أستغرب كيف تترجم وتُنشر كتب كثيرة في مدح الفاشية، وتقرأ في كثير من البلدان العربية والإسلامية من دون رقيب أو حسيب، ويعتبر نموذج كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر، على سبيل المثال لا الحصر، واحداً من هذه الكثرة، بينما في المقابل يتم منع ترجمة كتب أخرى أقل خطورة على الفكر وصناعة المخيال المعاصر للمواطن العربي الجديد.
أمام هذه الحالة الانفصامية الثقافية الغريبة، نتساءل لماذا يخاف العرب من ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى لغتهم، أو بعضه على الأقل، حتى تكون مادة للباحثين والجامعيين والقراء، مع أن غالبية، إن لم أقل جميع الأنظمة العربية لها قنوات اتصال دبلوماسية رسمية أو غير رسمية مع دولة إسرائيل؟
بمجرد سماع مثل هذا السؤال يُسارع البعض ومباشرة إلى رفع راية التخوين، فهذا يُعد في حكم أصحاب النوايا المبيتة والأحكام المسبقة، دعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، مع أن هذا الذي يُخوّن السؤال والسائل قد يكون مقيماً غير بعيد من سفارة إسرائيل في بلده، وأنه قد يكون موظفاً يشتغل بمؤسسة اقتصادية أو تجارية أو بنكية أو إعلامية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة، علنية أو سرية، سياسية أو مالية مع إسرائيل.
نعم إسرائيل دولة استعمارية، وهذا لا غبار عليه ولا يختلف فيه عربي أو مغاربي أو أوروبي نزيه، وأميركا هي الطاعون، هكذا قال محمود درويش يوماً؟
ليس كل ما يكتب في إسرائيل من رواية وشعر ومسرح هو أدب يمجّد ممارسات النظام الاستعماري الإسرائيلي القمعي الاستيطاني، وليس كل كاتب هو مدلل النظام السياسي الإسرائيلي اليميني المتطرف القائم، حليف التيار الديني الأرثوذكسي المتعصب.
لا أحد يعارض السلام، من ساكنة هذه الجغرافيا، من مائها إلى مائها، من عربها وأمازيغييها وأكرادها.
علاقة مستترة
يحتاج السلام بين الشعوب إلى جسور متينة وأولها وأمتنها يصنعها الأدب الإنساني الشفاف، بوصفه التأريخ العميق للعاطفة الفردية والجماعية، الحفر في سيكولوجيات الأفراد الذين يشكلون الجماعات التي بدورها تؤسس للأوطان. قراءة الأدب، السردي أو الشعري، هي التي توصل إلى معرفة الصديق والعدو على السواء والتمييز بين هذا وذاك.
جميع الأنظمة العربية بلا استثناء من نواكشوط إلى البصرة، لها علاقة مع دولة إسرائيل، قد تختلف طبيعة هذه العلاقة من نظام إلى آخر، في الشكل وفي حجم المضمون، لكنها جميعها تملك قنوات للتواصل التي تتجلى في السياسية والتعاون الأمني والتبادل الاقتصادي والتجاري والملاحة الجوية والبحرية المدنية أو العسكرية. لا يزال العربي والمغاربي يمارس السياسة بقلبه أو بغضبه، ممارسة السياسة عندنا هي رد فعل وليست فعلاً.
على المستوى الديني، بدأنا نسمع أصوات بعض رجال دين عرب ومغاربيين، بقناعة منهم أو بإيعاز من أنظمتهم، في الترويج لأفكار تدرج في لائحة حقوق الإنسان كـ "حوار الأديان" و "تسامح الأديان" و "تعايش الأديان" و "احترام الاختلاف". وتظل إسرائيل دولة استعمارية، وأميركا هي الطاعون.
إلا أن أهل الأدب، كتاباً وناشرين ومترجمين، لا يزالون مترددين في ولوج سؤال الترجمة، ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى العربية وترجمة الأدب العربي إلى العبرية.
