-1-
السياسة إذن، تظل في الأحزاب والمؤسسات المنتخبة والحكومات والأنظمة، وفي كل الأجواء والمناخات والمفاهيم، تظل كلمة ذات إشعاع براق ومخيف في نفس الآن، فهي الوسيلة التي يصل بواسطتها ممارسوها إما إلى الأعلى أو إلى الأسفل، إلى السلطة والحكم، أو إلى السجون والمنافي والمعتقلات... وعلى أنها بهذا الحجم من الخطورة والاتساع، فهي تسكن العقول والاهتمامات والتطلعات في كل شبر من الأرض.
وخارج هذا المفهوم الواسع والشامل، تبقى السياسة، في مناطق عديدة من العالم، على صلة وثقة بالتسلط والاستبداد والقمع وفرض الإرادة على العدل والمساواة والحقوق، وفي مناطق أخرى تصبح هي القدرة على الفعل سلبا وإيجابا، هي القدرة على الريادة والسيادة، وهي الغاية التي تبرز الوسيلة في كل وقت وحين، وهي نضالات ومراوغات وحروب، وهي المحصلة التفاعلية لكل التيارات المذهبية أو الإيديولوجية، وبالتالي هي فن الممكن في كل زمان ومكان.
يرى الفقه الدستوري في السياسة، عكس ما يراه فيها فقه القانون، فهي في نظر هذا الأخير، كل نشاط سلطوي محوره الدولة، وهي كل نشاط إنساني محوره الإنسان، وأن العلاقة بين الإنسان والدولة/ بين الحاكمين والمحكومين، هي الصفة المميزة للنشاط السياسي عن غيره، ذلك لأن الدولة لا تتكون من الخشب أو الحجر، وإنما من الإنسان، والدولة في نظر السياسيين، ليست المجتمع الوحيد الذي ينطوي تحت لوائه المواطنين، إذ يوجد بالمجتمع أحزاب ونقابات وجمعيات تتم داخلها ظواهر التأكيد على الفرد وقيادة الناس، وكلها ظواهر ذات طابع سياسي.
يعني ذلك، أن السياسة تمتد في كل الأزمنة وفي مختلف الأمكنة إلى العقول والمصالح والإرادات، لكنها لا تهدف دائما إلى تحقيق المصالح العامة، قد تكون المصالح الخاصة هي ما يتحكم في سلوكيات وتصرفات الفاعلين السياسيين الذين يحركون الأدوات السياسية، فكثيرا ما يتم عند بعض السياسيين، الركوب على المصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة، لأن النخبة السياسية، تشكل باستمرار موقع القرار في دواليب الدولة، كما في الأحزاب والمنظمات والمؤسسات المنتخبة، وغالبا ما تكون هذه النخبة في الدول المتخلفة والدول المستضعفة، هي منبع الفساد السياسي(1) ومرجعيته الأساسية، لما تملكه من حق القرار والمبادرة.
-2-
في نظر العديد من الكتاب والمحللين المعاصرين، أن السياسة، كانت باستمرار هي منبع الأزمات التي ضربت/ تضرب القطاعات المالية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان السائرة في طريق النمو، إنها أزمات تعود بالأساس إلى الضعف الذي أظهرته الفاعلية السياسية، أمام الإغراءات المالية وإغراءات الامتيازات، التي منحتها هذه الدول للفاعلين السياسيين، من أجل لعب الدور الذي عليهم أن يلعبوه في الزمان والمكان.
إن ما حدث خلال العقود الأخيرة في الباكستان وأندونسيا والفلبين، وفي المغرب ومصر وتونس وليبيا وسوريا والبحرين وفي جهات عديدة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، من انهيارات مالية وسياسية، يؤكد "مسؤولية" النخب السياسية في تكريس الفساد والتخلف. فسوهارتو، وموبوتو، واسترادا ومبارك وبنعلي والقذافي وصالح نماذج تنتمي إلى هذه النخب، احترفت السياسة، وجعلت منها وسيلة للاغتناء اللامشروع والتسلط ونشر ثقافة الفساد بين الأجهزة والمؤسسات والأنظمة، وتحول عندها الفعل السياسي إلى مس من الشيطان، وهو ما جعل هذا لفعل يتجه بها إلى التكليف بشكل خادع وبراق وفارغ، مع التحولات العالمية ومتطلباتها السياسية والاقتصادية، مما أذى بها إلى السقوط والانهيار في اللحظات الأخيرة من حياتها.
