يتّصل تطوّرُ الفنّ التشكيليّ المغربيّ بفجر نشأته في عصرنا الحديث، وبالظروف الثقافيّة والسياسيّة التي رافقته، إلى أن أصبح ظاهرةً ثقافيّةً يُحسب لها حسابُها.
فمن خلال مراجعة بسيطة لفجر هذه النشأة نكتشف أنّ خطَّ الإبداع الفنّيّ توارت معالمُه مع بداية الصراعات الدوليّة التي أدّت إلى وضع نهاية مؤسفة لاستقلال المغرب الوطنيّ مع بداية القرن المنصرم. وظلّ هذا الخطّ منقطعًا لسنواتٍ طوال، عدا فنون الصناعة التقليديّة وفنون الحرف الشعبيّة المتوارثة. وقد أحدث هذا الانقطاعُ فراغًا فنيًّا، أدّى إلى اختفاء معالم حضارة الفنّ التشكيليّ العتيق عن الوعي العامّ. إلى أن ظهرتْ بوادرُ طفوليّةٌ وساذجة مع ظهور مدارس الفنون الجميلة المحدثة في ثلاثينيّات القرن الماضي.
ويمكن أن نسجِّل هنا أنّ الفنون التشكيليّة المغربيّة قد تميّزتْ من باقي الفنون الأخرى، كالآداب والمسرح والموسيقى، بتأثّرها بالموجات الأوروبيّة الحديثة. فخلال عشرينيّات القرن المنصرم ظهرتْ بوادرُ فنيّة مهمّة استطاعت معانقةَ اللون والظلّ والضوء والخطّ، والوقوفَ إلى جانب أهمّ التجارب والمدارس التي كانت آنذاك على قمّة المجد في أوروبا؛ كما أثارت اهتمامَ العديد من النقّاد الأجانب باعتبارها ظاهرةً فنّيّةً جديدة، قابلةً للتطوّر والتفاعل.(1) من هذه البوادر نذكر معرضَ الفنّان محمد بن علي الرباطيّ (1861 - 1939) الذي أقيم في لندن سنة 1917، وترك أصداءً مهمّةً في الإعلام والمجتمع الثقافيّ في المملكة البريطانيّة.
وفي بداية الأربعينيّات تبلورتْ هذه الحركة، وقدّمتْ بعضَ الأسماء التي اقتحمتْ متاحفَ أوروبا ومَعارضها وفرضتْ نفسَها على عالم التشكيل الحديث، (2) في إنتاجٍ لا ينتسب إلى الأساليب الأكاديميّة، ولكنّه نابع عن الفطرة، ومنصبٌّ في أغوار الحياة الشعبيّة الوطنيّة وتقاليدها. ومن هذه الأسماء نذكر مولاي أحمد الإدريسي، وبنعلال، والودغيري، والكزولي، وأحمد إبن إدريس اليعقوبيّ ومحمّد الحمري، ومولاي علي العلوي، والحسن الزكري، الذين أثاروا موجةً من النقاش في المحافل الفنيّة في العديد من العواصم الأوروبيّة، لِما كانت تحمله أعمالُهم الفنيّة من ثورة عجائبيّة.
ومنذ المرحلة الأولى لنشأة الفنّ التشكيليّ الحديث في المغرب جرى ربطُ صلاتٍ وثيقةٍ بالموجات الحداثيّة في العالم، سواء عن طريق الاحتكاك المباشر أو عن طريق مدارس الفنون الجميلة(3) التي ظهرت في شمال المملكة وجنوبها من أجل إعداد الأطر وصقل المواهب.
ولا بدّ في هذا المجال من تسجيل ملاحظةٍ أساسيّة، وهي أنّ جمهورَ الفنّ التشكيليّ في هذه الفترة، رغم الجهود التي بذلها روّاده من أجل التعريف بأنفسهم، ظلّ محدودَ النطاق في وطنهم المغرب، ليس له اتّساعُ جمهور السينما أو المسرح اللذيْن ظهرا إلى جانبه في أوقات متقاربة.
ولكي نفهم جيّدًا طبيعة الإنتاج التشكيليّ المغربيّ لهذه الفترة، فلا بدّ لنا من أن نضعه في إطاره التاريخيّ والفكريّ؛ ذلك لأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من تطوّرنا الحضاريّ، وتطوّر نظرة إنساننا إلى العالم وإلى نفسه. ولعلّ ذلك سيدفعنا إلى البحث عن الأشكال الاجتماعيّة والحضاريّة التي كانت مددًا وافرًا ينحت منه فنّانونا تصوّراتِهم وأحاسيسَهم وأشكالهم الجديدة، التي كانت مبتعدةً كلَّ البعد عن الأشكال المتوارثة، أو ارتبطتْ بنشوء هؤلاء الفنانين التربويّ والاجتماعيّ.