كلنا يتذكر الضجة التي قامت في مصر العام 2009 حين اقترح وقتها وزير الثقافة المصري فاروق حسني ترجمة بعض الكتب الإسرائيلية، وذلك من خلال توقيع اتفاقيات مع دور نشر فرنسية وبريطانية لشراء حقوق بعض عناوين الأدب الإسرائيلي المعاصر، وبالأساس كتب عاموس عوز ودافيد غروسمان، فقامت القيامة عليه، واتهمته بعض الأصوات بكل التهم والنعوت الدينية والسياسية والأخلاقية، وأولها التخوين مروراً بالتكفير ووصولاً إلى المثلية، وكأن مصر ليست دولة تعيش حالة تطبيع كامل سياسي ودبلوماسي وتجاري مع إسرائيل، منذ أزيد من أربعة عقود.
أعتقد أن المواطن العربي والمغاربي اليوم لم يعد مغفلاً، فالعالم أصبح مختصراً في شاشة هاتف ذكي يحمل في جيب قميص، والمعلومات ترِده على المباشر.
وعلى الرغم من أن عشر روايات لنجيب محفوظ تمت ترجمتها إلى العبرية، يتردد كثير من الكتّاب العرب اليوم في قبول ترجمة نصوصهم الروائية أو الشعرية إلى هذه اللغة، ربما باستثناء الكتاب الفلسطينيين كمحمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم... كما أننا نجد كثيراً من الكتاب العرب والمغاربيين الذين ترجمت بعض أعمالهم إلى العبرية، يتحرجون في ذكر ذلك في سيرهم الذاتية أو في البيوغرافيا الشخصية، أما في الحلقات الخاصة فالأمر يبدو مختلفاً تماماً، فكثيراً ما تجد بعضهم يفتخر بأن رواية من رواياته مترجمة إلى اللغة العبرية! ولكنه في الفضاء العام يخفي مثل هذا الشعور بل يختلق أعذاراً أو أسباباً لهذه الترجمة، كأن يقول بأن الترجمة أنجزت من دون علم مني ومن دون علم من الناشر! أو هي قرصنة أدبية!
ترجمات الأدب الإسرائيلي
مع ذلك يجب التنبيه إلى أن مشروع ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى العربية ليس وليد اليوم، لقد كان هناك مشروع مصري منذ العام 1960 وكان هذا ضمن رؤية "ضرورة معرفة العدو"، " وفرز قوى السلام في إسرائيل" المناصرة لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وهي قوة ناعمة موجودة بكثرة في المجال الفني والأدبي.
ومنذ الستينيات وإلى اليوم، لم تخرج الترجمة عن محاولات محتشمة لنقل الأدب الإسرائيلي إلى العربية وبخطة غير ممنهجة، وفي هذا الباب يمكن ذكر بعض ما تحقق: فقد ترجم الكاتب الفلسطيني توفيق فياض في نهاية السبعينيات نص "خربة خزعة" للكاتب الإسرائيلي يزهار سميلانسكي، كما تمت ترجمة "أراض للتنزه" لعوز شيلاح، ورواية "الطريق إلى عين حارود" لعاموس كينان وقد نشرت للمرة الأولى في مجلة الكرمل 1984 التي كان يشرف عليها محمود درويش، ورواية "فيكتوريا" لسامي ميخائيل ورواية "قصة عن الحب والظلام" لعاموس عوز، ورواية "ياسمين" لإيلي عمير، ورواية "صور على الحائط" للروائية تسيونيت فتال كوبرفاسر، ورواية "تشحلة وحزقيل" لألموج بيهار... ولا نعرف من الناشرين صورة عن طبيعة وحجم استقبال القارئ العربي هذا الأدب، سواء على مستوى القارئ العام أو القارئ المتخصّص.
إننا قد نترجم بعض روايات أميركية أو إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو إسبانية وغيرها، مما قد يحوي أفكاراً وفلسفات أكثر معاداة للقضية الفلسطينية وأكثر عنصرية، عداء يحمله كتّابُ هذه النصوص أو النصوصُ نفسها.
كما هو قائم في آداب بلدان العالم جميعها، هناك الأدب الإنساني وهناك الرديء المتعصب، فالآداب الإسرائيلية لا تشذّ عن هذه القاعدة، ففيها أدب إنساني ضد الاستيطان والاستعمار والتمييز العنصري يثير رغبة القراءة على المستوى العالمي، ويطرح أسئلة فلسفية عميقة تهم الإنسان وترافع لصالح القيم الإنسانية الكبرى كما هي روايات عاموس عوز، وهناك أدب آخر سيء وعنصري كما هو في آداب البلدان جميعها ومن بينها الأدب العربي.
