عبد الفتاح القرقني - قصيد مناجاة البحر


أَيُّهَا الْبَحْرُ الْمُتَرَامِي عَلِّمْنِي كَيْفَ أَحْمِلُ أَوْزَارِي دُونَ نَصْبٍ وَ تَنْكِيدِ
أَيَّ صَبْرٍ تَمْلِكُ و أَنْتَ مُنْذُ الْأَزَلِ تَصْفَعُ ضِفَافَ الصَّخْرِ فِي نَحْتٍ وَ تَشْرِيدٍ ؟
أَنْتَ يَا بَحْرُ أَلْهَمْتَنِي وَحْيَ الْجَمَالِ فَرُحْتُ أَصْدَعُ وَ أَصْدَحُ بِاسْمِهِ الْمَحْمُودِ
أَنْتَ سِرٌّ خَالِدٌ مِنْ عَالَمِ الرُّومَانْسِيَّةِ مُغْرٍ بِجَلاَلٍ وَ كِبْرِيَاء عَنِيدٍ
أَنْتَ عُبَابٌ ضَاجٌّ يَعْزِفُ عَلَى نَايِهِ أُهْزُوجَةَ حُزْنِي وَ أَحْلاَمَ نَشِيدِي
أَنْتَ حِضْنٌ دَافِئٌ لِآهَاتِي وَ زَفَرَاتِي وَ دُمُوعِي وَ قَصِيدِي
أَنْتَ يَا بَحْرُ فَلْذَةٌ مِنْ فُؤَادِي تَتَهَجَّدُ تَعْظِيمًا لِرَبِّ الْوُجُودِ
« فِيكَ يَبْدُو خَرِيفِي مَلُولاً شَاحِبَ اللَّوْنِ عَارِيَ الْأَمْلُود
جَلَّلَتْهُ الْحَيَاةُ بِالْحَزَنِ الدَّامِي وَ غَشَّتْهُ الْحَيَاةُ بِالْغُيُومِ السُّودِ
فِيكَ يَمْشِي شِتَاءُ أَيَّامِيَ الْبَاكِي وَ تُرْغِي صَواعِقِي وَ رُعُودِي»
فِيكَ تَرْتَعُ الأَسْمَاكُ الْمُزْدَانَةُ كَالْغَزَالِ مُسَبِّحَةً فِي هَمْسٍ بِاسْمِ الْخَالِقِ الْمَعْبُودِ
فِيكَ ابْتَرَدَتْ أَفْرُودِيتْ فَانْسَدَلَ شَعُرُهَا الْفَاحِمُ مُتَعَطِّرًا بِأَرَجِ الْوُرُودِ
مَا هَذِهِ البَسْمَةُ الْبَلْهَاءُ ، الْبَلْجَاءُ ، السَّاطِعَةُ كَشِهَابٍ مُتَمَرِّدٍ ، كَنُودٍ ؟
مَا هَذَا الدَّلَالُ الَّذِي يُخَضِّبُ بِجَمَالِهِ فِرْدَوْسَ نَفْسِي الْحَصيدِ ؟
زُرْقَةٌ سَاحِرَةٌ وَ مَوْجٌ رَاقِصٌ وَ نُورٌ سَاطِعٌ فِي الصَّبَاحِ الْوَلِيدِ
لِأُحَدِّقَنَّ فِي بَهَائِكَ عَاشِقَا ، مُتَأَمِّلاً بِبَصِيرَةٍ وَ بَصَرِ مِنْ حَدِيدٍ
لِأَمْلَأَنَّ صَدْرِي بِأَنْفَاسِكَ الْعَطِرَةِ لَعَلَّنِي أَسْتَرِدُّ فِي تَحَسُّرٍ رَبِيعَ قَلْبِي الشَّرُودِ
يَا بَحْرُ ، هَلْ أَلْتَمِسُ عِنْدَكَ بَلْسَمًا لِجُرُوحِي أَوْ أُلاَقِي تَحَرُّرًا مِن قُيُودي؟
يَا بَحْرُ ، هَلْ بِجِوارِكَ سَأَنْسَى مَا أُعَانِيهِ مِنْ بَلاَءٍ شَدِيدٍ ؟
يَا بَحْرُ ، هَلْ إِنَّ نَفْسِي الْحَزِينَةُ سَتَسْكُنُ وَ تَرْتَاحُ لِحُسْنِكَ الْفَرِيدِ ؟
يَا بَحْرُ ، إِلَيَّ بِرَشْفَةِ مِلْحٍ تُطَهِّرُ فِي ذَاتِي نِفَاياتِ قَهْرٍ وَ تَنْكِيدٍ
يَا بَحْرُ ، كَفْكِفْ دُمُوعِي وَ اغْرِسْ رَفِيفَ الزَّهْرِ فِي حَقِلِ عُمْرِي الْمَجْرُودِ
