مديح المعاناة
مما لا شك فيه أن عالم دستويـﭭسكي المُعَذَّب (1821-1881) يهيمن عليه الصراع أكثر من السوداوية بالمعنى العيادي للكلمة(1). إذا ما كان أبقراط يطابق بين الكلمتين، وإذا ما كان «أرسطو» يميز بينهما تمامًا من خلال المقارنة، فإن العيادة الحالية تعتبرهما كيانين منفصلين على نحو عميق. ومع ذلك، نلاحظ، من خلال كتابات «دستويـﭭسكي»، الأسى الذي يسبق النوبة -أو يليها بشكل خاص- كما يصورها الكاتب نفسه، وكذلك أقنوم المعاناة الذي يفرض نفسه على مدار أعماله -دون علاقة واضحة أو مباشرة مع الصرع- وكأنه سمة جوهرية للأنثروبولوجيا الدوستويفسكية.
على نحو غريب، نجد أن إصرار دستويـﭭسكي على وجود معاناة مبكرة أو على الأقل أساسية، على حافة الوعي، يستدعي الأطروحة الفرويدية عن «دافع الموت» الفطري، حامل الرغبات، و«المازوخية الأولية». بينما عند ميلاني كلاين Melanie Klein(2) في غالب الأحيان الإسقاط النفسي يسبق الاستدماج(3) والعنف يسبق المعاناة، ويكمن الوضع الذهاني العصابي فيما وراء الوضع الاكتئابي، ويصر فرويد على ما يمكن أن يطلق عليه «الوضع صفر» للحياة النفسية (المازوخية الأولية، السوداوية) حيث المعاناة غير الإيروتيكية بمثابة مدخل نفسي أساسي لاختلال ما (قفز الذاكرة بين مادة لا عضوية ومادة عضوية؛ أثر الفصل بين الجسم والنظام البيئي، الطفل والأم، إلخ... بل وكذلك التأثير القاتل لـ «أنا» عليا مستديمة ومستبدة).
يبدو أن دستويـﭭسكي أقرب ما يكون لهذه الرؤية. إنه يتأمل المعاناة بوصفها أثرًا مبكرًا وأوليًّا لصدمة عصبية ما، ولكن قبل موضوعانية -بطريقة أو بأخرى- لا نستطيع بها تعيين عامل منفصل عن الذات، ومن المرجح، بناء على ذلك، أن تجذب نحو الخارج: طاقات، ومداخل نفسية، وتمثلات أو أفعالًا. كما أنه تحت تأثير الأنا العليا المبكر -هو أيضًا- يستدعي الأنا العليا السوداوية المتأملة عند فرويد بوصفها «ثقافة دافع الموت»، وتنكفئ دوافع أبطال دستويـﭭسكي على فضائها الخاص. فبدلًا من أن تصبح دوافع إيروتيكية، تندرج بوصفها حالة مزاجية للمعاناة. لا في الداخل ولا في الخارج، وإنما بين الاثنين، فعلى عتبة انفصال أنا/ الآخر -وحتى قبل أن يكون هذا الانفصال ممكنًا- تنشأ المعاناة الدوستويفسكية.
يشير كُتاب سيرة حياة دستويـﭭسكي إلى أنه كان يفضل التردد على أناس ميالين إلى الحزن. يستزرع الحزنَ في ذاته ويمجده في نصوصه كما في مراسلاته. فلنستشهد برسالة كتبها في فلورنسا وأرسلها إلى مايكوف Maikov في 27 مايو عام 1869. يقول:
«الأمر الرئيس هو الحزن، لكن لو نتحدث عن ذلك أو نشرحه، يجب أن نقول أكثر بكثير. ومع ذلك، الحزن هو أنني لو كنت وحيدًا، ربما لأصبحت مريضًا بالكآبة. على أي حال الحزن رهيب، والأسوأ أيضًا أنني، في أوروبا، سأشاهد كل شيء هنا كأبله. مهما يحدث، لقد قررت العودة إلى بطرسبرج في الربيع القادم...».
كانت نوبة الصرع والكتابة بالتوازي أعلى دافعين للحزن المرضي الشديد الذي يتبدل إلى بهجة باطنية خارج الزمن. وهكذا، يرد في «بطاقات الممسوسين أو الشياطين» (صدرت الرواية عام 1873):
«النوبة في السادسة صباحًا (إنه يوم وساعة عقاب تروبمان، تقريبًا (4)). لم أفطن لذلك، استيقظت في الساعة الثامنة مع الوعي بالنوبة. كنت قد شعرت بصداع، وتكسر الجسم. وفي العموم، كانت توابع النوبة عصبية في المزاج، وضعف في الذاكرة، وحالة ضبابية، وميل إلى التأمل -بطريقة أو بأخرى- وهذه التوابع تمتد الآن أكثر مما كانت في السنوات السابقة. قبل ذلك كانت تنقضي في ثلاثة أيام، أما الآن، فليس قبل ستة أيام. في المساء، خاصة، مع الشموع، وحزن وساوس المرض، دون موضوع، وكما ظل أحمر دامٍ على كل شيء(5)...».
أو: «ضحك عصبي وحزن باطني»(6)، يكرر، في إشارة ضمنية إلى رهبان «أسيديا»(7) من العصور الوسطى. أو أيضًا: كيف نكتب؟ «المعاناة، الكثير من المعاناة...».
تبدو المعاناة هنا «زائدة عن الحد»، تبدو قوة، أو لذة. لقد أفسحت الـ«نقطة السوداء» من سوداوية نيرفال الطريق للتدفق العاطفي، للانفعال الهستيري -إذا أردنا- حيث الفيضان المتدفق يحمل العلامات الوديعة وتأليفات الأدب الهادئة «المونولوجية». هذا يمنح نص دستويـﭭسكي بوليفونية مدوخة، ويفرض الجسد المتمرد الذي يستمتع بعدم الخضوع لكلمة الله -كما حقيقة مطلقة- على الإنسان الدستويـﭭسكي. وليست لذة المعاناة التي ليس بها «أي فتور ولا أي خيبة أمل شيئًا مما روج له بايرون من قبل»، لكنها متعطشة لملذات مبالغ فيها، لا تُشبع «متعطشة لحياة لا تُطفأ»، بما في ذلك «لذة السرقة، وقطع الطريق، ولذة الانتحار»(8). وعلى نحو رائع وصف كيريلوﭪ هذا التمجيد المزاجي، الذي يمكن أن ينقلب من معاناة إلى بهجة لا تُقَدر، في اللحظات التي تسبق الانتحار أو الأزمة:
«ثمة لحظات، تستمر خمس أو ست ثواني، عندما تشعر فجأة بالتناغم الخالد، تكون قد وصلت. إنه ليس أرضيًا: لا أود أن أقول إنه أمر سماوي، لكن الإنسان بجانبه الأرضي غير قادر على تحمله. ينبغي أن يتحول فيزيقيًّا أويموت. إنها عاطفة واضحة، لا نزاع فيها، مطلقة [...]. هي ليست الرأفة [...]وهي ليست أيضًا الحب. أوه! إنها أسمى من الحب. الأمر الأكثر رعبًا هو أنها واضحة على نحو فظيع للغاية. وبهجة هائلة جدًّا مع ذلك! لو أنها دامت أكثر من خمس ثواني، قد لا تحتملها النفس وينبغي أن تختفي [...]. لكي نتحمل ذلك لمدة عشر ثواني، ينبغي أن نتحول فيزيقيًّا [...].
- أنت لست مصروعًا؟
- لا.
- ستصبح كذلك، انتبه، يا كيريلوﭪ: لقد سمعت أنه هكذا تحديدًا كان يبدأ الصرع [...]»
وبخصوص قصر مدة هذه الحالة:
«تذكر إبريق محمد، الذي لم يكن قد فرغ بينما طاف محمد بالجنة. الإبريق، إنه ثوانيك الخمسة، وذلك لا يضارع كثيرًا سوى تناغمك؛ وفي هذه الحالة...*. انتبه للصرع يا كيريلوﭪ»(9).
مع عدم قابليته للاختزال في مشاعر، فإن الوجدان في جانبه المزدوج من تدفق فعال وتوثب فيزيقي - شفاف، وواضح، ومتناغم، وإن كان خارج اللغة- يعبر عنه هنا بإخلاص فائق الوصف. لا يمر الوجدان عبر اللغة وعندما تشير اللغة إليه، فإنها لا ترتبط به كما ترتبط بفكرة ما. فالتعبير لفظيًّا عن الانفعالات (بدون وعي أو به) ليس لديه نفس اقتصاد التعبير لفظيًّا عن الأفكار (بدون وعي أو به). قد نفترض أن التعبير لفظيًّا عن انفعالات غير واعية لا يجعلها واعية (لا تعرف الذات من أين تأتي بهجتها أو حزنها وكيف ولا تعدل فيهما)، لكنه (التعبير اللفظي) يجعلها تعمل بشكل مضاعف. فمن جانب، يوزع نظام اللغة ثانية ويولد الأسلوب. ومن جانب آخر يظهر اللاوعي في الشخصيات والأفعال التي تمثل العواطف الغريزية الأكثر تحريمًا وتجاوزًا. فالأدب كما الهيستيريا- التي هي بالنسبة لفرويد «عمل فني مشوه»- مسرح العواطف على المستوى البين ذاتي (الشخصيات) كما على المستوى البين لساني (الأسلوب).
على الأرجح فإن هذه الحميمية مع الانفعال العاطفي هي التي قادت دستويـﭭسكي إلى هذه الرؤية التي وفقًا لها تكمن إنسانية الإنسان في البحث عن اللذة أو المنفعة (وهي فكرة تكمن في التحليل النفسي الفرويدي على الرغم من الهيمنة الممنوحة في النهاية لـ«ما وراء مبدأ اللذة») أقل منها في التطلع إلى معاناة شهوانية. على خلاف التشاحن أو الغضب، التي هي أقل موضوعانية، وأكثر انكفاء على الشخص المناسب، في هذه المعاناة ليس هناك سوى خسارة الذات في ليل الجسم. إنها رغبة الموت المكبوتة، سادية تعوقها يقظة الوعي وتستدير من الآن نحو الذات المؤلمة والخاملة:
«يخضع غضبي لما يشبه التحلل الكيميائي، بالضبط، بحكم قوانين الوعي الملعونة نفسها. بالكاد أميز هدف كراهيتي، حتى يتلاشى، وتتبدد البواعث، ويختفي المسئول، والإهانة لا تعود إهانة، لكنها ضربة قدر، شيء ما كألم الأسنان، الذي لا يلام عليه أحد»(10).
في النهاية، هذه المجادلة عن المعاناة جديرة بـ «الأسيدا» القرووسطية، بل وأيضًا بـ النبي أيوب: ولماذا أنت واثق إذن لهذه الدرجة على نحو راسخ وجليل أن الضروري هو فقط العادي، والإيجابي، والرفاهي في كلمة واحدة؟ ألا يخطئ العقل في تقديراته؟ قد لا يحب هذا الإنسان الرفاهية. ألا يمكن أن يحب هذا الإنسان المعاناة بنفس القدر؟ ألا يمكن أن تكون المعاناة بالنسبة له مفيدة تمامًا كما الرفاهية ؟ يشرع الإنسان أحيانًا في حب المعاناة بشغف. إنها حقيقة [...].«إنه دوستويفسكي» جدًّا، تعريف المعاناة بوصفها حرية مؤكدة، بوصفها نزوة:
لست أدافع تحديدًا هنا عن المعاناة أو الرفاهية: إنها نزوتي أنا، وأنا أصر على تضمينها -عند الضرورة- وفي «الفودفيل» (المسرحيات الهزلية)، على سبيل المثال، لا تُقبل أشكال المعاناة، أعرف ذلك؛ كذلك لا يمكن قبولها في قصر الكريستال(11): ثمة شك، ثمة نفي في المعاناة [...] المعاناة! لكنها السبب الوحيد للوعي! [...]. الوعي، في رأيي، أحد أعظم شرور الإنسان؛ لكنني أعرف أن الإنسان يحبه ولا يقايضه بأي رضا، مهما يكن»(12).
المعتدي، هذا السوبرمان الدستويـﭭسكي، الذي يبحث عن نفسه -على سبيل المثال- من خلال مديح الجريمة في شخص راسكولنيكوﭪ Raskolnikov، ليس عدميًّا، ولكنه رجل قيم(13). معاناته هي الدليل الذي ينتج عن البحث الدائم عن المعنى. ذلك الذي يعي فعله الآثم، يعاقب نفسه لأنه يعاني من ذلك.
إنه عقابه بمعزل عن عقاب السجن بالأشغال الشاقة(14)؛
«المعاناة والألم لا ينفصلان عن الفطنة العالية، والقلب الكبير. ينبغي على العظام من البشر حقًّا، على ما يبدو لي، أن يكابدوا حزنًا عظيمًا على الأرض(15). وهكذا، عندما يُتهم نيكولا Nicolas بارتكابه جريمة بينما هو بريء، سيعتقد بورفير Porphyre أنه يكشف من خلال هذا الاتهام المتطرف عن التراث الروسي الصوفي العتيق الذي يمجد الألم كعلامة إنسانية:
«أتعرفون [...] ما تكونه الكفارة لبعض هؤلاء الناس؟ هم لا يفكرون في الكفارة من أجل شخص ما، لا، لكنهم بكل بساطة عطشون للمعاناة، ولو أن هذه المعاناة فُرضت عليهم من السلطات، فهذا هو أفضل شيء»(16). «فلتعانوا إذن! ربما لدى ميكولكا Mikolka حق في الرغبة في المعاناة!»(17)
ستكون المعاناة حقيقة للوعي، فالوعي (بالنسبة لدستويـﭭسكي) يقول:
عانِ. أن تكون واعيًا إذن هو أن تعاني، لكنني لا أريد أن أعاني، لأنه إلى أي حد قد أرضى بالألم؟ تبلغني الطبيعة -من خلال مجرى وعيي- أني لا أعرف ما هو الانسجام الكلي. ولقد شيَدت ديانات الوعي الإنساني حول هذه الفكرة [...]خاضعًا، لقبول المعاناة من أجل انسجام الكل والرضا بالحياة [...]. ولماذا ينبغي أن أهتم كثيرًا بمحادثته (الكل) بعدي؟ أسألكم عن ذلك!