ومن خلال نظرةٍ سريعةٍ إلى الأعمال التي أُنجزتْ في تلك الفترة، فإننا نجدها، على عنايتها بالإنسان المغربيّ وتقاليده ومعيشته، ترفض الأشكالَ التقليديّة للقديم، وللغربيّ معًا، لتؤكّد تصوّراتٍ جديدة، واتجاهًا ثوريًّا بلغ ذروتَه عند مولاي أحمد الإدريسيّ في لوحات "جامع الفنا" و"حمّامات مرّاكش."
ولا شكّ في أنّ أسباب هذه الثورة لا تعود إلى "حداثة" أولئك الفنّانين فقط، بل إلى إحساسهم أيضًا بانفصالهم عن العالم المغاير لهم، وانفصالهم عن اللغة والعصر اللذين أُقحما فيه عن طريق الفرشاة والألوان.
من هذه الزاوية يتّضح لنا أنّ الفنّ التشكيلي في هذه الفترة كان تعبيرًا صادقًا عن خلفيّتة الحضاريّة والثقافيّة. فلقد كانت فترةً متميّزةً بالاضطراب، وتزاحُم الرغبات والمطامع والتناقضات والمفارقات؛ فلا غرابة أن يولدَ فيها مَن دمّروا كلّ المقاييس المتوارثة، والصياغات وخصائص التعقيل، ورؤى الناس العاديّة، والعادات والموازين.
وليس من غريب الصدف أن يولد هذا الاتجاهُ الثوريُّ "الساذج" في هذه الفترة بالمغرب؛ ذلك لأنّها تميّزتْ، على المستوى السياسيّ والحضاريّ، بعجز العقل البشريّ عن حلّ مشكلاته ومنازعاته. فالحروب كانت ناشبةً في كلّ مكان من العالم، والكوارثُ والخراب كانت تحلّ بالعديد من الأمم والشعوب، ومن ثمّ لم يجد فنّانونا ما يُبعدهم عن القلق والحرمان والضياع غير ذلك الرّفض للمدرسة "العقلانيّة."
وتأتي بعد مرحلة النشوء مرحلةُ الارتقاء، وهي تبتدئ مع مطلع الخمسينيّات، حيث راحت تتفتّح معالمُ الثقافة الحديثة لدى شبابنا ــــ فنّانين، وأدباء، وشعراء، وطلبةً. نذكر من بين روّاد هذه المرحلة: المكّي مغارة، والمكّي مورسية، والمحجوبي أحرضان، وأحمد الشرقاوي، والجيلالي الغرباوي، وحسن الكلاوي، ومحمد السرغيني، ومحمد المليحي، وأحمد اليعقوبي، وفريد بلكاهية، ومريم أمزيان، وعبد السلام الفاسي، وعمر مشماشة، والطيب لحلو. جميع هؤلاء انشغلوا بالتراث الحضاريّ المغربيّ، أو بهموم الإنسان المغربيّ وما يعانيه من قلقٍ يوميّ. فحاولوا في غالبيّتهم نقلَ ملامح من ذلك التراث (العادات والتقاليد)، أو سعوْا إلى تأكيد الذات عن طريق التجريد أو عن طريق تجريب الأنماط التعبيريّة المرتكزة على الحركة والعلامة والرمز.
خلال هذه الفترة بالذات، انخرط التشكيلُ المغربيّ في موجة التشكيل العالميّ، وبخاصّةٍ بعد إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بتطوان (أربعينيّات القرن الماضي) ومدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بعدها بقليل، حيث بدأتْ ملامحُ الفنّ التشكيليّ المغربيّ تتحوّل من الفطريّة إلى الأكاديميّة، وأخذتْ تظهر ملامحُ مرحلة جديدة في حياة اللوحة المغربيّة القائمة على ثقافة بصريّة جديدة بقيمها وخطابها وأدواتها التعبيريّة. وإنني أرى أنّ هذه الفترة من تاريخ الحركة التشكيليّة المغربيّة كانت هي المفتتحَ الذي يمثّل الخطابَ التشكيليّ/الجماليّ لهذه الحركة.
*******
(1) مثال ذلك، رسوم محمد الرباطي، المتوفى سنة 1936، وابنه المتوفي سنة 1945.
(2) نذكر من بين هذه الأسماء مولاي احمد الإدريسي والورديغي وبنعلال.
