل ألقها مع سلاسة فرنسيتها، لذا كان طبيعيا أن نتابع معها سطرا بسطر فقرات رواية "le lion "للكاتب الفرنسي ذي الأصول الأرجنتينية، جوزيف كيسيل.
السنة السادسة: لم يفصح خلال أي لحظة من اللحظات عن عقيدته السياسية، لكننا أدركنا عبر إيحاءات انتقاداته الدقيقة للوضع العام، أنه ليس بالمدرس العادي، بل حتما قد خبر تنظيميا ونضاليا الإطارات الطلابية والنقابية والحزبية، سنوات السبعينات والثمانينات. جسم نحيف، جمجمة فاضت نسبيا عن حجمها المفترض، شارب كث وأشعث أخفى كليا شفتيه الرقيقتين، ملامح أقرب إلى إعلان الضجر، مدخن شره، حد اصفرار أظافر يده اليمنى. هكذا، كان أستاذ اللغة العربية، الذي اكتشفنا معه لأول مرة بارت ولوكاتش ولوسيان غولدمان وجدانوف وباختين والشكلانيين والأدب الواقعي، ثم بالأخص الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي.
أما أستاذ الانجليزية، فقد كان بوهيميا بكل ماتحمله الكلمة من دلالة، انتمى قلبا وقالبا، إلى الغيفاريين والنموذج الطليعي لسنوات الستينات. شعر طويل مسدل إلى الكتفين، لحية كثيفة، سراويل جينز بغير لون جراء طول الاستعمال، أحدية رياضية، ونظارة شمسية سوداء مستمرة فوق عينيه، صباحا ومساء. لم يفوت أية فرصة، كي يحثنا على إدمان سماع موسيقى بوب مارلي وحفظ كلمات أغانيه، كمدخل أساسي حسب وجهة نظره لتعلم الانجليزية، مضيفا بأن زعيم الريغي، يعتبر أفضل من يطرب بتلك اللغة.
مستوى الباكلوريا: عبقرية عمر لمحمود عباس العقاد، والإيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي، بالرغم من ترجمتها العربية السيئة، المتداولة وقتها، ورغم تباعد الأفقين، فقد توفرت لدى أستاذ العربية، مايكفي من المهارات العلمية والبيداغوجية، كي ييسر لنا الطبقات المفهومية العويصة لبناءات نظرية من ذلك المستوى. تلمسنا معه، المرجعيات الثاوية الموجهة لتأويلات العقاد، لاسيما قواعد علم النفس الايطالي لومبروزو، أو تجليات حالات الوعي الثلاثة للفكر العربي المعاصر، كما سبر أغوارها العروي.
إذا تصادف وشاهدت أستاذ الفرنسية للوهلة الأولى، تعتقده إفريقيا من جنوب الصحراء، كأنه مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال، يعيش بين ظهرانينا. بشرة موغلة في السواد، أسنان مرتبة كالبنيان المرصوص، تشع بياضا. يخاطبنا والخجل باد على محياه، مما يضيع جوانب شتى من غنى وزخم مايأتي به إلينا. تأثرا به، بدأت أقرأ صمويل بيكيت ويوجين يونسكو وجان جينيه، بفضله وضعت اليد على كتابات عالمية من قبيل: في انتظار غودو والمغنية الصلعاء ووحيد القرن كما اكتشفت معه مناحي الفلسفية الوجودية….
بعد سنوات طويلة، ومرور مدة طويلة على زمن هؤلاء، وبعد تجارب أخرى، ولجت المدرسة ثانية كمدرس هذه المرة، بدا إلي من الساعات الأولى، أن التلميذ لم يعد هو التلميذ، والمدرس صار غير المدرس، والمدرسة تخلفت عن المدرسة بل الأفق الذي توخيناه صغارا وشبابا تحت كنف هؤلاء، لم يعد هو الأفق.
د. سعيد بوخليط