في هذا الباب يرى فقهاء القانون أن السياسة هي فن الممكن، وامتيازها الوحيد، أنها ترتبط بالحكم والسلطة، فهي القدرة على الفعل، حسب المعايير المتخذة كمقياس لاعتماد الأحكام القيمة على الناس والأشياء والعلاقات والتنظيمات المؤسساتية لشكل الدولة.
والسياسة فن يتكيف مع الزمان والمكان ولا يتأثر بهما، هي فن يرمي للريادة أو السيادة أو الحكم، وذلك بهدف إحكام دفتي السلطة والحكم إغلاقا أو فتحا حسب الأحوال، وحيثما هبت ريح السياسة تجد رجل السياسة كالمزارع يعمل بالمرصاد لاستغلالها أحسن استغلال لفائدته الشخصية والذاتية، أو لفائدة الحكم والسلطة والتسلط.
والسياسة، حسب المحللين والخبراء والسياسيين أنفسهم، لا تروم الأخلاق إلا التي تخدم الحكم والسلطة، فهي فن ممكن البقاء السياسي رائد في السياسة، إذ أن الغاية تبرر الوسيلة، (كما جاء عند "ميكافيلي") فهي عكس "العدل" الذي تشكل الأخلاق كنهه وعموده الفقري، وشرط من شروطه الأساسية، وهو ما يجعله في الأنظمة الديمقراطية مستقلا، مفصولا عن السياسة والسلطة.
نعم إن السياسة هي فن الممكن، كما أقرت بذلك أطروحات المختصين، ولكنها على يد النخب الفاسدة، تتحول إلى "فن المستحيل" تفعل بها ما تريد على أرض الواقع، تغتني وتحكم وتتسلط، وتحول الأوطان إلى جحيم.
-3-
يجب الاعتراف، أن أفلاطون، وأن لم يحقق المدنية الفاضلة من خلال مفاهيمه السياسية، "في جمهوريته"، فإنه استطاع أن يجعل من السياسة مقودا طيعا لقيادة العالم والسيطرة على دواليبته.
فالإنسان اليوم... وبعد عشرات المئات من السنين، سواء كان داخل الملعب السياسي أو خارجه. سواء كان فاعلا، أو متفرجا عليه، فإنه أصبح بإرادته أو بدونها، يمارس "اللعبة السياسية" سلبا أو إيجابا. إن العالم اليوم يحيا ويتنفس من هواء السياسة يتغذى من ثقافتها، ويحتكم إلى قوانينها ومواثيقها ومفاهيمها وإيديولوجياتها... وأحيانا يتلون بألوانها وأصباغها. لذلك، فإن الإنسان في عالم اليوم، في الدول المتقدمة والمختلفة لا يشكل أكثر من بيدق من بيادقها، أو فارسا من فرسانها، يلعب بإرادته أو ضد إرادته على رقعتها الشاسعة والواسعة ما دام موجودا على قيد الحياة.
*****
1 - يعرف الفساد السياسي بمعناه الأوسع بانه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة وعادة ما تكون سرية لتحقيق مكاسب شخصية. كل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد السياسي التي تتنوع أشكاله إلا أن أكثرها شيوعاً هي المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب. ورغم أن الفساد السياسي يسهل النشاطات الإجرامية من قبيل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والدعارة إلا أنه لا يقتصر على هذه النشاطات ولا يدعم أو يحمي بالضرورة الجرائم الأخرى/ من أجل التوسع في هذا المفهوم، راجع كتابنا "عند ما يأتي الفساد" دار الحدث (الرباط) سنة 2000.