(3) راجع كتاب عشر سنوات من المنجزات الثقافية في عهد الحسن الثاني، ص 335 وما بعدها.
فمن خلال مراجعة بسيطة لفجر هذه النشأة نكتشف أنّ خطَّ الإبداع الفنّيّ توارت معالمُه مع بداية الصراعات الدوليّة التي أدّت إلى وضع نهاية مؤسفة لاستقلال المغرب الوطنيّ مع بداية القرن المنصرم. وظلّ هذا الخطّ منقطعًا لسنواتٍ طوال، عدا فنون الصناعة التقليديّة وفنون الحرف الشعبيّة المتوارثة. وقد أحدث هذا الانقطاعُ فراغًا فنيًّا، أدّى إلى اختفاء معالم حضارة الفنّ التشكيليّ العتيق عن الوعي العامّ. إلى أن ظهرتْ بوادرُ طفوليّةٌ وساذجة مع ظهور مدارس الفنون الجميلة المحدثة في ثلاثينيّات القرن الماضي.
ويمكن أن نسجِّل هنا أنّ الفنون التشكيليّة المغربيّة قد تميّزتْ من باقي الفنون الأخرى، كالآداب والمسرح والموسيقى، بتأثّرها بالموجات الأوروبيّة الحديثة. فخلال عشرينيّات القرن المنصرم ظهرتْ بوادرُ فنيّة مهمّة استطاعت معانقةَ اللون والظلّ والضوء والخطّ، والوقوفَ إلى جانب أهمّ التجارب والمدارس التي كانت آنذاك على قمّة المجد في أوروبا؛ كما أثارت اهتمامَ العديد من النقّاد الأجانب باعتبارها ظاهرةً فنّيّةً جديدة، قابلةً للتطوّر والتفاعل.(1) من هذه البوادر نذكر معرضَ الفنّان محمد بن علي الرباطيّ (1861 - 1939) الذي أقيم في لندن سنة 1917، وترك أصداءً مهمّةً في الإعلام والمجتمع الثقافيّ في المملكة البريطانيّة.
وفي بداية الأربعينيّات تبلورتْ هذه الحركة، وقدّمتْ بعضَ الأسماء التي اقتحمتْ متاحفَ أوروبا ومَعارضها وفرضتْ نفسَها على عالم التشكيل الحديث، (2) في إنتاجٍ لا ينتسب إلى الأساليب الأكاديميّة، ولكنّه نابع عن الفطرة، ومنصبٌّ في أغوار الحياة الشعبيّة الوطنيّة وتقاليدها. ومن هذه الأسماء نذكر مولاي أحمد الإدريسي، وبنعلال، والودغيري، والكزولي، وأحمد إبن إدريس اليعقوبيّ ومحمّد الحمري، ومولاي علي العلوي، والحسن الزكري، الذين أثاروا موجةً من النقاش في المحافل الفنيّة في العديد من العواصم الأوروبيّة، لِما كانت تحمله أعمالُهم الفنيّة من ثورة عجائبيّة.
ومنذ المرحلة الأولى لنشأة الفنّ التشكيليّ الحديث في المغرب جرى ربطُ صلاتٍ وثيقةٍ بالموجات الحداثيّة في العالم، سواء عن طريق الاحتكاك المباشر أو عن طريق مدارس الفنون الجميلة(3) التي ظهرت في شمال المملكة وجنوبها من أجل إعداد الأطر وصقل المواهب.
ولا بدّ في هذا المجال من تسجيل ملاحظةٍ أساسيّة، وهي أنّ جمهورَ الفنّ التشكيليّ في هذه الفترة، رغم الجهود التي بذلها روّاده من أجل التعريف بأنفسهم، ظلّ محدودَ النطاق في وطنهم المغرب، ليس له اتّساعُ جمهور السينما أو المسرح اللذيْن ظهرا إلى جانبه في أوقات متقاربة.
ولكي نفهم جيّدًا طبيعة الإنتاج التشكيليّ المغربيّ لهذه الفترة، فلا بدّ لنا من أن نضعه في إطاره التاريخيّ والفكريّ؛ ذلك لأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من تطوّرنا الحضاريّ، وتطوّر نظرة إنساننا إلى العالم وإلى نفسه. ولعلّ ذلك سيدفعنا إلى البحث عن الأشكال الاجتماعيّة والحضاريّة التي كانت مددًا وافرًا ينحت منه فنّانونا تصوّراتِهم وأحاسيسَهم وأشكالهم الجديدة، التي كانت مبتعدةً كلَّ البعد عن الأشكال المتوارثة، أو ارتبطتْ بنشوء هؤلاء الفنانين التربويّ والاجتماعيّ.