كان من الأفضل لو خُلقت على غرار كل الحيوانات، أي على قيد الحياة ولكن غير واعٍ بذاتي عقلانيًّا: ألا يكون وعيي تحديدًا متناغمًا، بل على العكس، متنافرًا، لأنني تعيس بسببه. فلتنظروا من السعيد في العالم، وأي أناس يرضون بالحياة؟! بالضبط، أولئك الذين يشبهون الحيوانات، وبسبب التطور الضعيف لوعيهم، هم الأقرب لحال الحيوان»(18). من هذا المنطلق، سيكون الانتحار العدمي نفسه هو الإنجاز النهائي للإنسان الذي مُنح وعيًا، لكنه محروم من حب الصفح، من المعنى المثالي، من الله.
معاناة سابقة على الكراهية
لن نتعجل في تفسير هذه الأقوال بوصفها اعترافًا مازوخيًّا مرضيًّا. ألا يعني ذلك أن الكراهية تعني تدمير الآخر وربما قبل أي شيء قتله؟ أن الكائن البشري يعيش كحيوان رمزي؟ عنف فادح، لكنه مكبوح، يؤدي إلى قتل الذات بنفسها كي يولد هذا الموضوع. من وجهة نظر تعاقبية، نحن هناك على العتبة السفلى للذاتية قبلما تنفصل عن الآخر الذي هو موضوع الكراهية أو مداهمة الحب. ومع ذلك يتيح نفس هذا الكبح للكره أيضًا التحكم في العلامات: أنا لا أهاجمك، أنا أتحدث (أو أكتب) خوفي أو ألمي. معاناتي هي بطانة كلامي وحضارتي. نحن نتخيل المجازفات المازوخية لهذا التحضر. والكاتب، فيما يخصه، يمكنه أن يستمد من ذلك ابتهاجًا من خلال التلاعب الذي سوف يستطيع، على هذه القاعدة، أن يلحقه بالعلامات وبالأشياء.
المعاناة وجانبها التضامني، المتعة و«اللذة» بالمعنى الدستويـﭭسكي، يفرضان نفسيهما بوصفهما مؤشرًا نهائيًّا على قطيعة سابقة قليلًا على تمكين الذات والآخر. قد يكون انقطاع طاقة حيوية داخلية أو خارجية، أو انقطاعًا رمزيًّا يُعزى إلى التخلي، والعقاب، والنفي. لن نستدعي -بما يكفي- قسوة والد دستويـﭭسكي المشنع عليه من قبل «الموجيك moujiks »(19) الذين ربما أيضًا قتلوه (وفقًا لبعض سير الحياة المفنَّدة اليوم). المعاناة هي المحاولة الأولى أو الأخيرة للذات لتؤكد «نقاءها» الأقرب للوحدة البيولوجية -المُهَدَّدَة والنرجسية- الموضوعة على المحك. كذلك هي المبالغة البيولوجية، التضخم المدعي للـ«نقاء» كما يقال، هي معطى جوهري للحياة النفسية في طور التكوين أو الانهيار بموجب قانون الآخر المهيمن بالفعل وإن ظل مجهولًا من خلال غيريته القوية للغاية، تحت عين المثل الأعلى للأنا الملتحمة بـ«الأنا المثالية».
تبدو إشباقية المعاناة ثانويةً. في الحقيقة، يحدث ذلك فقط بالاندماج في تيار عدواني سادي/مازوخي موجه نحو الآخر، يلونه بشهوانية وهوى، الأمر الذي يمكن تبريره كاملا حينئذ كتجربة ميتافيزيقية للحرية والانتهاك. ومع ذلك، عند درجة سابقة منطقيًّا وتعاقبيًّا، تظهر المعاناة بمثابة العتبة النهائية، والعاطفة الأساسية، للتمييز أو الفصل. ولتحقيق هذه الغاية، سوف نضيف، في هذا السياق، الملاحظات القريبة، التي وفقًا لها يحدث الشعور بالتناغم أو بالبهجة اللذين استنفرهما الاقتراب من نوبة الصرع، بما لن يكون إلا ضربة لاحقة من الخيال الذي يحاول –بعد النوبة- أن يتوافق إيجابيًّا مع اللحظة البيضاء، المخربة لهذه المعاناة المستنفرة من الانقطاع (تفريغ عنيف للطاقة، كسر التتابع الرمزي في النوبة). وهكذا سوف يخدع دستويـﭭسكي الأطباء الذين اعتقدوا – من بعده- ملاحظة فترات اغتباطية تسبق الأزمة، عند المصابين بالصرع، بينما لحظة الكسر هذه ستتميز في الواقع فقط بتجربة الضياع والمعاناة المؤلمة، وهذا وفق التجربة الخفية لـدستويـﭭسكي نفسه(20).
يمكن أن ندعم أن المدخل النفسي للانقطاع - في الاقتصاد المازوخي- تمت معايشته بوصفه صدمةً أو ضياعًا. فالذات تَقمع وتُقصِي العنف البارانوي الفصامي الذي سيكون لاحقًا، من هذا المنظور، على المدخل النفسي المؤلم للانقطاع. وتنتقل (الذات) إذن منطقيًّا وتعاقبيًّا إلى السجل، حيث تكون الفواصل وكذلك الروابط (الذات/ الموضوع، والأثر والمعنى) مهددة. وتتبدى هذه الحالة عند السوداوي من خلال هيمنة الحالة المزاجية على إمكانية التعبير اللفظي نفسها، قبل حدوث شلل وجداني محتمل.
ومع ذلك، يمكن أن نتأمل عرَض الصرع بوصفه متغيرًا آخر لانسحاب الذات -المهددة بالعثور على نفسها في الوضع البارانوي الفصامي- التي تعثر، من خلال تفريغ محرك، على تشريع صامت لـ«دافع الموت» (تمزق موصلية الاختلال العصبي للروابط الرمزية، أو فشل توازن البناء الحي).
من هذا المنظور، فإن السوداوية بوصفها مزاجًا مُحطِّمًا للتواصل الرمزي، والصرع أيضًا بوصفه تفريغًا محركًا، هما بمثابة مراوغات للذات إزاء العلاقة الإيروتيكية مع الآخر، خاصة قبالة إمكانات وجود البارانويات الفصامية للرغبة. وفي المقابل، يمكن أن نفسر المثالية والتسامي بوصفهما محاولةً للتملص من المواجهة نفسها، ولكن بمعنى النكوص وتناقضه السادي/مازوخي. بهذا المعنى، فالصفح، جنبًا إلى جنب مع التسامي، يزيلان إيروتيكية ما وراء الإيروس. ويُستبدل بالثنائي إيروس/ تانتوس(21) الثنائي إيروس/ الصفح، الذي يتيح للسوداوية الممكنة عدم التجمد في الانسحاب العاطفي للعالم، وعبور تمثيل الروابط العدوانية والمُهَدِّدة للآخر. لأنه في التمثيل، بقدر ما يتعلق الأمر بالاقتصاد المثالي والمتسامي للصفح، تستطيع الذات ليس الفعل، ولكن تشكيل دافع موتها -وثنيًّا- على الرغم من روابطه الإيروتيكية.
دستويـﭭسكي وأيوب
يستدعي الكائن الذي يعاني عند دستويـﭭسكي مغامرة أيوب المتناقضة التي أثرت بالتأكيد في الكاتب:
«أقرأ سفر أيوب الذي يمدني بتمجيد المرض: أوقف القراءة وأتجول في حجرتي لمدة ساعة، تقريبًا، وأبكي [...]. عمل غريب، يا آنّا Anna، هذا السفر من أول الكتب التي أثرت فيّ... وكنت تقريبًا حينئذ رضيعًا»(22).
أيوب إنسان أقبلت الدنيا عليه ويخلص للرب، يجد نفسه مستحوذًا بقوة للغاية -بسبب الرب أم بسبب الشيطان؟- على ثروات مختلفة... لكن هذا «التعس»، موضوع السخرية («أنوجه لك الكلام؟ أنت تعس!») (23)) ليس حزينًا في المجمل إلا لأنه يريد الله. إن يكن هذا الإله غير رحيم، ظالمًا مع المؤمنين، كريمًا مع الكافرين لن يقوده ذلك إلى فسخ التعاقد الإلهي. بل على العكس، سيعيش باستمرار تحت عين الله ويوفر اعترافًا يدرك الخضوع التعس فيما يخص أناه العليا الممتزجة بالأنا المثالية:
«ما الإنسان بالنسبة لك يا (الله) لتضعه في هذه الحالات المرضية الكثيرة؟»(24)؛ «فلتسحب نفسك مني كي أكون مسرورًا قليلًا»(25).
ومع ذلك، لم يقدر أيوب قوة الله الحقيقية («إن يمر بجواري، لن أراه»(26)) وينبغي في النهاية أن يستعرض اللهُ نفسُه باختصار أمام هذا المكتئب من كلَّ الخلق، مما يؤكد وضعيته بوصفه مشرعًا أو «أنا» عليا قادرة على المثالية، كي يستعيد أيوب الأمل. أيكون المتألم نرجسيًّا، أيكون إنسانًا يهتم للغاية بنفسه، مرتبطًا بقيمته الخاصة، وتقريبًا يحسب نفسه جوهرًا للتسامي؟ ومع ذلك، بعد أن يُعاقبه يهوه الرب، يكافئه في النهاية ويجعله فوق مذميه. «لم تقولوا -مفندًا إياهم- بشأني، الحقيقة كعبدي «أيوب»(27).
كذلك المعاناة -عند دستويـﭭسكي المسيحي- أمارة رئيسة على الإنسانية، هي علامة خضوع الإنسان للقانون الإلهي، على الرغم من اختلافه الشديد فيما يتعلق بهذا القانون. وتوجد تزامنية العلاقة والخطأ، والإخلاص والانتهاك، وفي النسق الأخلاقي نفسه، حيث الإنسان الدستويـﭭسكي أبله من قبل القداسة، وكاشف من خلال الإجرامية.
هذا المنطق الترابطي الضروري بين القانون والانتهاك لا يمكن أن يكون غريبًا؛ حيث شرارة انطلاق نوبة الصرع هي في الغالب حالة تناقض شديد بين الحب والكراهية، بين الرغبة في الآخر ورفضه. يمكن أن نتساءل، من ناحية، لو أن التناقض الوجداني الشهير لأبطال دستويـﭭسكي -الذي أوصل باختين Bakhtine (28) إلى طرح مبدأ «الحوارية» على أساس شعريته- لم يكن محاولة، من خلال تصميم الخطابات والصراع بين الشخصيات لتمثيل هذا التعارض، دون حل توليفي للقوتين (السلبية والإيجابية) الخاصتين بالدافع والرغبة.
ومع ذلك، لو أن المرء فك الارتباط الرمزي، يصبح «أيوبنا»، كيريلوﭪ، إرهابيًّا انتحاريًّا. ولم يكن ميريكوفسكي Merejkovski (29) مخطئًا تمامًا في أن يرى الكاتب الكبير بمثابة المبشر بالثورة الروسية. هو بالتأكيد يرهبها، يرفضها، ويصِمها بالعار، لكنه هو الذي يعرف مجيئها الغامض من خلال نفس إنسانه المتألم، وعلى استعداد لخيانة تصاغر أيوب من أجل التمجيد المهووس بالثورة التي تلعب دور الله (وفقًا لدستويـﭭسكي، تلك هي العقيدة الاشتراكية للملحدين). تنقلب نرجسية المكتئب إلى الهوس بالنزعة الإرهابية الملحدة: إن كيريلوﭪ هو الإنسان بلا رب الذي اتخذ مكان الرب. تتوقف المعاناة عندما يتأكد الموت. فهل المعاناة تمثل حاجزًا ضد الانتحار والموت؟
الانتحار أو الموت
سنتذكر على الأقل حلين، كلاهما قاتل، للمعاناة الدستويـﭭسكية، هما: الستار النهائي للفوضى والتدمير.
إن كيريلوﭪ مقتنع بأن الله غير موجود، لكنه من خلال التمسك بالحالة الإلهية، يود أن يرفع الحرية الإنسانية إلى مصاف المطلق، من خلال الفعل النافي، والحر بامتياز، الذي يمثله الانتحار بالنسبة له: الله غير موجود - أنا الله - أنا غير موجود - أنتحر، هذا هو المنطق المفارق لنفي الأبوة أو الألوهية المطلقة، ومع ذلك محافظ عليها (الألوهية) كي أحظى بها.
في المقابل، فإن راسكولنيكوﭪ وكأنه في حالة دفاع جنوني ضد اليأس، يرحِّل كراهيته ليس إلى ذاته، ولكن إلى آخر مرفوض، مُشهَّر به. بسبب جريمته المجانية التي تقوم على قتل امرأة لا يعتد بها، ويكسر العقد المسيحي («سوف تحب مستقبلك كنفسك»). وينكر حبه للكائن الذي ينحدر عنه («بما أنني لا أحب أمي، فمستقبلي بلا معنى، ما يسمح لي بأن أزيله بلا ضيق»، يبدو أنه يقول ذلك). وانطلاقًا من هذا المفهوم الضمني، يسمح لنفسه بأن يحقق كراهيته ضد محيط ومجتمع يشعر بهما كمضطَهِدين له.
