حسام عزوز - حبة قمح.. وحبة شوك


في آخر الزمان ، وكانت الدنيا تضم بعض الخير, تجمّع حول مخلوق ٍ صغير مجموعةٌ من قوى الكون : الريح والشمس والغيم والمطر والتراب والسماء ,وقالوا: آه ما أجملك.. سبحان من كونك .. ؟؟
قال المخلوق الجميل :
أنا حبة قمح سمراء.صنعتني من العواصف والأمطار أمي . كونتني من وريقاتها الغضةِ ,وانبلجتُ منها كصبحٍ أغبر ندي
وأرفقتني بخمسين حبةً تشابهت حتى تواءمت .وغسلتني بدفء أمطار آذار حتى صرت نقيةً كوجه قمر أبيضٍ , ثم لوّحتني شمس نيسان ، فتحوّلتْ شراييني الغضة الندية إلى قسوةٍ شبيهةٍ بقسوة حصى هذه الأرض التي نشأنا عليها منذ بدء الخليقة.منذ تكوّن التراب ،وتسامقنا وتعالينا ..حبات قمحٍ ترفع رأسَها للشمسِ تشهق نسائمَ أيار وتزفر، فتنتشر على وجه البسيطة رائحةُ الصيف وبشائرُ موسمٍ خصبٍ، وحَبَتْني بأقانيم القمح وترانيم العطاء , وعلّمتني كيف القمح يعطي ويخصب ثم يُطحن ثم يُخبز ثم يُشوى ،وقلبه ضاحك فرحان كي لا يجوعَ الناس.....
قذفتني أمي فوق تراب الأرض وقالت : ألا فاضربي في التراب الطري جذورَك . ألا فاقنعي بكَرَمِ السماءِ أو بخلهِا ,ولكن لا ترضي إلا أن يكونَ عطاؤك كثيراً وفيراً...
وارتميت ...فوق صدر أرضٍ واسعٍ . صدرٌ غريبٌ ..لكنه دافئ وأمين.. غامضٌ.. وغموضه من انبعاث الروائح الخصيبة وتشابكِها . هادئٌ.. لكن في أعماقه تُسمع أصوات غليان وفوران وضجيج .
..ضجيج الحياة وتكوينها. فتشبثت ...وانغرست !!!
ـ" ألا فاقبلي بي أيتها الأرض الغنية ودعيني أفنى فوق ترابك ،أو أخصب فأنتش ثم أعطي سنابلي الشقراء" .
همست الأرض الحبيبة للريح شيئاً فتحركتْ ،وداعبت نحوليَ فانتشيتْ . همست الريح للغبار فأعندَ . صرخت الريح فاستثارت الترابَ كلّه حتى ضمني كذراعين جبارين أغلقا علي ضوءَ الشمس, وفي وحدتي مع الترابِ زارنا قطرُ الندى مرات حتى جُبلنا معاً .
معطاءٌ هي هذه الأرض غنية وخصبة . رأيت حولي وفي صيف انتظاري موسم الأمطار كل ما أشتهيه لكي أكونَ مثل أمي , رأيتُ كل عناصر التكونِ لأصبح قويةً, وفي قوتي يكمن الخلود ,
رأيت كيف تقبّل الشمسُ الترابَ في بلادي ,وكيف تحوّل القبلُ العناصرَ في تحليل وتركيب ولا أجمل..وكثرت حولي مؤونتي وأسلحتي , ويكفيني القليل من المطر لأحقق غايتي في الحياة و انتصاري
وبعد أيام ،وقبل بداية الشتاء بقليلٍ قالت الريحُ الحزينةُ :
ـ تعلقت بي ... ـ وكانت خائفة ـ حبة غريبة الشكل والمضمون ,
قالت حبة القمح :
ـ من أنت يا غريبة ؟!!
أجابت الغريبة :
ـ أنا حبة شوك صغيرة ...نشأت وتكونت على قارعة الطريق .. لم تعبأ بي الريح .. ولا العواشبُ ولا حتى أقدامُ العابرين ...قذفتني أمي كزفرة مستريح أزال الهمّ عن قلبه .. لم ترضَ بي الريح العابرة لكنني تعلقت .. وعلى أرضكِ المقدسة انتهيت .. سوف أرضى بالقليل ..سوف أحيا على الفتات .. فاقبلي بي يا حبة خلقها الباري للعطاء وللفناء .. أختاً أساعد قلبك على ما يشتهيه، سوف أحمل في قلبي تعاليم العطاء وهذه الأرض العظيمة ستعلمني كيف أصبح حبة قمح كريمة ، مَنْ ينشأ هنا لا يمكنه إلا أن يكون جليلاً .
فرحت حبة القمح بالصديقة ، فالقمح يحب الصديق ، وأوسعت لها مكاناً قربها ، وتقاسمتا التراب والغذاء , وقتها كانت الريح المسافرة تعول في السماء ، لكن ضحكة القمح والتراب لم تختفِ !!.