هناك آداب يفضلها ناشر ما فيعمل على ترجمتها وتوزيعها، وهناك نصوص أدبية أخرى يرفضها لأسباب تجارية أو أخلاقية أو أيديولوجية، ولكن لكل أدب قراءه، ومن حق القراء العرب، كثراً كانوا أو قلة، أن يعرفوا ما يكتبه الروائي الإسرائيلي والشاعر الإسرائيلي.
إنّ رفضنا وتنديدنا بالسياسة الاستعمارية الإسرائيلية، لا يلغي حق الباحث والأستاذ الجامعي والطالب والصحافي والقارئ العادي في الاطلاع على ما يكتب في هذا البلد الذي على الرغم من السياسة العنصرية التي يمارسها اليمين الذي يحكمه، أصبح واقعاً ولا يمكن أية معادلة اقتصادية أو سياسية أو أمنية أن تتجاهله، وأعتقد شخصياً بأن السبيل الأمثل لمعرفة البلدان لا تكون إلا من طريق الرواية والشعر، لا من طريق الخطب السياسية المنتفخة والتقارير الصحافية الموسمية.
لقد تشكل في العالم العربي ومنذ إنشاء إسرائيل، وأساساً منذ حرب يونيو 67، فكرٌ اختصاري اختزالي تجاه إسرائيل، وهو فكر يخدم إسرائيل أولاً، لذا فإننا ثقافياً وسياسياً لا نعرف مواصفات الصديق ولا نعرف مواصفات العدو، والذي لا يعرف عدوه لا يعرف صديقه، والفكر العربي فكر قد يجعل من العدو صديقاً لا لشيء إلا لأنه يدين بالإسلام، وقد يتخذ موقفاً من صديق عدواً لقضاياه لا لشيء إلا لأنه شيوعي أو علماني أو ملحد أو على دين غير دينه.
إن الفكر العمومي أو الاختزالي، لا يعرف التمييز بين الصديق والعدو، لأنه لا يملك أدوات التمييز وأولها "ترجمة" آداب هذه الدول.
هناك كتاب إسرائيليون أصبحوا اليوم جزءاً من الرأسمال الأدبي العالمي، لا يمكن تجاهل نصوصهم، ومن يدرس الآداب عليه التوقف عند هذه التجربة ليس اختياراً إنما ضرورة.
وهناك كتب لكتاب إسرائيليين تلاقي معارضة كبيرة داخل إسرائيل من قبل اليمين المتطرّف، لا لشيء إلا لأنها تشكل أصوات سلام مناهضة للاستيطان والعنصرية ضد الفلسطينيين، وتعرف رواجاً عالمياً كبيراً على غرار السيرة الذاتية عاموس عوز "حكاية حب وعتمات" (Une histoire d’amour et de ténèbres) والتي ترجمت إلى 28 لغة، وبيع منها أزيد من مليون نسخة عبر العالم، وروايته "ميكائيلي"(Mon Michael) والتي صنفت في قائمة أفضل مئة رواية في القرن العشرين. هذه النصوص مجهولة لدى القارئ العربي والمغاربي إلا من اطلع عليها مترجمة إلى اللغة الفرنسية أو الإنجليزية.
نهتمّ بكتاب إسرائيليين عرب من أمثال إميل حبيبي، وسميح القاسم، وميشيل حداد، ونزيه خير، وسهام داود، ونداء خوري، وأنطوان شماس، ونعيم عرايضة، وسلمان مصالحة وغيرهم، من يكتب منهم بالعربية ومن يكتب بالعبرية، وهذا جيد، بينما نتجاهل كتاباً يهوداً هم أعمق إنسانية وأكثر موضوعية تجاه القضية الفلسطينية من كتابات بعض الكتاب العرب والمسلمين الذين يعيشون في بلدان مستقلة، ترفع علمها الوطني يومياً على مؤسساتها العمومية والخاصة.
اليوم، علينا إما أن ندخل التاريخ فنعرف الجميع ونقرأ الجميع، من إخوان وأصدقاء وخصوم وأعداء، أو أن نبقى على حافة الطريق، القطار يمشي ونحن نسبّ بعنتريات لغوية، أو نتباكى على الماضي تارة وعلى أنفسنا تارة أخرى.