إن المعنى الميتافيزيقي لهذه التصرفات، كما نعلم، هو النفي العدمي للقيمة العليا التي تشير أيضًا إلى عدم القدرة على الترميز، أو التفكير، أو الاضطلاع بالمعاناة. وتثير العدمية عند دستويـﭭسكي ثورة المؤمن ضد التحامل المتعالي. سوف يُظهر المحلل النفسي افتتان الكاتب، الملتبس على الأقل، فضلًا عن بعض الدفاعات الهوسية الموضوعة ضد المعاناة والاكتئاب الرائع، والتي يغذيها –بالتأكيد- بوصفها بديلاً ضروريًّا ومتعارضًا مع كتابته.
إن هذه المتاريس البائسة: التخلي عن الأخلاق، وفقدان معنى الحياة، والإرهاب أو التنكيل، شائعة للغاية في واقعنا، ولا تتوقف عن تذكيرنا بذلك. أما فيما يخص الكاتب فلقد اختار الانتساب إلى الأرثوذوكسية الدينية. هذه النزعة الظلامية، التي ندد بها فرويد على نحو عنيف للغاية -بعد كل شيء- أقل ضررًا على الحضارة من النزعة العدمية الإرهابية. ما يتبقى علاوة على ذلك، مع الأيديولوجيا وفيما ورائها، فالكتابة: صراع مرير ومستمر لتأليف عمل، من الحافة إلى الحافة، مع ملذات التدمير والفوضى التي لا تحصى.
الدين أو الهوس أو ابنة البارانويا، أهُم فقط الثقل الموازن لليأس؟ إن الإبداع الفني يندمج بها ويستنفدها. وهكذا تقودنا الأعمال الفنية إلى إقرار علاقات أقل تدميرًا وأكثر هدوءًا، مع أنفسنا ومع الآخرين.
موت بلا قيامة.. مرحلة نهاية العالم
أمام لوحة المسيح الميت لـ«هولبين»، ميشكين، كما يبوليت في «الأبله» (1869) يساورهما الشك في القيامة. الموت الطبيعي جدًّا، القاسي جدًّا، لهذه الجثة لا يبدو أنه ترك مكانًا للخلاص:
«إن منظر هذا الوجه المتورم، المغطى بالجروح الدامية مرعب».
تكتب آنا جريجوريفنا دوستويـﭭسكايا في مذكراتها(30)، أيضًا:
«أضعف من أن أستمر في المشاهدة لفترة طويلة، خلال الموقف الذي كنت موجودة فيه حينئذ، انتقلت إلى قاعة أخرى. لكن زوجي كان يبدو ضائعًا. يمكن أن نجد في «الأبله» انعكاس هذا الأثر القوي جدًّا الذي تركته هذه اللوحة عليه. عندما رجعت بعد عشرين دقيقة، كان لا يزال هناك، في نفس المكان، مقيدًا. وجهه المتأثر يحمل هذا التعبير الفزع الذي لاحظته كثيرًا للغاية في بداية نوبات الصرع. أمسكته برقة بذراعي، اصطحبته إلى القاعة وأجلسته على مقعد، منتظرين من لحظة لأخرى النوبة، التي لحسن الحظ، لم تحدث. هدأ تدريجيًّا، لكن عند الخروج من المتحف لم يصر على أن يعاود رؤية هذه اللوحة مرة أخرى»(31).
زمن ملغي ترزح تحته هذه اللوحة، فحتمية الموت تمحو أي وعد بخطة ما، أو باستمرارية أو قيامة. مرحلة نهاية العالم التي يعرفها دستويـﭭسكي جيدًا: يبتعثها أمام رفات زوجته الأولى ماريا دميتريـﭭنا Maria Dmitrievna («لم يعد هناك وقت»)، في إشارة إلى نهاية العالم(Ⅹ، 6)، والأمير ميشكين يتحدث عن ذلك بنفس الكلمات إلى روجوجين Rogojine («في هذه اللحظة أشعر أنني أفهم الكلمة الفريدة» لم يعد هناك وقت»)، ولكن بتأمل، كما كيريلوﭪ، النسخة المحمدية السعيدة، لهذا التعليق الوقتي. بالنسبة لدستويـﭭسكي، تعليق الزمن، إنه تعليق الإيمان بالمسيح:
«إذن كل شيء يعتمد على هذا: فلنقبل المسيح كمثالية نهائية على الأرض. وهذا يعني أن كل شيء يعتمد على الإيمان بالمسيح. إذا ما آمنا بالمسيح سنؤمن أننا سنحيا على نحو خالد»(32).
لكن أي غفران، وأي سلام في مواجهة العدم الحتمي لهذا الجسم الخالي من الحياة؟ لهذه العزلة المطلقة في لوحة هولبين؟ الكاتب مضطرب، كما كان أمام جثة زوجته الأولى 1864.
ما هي اللباقة؟
معنى السوداوية؟ لا شيء سوى المعاناة السحيقة التي لا تستطيع أن تعطي دلالة لنفسها والتي، بعد أن تفقد المعنى، تفقد الحياة. هذا المعنى هو التأثير الأخرق الذي سوف يبحث عنه المحلل وبأقصى قدر من التعاطف، ما وراء التباطؤ المحرك واللفظي لاكتئاباته، من خلال نبرة صوتها أو من خلال تقطيع كلماتها الميتة، المبتذلة، المستهلكة، الكلمات التي اختفى منها أي نداء للآخر، في محاولة للانضمام إلى الآخر من خلال المقاطع، ومن خلال الشذرات، ومن خلال إعادة تأليفها(33). يتطلب هذا الاصغاء التحليلي النفسي اللباقة. ما اللباقة؟ الفهم حقًّا مع الغفران. الغفران: العطاء أكثر، والمراهنة على ما هو موجود، للتجديد، ولإعادة تشغيل المكتئب (هذا الغريب المنكفئ على جرحه)، ومنحه إمكانية لقاء جديد. ستظهر خطورة هذا الغفران في أحسن الأحوال من خلال المفهوم الذي يطوره دستويـﭭسكي فيما يخص معنى السوداوية: بين المعاناة والمرور إلى الفعل، فيمثل النشاطُ الجمالي غفرانًا. هنا تظهر المسيحية الأرثوذكسية لـدستويـﭭسكي التي تتشبع بها أعمال الفنان من العمق وحتى السطح. هنا ينشأ أيضًا -أكثر من تواطئه الخيالي مع الإجرامي- الشعور بالضيق الناجم عن نصوصه لدى القارئ الحديث المحاصَر بالعدمية.
في الواقع، إن أي تجديف حديث ضد المسيحية -حتى بما فيه تجديف نيتشه- هو تجديف ضد الغفران. بيد أن هذا الغفران المفهوم بوصفه رضا بمهانة ورخاوة ورفض للقوة لا يمكن أن يكون سوى الصورة التي نصنعها عن مسيحية منحطة. وعلى العكس، إن خطورة الغفران، كما تجرى في التراث اللاهوتي وكما يُرد اعتبارها من قبل التجربة الجمالية التي تتماهى مع الحقارة كي تعبرها وتعينها وتستنفدها، ملازمة لاقتصاد النهضة النفسية. وهكذا، تظهر على أي حال تحت الترحيب الحاد للممارسة التحليلية. من هذا المكان، إن «انحراف المسيحية» الموصوم بالعار من قبل نيتشه عند بسكال(34) ويوجد أيضًا منتشرًا بقوة من خلال تناقض الغفران الجمالي عند دستويـﭭسكي، هو بمثابة معركة قوية ضد البارانويا المعادية للغفران. مسار راسكولينكوﭪ Raskolnikov هو مثال لذلك الذي يعبر سوداويته، وإنكاره الإرهابي، وفي نهاية المطاف، اعترافه الذي يتضح أنه بعث.
الموت: عدم القدرة على الغفران
تكمن فكرة الغفران في كافة أعمال دستويـﭭسكي. وتجعلنا رواية «مذلون مهانون» (1861) نقابل، منذ الصفحات الأولى، جثة متجولة. هذا الجسم الذي يشبه ميتًا، لكنه في الواقع على وشك الموت، يتسلط على خيال دستويـﭭسكي، عندما سيرى لوحة هولبين في بازل 1869، بلا شك كان انطباعه هو العثور على معارف قديمة، أو شبح حميمي:
«ما أثر فيَّ أيضًا، هو نحافته الشديدة؛ لم يعد لديه جسم تقريبًا، صار كما لو كان مجرد جلد على عظم. عيناه واسعتان، لكن مطفأتان، تحوطهما دائرة زرقاء داكنة، كانتا تنظران دائمًا إلى الأمام مباشرة، وليس جانبيًّا أبدًا، ولا تريان شيئا أبدًا، وأنا واثق من ذلك [...] فيم يفكر؟ ذهبت بعيدًا عن نفسي، ماذا برأسه؟ هل لا يزال يفكر في شيء ما؟ وجهه ميت لدرجة أنه لم يعد يفصح عن أي شيء على الإطلاق»(35).
هذا ليس وصفًا للوحة هولبين، لكن لشخصية ملغزة يكون مدخلها من خلال «مذلون ومهانون». الأمر يخص عجوز يدعى سميث Smith، جد الصغيرة المصروعة نيللي Nelly، أب لفتاة «رومانتيكية وغير عقلانية» تلك التي لن يغفر لها أبدًا علاقتها مع الأمير ب. أ. ﭬالكوﭬسكي P.A. Valkovski، العلاقة التي ستُفني ثروة سميث، والفتاة ونيللي نفسها، أبناء غير شرعيين للأمير.
لدى سميث كرامة صلبة وقاتلة لذلك الذي لا يغفر. تدشن، من خلال الرواية، سلسلة من الشخصيات المُذَلَّة والمُهَانَة بعمق والتي لا تستطيع الغفران وتلعن في لحظة وفاتها، طاغيتها بعاطفية شديدة تسمح بالتخمين أنه حتى على عتبة الموت نفسه، فإن الظالم هو المرغوب. تلك هي حالة ابنة سميث ونيللي نفسها.
تتقابل هذه السلسلة بأخرى: سلسلة السارد الكاتب مثل دستويـﭭسكي، وعائلة إخمينيـﭯ Ikhmeniev التي -من خلال ظروف مشابهة لظروف عائلة سميث، «مذلون ومهانون»- ينتهي بها الأمر إلى الغفران، ليس للمتبجح ولكن للفتاة الضحية (سوف نعود إلى هذا الاختلاف عندما نصر على وصفة الجريمة التي لا تُمْحَى ولكنها تتيح للمصفوح عنه «استعادة طريقه»).
دعونا نؤكد الآن على استحالة الغفران: لن يغفر سميث لابنته ولا لـ ﭬالكوﭬسكي، ولن تغفر الأم لـ ﭬالكوﭬسكي ولا لأبيها الساخط. كما في رقصة جنائزية، تقود الإهانة بلا غفران الجولة وتقود «أنانية المعاناة» هذه إلى الحكم بالموت على الجميع داخل الحكاية وبواسطتها. يبدو أن رسالة خفية تُستخلص في أن: المحكوم عليه بالموت هو ذلك الذي لا يغفر. الجسم المهيض في الشيخوخة والمرض والوحدة، كل العلامات الفيزيقية للموت الحتمي، المرض والحزن نفسه يشيران بهذا المعنى إلى عدم القدرة على الغفران. يستنتج القارئ، بعد ذلك أن المسيح الميت نفسه سيكون مسيحًا متخيلًا بوصفه غريبًا على الغفران. كي يكون أيضًا «ميتا فعليًّا»، ذلك المسيح الذي لم يكن قد غُفر له ولن يغفر. على العكس، تظهر قيامته بوصفها أعلى مظهر للغفران: بإعادة ابنه إلى الحياة، يتصالح الأب معه، بل -الأكثر من ذلك- بإحيائه، يظهر المسيح للمؤمنين به أنه لم يغادرهم: «أتيت إليكم، يبدو أنه يقول، لتفهموا أني أغفر لكم».
أمر لا يُصَدَّق، غير أكيد، مُعجِز، ومع ذلك فإنه أمر أساسي للغاية في العقيدة المسيحية، وعلى حد سواء، في الجمالي والأخلاقي عند دستويـﭭسكي، فالغفران جنون تقريبًا في «الأبله». وحلٌّ خارق في «الجريمة والعقاب».