السياسة إذن، تظل في الأحزاب والمؤسسات المنتخبة والحكومات والأنظمة، وفي كل الأجواء والمناخات والمفاهيم، تظل كلمة ذات إشعاع براق ومخيف في نفس الآن، فهي الوسيلة التي يصل بواسطتها ممارسوها إما إلى الأعلى أو إلى الأسفل، إلى السلطة والحكم، أو إلى السجون والمنافي والمعتقلات... وعلى أنها بهذا الحجم من الخطورة والاتساع، فهي تسكن العقول والاهتمامات والتطلعات في كل شبر من الأرض.
وخارج هذا المفهوم الواسع والشامل، تبقى السياسة، في مناطق عديدة من العالم، على صلة وثقة بالتسلط والاستبداد والقمع وفرض الإرادة على العدل والمساواة والحقوق، وفي مناطق أخرى تصبح هي القدرة على الفعل سلبا وإيجابا، هي القدرة على الريادة والسيادة، وهي الغاية التي تبرز الوسيلة في كل وقت وحين، وهي نضالات ومراوغات وحروب، وهي المحصلة التفاعلية لكل التيارات المذهبية أو الإيديولوجية، وبالتالي هي فن الممكن في كل زمان ومكان.
يرى الفقه الدستوري في السياسة، عكس ما يراه فيها فقه القانون، فهي في نظر هذا الأخير، كل نشاط سلطوي محوره الدولة، وهي كل نشاط إنساني محوره الإنسان، وأن العلاقة بين الإنسان والدولة/ بين الحاكمين والمحكومين، هي الصفة المميزة للنشاط السياسي عن غيره، ذلك لأن الدولة لا تتكون من الخشب أو الحجر، وإنما من الإنسان، والدولة في نظر السياسيين، ليست المجتمع الوحيد الذي ينطوي تحت لوائه المواطنين، إذ يوجد بالمجتمع أحزاب ونقابات وجمعيات تتم داخلها ظواهر التأكيد على الفرد وقيادة الناس، وكلها ظواهر ذات طابع سياسي.
يعني ذلك، أن السياسة تمتد في كل الأزمنة وفي مختلف الأمكنة إلى العقول والمصالح والإرادات، لكنها لا تهدف دائما إلى تحقيق المصالح العامة، قد تكون المصالح الخاصة هي ما يتحكم في سلوكيات وتصرفات الفاعلين السياسيين الذين يحركون الأدوات السياسية، فكثيرا ما يتم عند بعض السياسيين، الركوب على المصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة، لأن النخبة السياسية، تشكل باستمرار موقع القرار في دواليب الدولة، كما في الأحزاب والمنظمات والمؤسسات المنتخبة، وغالبا ما تكون هذه النخبة في الدول المتخلفة والدول المستضعفة، هي منبع الفساد السياسي(1) ومرجعيته الأساسية، لما تملكه من حق القرار والمبادرة.
-2-
في نظر العديد من الكتاب والمحللين المعاصرين، أن السياسة، كانت باستمرار هي منبع الأزمات التي ضربت/ تضرب القطاعات المالية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان السائرة في طريق النمو، إنها أزمات تعود بالأساس إلى الضعف الذي أظهرته الفاعلية السياسية، أمام الإغراءات المالية وإغراءات الامتيازات، التي منحتها هذه الدول للفاعلين السياسيين، من أجل لعب الدور الذي عليهم أن يلعبوه في الزمان والمكان.
إن ما حدث خلال العقود الأخيرة في الباكستان وأندونسيا والفلبين، وفي المغرب ومصر وتونس وليبيا وسوريا والبحرين وفي جهات عديدة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، من انهيارات مالية وسياسية، يؤكد "مسؤولية" النخب السياسية في تكريس الفساد والتخلف. فسوهارتو، وموبوتو، واسترادا ومبارك وبنعلي والقذافي وصالح نماذج تنتمي إلى هذه النخب، احترفت السياسة، وجعلت منها وسيلة للاغتناء اللامشروع والتسلط ونشر ثقافة الفساد بين الأجهزة والمؤسسات والأنظمة، وتحول عندها الفعل السياسي إلى مس من الشيطان، وهو ما جعل هذا لفعل يتجه بها إلى التكليف بشكل خادع وبراق وفارغ، مع التحولات العالمية ومتطلباتها السياسية والاقتصادية، مما أذى بها إلى السقوط والانهيار في اللحظات الأخيرة من حياتها.