* منقول عن:
أمين الزاوي | لماذا يخشى العرب ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى لغتهم؟
أمام هذه الحالة الانفصامية الثقافية الغريبة، نتساءل لماذا يخاف العرب من ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى لغتهم، أو بعضه على الأقل، حتى تكون مادة للباحثين والجامعيين والقراء، مع أن غالبية، إن لم أقل جميع الأنظمة العربية لها قنوات اتصال دبلوماسية رسمية أو غير رسمية مع دولة إسرائيل؟
بمجرد سماع مثل هذا السؤال يُسارع البعض ومباشرة إلى رفع راية التخوين، فهذا يُعد في حكم أصحاب النوايا المبيتة والأحكام المسبقة، دعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، مع أن هذا الذي يُخوّن السؤال والسائل قد يكون مقيماً غير بعيد من سفارة إسرائيل في بلده، وأنه قد يكون موظفاً يشتغل بمؤسسة اقتصادية أو تجارية أو بنكية أو إعلامية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة، علنية أو سرية، سياسية أو مالية مع إسرائيل.
نعم إسرائيل دولة استعمارية، وهذا لا غبار عليه ولا يختلف فيه عربي أو مغاربي أو أوروبي نزيه، وأميركا هي الطاعون، هكذا قال محمود درويش يوماً؟
ليس كل ما يكتب في إسرائيل من رواية وشعر ومسرح هو أدب يمجّد ممارسات النظام الاستعماري الإسرائيلي القمعي الاستيطاني، وليس كل كاتب هو مدلل النظام السياسي الإسرائيلي اليميني المتطرف القائم، حليف التيار الديني الأرثوذكسي المتعصب.
لا أحد يعارض السلام، من ساكنة هذه الجغرافيا، من مائها إلى مائها، من عربها وأمازيغييها وأكرادها.
علاقة مستترة
يحتاج السلام بين الشعوب إلى جسور متينة وأولها وأمتنها يصنعها الأدب الإنساني الشفاف، بوصفه التأريخ العميق للعاطفة الفردية والجماعية، الحفر في سيكولوجيات الأفراد الذين يشكلون الجماعات التي بدورها تؤسس للأوطان. قراءة الأدب، السردي أو الشعري، هي التي توصل إلى معرفة الصديق والعدو على السواء والتمييز بين هذا وذاك.
جميع الأنظمة العربية بلا استثناء من نواكشوط إلى البصرة، لها علاقة مع دولة إسرائيل، قد تختلف طبيعة هذه العلاقة من نظام إلى آخر، في الشكل وفي حجم المضمون، لكنها جميعها تملك قنوات للتواصل التي تتجلى في السياسية والتعاون الأمني والتبادل الاقتصادي والتجاري والملاحة الجوية والبحرية المدنية أو العسكرية. لا يزال العربي والمغاربي يمارس السياسة بقلبه أو بغضبه، ممارسة السياسة عندنا هي رد فعل وليست فعلاً.
على المستوى الديني، بدأنا نسمع أصوات بعض رجال دين عرب ومغاربيين، بقناعة منهم أو بإيعاز من أنظمتهم، في الترويج لأفكار تدرج في لائحة حقوق الإنسان كـ "حوار الأديان" و "تسامح الأديان" و "تعايش الأديان" و "احترام الاختلاف". وتظل إسرائيل دولة استعمارية، وأميركا هي الطاعون.
إلا أن أهل الأدب، كتاباً وناشرين ومترجمين، لا يزالون مترددين في ولوج سؤال الترجمة، ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى العربية وترجمة الأدب العربي إلى العبرية.
كلنا يتذكر الضجة التي قامت في مصر العام 2009 حين اقترح وقتها وزير الثقافة المصري فاروق حسني ترجمة بعض الكتب الإسرائيلية، وذلك من خلال توقيع اتفاقيات مع دور نشر فرنسية وبريطانية لشراء حقوق بعض عناوين الأدب الإسرائيلي المعاصر، وبالأساس كتب عاموس عوز ودافيد غروسمان، فقامت القيامة عليه، واتهمته بعض الأصوات بكل التهم والنعوت الدينية والسياسية والأخلاقية، وأولها التخوين مروراً بالتكفير ووصولاً إلى المثلية، وكأن مصر ليست دولة تعيش حالة تطبيع كامل سياسي ودبلوماسي وتجاري مع إسرائيل، منذ أزيد من أربعة عقود.