في الحقيقة، بعيد عن نوباته التشنجية، فإن الأمير ميشكين ليس «أبله» سوى لأنه بلا ضغينة. يُستخف به، ويُسب، ويُستهزئ به، ويهدد بالموت من قبل روجوجين، والأمير يغفر. تجد فيه الرحمة تحققها النفسي حرفيًّا: بعد الكثير من المعاناة، يأخذ على عاتقه بؤس الآخرين. كما لو كان قد لمس المعاناة الكامنة في الأعمال العدوانية، إنه يتجاوز، ويمحو، بل ويواسي مشاهد العنف التعسفي التي يعاني منها، حيث يستدعي دستويـﭭسكي بقوة التراجيدي والبشع اللذين يؤذيانه: فلنتذكر تعاطفه من أجل الحياة الجنسية لفلاحة شابة سويسرية، مكروهة من قريتها، تلك التي تعلم الأطفال الحب؛ أو السخرية الصبيانية، والمثارة بمودة من أجليا Aglaia أو بصدده، حيث لم ينخدع حتى في المظهر البوهيمي الذاهل؛ أو الهجوم الهيستيري من ناستاسيا فيليبوﭬنا Nastassia Philipovna، في لقاء الأمير الخائر الذي تعرف أنه الوحيد الذي فهمها؛ حتى طعنة السكين الذي ناوله إياها روجوجين في الممر المظلم لهذا الفندق حيث رأى بروست Proust عبقرية دستويـﭭسكي تتجلى بوصفه مخترعًا لمساحات جديدة. لقد صدم الأمير من أشكال العنف هذه، فالشر يؤذيه، والرعب أبعد ما يكون عن النسيان أو التحييد بداخله، لكنه يتعافى، وضيقه اللطيف يظهر «ذكاءً عظيمًا»، كما ستقول أجليا:
«لأنه لو كنت مريضًا عقليًّا فعليًّا (لو سمحت، لا تخبرني عن ذلك، أفهم أن ذلك وجهة نظر سامية) الذكاء العظيم، في المقابل، متطور لديك أكثر من أي منهم، لدرجة أنهم ليس لديهم أي فكرة. لأن هناك نوعين من الذكاء، الأول الذكاء الأساسي والآخر ثانوي. أليس كذلك؟»(36).
قاده هذا «الذكاء» إلى تهدئة عنفه وإلى انسجام المجموعة التي يظهر فيها، بالتالي، ليس بوصفه عنصرًا نكرة، غريبًا، غثاء(37)، ولكن بوصفه قائدًا روحيًّا، حكيمًا، لا يمكن تجاوزه.
هدف الغفران
ما الذي يستهدفه الغفرانُ؟ إنه يستهدف الإهانات بكل تأكيد، وأيَّ جرح معنوي أو بدني، وأخيرًا، الموت. سوء السلوك الجنسي في القلب من «مذلون ومهانون» ويصاحب عددًا من الشخصيات النسائية عند دستويـﭭسكي (ناستسيا، وفيليبوﭬنا، وجروشينكا، وناتاشا...) كما أنه موضح أيضًا في الانحرافات الذكورية (اغتصاب القاصرين من قبل ستاﭬروجين، على سبيل المثال) لتقديم أحد البواعث الرئيسة للغفران. ومع ذلك يبقى الموت هو الشر المطلق وأيًّا كانت لذة المعاناة أو الأسباب التي تقود البطل الدوستويفسكي إلى تخوم الانتحار والقتل، فإن دستويـﭭسكي يدين بشراسة القتلَ، أي الموت الذي يمنحه الإنسان. لا يبدو أنه يمييز جريمة القتل المجنونة عن القتل الذي يكون عقوبة أخلاقية يحكم بها رجال العدالة. إن كان ينبغي عليه إرساء تمييزٍ بين الاثنين، فإنه يفضل التعذيب والألم اللذين، بإحداثهما لغلمته، يبدو أنهما يهذبان، وبالتالي يؤنسنان القتل والعنف في نظر فنان(38) لا يغفر، في المقابل، الموت البارد المحتوم، الموت «النظيف» تمامًا بالمقصلة: إنه «أقسى أنواع العذاب». «من يستطيع أن يقول إن الطبيعة الإنسانية قادرة على تحمل هذه المحنة دون أن تصاب بالجنون؟»(39) وفي الواقع، بالنسبة للمحكوم بالمقصلة، فإن الغفران مستحيل. إن وجه «المحكوم في اللحظة التي سيقصل فيها، عندما يكون بالفعل على السقالة وينتظر أن يُربط بأرجوحة المقصلة(40)» يُذكر الأمير ميشكين بلوحة بازل: «عن هذا العذاب وهذا الكرب تحدث المسيح»(41).
دستويـﭭسكي نفسه حكم عليه بالموت، ثم صُفح عنه. أيأخذ الصفح أهميته من رؤية دستويـﭭسكي للجمال وللعدل، وللتراجيديا التي تُحل عقدتها في اللحظة الأخيرة؟ أمن الممكن أن يأتي الصفح بعد موت تم تخيُّله، أو تمت معايشته، إن جاز التعبير، والذي أشعل بالضرورة حساسية كهربائية -مثل حساسية دستويـﭭسكي- قد تكشف حقًّا عن هذا الموت: تمحوه، وتصالح المحكوم عليه مع سلطة الإدانة؟ إن زخمًا عظيمًا للتصالح مع سلطة التخلي -أصبح ثانية مثالية مرغوبة- هو بلا شك ضروري حتى تستعاد الحياة بالنظر إلى الوراء، وحتى يتأسس اتصال مع الآخرين(42). زخم يكمن غالبًا تحته الكرب المضطرب السوداوي للذات الميتة من قبل، ذات مرة، على الرغم من البعث على نحو معجز... يستقر التناوب في خيال الكاتب، بين ما لا يمكن تجاوزه من المعاناة، وتألق الغفران، مترنمًا بعودهما الأبدي في كل أعماله.
يقترح الخيالُ الدراماتيكي لـ دستويـﭭسكي -على نحو خاص- في شخصياته الممزقة، صعوبة، بل استحالة هذا الحب المتسامح. ربما نجد التعبير الأشد كثافة الناجم عن ضرورة واستحالة الحب المتسامح في ملاحظات الكاتب على موت زوجته الأولى ماريا دميتريـﭭنا: «أن يحب الإنسان كما يحب نفسه وفق تعاليم المسيح، هذا مستحيل. أيقيدنا قانون الفرد على الأرض؟ الأنا تمنع ذلك». ومع ذلك فإن حيلة الغفران والقيامة الضروريين للكاتب تتدفق في «الجريمة والعقاب» 1866.
من الحزن إلى الجريمة
يصف راسكولينكوﭪ نفسه كشخصية حزينة:
«فلتسمع، يا رازوميخين Razoumikhine [...] لقد بذلت كل أموالي [...] أشعر بالحزن، الحزن الشديد! مثل امرأة...حقًا... (43)»
وتراه أمه كسوداوي:
«تعرفين، يا دونيا Dounia، كنت أنظر لكما الآن فقط، تشبهينه تمامًا، ليس جسديًّا بقدر ما هو نفسيًّا، كلاكما [راسكولينكوﭪ وأخته دونيا] سوداوي، كدر ونزق، كلاكما متكبر ونبيل»(44).
كيف ينقلب هذا الحزن إلى جريمة؟ يُدرس دستويـﭭسكي هنا وجهًا جوهريًّا لديناميات الاكتئاب: التذبذب بين الأنا والآخر، والإسقاط على الأنا والكراهية ضد الآخر، والعكس بالعكس، التحول ضد الآخر بانتقاص قيمة الأنا. أيهما أولًا: الكراهية أم الانتقاص؟ يسمح المديح الدستويـﭭسكي للمعاناة بافتراض أن دستويـﭭسكي يفضل التقليل من قيمة الذات، وامتهانها، بل ما يشبه المازوخية تحت النظرة الصارمة للأنا العليا المبكرة والمستبدة. من هذا المنظور، فالجريمة هي رد فعل دفاعي ضد الاكتئاب: قتل الآخر يحمي من الانتحار. النظرية والفعل الإجرامي لـ راسكولينكوﭪ يبرهنان كليًّا على هذا المنطق. فالطالب الكئيب الذي يسمح لنفسه بالعيش كمتشرد يُعد -كما نذكر- «تصنيفًا للبشر كعاديين وخارقين». يعلي النوع الأول من شأن الإنجاب، أما الآخر فلديه ملكات ومواهب أن يقول، في محيطه، كلامًا جديدًا. «في [الفئة] الثانية، الكل ينتهك القانون؛ إنهم مدمرون أو على الأقل كائنات تحاول التدمير وفق وسائلها»(45). أينتمي هو نفسه لهذه الفئة الثانية؟ هذا هو السؤال القاتل الذي سيحاول أن يرد عليه الطالب السوداوي بأن يجرؤ أو لا على العبور إلى الفعل.
يُنتزع الفعلُ القاتلَ المكتئبَ من السلبية والكآبة، بمواجهته بالكائن الوحيد المرغوب الذي يمثل له التحريم المتجسد من قبل القانون والسيد: «أن تفعل مثل نابليون»(46). إن ارتباط هذا القانون المستبد والمرغوب الذي يعني التحدي ليس سوى شيء تافه، من الهوام. من هو المنتسب للهوام؟ هل هو ضحية القاتل، أم الطالب السوداوي نفسه، المُمَجَّد مؤقتًا كقاتل، لكنه يعرف نفسه على نحو عميق بأنه ساقط وبغيض؟ يدوم التشوش، ويبرز دستويـﭭسكي، بعبقريةٍ، تماهيَ المكتئبِ مع الكائنِ المكروه:
«العجوز ليست سوى عارض... أود أن أنقذ العاطفة بأسرع ما يكون، لم أقتل إنسانًا، بل مبدأ»(47).
«كل شيء هناك، يكفي أن يتجرأ! يزعزع البناء من أساساته وكل شيء يُدمر، يرسل كل شيء إلى الشيطان... حينئذ، أنا وددت التجرؤ وقتلت [...] لم أتصرف إلا بعد تأملات ناضجة وهذا ما ضيعني [...] أو أنه على سبيل المثال، لو سألت نفسي: هل الإنسان هوام؟ إنه ليس هوامًا بالنسبة لي. إنه ليس كذلك سوى بالنسبة لذلك الذي لا يَرِدُ على ذهنه مثل هذه الأسئلة، ذلك الذي يسير في طريقه إلى الأمام دون تساؤل... أردت قتل، سونيا Sonia، بلا ضمير، قتلت من أجلي، من أجلي فقط [...] كنت بحاجة إلى المعرفة وفي أقرب وقت ممكن إذا ما كنت من الهوام مثل الآخرين أم إنسانًا؟ لو كنت أستطيع عبور الحاجز»(48).
وفي النهاية:
«إنها نفسي من قتلتُ، نفسي وليس هي، نفسي»(49).
«وفي النهاية أنا لست سوى هامّة بلا تغيير... [...] لأنني ربما أكثر شرًّا، أكثر جهلًا من الهوام التي قتلت»(50).
توصلت صديقته «سونيا» إلى النتيجة نفسها:
«آه، ماذا فعلت، ماذا فعلت بنفسك؟»(51).
أم وأخت: أم أو أخت
بين القطبين القابلين للانعكاس من انتقاص القيمة والكراهية، والذات والآخر. لا يؤكد المرور إلى الفعل ذاتًا، ولكن وضعًا ذهانيًّا، يُنهي المعاناة في نفس وقت القانون. يتأمل دستويـﭭسكي ترياقين لهذه الحركة الكارثية: اللجوء إلى المعاناة والصفح. يتم هذا المسار بالتوازي وربما بفضل كشف تحتاني، مبهم، يصعب إدراكه في خضم تشابك السرد الدستويـﭭسكي، ولكنه مع ذلك يلتقط بشفافية مسرنمة من قبل الفنان و... من قبل القارئ.
تتقارب آثار هذا «المرض»، الشيء التافه أو «الهامّة»، نحو أم أو أخت الطالب التعس؛ المحبوبتين والمكروهتين، الساحرتين والبغيضتين، تجد هاتان المرأتان القاتل في لحظات فعله وتأمله الحاسمة وكمانعتين للصواعق، تجذبان نحوهما عاطفته الملتبسة، ما لم تكونا في الأصل. هكذا:
«تتسارع المرأتان نحوه. لكنه يظل ساكنًا، متجمدًا، كما لو أنه حُرم من الحياة فجأة؛ كانت قد صعقته فكرة مفاجئة ولا تحتمل. ولم يعد بإمكان ذراعاه أن تمتدا لاحتضانهما: «لا، مستحيل». تعانقه أمه وأخته، تقبلانه، تضحكان، تبكيان. تقدم خطوة للأمام، ترنح، تدحرج على الأرض، أغشي عليه»(52).
«أمي، أختي، كما كنت أحبهما! من أين يأتي أنني أكرههما الآن؟ نعم أكرههما، كراهية جسدية، لا أستطيع أن أتحمل وجودهما بجانبي [...] أممم! هي [أمه] ينبغي أن تكون مثلي [...] أوه! كم أكره العجوز الآن! أعتقد أنني سأقتلها ثانية لو بعثت!»(53).
عبر هذه الأقوال الأخيرة التي ينطق بها هاذيًا، يكشف راسكولينكوﭪ عن تشوشه بين ذاته المنحطة، وأمه، العجوز المغتالة... لماذا هذا التشوش؟
وتكشف حلقة سفيدريجايلوف Svidrigailov إلى حدٍّ ما السرَّ: فالإنسان الماجن الذي عرف في راسكولينكوﭪ قاتل السيدة العجوز، يرغب في أخته دونيا. الحزين راسكولينكوﭪ مستعد من جديد للقتل، لكن هذه المرة ليدافع عن أخته. القتل، والانتهاك، كي يحمي سره من المشاركة، حبه المحرم المستحيل؟ يعرف ذلك تقريبًا:
«أوه! لو كنت قد استطعت أن أكون وحيدًا، وحيدًا، بلا أي عاطفة، وأنا أيضًا لا أحب أحدًا. كان سيسير كل شيء على نحو مختلف»(54).