ومن خلال نظرةٍ سريعةٍ إلى الأعمال التي أُنجزتْ في تلك الفترة، فإننا نجدها، على عنايتها بالإنسان المغربيّ وتقاليده ومعيشته، ترفض الأشكالَ التقليديّة للقديم، وللغربيّ معًا، لتؤكّد تصوّراتٍ جديدة، واتجاهًا ثوريًّا بلغ ذروتَه عند مولاي أحمد الإدريسيّ في لوحات "جامع الفنا" و"حمّامات مرّاكش."
ولا شكّ في أنّ أسباب هذه الثورة لا تعود إلى "حداثة" أولئك الفنّانين فقط، بل إلى إحساسهم أيضًا بانفصالهم عن العالم المغاير لهم، وانفصالهم عن اللغة والعصر اللذين أُقحما فيه عن طريق الفرشاة والألوان.
من هذه الزاوية يتّضح لنا أنّ الفنّ التشكيلي في هذه الفترة كان تعبيرًا صادقًا عن خلفيّتة الحضاريّة والثقافيّة. فلقد كانت فترةً متميّزةً بالاضطراب، وتزاحُم الرغبات والمطامع والتناقضات والمفارقات؛ فلا غرابة أن يولدَ فيها مَن دمّروا كلّ المقاييس المتوارثة، والصياغات وخصائص التعقيل، ورؤى الناس العاديّة، والعادات والموازين.
وليس من غريب الصدف أن يولد هذا الاتجاهُ الثوريُّ "الساذج" في هذه الفترة بالمغرب؛ ذلك لأنّها تميّزتْ، على المستوى السياسيّ والحضاريّ، بعجز العقل البشريّ عن حلّ مشكلاته ومنازعاته. فالحروب كانت ناشبةً في كلّ مكان من العالم، والكوارثُ والخراب كانت تحلّ بالعديد من الأمم والشعوب، ومن ثمّ لم يجد فنّانونا ما يُبعدهم عن القلق والحرمان والضياع غير ذلك الرّفض للمدرسة "العقلانيّة."
وتأتي بعد مرحلة النشوء مرحلةُ الارتقاء، وهي تبتدئ مع مطلع الخمسينيّات، حيث راحت تتفتّح معالمُ الثقافة الحديثة لدى شبابنا ــــ فنّانين، وأدباء، وشعراء، وطلبةً. نذكر من بين روّاد هذه المرحلة: المكّي مغارة، والمكّي مورسية، والمحجوبي أحرضان، وأحمد الشرقاوي، والجيلالي الغرباوي، وحسن الكلاوي، ومحمد السرغيني، ومحمد المليحي، وأحمد اليعقوبي، وفريد بلكاهية، ومريم أمزيان، وعبد السلام الفاسي، وعمر مشماشة، والطيب لحلو. جميع هؤلاء انشغلوا بالتراث الحضاريّ المغربيّ، أو بهموم الإنسان المغربيّ وما يعانيه من قلقٍ يوميّ. فحاولوا في غالبيّتهم نقلَ ملامح من ذلك التراث (العادات والتقاليد)، أو سعوْا إلى تأكيد الذات عن طريق التجريد أو عن طريق تجريب الأنماط التعبيريّة المرتكزة على الحركة والعلامة والرمز.
خلال هذه الفترة بالذات، انخرط التشكيلُ المغربيّ في موجة التشكيل العالميّ، وبخاصّةٍ بعد إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بتطوان (أربعينيّات القرن الماضي) ومدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بعدها بقليل، حيث بدأتْ ملامحُ الفنّ التشكيليّ المغربيّ تتحوّل من الفطريّة إلى الأكاديميّة، وأخذتْ تظهر ملامحُ مرحلة جديدة في حياة اللوحة المغربيّة القائمة على ثقافة بصريّة جديدة بقيمها وخطابها وأدواتها التعبيريّة. وإنني أرى أنّ هذه الفترة من تاريخ الحركة التشكيليّة المغربيّة كانت هي المفتتحَ الذي يمثّل الخطابَ التشكيليّ/الجماليّ لهذه الحركة.
*******
(1) مثال ذلك، رسوم محمد الرباطي، المتوفى سنة 1936، وابنه المتوفي سنة 1945.
(2) نذكر من بين هذه الأسماء مولاي احمد الإدريسي والورديغي وبنعلال.
(3) راجع كتاب عشر سنوات من المنجزات الثقافية في عهد الحسن الثاني، ص 335 وما بعدها.