في هذا الباب يرى فقهاء القانون أن السياسة هي فن الممكن، وامتيازها الوحيد، أنها ترتبط بالحكم والسلطة، فهي القدرة على الفعل، حسب المعايير المتخذة كمقياس لاعتماد الأحكام القيمة على الناس والأشياء والعلاقات والتنظيمات المؤسساتية لشكل الدولة.
والسياسة فن يتكيف مع الزمان والمكان ولا يتأثر بهما، هي فن يرمي للريادة أو السيادة أو الحكم، وذلك بهدف إحكام دفتي السلطة والحكم إغلاقا أو فتحا حسب الأحوال، وحيثما هبت ريح السياسة تجد رجل السياسة كالمزارع يعمل بالمرصاد لاستغلالها أحسن استغلال لفائدته الشخصية والذاتية، أو لفائدة الحكم والسلطة والتسلط.
والسياسة، حسب المحللين والخبراء والسياسيين أنفسهم، لا تروم الأخلاق إلا التي تخدم الحكم والسلطة، فهي فن ممكن البقاء السياسي رائد في السياسة، إذ أن الغاية تبرر الوسيلة، (كما جاء عند "ميكافيلي") فهي عكس "العدل" الذي تشكل الأخلاق كنهه وعموده الفقري، وشرط من شروطه الأساسية، وهو ما يجعله في الأنظمة الديمقراطية مستقلا، مفصولا عن السياسة والسلطة.
نعم إن السياسة هي فن الممكن، كما أقرت بذلك أطروحات المختصين، ولكنها على يد النخب الفاسدة، تتحول إلى "فن المستحيل" تفعل بها ما تريد على أرض الواقع، تغتني وتحكم وتتسلط، وتحول الأوطان إلى جحيم.
-3-
يجب الاعتراف، أن أفلاطون، وأن لم يحقق المدنية الفاضلة من خلال مفاهيمه السياسية، "في جمهوريته"، فإنه استطاع أن يجعل من السياسة مقودا طيعا لقيادة العالم والسيطرة على دواليبته.
فالإنسان اليوم... وبعد عشرات المئات من السنين، سواء كان داخل الملعب السياسي أو خارجه. سواء كان فاعلا، أو متفرجا عليه، فإنه أصبح بإرادته أو بدونها، يمارس "اللعبة السياسية" سلبا أو إيجابا. إن العالم اليوم يحيا ويتنفس من هواء السياسة يتغذى من ثقافتها، ويحتكم إلى قوانينها ومواثيقها ومفاهيمها وإيديولوجياتها... وأحيانا يتلون بألوانها وأصباغها. لذلك، فإن الإنسان في عالم اليوم، في الدول المتقدمة والمختلفة لا يشكل أكثر من بيدق من بيادقها، أو فارسا من فرسانها، يلعب بإرادته أو ضد إرادته على رقعتها الشاسعة والواسعة ما دام موجودا على قيد الحياة.
*****
1 - يعرف الفساد السياسي بمعناه الأوسع بانه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة وعادة ما تكون سرية لتحقيق مكاسب شخصية. كل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد السياسي التي تتنوع أشكاله إلا أن أكثرها شيوعاً هي المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب. ورغم أن الفساد السياسي يسهل النشاطات الإجرامية من قبيل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والدعارة إلا أنه لا يقتصر على هذه النشاطات ولا يدعم أو يحمي بالضرورة الجرائم الأخرى/ من أجل التوسع في هذا المفهوم، راجع كتابنا "عند ما يأتي الفساد" دار الحدث (الرباط) سنة 2000.