الطريق الثالث
يبدو الصفح بوصفه المخرج الوحيد، الطريق الثالث بين الجزع والقتل. يحدث ذلك عقب التنوير الإيروتيكي، ويظهر ليس بوصفه حركة للأمثلة كابحة العاطفة الجنسية، ولكن بوصفه رحلة. ملاك هذا الفردوس وفق سفر الرؤيا يسمى سونيا، عاهرة بالتأكيد تتعاطف وتهتم بأسرته البائسة، لكنها مع ذلك عاهرة. عندما تتبع راسكولينكوﭪ إلى سجن الأشغال الشاقة في موجة من التواضع وإنكار الذات، يطلق عليها المحكومون أمنا الحلوة والمخلصة(55). التصالح مع أم محبة لكن مخلصة بل عاهرة. أبعد من ذلك وعلى الرغم من «أخطائها»، تظهر بوصفها شرطًا للتصالح مع ذاته. تصبح «الذات» في النهاية مقبولة لأنها موضوعة من الآن بعيدة عن الولاية المستبدة للسيد. تصبح الأم الصافحة والمصفوح عنها أختًا مثالية وتحل محلنابليون. حينئذ يمكن أن يهدأ البطل المهان والمتحارب. ها نحن في المشهد الريفي الأخير: نهار مشرق ولطيف، أرض تغمرها الشمس، الزمن متوقف.
«يبدو أن الزمن كان قد توقف هناك في عصر إبراهيم وقبائله»(56).
وحتى لو بقي سبع سنوات في السجن، ترتبط المعاناة الآن بالسعادة:
«لكن راسكولينكوﭪ كان قد بُعث، كان يعرف ذلك، كان يشعر بذلك بكل كيانه. أما بالنسبة لـ سونيا فلم تكن تعيش سوى من أجله»(57).
لم تكن لتظهر هذه الخاتمة متجاوزة ما لم يتم تجاهل الأهمية الأساسية للأمثلة من خلال النشاط التصاعدي للكتابة. عبر راسكولينكوﭪ وشياطين أخرى متداخلة، أليست هذه دراماه الخاصة الواهنة التي يحكيها الكاتب؟ الخيال هو هذا المكان الغريب حيث تهدد هوية الذات، تضيع على عتبة الشر، والجريمة أو عمه الرموز، حتى تجتاز كل ذلك وتشهد عليهمن مكان آخر. فضاء مزدوج، لا يمكنه إلا أن يتعلق بقوة بالمثالي الذي يسمح للعنف المدمر أن يعبر عن نفسه بدلًا من أن يحدُث. إنه التسامي، إنه الحاجة للغفران.
أبدية الغفران
الغفران لا تاريخي. يكسر تسلسل الآثار والأسباب، والعقاب والجرائم، ويُعلق زمن الأفعال. ينفتح فضاء غريب على هذه الديمومة التي ليست فضاء اللاوعي الهمجي المشتهى والمميت، لكن نظيره: تساميه بمعرفة السبب، وتناغم غرامي لا يجهل أشكال عنفه لكن يحتفي بها، في مكان آخر. وبمواجهات تعليق الزمن والأفعال من خلال أبدية الغفران، نفهم هؤلاء الذين من أجلهم فقط يمكن أن يغفر الله(58). مع ذلك فإنه في المسيحية، نجد أن التعليق بالتأكيد الإلهي للجرائم وللعقاب هو قبل أي شيء من صنع البشر.
نُصر على أبدية الغفران هذه. إنها ليست العصر الذهبي للأساطير القديمة. عندما يتأمل دستويـﭭسكي هذا العصر الذهبي، يقوم بالإعلان عن أحلام يقظته من خلال ستاﭬروجين Stavroguine (الممسوسون)، وﭬيرسيلوﭪ Versilov (المراهق) وفي «أحلام رجل مضحك» (يوميات كاتب 1877). يتخذ كدعم «أسيس وجالاتيا» Acis et Galatee لـ كولود لورون Claude Lorrain.
من خلال طباق حقيقي مع لوحة «المسيح الميت» لـ هالوبين Holbein، هذا التمثيل للحب العذري بين الراعي الشاب «أسيس» والحورية «جالاتيا» تحت النظرة الغاضبة -بل ولفترة: النظرة المقهورة- من بوليفيرني Polypherne المحب الحالي هو وجه العصر الذهبي لزنا المحارم، الفردوس ما قبل الأوديبي النرجسي. العصر الذهبي هو خارج الزمن لأنه ينسحب من رغبة قتل الأب، ويغرق في استيهام القدرة الكلية للابن داخل «أركاديا النرجسية»(59). وهكذا كيف شعر ستاﭬروجين بذلك:
«توجد في متحف درسدن لوحة لـ كلود لورين التي ترسم في الكتالوج تحت عنوان «أسيس وجالاتيا»، على ما أعتقد. أنا كنت أطلق عليها، ولا أعرف لمَ: العصر الذهبي [...]. إنها اللوحة التي أراها في الحلم، ومع ذلك ليس كلوحة، لكن كواقع. كانت كذلك في اللوحة، زاوية من الأرخبيل اليوناني، وكنت، على ما يبدو، قد عدت ثلاثة آلاف سنة للخلف. أمواج زرقاء ومداعبة، وجزر وصخور، وشواطئ مزدهرة، بعيدًا، وبانوراما فاتنة، ونداء الشمس الغاربة... لا تستطيع الكلمات وصف ذلك. كان هنا مهد الإنسانية، وكانت تلك الفكرة تملأ نفسي بحب أخوي. إنه الفردوس الأرضي؛ تنزل الآلهة من السماء وتتحد بالبشر؛ هنا كانت تدور المشاهد الأولى للأسطورة. كانت تعيش أجمل إنسانية. يستيقظ البشر وينامون سعداء ووديعين؛ تدوي الغابات بأغانيهم المبهجة؛ ويتدفق فائض قوتهم الوفيرة في الحب، وفي الفرح الساذج. شعرت بذلك، بينما أميز المستقبل الضخم الذي ينتظرهم والذي لم يرتابوا فيه حتى، وقلبي يرتجف من هذه الأفكار. أوه! كم كنت سعيدًا أن قلبي يرتجف، وأنني استطعت أخيرًا الحب! تسلط الشمس أشعتها على الجزر وعلى البحر وتسر بأطفالها الجميلين. منظر بديع! وهمٌ سامٍ! حلم أكثر من مستحيل للجميع، لكن الإنسانية منحته كل قواها، من أجله ضحت بكل شيء؛ باسمه مات المرء على الصليب، وقتل الأنبياء، بدونه لا يرغب الناس في الحياة، بدونه لا يستطيعون أيضًا الموت [...]. لكن الصخور والبحر، والأشعة المائلة للشمس الغاربة- كل ذلك، كان يبدو لي أنني ما زلت أراه عندما كنت أستيقظ وأفتح عينيَّ المغرورقتين حرفيًّا بالدموع، للمرة الأولى في حياتي [...]. وفجأة تذكرت العنكبوت الأحمر الصغير. رأيته كما كنت قد تأملته على ورقة نبات إبرة الراعي، فيما كانت الشمس تفيض بأشعتها المائلة كما في هذا الوقت الراهن. ثمة شيء ما حاد دخلني. هكذا بالضبط كانت تجري الأمور»(60).
إن أحلام يقظة العصر الذهبي هي في الحقيقة إنكار للذنب. وعلى الفور بعد لوحة كلود لورين، يرى ستاﭬروجين في الحلم وحش الندم الصغير، العنكبوت، الذي يحجزه في شبكة هذا الوعي التعيس لكونه تحت طغيان قانون قمعي ومنتقم، حيث كانت الجريمة هي رد الفعل إزاءه تحديدًا. يقدم عنكبوت الذنب صورة للصغيرة ماتريوشا Matriocha المغتصبة والمنتحرة. بين أسيس وجالاتيا، أو العنكبوت، بين الهروب من خلال التقهقر، أو الجريمة التي تُشعر بالذنب في نهاية المطاف، يبدو ستاﭬروجين ممزقًا. ليست لديه إمكانية الوصول إلى وساطة الحب، إنه غريب على عالم الغفران.
وبطبيعة الحال، فإن دستويـﭭسكي هو من يتخفى تحت قناع ستاﭬروجين، وﭬيرسيلوﭪ والرجل المضحك الحالم بالعصر الذهبي. لكنه لم يعد يستعير قناعًا عندما يصف مسرح الغفران بين راسكولنيكوﭪ وسونيا: كفنان ومسيحي، إنه الراوي، الذي يضطلع بحيلة هذه الصورة الغريبة التي هي الخاتمة - الغفران لـ«الجريمة والعقاب». المشهد بين راسكولنيكوﭪ وسونيا، يذكرنا بذلك المشهد بين أسيس وجالاتيا، ومن خلال الفرح الرعوي والإشراق الفردوسي اللذين يخضبانه، لا يشير إلى لوحة كلود لورين ولا إلى العصر الذهبي. غريب هو العصر الذهبي الذي يقع في الواقع في قلب الجحيم، في السجن، بالقرب من هنجر المحكوم عليهم. يستحضر غفران سونيا التقهقر النرجسي لمحب زنا المحارم، ولكن لا يمتزج به: يعبُر راسكولنيكوﭪ فجوة السعادة الغرامية من خلال انغماسه في قراءة قصة لازار (أليعازر) Lazare وفقًا للإنجيل الذي تعيره سونيا إياه.
إن وقت الغفران ليس وقت المطاردة ولا وقت الكهف الأسطوري «ذي القبة الصخرية حيث لا يشعر المرء بالشمس في ذروة حرارتها ولا بالشتاء»(61)، بل هو وقت تعليق الجريمة، وقت وصفها الوصف الذي يعرف الجريمة ولا ينساها، ولكن دون التعمية على رعبها، دون الرهان على بداية جديدة، أو على قيامة للشخص(62):
«ترك راسكولنيكوﭪ الهنجر، وجلس على كومة من الخشب مكدسة على الجرف وبدأ يفكر في النهر الواسع والموحش. من هذا الشاطئ المرتفع اكتشف مساحة شاسعة من البلاد. من الشاطئ المقابل والبعيد جاءت أغنية يدوي صداها في آذان السجين. هناك، في السهوب الهائلة، التي تغمرها الشمس، حيث كانت تظهر خيام البدو هنا وهناك، كبقع سوداء تلحظ بالكاد،. كانت الحرية، وكان يعيش الرجال الذين لم يشبهوا في شيء أولئك المحكومين بالسجن. بدا وكأن الوقت قد توقف في عصر إبراهيم وقبائله. كان راسكولنيكوﭪ يحدق على مدى البصر، عيناه ثابتتان، دون أن تتحركا. لم يعد يفكر. كان يحلم ويتأمل، لكن في نفس الوقت كانت تكدره موجة قلق.
فجأة وجدت سونيا نفسها إلى جانبه. كانت قد اقتربت بهدوء وجلست بجانبه. [...] ابتسمت للسجين بهيئة ودودة وسعيدة، ولكن، كالمعتاد، مدت له يدها بخجل. فجأة، وبدون معرفة السجين كيف حدث ذلك، ألقت به قوة غير مرئية عند قدمي الفتاة. بدأ يبكي، معانقًا ركبتيها. في البداية، كانت خائفة بشكل رهيب وأصبح وجهها شاحبًا على نحو مميت. قفزت إلى قدميه ونظرت إليه مرتجفة، لكنها في الوقت نفسه فهمت كل شيء. سعادة لا نهائية أشرقت في عينيها. فهمت أنها تحبه، لم تكن تستطيع الشك في ذلك. كان يحبها حبًّا لا حدود له: إذن لقد وصلت اللحظة التي طال انتظارها»(63).
يبدو هذا الغفران الدستويـﭭسكي يقول:
حبي، أستبعدك بعض الوقت من الحكاية، وأعتبرك طفلًا، وهو ما يعني أنني أدرك الينابيع اللاواعية لجريمتك وأتيح لك التبدُّل. ولكي يكون اللاوعي جزءًا من قصة جديدة لا تعتبر العودَ الأبديَّ لدافعِ الموتِ من خلال دورة الجريمة/ العقاب، يجب أن ينتقل عبر حب المغفرة، ويتحول إلى حب المغفرة. تطبع ينابيع النرجسية والأمثلة علاماتها على اللاوعي وتعيد تشكيله. لأن اللاوعي غير محدد البنية كلغة، ولكن مثل جميع علامات الآخر، بما في ذلك –وخاصة- الأكثر تقادمًا، «السيميائية»، المصنوعة من الحسية الذاتية قبل اللفظية التي تعيدها لي الخبرة النرجسية أو العاطفية. يجدد الغفران اللاوعي لأنه يسجل الحق في التقهقر النرجسي من خلال التاريخ ومن خلال الكلام.
وهذان يتم تعديلهما. فهما ليسا هروبًا خطيًّا إلى الأمام، ولا عودة أبدية لتكرار موت الانتقام، ولكن دوامة تتبع مسار الدافع القاتل ومسار الحب - الانبعاث.
من خلال تعليق السعي التاريخي بفضل الحب، يكشف الغفران عن الإمكانات المتجددة الخاصة بالإشباع النرجسي والأمثلة الداخلية في علاقة الحب. وفي الوقت نفسه، يُؤخذ في الاعتبار سجلان للذاتية: السجل اللاواعي الذي يوقف الزمن من خلال الرغبة والموت، وسجل الحب الذي يعلق اللاوعي القديم والتاريخ القديم، ويبدأ إعادة بناء شخصية في علاقة جديدة من أجل آخر. لا وعيي هو إعادة الكتابة وراء هذه الهبة التي يهبني إياها شخص آخر لعدم إدانة أفعالي.
الغفران لا يغسل الأفعال. إنه يثير اللاوعي بموجب الأفعال ويجعله يلتقي بعاشق آخر: آخر لا يدين ولكنه يسمع حقيقتي من خلال قابلية الحب، ولهذا السبب نفسه يُسمح بميلاد جديد. الغفران هو المرحلة المضيئة من الأبدية اللاوعية المظلمة: المرحلة التي تُغير فيها هذه الأخيرة القانون وتتبنى التعلق بالحب كمبدأ لتجديد الآخر والذات.