أعتقد أن المواطن العربي والمغاربي اليوم لم يعد مغفلاً، فالعالم أصبح مختصراً في شاشة هاتف ذكي يحمل في جيب قميص، والمعلومات ترِده على المباشر.
وعلى الرغم من أن عشر روايات لنجيب محفوظ تمت ترجمتها إلى العبرية، يتردد كثير من الكتّاب العرب اليوم في قبول ترجمة نصوصهم الروائية أو الشعرية إلى هذه اللغة، ربما باستثناء الكتاب الفلسطينيين كمحمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم... كما أننا نجد كثيراً من الكتاب العرب والمغاربيين الذين ترجمت بعض أعمالهم إلى العبرية، يتحرجون في ذكر ذلك في سيرهم الذاتية أو في البيوغرافيا الشخصية، أما في الحلقات الخاصة فالأمر يبدو مختلفاً تماماً، فكثيراً ما تجد بعضهم يفتخر بأن رواية من رواياته مترجمة إلى اللغة العبرية! ولكنه في الفضاء العام يخفي مثل هذا الشعور بل يختلق أعذاراً أو أسباباً لهذه الترجمة، كأن يقول بأن الترجمة أنجزت من دون علم مني ومن دون علم من الناشر! أو هي قرصنة أدبية!
ترجمات الأدب الإسرائيلي
مع ذلك يجب التنبيه إلى أن مشروع ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى العربية ليس وليد اليوم، لقد كان هناك مشروع مصري منذ العام 1960 وكان هذا ضمن رؤية "ضرورة معرفة العدو"، " وفرز قوى السلام في إسرائيل" المناصرة لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وهي قوة ناعمة موجودة بكثرة في المجال الفني والأدبي.
ومنذ الستينيات وإلى اليوم، لم تخرج الترجمة عن محاولات محتشمة لنقل الأدب الإسرائيلي إلى العربية وبخطة غير ممنهجة، وفي هذا الباب يمكن ذكر بعض ما تحقق: فقد ترجم الكاتب الفلسطيني توفيق فياض في نهاية السبعينيات نص "خربة خزعة" للكاتب الإسرائيلي يزهار سميلانسكي، كما تمت ترجمة "أراض للتنزه" لعوز شيلاح، ورواية "الطريق إلى عين حارود" لعاموس كينان وقد نشرت للمرة الأولى في مجلة الكرمل 1984 التي كان يشرف عليها محمود درويش، ورواية "فيكتوريا" لسامي ميخائيل ورواية "قصة عن الحب والظلام" لعاموس عوز، ورواية "ياسمين" لإيلي عمير، ورواية "صور على الحائط" للروائية تسيونيت فتال كوبرفاسر، ورواية "تشحلة وحزقيل" لألموج بيهار... ولا نعرف من الناشرين صورة عن طبيعة وحجم استقبال القارئ العربي هذا الأدب، سواء على مستوى القارئ العام أو القارئ المتخصّص.
إننا قد نترجم بعض روايات أميركية أو إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو إسبانية وغيرها، مما قد يحوي أفكاراً وفلسفات أكثر معاداة للقضية الفلسطينية وأكثر عنصرية، عداء يحمله كتّابُ هذه النصوص أو النصوصُ نفسها.
كما هو قائم في آداب بلدان العالم جميعها، هناك الأدب الإنساني وهناك الرديء المتعصب، فالآداب الإسرائيلية لا تشذّ عن هذه القاعدة، ففيها أدب إنساني ضد الاستيطان والاستعمار والتمييز العنصري يثير رغبة القراءة على المستوى العالمي، ويطرح أسئلة فلسفية عميقة تهم الإنسان وترافع لصالح القيم الإنسانية الكبرى كما هي روايات عاموس عوز، وهناك أدب آخر سيء وعنصري كما هو في آداب البلدان جميعها ومن بينها الأدب العربي.