أَيُّهَا الرَّفِيقُ الْوَدُودُ أَيْنَ هُوَ نَوْرَسُكَ الْأَنِيقُ حَتَّى أَرْحَلَ عَلَى جَنَاحَيْهِ إلَى مَصْرٍ بَعِيدٍ ؟
أمَلِي وَطِيدٌ فِي هُجْرَانٍ جَمِيلٍ يُخَلِّصُنِي مِنَ الظُّلْمِ و التَّنْكِيلِ و التـَّسْهِيد
مَا أَسْوَءَ الاِغْتِرَابَ فِي وَطَنٍ بِيعَتْ فِيهِ خَيْرَاتُهُ وَ مُقَوِّمَاتُ عُرُوبَتِهِ بِمَالٍ زَهِيدٍ!
مَا أَتْعَسَنِي فِي وَطَنٍ دَاسَنِي فِيهِ الْحَيْفُ بِحِذَاءٍ عَمِيقِ الأَخَادِيدِ!
مَا هَذَا الشَّقَاءُ الَّذِي يُلاَحِقُنِي بِنِيرَانِ تَشَفٍّ وَ وَعِيدٍ؟
مَا مُقَامِي بِهَذَا الْوَطَنِ السَّجِينِ إِلاَّ كَمُقَامِ الْمَسِيحِ بَيْنَ الْيَهُودِ
النَّصْرُ وَ الْعِزَّةُ لِمَنْ يَأْبَى الْخُنُوعَ وَ يُخَيِّرُ الاِسْتِشْهَادَ بَيْنَ طَعْنِ الْقَنَا وَ خَفْقِ الْبُنُودِ
أَسْأَلُ الْعَفْوَ مِنْ خِلاَّنٍ نَالَهُمْ بَطْشُ قَلَمِي فِي يَوْمِ عَاصِفٍ جَحُود
آنَ الْأَوَانُ أَنْ نَسْتَعِيذَ مِنْ غِوَايَةِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَ غَطْرَسَةِ الْمَلِكِ النَّمْرُودِ
هَيَّا نَتَسَامَحْ عَنْ طِيبَةِ خَاطِرِ حَتَّى تَرْتَاحَ ضَمَائِرُنَا مِنْ تَأْنِيبٍ شَدِيدِ
يَا رَبُّ عَمِّرْ قُلُوبَنَا بِالْإِيمَانِ وَ الْحُبِّ وَ خَلِّصْنَا مِنَ الْفِتَنِ وَ الأَحْقَادِ وَ الجُحُودِ
يَا رَبُّ ثَبِّتْنَا عَلَى طَاعَتِكَ وَ سَدِّدْ خُطَانَا بِالْمَعَارِفِ وَ الْعُلُومِ وَ التَّوْحِيدِ
يَا رَبُّ شُدَّ أَزْرَنَا وَ حَقِّقْ لَنَا انْتِصَارَاتِ خَالِدِ ابْنِ الْوَلِيدِ
يَا رَبُّ أَحْيِ أَفْئِدَتَنَا كَمَا أَحْيَيْتَ هَذَا البَحْرَ وَ لاَ تَجْعَلْهَا غُلْفًا ، فِي جُمُودِ
إِلَى النُّورِ فَالنُّورُ عَذْبٌ جَمِيلٌ إِلَى النُّورِ فَالنُّورُ رَايَةُ الْخُلُودِ
إِلَى الْقُدْسِ أُولَى الْقِبْلَتَيْن وَ أَرْضُ الآباء وَ الْجُدُودِ
إِلَى فَلَسْطِينَ احْمِلِنَا يَا بَحْرُ عَلَى بِسَاطِكَ الْمَمْدُودِ
فَمَا أَرْوَعَ النِّضالَ بِقَلَمٍ جَسَّارٍ، بَتَّارٍ مَنْجَنِيقُه مِنْ نَارٍ ، صَنْدِيدٍ غَيْرِ رِعْدِيدٍ !
وَ مَا أَشْرَفَ الْجِهَادَ فِي نَخْوَةٍ وَ صُمُودٍ بَعِيدًا عَنْ أُسْلُوبِ الْوَعِيدِ وَ التَّنْدِيدِ!

تعليقات

أهدي هذا القصيد إلى أستاذ الفسة محمد المؤّدّب الذي علمنا التفكير السليم عند طرح القضايا العادلة كقضية فلسطين
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...