الغفران الجمالي
ندرك خطورة مثل هذا الغفران مع الرعب غير المقبول ومن خلاله. ويمكن إدراك هذه الخطورة عبر الاستماع التحليلي الذي لا يدين ولا يحسب، ولكنه يحاول حل المسألة وإعادة تكوينها. وتتحقق دوامتها الزمانية في وقت الكتابة. ونتيجة الانفصال عن لا وعيي من خلال تحول جديد إلى آخر جديد أو إلى مثل أعلى جديد، فأنا قادر على كتابة دراما عنفي ويأسي غير القابلين للنسيان مع ذلك. وقت هذا الانفصال وهذه البداية الجديدة -الكامن في فعل الكتابة نفسه- لا يظهر بالضرورة في المواضيع السردية التي لا يمكن أن تكشف سوى عن جحيم اللاوعي، ولكنه يمكن أيضًا أن يعبر عن نفسه في حيلة الخاتمة، مثل خاتمة الجريمة والعقاب، التي تعلق مغامرة رومانتيكية قبل أن تبعثها مجددًا مع رواية جديدة. إن الجريمة التي لا تنسى -ولكنها دالة من خلال الغفران والرعب المكتوب- هي شرط الجمال. ليس هناك جمال بعيدًا عن الغفران الذي يتذكر الوضاعة ويرشحها بواسطة العلامات المُزَعزِعة، والمموسِقة، المجددة حسيًّا للخطاب الغرامي. الغفران جمالي، والخطابات (الأديان والفلسفات والأيديولوجيات) التي تلتصق بديناميات الغفران تشرط مسبقًا الانبثاق الجمالي في مدارها.
يستوجب هذا الغفران في البداية إرادة أو فرضية أولى أو مخططًا: المعنى موجود. الأمر لا يعني بالضرورة إنكار اللامعنى أو التمجيد الهوسي ضد اليأس (حتى لو -في عدد من الحالات- قد تهيمن هذه الحركة). هذه البادرة لتأكيد ونقش المعنى التي يحملها الغفران في ذاته، كأنها بديل تآكل المعنى، والكآبة والوضاعة. بفهمها، يتم زحزحتها، وباستيعابها، يتم تحويلها وربطها من أجل شخص آخر. «يوجد معنى»: بادرة انتقالية بارزة توجِد ثالثًا من أجل آخر وبواسطته. ويتجلى الغفران أولًا وقبل كل شيء كإعداد لشكل. وهذا الشكل له تأثير التشريع، الفعل، الخلق. تشكيل العلاقات بين الأفراد المهانين والمذلين: تناغم المجموعة. وتنسيق العلامات. وانسجام العمل، دون تفسير، ودون شرح، ودون فهم التكنيك والفن. ويوضح الجانب «الأساسي» لمثل هذا الفعل لماذا لديه القدرة على الوصول إلى ما وراء الكلمات والذهنيات، والمشاعر والأجسام الممزقة. ومع ذلك، فإن هذا الاقتصاد ليس بدائيًّا. إمكانية منطق التبديل (الإلغاء) الذي ينطوي عليه (اللامعنى والمعنى، هزة إيجابية ودمج عدمه الممكن) هو ناجم عن تعلق الذات الصلب بالمثل الأعلى الملتزم. ذلك الذي في مجال الغفران -الذي يمنحه والذي يقبله– هو قادر على التماهي مع أب، أب خيالي معه، بالتالي، هو مستعد للتأقلم مع قانون رمزي جديد.
إن الإنكار مشارك في عملية التبديل هذه أو المصالحة التماهوية. فهو يوفر متعة ضارة ومازوخية، من خلال عبور المعاناة نحو تأكيد العلاقات الجديدة التي هي بمثابة الغفران وكذلك العمل. ومع ذلك، على عكس إنكار الإنكار الذاتي الذي يلغي الدال ويؤدي إلى الكلام المفرغ من الكآبة(64)، تدخل عملية أخرى هنا في اللعبة لضمان الحياة الخيالية.
الأمر يختص بغفران جوهري في التسامي، يقود الذات إلى تماهٍ كامل (واقعي وخيالي ورمزي) مع إلحاح المثالي نفسه(65). وهو بسبب الحيلة المعجزة لهذا التماهي غير المستقر دائمًا، وغير المكتمل، بل والثلاثي باستمرار (واقعي، وخيالي، ورمزي) فإن الجسم المعاني للصافح -كما للفنان- يخضع لتغيير: «تبديلية»، كما يصفها جويس، إنها تسمح له أن يعيش حياة ثانية، حياة الشكل والمعنى، ممجدة نوعًا ما أو اصطناعية في نظر أولئك الذين ليسوا هناك، ولكنها هي الشرط الوحيد لبقاء الذات على قيد الحياة.
شرق وغرب: بواسطة الابن أم الروح القدس
المصدر الأوضح لمفهوم الغفران الذي ستطوره المسيحية لقرون يعود وفقًا للأناجيل إلى القديس بولس(66) والقديس لوقا(67). ومثل كل المبادئ الأساسية للمسيحية، سيتم تطويره لدى القديس أوجستين، ولكن لدى القديس جون الدمشقي (القرن السابع عشر) سوف نجد أقنوم «عطف الأب» (يودوكسيا)، و«رحمة العطاء» (أوسبلانخنا) و«التفضل» (الابن ينزل إلينا) (سينكاتاباسيس). بالمقابل، يمكن تفسير هذه المفاهيم بِعَدِّها خصوصية المسيحية الأرثوذكسية حتى في انفصال الابن/ الروح القدس.
يبدو أن اللاهوتي قد حدد بعمقٍ الإيمانَ الأرثوذكسيَّ الذي يعبر عن نفسه بقوة لدى دستويـﭭسكي/ ويمنح التجربة الداخلية الخاصة برواياته هذه الكثافة العاطفية، هذه العواطف الشجية الباطنية المستغربة للغاية بالنسبة للغرب. هذا هو القديس سيميون اللاهوتي الجديد (999-1022)(68). قصة تحول هذا الأمي إلى المسيحية نصفها بالأسلوب البولسي (نسبة للقديس بولس):
«وأنا دائم البكاء، ذهبت باحثًا عنك، غير معروف، لقد نسيت كل شيء... ثم ظهرت، أنت، غير مرئي، بعيد المنال... يبدو لي، يا رب، أنك، بلا حراك، تنتقل، أنت، مستديم، كنت تتغير، أنت، من دون هيئة، تتخذ وجهًا، وكنت متألقًا ويبدو لي أنك تتجلى لي كليًّا في كل شيء...»(69).
يفهم القديس سيميون الثالوث بوصفه انصهارًا لاختلافات الأشخاص الثلاثة، ويعلن ذلك بشكل مكثف من خلال استعارة النور(70).
النور والأقانيم، والوحدة والتجليات: هذا منطق الثالوث البيزنطي(71). على الفور يجد هذا المنطق لدى سيميون معادله الأنثروبولوجي:
«كما أنه من المستحيل أن يكون الإنسان كلمة أو روح من دون نفس، لذلك فمن المستحيل التفكير في الابن مع الآب من دون الروح القدس [...] لأن روحك، وكذلك نفسك، هي في فطنتك وفطنتك كلها هي في كلمتك وكل كلمتك هي في كل روحك، من دون انفصال ودون ارتباك. إنها صورة الله فينا»(72).
وبهذه الطريقة، يُثبت المؤمن نفسه بالاندماج مع الابن والروح:
«أشكرك على أنك، دون رتباك، ومن دون تغيير، جعلت روحَ قدسٍ واحدًا معي، على الرغم من أنك الله قبل كل شيء، أصبحت لي كل شيء في كل شيء»(73).
هنا نلمس «أصالة العقيدة». وهي سوف تؤدي، من خلال العديد من الجدل المؤسسي والسياسي، إلى الانفصال الذي تم في القرن الحادي عشر وأنجز مع الاستيلاء على القسطنطينية من قبل اللاتينيين في 1204. وعلى المستوى اللاهوتي البحت، إنه سيميون أكثر من فوتيوس، هو الذي صاغ المذهب الشرقي بواسطة الابن المعارض للروح القدس عند اللاتينيين. الإصرار على الروح القدس يؤكد على هوية الحياة في الروح والحياة في المسيح، وعلم الظواهر الروحية القوي هذا يعثر في الآب على أصله. ومع ذلك، فإن هذا الإلحاح الأبوي ليس مجرد مبدأ للسلطة أو سبب ميكانيكي بسيط: في الآب، يفقد الروح أهميته ويتماهى مع ملكوت الله المُعرَّف من خلال التحولات الجنينية، والإزهارية، والمغذية والإيروتيكية، التي تشير إلى -فيما وراء الطاقة الكونية التي تعتبر في كثير من الأحيان خاصة بالشرق- الانصهار الجنسي الصارخ مع الشيء في حدود إمكانية تسميته(74). من خلال هذه الدينامية، تبدو الكنيسة نفسها وكأنها هيئة جسم الروح soma pneumatikon، «سر»، أكثر منها مؤسسة على غرار الممالك.
هذا التماهي الانتشائي للأقانيم الثلاثة فيما بينها وبين المؤمن مع الثالوث لا يؤدي إلى مفهوم الاستقلال الذاتي للابن (أو المؤمن)، ولكن إلى انتماء روحاني لكل واحد بالآخرين، وهو ما يفسر تعبير بواسطة الابن (الروح القدس ينحدر من الآب بواسطة الابن) مقابل الروح القدس (الروح القدس ينحدر من الأب والابن(75)).
وكان من المستحيل، في ذلك الوقت، العثور على تسويغ عقلاني لهذه الحركة الصوفية الباطنية في الثالوث والعقيدة، حيث إنه دون أن يفقد الروح القدس قيمته الشخصية يندمج مع القطبين الآخرين، وفي الوقت نفسه، يعطيهما، وراء قيمة هويتهما أو سلطتهما المتميزة، عمقًا سحيقًا، مدوخًا، وبالتأكيد أيضًا جنسيًّا، وفيه تستقر التجربة النفسية للفقدان وللنشوة. إن العقدة البوروميوية التي استخدمها لاكان Lacan بوصفها كناية عن الوحدة والاختلاف بين الواقعي والخيالي والرمزي، ربما تسمح لنا بالتفكير في هذا المنطق، إذا كان من الضروري عقلنة ذلك. ولكن على وجه التحديد لا يبدو أن هذا هو غرض اللاهوتيين البيزنطيين من الـxp إلى القرن الثالث عشر، المشغولين بوصف ذاتية جديدة ما بعد أنتيكية، بدلًا من إخضاعها للعقل الحالي. من ناحية أخرى، فإن آباء الكنيسة اللاتينية، الأكثر منطقية، والذين اكتشفوا للتو أرسطو (حينئذ كان قد تشبع الشرق به ولا يسعى سوى للتمايز عنه)، منطقوا الثالوث من خلال رؤية أن الله جوهر فكري بسيط قابل للتوضيح من خلال ثنائيات: يلد الآب الابن. الآب الابن ككل ينبثق عنهما الروح القدس(76). تم تطوير هذه الحجة عن الروح القدس من قبل علم القياس الذي وضعه أنسيلم كانتوربوري(77) في مجلس باري في عام 1098، وسوف يتم تناولها وتطويرها من قبل توما الأكويني. سيكون لها ميزة ترسيخ السلطة السياسية والروحية للبابوية من جهة، ومن ناحية أخرى، الحكم الذاتي والعقلانية للشخص المؤمن الذي تماهى مع ابن له سلطة وهيْبة على قدم المساواة مع الآب. وهكذا ما اكتسبه من خلال المساواة، ومن ثم من خلال الأداء والتاريخانية، ربما يكون قد فقده في تحديد الهوية، بمعنى عدم الاستقرار الدائم للهوية.
التمايز والتماثل، بدلًا من الحكم الذاتي والمساواة، يربطان في المقابل هذا الثالوث الشرقي، الذي أصبح بالتالي مصدرًا للنشوة والتصوف. وسوف تغذي الأرثوذكسية ذلك بأن تعبد فيما وراء التقابلات الشعور بالكمال، حيث كل شخص من الثالوث يرتبط ويتماهى مع الآخرين تمامًا: انصهار إيروتيكي. في هذا المنطق «البوروميوي» للثالوث الأرثوذكسي، ينفتح المجال النفسي للمؤمن على أعنف حركات الاندفاعات نحو السرور أو الموت، والتي تتميز ببساطة لامتزاجها بوحدة الحب الإلهي(78). وعلى هذه الخلفية النفسية يجب أن نفهم جرأة الخيال البيزنطي في تمثيل الموت وعاطفة المسيح في فن الأيقونات، فضلًا عن ميل الخطاب الأرثوذكسي لاستكشاف المعاناة والرحمة. يمكن أن تضيع الوحدة (وحدة المسيح على جولجوثا، ووحدة المؤمن من خلال الإذلال أو الموت)، ولكن في حركة العقدة الثالوثية يمكن لهذه الوحدة استعادة صلابتها المؤقتة بفضل الخير والرحمة، قبل استئناف هذه الدورة الأبدية للاختفاء والظهور.