هناك آداب يفضلها ناشر ما فيعمل على ترجمتها وتوزيعها، وهناك نصوص أدبية أخرى يرفضها لأسباب تجارية أو أخلاقية أو أيديولوجية، ولكن لكل أدب قراءه، ومن حق القراء العرب، كثراً كانوا أو قلة، أن يعرفوا ما يكتبه الروائي الإسرائيلي والشاعر الإسرائيلي.
إنّ رفضنا وتنديدنا بالسياسة الاستعمارية الإسرائيلية، لا يلغي حق الباحث والأستاذ الجامعي والطالب والصحافي والقارئ العادي في الاطلاع على ما يكتب في هذا البلد الذي على الرغم من السياسة العنصرية التي يمارسها اليمين الذي يحكمه، أصبح واقعاً ولا يمكن أية معادلة اقتصادية أو سياسية أو أمنية أن تتجاهله، وأعتقد شخصياً بأن السبيل الأمثل لمعرفة البلدان لا تكون إلا من طريق الرواية والشعر، لا من طريق الخطب السياسية المنتفخة والتقارير الصحافية الموسمية.
لقد تشكل في العالم العربي ومنذ إنشاء إسرائيل، وأساساً منذ حرب يونيو 67، فكرٌ اختصاري اختزالي تجاه إسرائيل، وهو فكر يخدم إسرائيل أولاً، لذا فإننا ثقافياً وسياسياً لا نعرف مواصفات الصديق ولا نعرف مواصفات العدو، والذي لا يعرف عدوه لا يعرف صديقه، والفكر العربي فكر قد يجعل من العدو صديقاً لا لشيء إلا لأنه يدين بالإسلام، وقد يتخذ موقفاً من صديق عدواً لقضاياه لا لشيء إلا لأنه شيوعي أو علماني أو ملحد أو على دين غير دينه.
إن الفكر العمومي أو الاختزالي، لا يعرف التمييز بين الصديق والعدو، لأنه لا يملك أدوات التمييز وأولها "ترجمة" آداب هذه الدول.
هناك كتاب إسرائيليون أصبحوا اليوم جزءاً من الرأسمال الأدبي العالمي، لا يمكن تجاهل نصوصهم، ومن يدرس الآداب عليه التوقف عند هذه التجربة ليس اختياراً إنما ضرورة.
وهناك كتب لكتاب إسرائيليين تلاقي معارضة كبيرة داخل إسرائيل من قبل اليمين المتطرّف، لا لشيء إلا لأنها تشكل أصوات سلام مناهضة للاستيطان والعنصرية ضد الفلسطينيين، وتعرف رواجاً عالمياً كبيراً على غرار السيرة الذاتية عاموس عوز "حكاية حب وعتمات" (Une histoire d’amour et de ténèbres) والتي ترجمت إلى 28 لغة، وبيع منها أزيد من مليون نسخة عبر العالم، وروايته "ميكائيلي"(Mon Michael) والتي صنفت في قائمة أفضل مئة رواية في القرن العشرين. هذه النصوص مجهولة لدى القارئ العربي والمغاربي إلا من اطلع عليها مترجمة إلى اللغة الفرنسية أو الإنجليزية.
نهتمّ بكتاب إسرائيليين عرب من أمثال إميل حبيبي، وسميح القاسم، وميشيل حداد، ونزيه خير، وسهام داود، ونداء خوري، وأنطوان شماس، ونعيم عرايضة، وسلمان مصالحة وغيرهم، من يكتب منهم بالعربية ومن يكتب بالعبرية، وهذا جيد، بينما نتجاهل كتاباً يهوداً هم أعمق إنسانية وأكثر موضوعية تجاه القضية الفلسطينية من كتابات بعض الكتاب العرب والمسلمين الذين يعيشون في بلدان مستقلة، ترفع علمها الوطني يومياً على مؤسساتها العمومية والخاصة.
اليوم، علينا إما أن ندخل التاريخ فنعرف الجميع ونقرأ الجميع، من إخوان وأصدقاء وخصوم وأعداء، أو أن نبقى على حافة الطريق، القطار يمشي ونحن نسبّ بعنتريات لغوية، أو نتباكى على الماضي تارة وعلى أنفسنا تارة أخرى.
* منقول عن:
أمين الزاوي | لماذا يخشى العرب ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى لغتهم؟