سألت حبة الشوك:
ـ ماذا يقول القمح لو شحت السماء وقلّ المطر ؟
قالت حبة القمح :
ـ هذه أرضي وهذا ترابي وخلف ذلك التل ناسي ,وفي شرايين زنودهم الجبارةِ تندفع دماءٌ تكونتْ من خبزي مثلما تكونتُ من تعبهم وعرقهم وعنايتهم، ولن يهملوني...
فغرت حبة الشوك فاها ،ثم أخفت دهشتها خلف قناع الإعجاب ... وتقدّمت باتجاه حبة القمح خطوةً...
قالت حبة الشوك :
ـ ..وماذا يقول القمح لو غاب الناس ؟!!!!!
قالت حبة القمح:
ـ لكلّ رسالته تحت قرص الشمس ...لقد خلقوا للكد والتعب , خلقوا ليأكلوا خبزاً طاهراً معمداً بالعمل والحب , وخلقتُ لأعيشَ فوق ترابٍ خصبٍ ،وأجمع كل الخير بقلبي ...خيرهم وخير السماء وخير الشمس وخير الرياح .. فأعطي خيراً ثم خيراً ثم خيراً ...
صفقت حبة الشوك حتى كلت يداها . رغم أنها لم تفهم شيئاً ... وتابعت تقدمها خطوات !!!
كانت الريح تصفر في السماء الزرقاء ....واستمر تسلل الشوك عبر دروبها المعتمة !!!
وتكاثرت حبات الشوك حول حبة القمح النبيلة
تساءلت حبة الشوك :
ـ ولماذا كل هذا العطاء؟؟!!
قالت حبة القمح الوحيدة :
ـ سوف أعطي ما ملكت ..فالعطاء متعةٌ .....سوف.....
صفق الشوك حول حبة القمح ...وتعالى الضجيج وكثرت الفوضى حتى لم يعد يسمع الشوك التعاليم المقدسة ... وتقدم الشوك ..تقدم الشوك بخطواتٍ واثقة...
رحبت حبة القمح بالجميع , وصبرت على شح المطر،صبرت حبة القمح على بكاء حبات الشوك حولها ,ونهمهم وجوعهم التاريخي , صبرت على تأخر يد الإنسان .... صبرت على ضعفها وعطشها ... صبرت حتى كادت تموت من كثرة الصبر .... صبرت حتى لم يعد يسعفها الصبر ,فأخذت تحتضر وسط الفوضى والضجيج ... لكنها بقيت هادئة.. بقيت محافظة على أقانيم القمح , وأخذت تنشد ترانيم العطاء وحدها ولم يسمعها سوى الشوك العابث ..وبقيت تنشد رغم استهزاءاتهم ... ورغم إغراءات حبات المطر, ونصيحة الريح بأن تصبح جشعة وتترك كل مفاهيمها عن التراب والمطر والسماء ... نصحت الريحُ حبة القمحِ مرات ,وكانت حبة القمح تكتفي بالابتسام ..... صارعت حبة القمح موتها حتى ملّ الشوك أنينها ,ثم وشوشت في أذن الريح كلمات ....
ماذا قالت حبة القمح النحيلة للريح قبل أن تموت ؟؟!!!
ماذا وشوشت في أذنها حتى سكنت سكون القانطين ؟؟
وبدت أنها لن تهب بعد اليوم
وشيع الشوك حبة القمح بدون دموع ,فالموت في عرف الشوك مجردُ فعلٍ لا معنى له.
يومها غادرت الريح تلك الأرض وبقي الشوك وحيداً , ولكنه سعيد .
قالت حبة القمح : وبالرغم من الموت ... سنلتقي .
قالت حبة الشوك : وما همّ .. حدث اللقاء أو لم يحدث ..
قالت الريح: أنا لن أعود
قالت حبة القمح : لا .. بل سنعود هذه الأرض الحبيبة تتسع لكل الحب ,لكنها لا تتسع لقطرة كره.
مات القمح فوق تلك الأرض , وتكاثر الشوك وهو يردد كلمات القمح دون أن يفهم معناها.
و تكاثر الشوك حتى لم يعد يستطيع أن يقترب من تلك الأرض العابرون ,بل حتى عافتها الريح والشمس والمطر.

2006


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصة قصيرة من مجموعة حبة قمح وحبة شوك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...