«أنا» ابن وروح قدس
فلنتذكر، بهذا المعنى، بعض الأحداث اللاهوتية، النفسية، التصويرية التي تعلن الانقسام، وفيما بعد، الروحانية الروسية، أساس الخطاب الدستويـﭭسكي. بالنسبة لـ سيميون اللاهوتي الجديد، لا ينفصل النور عن «الحنان المؤلم» katanyxis الذي ينفتح على الله بالخشوع وفيض من الدموع، لأن الحنان يَعرِف من البداية الغفران. من جهة أخرى، يقود المفهوم الروحاني لسر القربان المقدس الذي عرضه على سبيل المثال القديس ماكسيموس المعترف (القرن الثاني عشر)، إلى الاعتقاد بأن يسوع في نفس الوقت مؤله ومصلوب، وأن الموت فوق الصليب مغروس في الحياة وحَيٌّ. انطلاقًا من ذلك، سيسمح الرسامون لأنفسهم بعرض موت المسيح فوق الصليب: لأن الموت حي، الجسم الميت جسم عفيف قد تحفظه الكنيسة بوصفه صورة وواقعًا.
منذ القرن الحادي عشر أُثْرِيَ الرسم التخطيطي في العمارة وفن الأيقنة الكنسي بتمثيل المسيح محاطًا بالرسل (الحواريين)، يناولهم الكأس والخبز: مسيح «يُقدِّم ويُقَدَم»، حسب صيغة القديس «يوحنا فم الذهب». كما يؤكد ذلك أوليفييه كليمنت Olivier Clement، حتى فن الموزاييك يفرض حضور الضوء، منحة النعمة والروعة، وفي نفس الوقت يدعو التصوير الأيقوني لدورة مريم ولآلام المسيح إلى تماهي الأشخاص المؤمنين مع شخوص الكتابة. هذه النزعة الذاتية، من خلال شعاع النعمة، تجد أحد تعبيراتها المميزة في تصوير آلام المسيح: مثل الإنسان، يتألم المسيح ويموت. ومع ذلك يستطيع الرسام أن يعرض ذلك وأن يراه المؤمن، فإذلاله ومعاناته لأنهما غارقان في حنان الرحمة من أجل الابن في الروح القدس. كما لو أن القيامة جعلت الموت مرئيًّا وفي نفس الوقت أكثر إثارة للشفقة أيضًا. كانت مشاهد الآلام قد أضيفت إلى دورة الطقوس الدينية التقليدية 1164، في «نيريزي»، الكنيسة المقدونية المؤسسة من قبل الكومينيون.
ومع ذلك جُمِّدَ هذا التقدم لفن الأيقونات البيزنطي فيما يتعلق بالتراث الكلاسيكي أو اليهودي فيما بعد. كانت النهضة لاتينية، ومن المرجح أن الأسباب السياسية والاجتماعية أو الغزوات الأجنبية لم تكن وحدها ما ساهمت في خسوف الفن التصويري الأرثوذكسي من خلال الرسم التخطيطي. بالتأكيد المفهوم الشرقي عن الثالوث أعطى استقلالية أقل للفرد عندما لم يخضعه لسلطة، ولم يشجعه بالتأكيد على أن يتحول إلى نوع من «الفردانية الفنية.» ومع ذلك، في أقل المستويات إثارة، وأكثرها حميمية، وبالتالي أقلها سيطرة على الفن اللفظي، حدث هذا النمو بالفعل، على الرغم من التأخير الذي نعرفه، على سبيل المكافأة، مع الاستخلاص الكيميائي للمعاناة وخاصة في الأدب الروسي.
بعد أن جاءت في وقت متأخر بعد الانطلاقة البيزنطية وبعد انطلاقة سلاف الجنوب (البلغار والصرب)، أبرزت الكنيسة الروسية نزعاتها الروحانية والصوفية. التراث ما قبل المسيحي، الوثني، الديونيسي، الشرقي، طبع البيزنطية الأرثوذكسية المنصرمة في روسيا بذروة لم تصلها أبدًا: إن الخلاصيين «khlysty» هم طائفة صوفية مستلهمة من المانوية، التي تفضل الإفراط في المعاناة والنزعة الإيروسية من أجل تحقيق انصهار كامل للمشيعين مع المسيح. ظهور الإلهي في الأرض (تلك الفكرة التي سوف تؤدي إلى فكرة أن موسكو بمثابة «روما ثالثة»، بعد القسطنطينية... بل أيضًا أدت إلى الأممية الثالثة، كما يُعقب البعض)؛ تمجيد الخلاص الذاتي، وخاصة أقنوم الحنان oumiliénié، عند مفترق طرق المعاناة والفرح في المسيح. إن حركة «أولئك الذين عانوا الآلام» strastotierptsy، أي أولئك الذين تعرضوا فعليًّا للوحشية والإذلال لكن لا يستجيبون للشر سوى بالغفران - من بين التعبيرات الأكثر وظيفية وأكثر واقعية للمنطق الأرثوذكسي الروسي.
لا يمكن للمرء أن يفهم دستويـﭭسكي بدونها. تتدفق حواريته وبوليفونيته(79) «بلا شك من مصادر متعددة. وسيكون من الخطأ أن نهمل بوليفونية الإيمان الأرثوذكسي التي تلهم التثليث (التمايز ووحدة الأقانيم الثلاثة في روحانية معممة تدعو أي ذاتية لنشر الحد الأقصى لتناقضاتها) كل من «حوارية» الكاتب ومديحه للمعاناة جنبًا إلى جنب المغفرة. في ضوء ذلك، فإن صورة الأب المستبد، موجودة في الكون الـ دستويـﭭسكي، التي رأى فيها فرويد مصدر الصرع وهكذا التبديد اللعوب (شغف اللعبة)(80)، يكون لتحقيق التوازن – من أجل فهم، ليس دستويـﭭسكي العصابي ولكن دستويـﭭسكي الفنان - مع صورة الأب المرحب تمامًا بالثالوث البيزينطي، مع رقته وغفرانه.
الغفران المنطوق
موقف الكاتب هو موقف الكلام: بناء رمزي يمتص ويستبدل الغفران بوصفه حركة عاطفية، رحمة، وشفقة مجسمة. القول بأن العمل الفني هو غفران بالفعل يفترض بالفعل الخروج من المغفرة النفسية (ولكن دون تجاهلها) – تجاه فعل فريد، فعل التعيين والتأليف.
لذلك لن نستطيع فهم فيمَ الفنُّ مغفرة سوى من خلال فتح جميع السجلات التي تعمل فيها المغفرة وتستنفد نفسها. نبدأ بمعرفة غفران التماهي النفسي، الذاتي، مع معاناة وحنان الآخرين، «الشخصيات» والنفس، يدعمه لدى دستويـﭭسكي الإيمان الأرثوذكسي. سوف نمر بعد ذلك من خلال الصيغة المنطقية لفاعلية الغفران بوصفه عملًا من أعمال الإبداع عبر الشخصي، كما يفهمها القديس توما (داخل الروح القدس هذه المرة). وأخيرًا، يرى المرء تأرجح هذا الغفران فيما وراء بوليفونية العمل، من خلال الأخلاق الوحيدة للأداء الجمالي، من خلال التمتع بالعاطفة كالجمال. لا أخلاقية محتملة تعود هذه المرة الثالثة للغفران - الأداء، إلى نقطة البداية لهذه الحركة الدائرية: إلى معاناة وحنان الآخر بالنسبة للأجنبي.
فعل العطاء يمتص التأثير
يربط القديس توما «رحمة» الرب «بعدله»(81). بعد أن أكد أن «عدل الرب يتعلق بمواءمات وجوده، التي وفقًا لها يتعهد لنفسه بما يجب عليه»، اهتم القديس توما بإثبات حقيقة هذا العدل، على أن يكون مفهومًا أن هذه الحقيقة «تتوافق مع مفاهيم الحكمة، التي هي قانونه». فيما يخص الرحمة نفسها، لا يفوتنا ذكر الرأي الأنثروبولوجي القوي، ومن ثم النفسي للقديس يوحنا الدمشقي «الذي يطلق على الرحمة أنها نوع من الحزن». يفصل بينهما القديس توما معتقدًا أن «رحمة الله لا يمكن أن تكون عاطفة تؤثر في الله، لكنها [...] أثر يضبطه». ولذلك عندما يتعلق الأمر بالله، فإنه فيما يخص الحزن بشأن بؤس الآخرين لا يمكنه أن يتدخل؛ لكن إبعاد هذا البؤس يلائمه بامتياز، ويقصد بهذا البؤس نقص ما، عيب من نوع ما(82). «من خلال ملء النقص وصولًا للكمال، ستكون الرحمة عطية». «فلتعطوا بعضكم بعضًا، كما أعطاكم المسيح» (تترجم أيضًا: «اشكروا النعمة» أو «فلتغفروا»). يسد الغفران النقص، هو هبة إضافية ومجانية. أهبك نفسي، تقبلني، أنا داخلك. لا العدل ولا الظلم، سيكون الغفران «العدل الكامل» بعد الحكم. هذا ما يجعله يقول للقديس جاك: «الرحمة تعلو على الحكم»(83).
لو أنه حقيقي أن الغفران الإنساني لا يتساوى بالرحمة الإلهية، فإن ذلك الغفران الإنساني يحاول أن يصيغ نفسه على صورته: الهبة، قربان إبطال الحكم، يفترض الغفران تماهيًا محتملاً مع ألوهية الرحمة المؤثرة والفعالة التي يتحدث عنها اللاهوتي. ومع ذلك، وعلى عكس الرحمة الإلهية التي تود أن تُعفي من الحزن، يجمع الغفران في طريقه نحو الآخر الحزن الإنساني للغاية. معترفًا بالنقص والجرح اللذين نتجا عنه، ويتغلب عليهما بمنحة مثالية: الوعد، والخطة، والحيلة، هذه الأمور تُدْرج الكائن المهان والمذل في نظام مثالي وتعطيه ضمانًا بالانتماء لهذا النظام. الحب، في مجمله، بعد الحكم، يشير مع ذلك إلى الحزن المتضمن، المفهوم، الواضح. قد نغفر لأنفسنا بأنفسنا، بالإشارة، بفضل شخص ما يُفهمنا نقصنا أو جرحنا في نظام مثالي متأكدون أننا ننتمي له، ويضمن لنا عدم الاكتئاب. بيد أنه كيف نتأكد من انتمائنا لهذا النظام من خلال النقص، دون المرور ولو لمرة واحدة بموكب التماهي مع المثالية الكاملة، الأبوية الودودة، الضمانة الأساسية لسلامتنا؟
الكتابة: غفران غير أخلاقي
كل من يخلق نصًّا أو تفسيرًا هو أكثر انجذابًا من أي شخص للالتحام بهذه الحالة المنطقية والنشطة تمامًا للرحمة «التومية»(84) فيما وراء التدفق العاطفي. إنه يلتحم بقيمة العدالة في الفعل بل أكثر من ذلك أيضًا: بسلامة الفعل. بأن يجعل كلامه ملائمًا لعطفه، وبهذا المعنى، فقط، يكتمل التحام الذات بالمثال المتسامح، وكذلك يصبح ممكنًا الغفران الفعال نحو الآخرين كما نحو الذات نفسها. على حدود العواطف والفعل، تصل الكتابة فقط بحلول لحظة إنكار التأثير الوجداني كيما تولد فعالية العلامات. تنقل الكتابة الانفعال إلى الأثر: actus purus (الفعل مطلق الإتقان) كما كان يقول القديس توما. إنها تنقل التأثيرات ولا تقمعها، تعرض عليها مخرجًا متساميًا، تستنسخها إلى آخر، من خلال طرف ثالث، خيالي، رمزي. لأن الكتابة غفران، وتحول، واستنساخ، وترجمة.
انطلاقًا من هذه اللحظة، يفرض عالم العلامات منطقه الخاص. البهجة التي يتحصلها، بهجة العرض كما بهجة التلقي، تطمسان -على نحو متقطع- المثالي، وكذلك أي إمكانية لعدالة خارجية. النزعة اللا أخلاقية هي مجموع هذه العملية التي يعرفها دستويـﭭسكي جيدًا: الكتابة لها صلة بالشر ليس فقط عند الانطلاق (فيما قبل نصها، في مواضيعها) بل كذلك في النهاية، من خلال ذروة عالمها الذي يستثني أي غيرية. ربما أيضًا من خلال الوعي بأن الأثر الجمالي حُبس داخل عاطفة دون خروج -من خلال المجازفة بحبسة الموت وكذلك السرور عبر إفناء ذاتي خيالي، عبر استبداد الجميل- هو ما دفع دستويـﭭسكي إلى الارتباط بعنف بدينه ومبدئه، الغفران. هكذا ينطلق عود أبدي لحركة ثلاثية: الرقة المعقودة بالمعاناة، والعدل المنطقي وصحة العمل الأقنوم، وأخيرًا فتنة العمل المطلق. ثم، من جديد، من أجل الغفران، نستعيد المنطق الثلاثي للغفران - ألا نحتاج ذلك كي نعطي معنى حيًّا -إيروتيكيًّا- غير أخلاقي- لمسألة الكآبة؟
الهوامش:
* الدراسة من كتاب جوليا كريستيفا (شمس سوداء) الاكتئاب والمالخوليا، الصادر عن دار جاليمار 1989.
1- تتأمل الأطروحة الفرويدية حول دستويـﭭسكي الكاتب من وجهة نظر الصرع، واللاأخلاقية، وقتل الأب واللعب، وتتناول تلميحًا فقط «السادومازوخية» الكامنة وراء المعاناة. انظر «دوستويفسكي وقتل الأب»، 1927، الترجمة الفرنسية في النتائج، الأفكار، المشاكل، t. II، P.U.F.، Paris، 1985، pp. 161-179•، S.E، t. XXI، p. 175 Sq. ; GW، t. XIV، p. 173 sq. ولمناقشة هذه الأطروحة، راجع، فيليب سولرز: «دوستويفسكي، فرويد، العجلة»، نظرية الاستثناءات، فوليو، جاليمار، باريس، 1986.
2- Melanie Klein ميلاني كلاين (1882-1960): نمساوية الأصل تنحدر من أسرة يهودية، اتجهت في أبحاثها نحو دراسة التكوين النفسي للأطفال، وكان لها طريقة مميزة عن فرويد، لم تدرس علم النفس أو الطب النفسي، وبالصدفة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى قرأت مقالاً لفرويد وشغفت على إثره بالتحليل النفسي، وبدأت تتعلم على يدي ساندوز فيرينزي.
3- الاستدماج Introjection: مصطلح يشيع استخدامه في التحليل النفسي، ورغم تباين معانيه فإنه في صورته العامة عبارة عن عملية يحاول فيها الشخص نسخ أو تكرار سلوكيات أو أفكار من الوسط المحيط أو من أشخاص آخرين وجعلها جزءًا من داخله، على سبيل المثال عندما يقوم الشخص بالتقاط سلوك أو أفكار من شخص آخر كصديق مثلا فهذا هو الاستدماج.
يعد مصطلحي الاستبطان والتماهي مصطلحات قريبة الشبه بالاستدماج، كما وصف الإسقاط بأنه بداية أساسية لعملية الاستدماج.
4- تروبمان: قاتل فرنسي حكم عليه بالإعدم وكتب عنه تورجنيف.
5- نشير هنا إلى رواية ديستوفيسكي: مفكرة الشياطين، البلياد، جاليمار، باريس، 1955، ص 810-811.
6- المرجع نفسه، ص812.
7- الأسيديا: مفهوم أخلاقي وديني نفسي اتخذ معاني مختلفة اعتمادًا على الثقافات التي يستخدم فيها. وهذا يعني في الأصل نقص الرعاية. ثم كان يستخدمه المسيحيون من قبل آباء الصحراء للدلالة على عدم العناية بالحياة الروحية. إن نتيجة هذا الإهمال هي ألم الروح التي يعبر عنها الملل، وكذلك الاشمئزاز من الصلاة، التكفير عن النفس والقراءة الروحية. عندما تصبح أسيديا حالة من الروح التي تسبب العزم الروحي والانسحاب، بل هو المرض الروحي. (الجملة بأكملها مرتبكة ومعناها غير مترابط مع السابقة عليها) البابا جريجوري العظيم يدمج الأسيديا في الحزن.
8- مفكرة الشياطين، مرجع سابق، ص1154.
* حذفت هيئة التحرير جملة من النص، رأت أنها تسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
9- الشياطين، المرجع السابق، انظر ص 619-620.
10- مذكرات من العالم السفلي، البلياد، جاليمار، باريس، 1955. 699.
11- مدينة ملاهٍ.
12- مذكرات من العالم السفلي، مرجع سابق، 713-714.
13- يربط نيتشه بين نابليون ودستويـﭭسكي من خلال تأمل حول «المجرم وأولئك الذين يشبهونه»: يكشف هذان العبقريان عن حضور «الوجود الملتهب» في قاعدة أي تجربة استثنائية تحمل تحويلًا للقيم. «بالنسبة للمشكلة التي تهمنا، فإن شهادة دستويـﭭسكي ذات وزن كبير (دستويـﭭسكي هو، بالمناسبة، الطبيب النفسي الوحيد الذي كان لديه شيء يعلمني إياه. أعتبره من أفضل المكاسب في حياتي، بل وأكثر من اكتشافي لستندال). هذا الرجل العميق، الذي كان لديه ألف مرة الحق في كراهية الألمان السطحيين، عاش طويلاً بين مداني سيبيريا [...]. وفقًا لنسخة W. II. 6. «النوع الإجرامي هو إنسان قوي يتم وضعه في ظل ظروف غير مواتية: حتى يتسنى لجميع الغرائز، المتأثرة بالازدراء، والخوف والخجل أن تختلط بشكل لا ينفصم بمشاعر الاكتئاب، وهذا من الناحية الفسيولوجية، متدنٍ (ف. نيتشه: الأعمال الكاملة «أفول الأصنام»، جاليمار، باريس، 1974، ص 140 و 478). في حين أن نيتشة يمتدح الـ«عبقرية الجمالية» و«المجرم» عند دستويـﭭسكي، كثيرًا ما ينتقد نيتشه ما يبدو له علم النفس المرضي للمسيحية الذي وقع في فخ الحب، وحيث ينشر الكاتب الروسي: سيكون هناك «احتقان طفولي» في الإنجيل كما هو الحال في «رواية روسية»، وفقًا لعدو المسيح. لا يمكننا أن نؤكد على سحر دستويـﭭسكي لنيتشه، الذي يرى فيه المبشر بالسوبرمان، دون أن يذكر بشكل خاص الضيق الناجم لدى الفيلسوف الألماني عن المسيحية الدستويـﭭسكية.
14- ديستوفيسكي: الجريمة والعقاب، البلياد، جاليمار، باريس، 1967، ص 317.
15- المرجع نفسه، ص 318.
16- المرجع نفسه، ص514-515.
17- المرجع نفسه، ص520.
18- حكمة، يوميات كاتب، البلياد، جاليمار، باريس، 1972، ص 725-726.
19- فلاح في الإمبراطورية الروسية وضيع الطبقة إلى حد أنه يوضع في مقابل القِن.
20- انظر، ج. كاتو: الإبداع الأدبي لدى دستويـﭭسكي، معهد الدراسات السلافية، باريس، 1978، ص125-180.
21- تجسيد الموت في الأسطورة الإغريقية وإيروس تانتوس أي دافع الحياة ودافع الموت.
22- دوستويفسكي: رسائل إلى زوجته، II، 1875-1880، بلون، باريس، 1927، ص 61، رسالة 10يونيو، 1875.
حول اهتمام دوستويفسكي بأيوب، ب، بورسوف، شخصية دوستويفسكي (باللغة الروسية)، في زفيزدا 1970، العدد رقم 12، ص. 104: «لقد عانى من الله والكون، لأنه لم يكن يريد الدفاع عن القوانين الأبدية للطبيعة والتاريخ لدرجة أنه رفض أحيانا الاعتراف بأن ما تم إنجازه قد أنجز. حتى أنه كان ضد كل شيء. (أعيد طبعه في كتاب، طبعة سوفيتسكي بيساتيل، 1979.)
23- سفر أيوب، الإصحاح السادس،2.
24- سفر أيوب، الإصحاح السابع،17.
25- سفر أيوب، الإصحاح العاشر، 27.
26- سفر أيوب, الإصحاح التاسع، 11.
27- سفر أيوب، الإصحاح الثاني والأربعين،8.
28- ميخائيل باختين: «شعرية دستويـﭭسكي»، دار سوي، باريس، 1970.
29- د. ميروكوفسكي: «نبي الثورة الروسية» 1906 (روسيا).
30- آنا. ج0دوستويفسكايا: دوستويفسكي، جاليمار، باريس، 1930، ص173؛ يشير النص إلى رحلتهما إلى سويسرا في عام 1867.
31- في ملاحظات مخطوطة مذكراتها، بتاريخ 24/12 أغسطس 1867، تشير زوجة الكاتب: «في متحف مدينة بازل، رأى فيودر ميهايلوفيتش لوحة هانز هولبين. تأثر بها على نحو رهيب وقال لي إن «مثل هذه الصورة يمكن أن تفقدك الإيمان». وفق لـ ب. جروسمان، دوستويفسكي كان يعرف وجود هذه الصورة منذ طفولته من رسائل الرحالة الروسي «كرامزين» الذي يعتبر أنه لا يوجد «أي شيء إلهي» في مسيح هولبين هذا. ويفترض أن الناقد نفسه يرجح مسبقًا قراءة دوستويفسكي من مريم إلى الشيطان لجورج صاند، التي تؤكد على تأثير المعاناة في عمل هولبين. (انظر ل.ب.جروسمان،ف.م. لبستويفسكي، مولودايا جفارديا، 1962، وندوة عن لبستويفسكي، 1923، باللغة الروسية).
32- التراث الأدبي، طبعة. نوكا، رقم883، ص174، استشهاد ج. كاتو، المرجع السابق، الصفحة 174.
33- انظر أعلاه، الفصل الثاني، ص. 66-69.
34- انحراف باسكال الذي كان يعتقد في انحراف عقله بسبب الخطيئة الأصلية، في حين كان ينظر إلى انحرافه بسبب المسيحية فقط (عدو المسيح، في الأعمال الكاملة، جاليمار، باريس، 1974، 163).
35- ديستوفيسكي: مذلون ومهانون، البلياد، جاليمار، باريس 1953، ص937.
36- ديستوفيسكي: الأبله، البلياد، جاليمار، باريس،1953، ص 521.
37- المرجع نفسه، ص 515.
38- يستدعي إغلام المعاناة (حاولت أن أبحث عن مقابل مناسب لكلمة إغلام التي تكررت في المقالة فلم أجدها في مادة غلم بمعنى يقترب مما أفهمه من سياق المقالة أبدا) هذا الموازي لرفض عقوبة الإعدام المواقفَ المماثلة للماركيز دو ساد. كان قد أقر التقارب بين الكاتبين، وليس من دون خداع، من قبل معاصري دوستويفسكي. وهكذا، في رسالة مؤرخة في 24 فبراير 1882 موجهة إلى سالتيكوف تشترشيدرين، يلاحظ تورجينيف أن دستويـﭭسكي، مثل دو ساد، «يصف في رواياته الملذات الحسية»، وشعر بالسخط ضد فكرة أن «الأساقفة الروس احتفلوا بالقداس وأشادوا بهذا السوبرمان، دو ساد روسيا! في أي وقت غريب نعيش فيه؟»
39- ديستوفيسكي: الأبله، ص27.
40- المصدر نفسه، ص 77.
41- المصدر نفسه، ص27
42- وفي هذا الصدد، سوف نتذكر علاقة البنوة التي عقدها دوستويفسكي مع النائب العام كونستانتين بوبيدونوستسيف، وهو شخصية استبدادية تجسد الظلامية القيصرية. تسفيتان ستويانوف، العبقري وولي أمره، صوفيا، 1978.
43- ديستوفيسكي: الجريمة والعقاب، ص 242.
44- المرجع نفسه، ص 291.
45- المرجع نفسه، ص 313.
46- المرجع نفسه، ص 328.
47- المرجع نفسه، ص 328.
48- المرجع نفسه، ص 477-478.
49- المرجع نفسه، ص 476.
50- المرجع نفسه، ص470.
51- المرجع نفسه، ص 243-244.
52- المرجع نفسه، ص 243-244.
53- المرجع نفسه، ص 583.
54- المرجع نفسه، ص 608.
55- المرجع نفسه، ص 608.
56- المرجع نفسه، ص 611.
57- المرجع نفسه، ص 612.
58- كما تصرح هانا أرندت: «إن المبدأ الروماني المتمثل في تجنيب المهزومين هو حكم غير معروف تماما لليونانيين»، في حالة الإنسان الحديث، كالمان ليفي، باريس، 1961، ص 269.
59- وفق تعبير أ. بيزانسون le Tsarevitch- الطفل الضحية باريس 1967 ص214.
60- الشياطين، 733-734.
61- أوفيد: «أسيس وجالاتيا»، مسخ الكائنات.
62- تستدعي «حنا أرندت» عند القديس «لوقا» الكلمات الإغريقية المختلفة لمعنى الصفح aphienai, métanoein يبعث، يحرر، يغير رأي، يستعيد طريقه. المرجع سالف الذكر ص 170.
63- الجريمة والعقاب، ص611. حول الحوار والحب عند دستويـﭭسكي انظر، جاك رولان: دستويـﭭسكي. مسألة الآخر، دار «فيردييه» 1983.
64- الفصل الثاني من 62-69.
65- انظر حول التماهي، قصصنا عن الحب، دونيل، باريس 1983 من ص 30 إلى ص51.
66- أفسس: أعمال الرسل، رسالة القديس بولس 32 ,IV , «فلتأخذو بعين الاعتبار بعضكم البعض، ولتكونوا متسامحين، ولتصفحوا كما صفح عنكم الله في المسيح.»
67- «يا أحشاء رحمة إلهنا التي ستزورنا من فوق بلاد الشام» (لوقا، الأول، 78).
68- انظر القديس سيميون اللاهوتي الجديد: الأعمال، موسكو، 1890(روسيا)، والمصادر المسيحية.
69- انظر، أوليفييه كليمنت: صعود المسيحية الشرقية، المنشورات الجامعية الفرنسية 1964 ص25-26.
70- «نور الله، نور الابن، ونور الروح القدس - هذه الأنوار الثلاثة هي نور الأبدية، لا يتجزأ، من دون ارتباك، غير مخلوق، محدود، غير قابل للاستنفاد، غير مرئيى، كما أنه مصدر كل نور» (الموعظة، 57، الأعمال، موسكو، 1890، 11، 46)؛ «لا فرق بين الله الذي يسكن في النور والنور نفسه الذي هو مسكنه. كما لا يوجد فرق بين نور الله والله. بل هما واحد، المسكن والساكن، النور والله» (الموعظة، 59، المرجع نفسه، 72)؛ «الله نور، نور لا نهائي، ونور الله يُكشف لنا من قبل طبيعته التي لا يمكن فصلها بشكل لا لبس فيه عن الأقانيم [الوجوه، المحيا]. الآب نور، الابن نور، والروح القدس نور، والثلاثة هي نور واحد بسيط، غير معقد، من نفس الجوهر، من نفس القيمة، من نفس المجد» (موعظة، 62، المرجع السابق، ص 105).
71- «لأن الثالوث هو وحدة في ثلاثة مبادئ وهذه الوحدة تسمى الثالوث في الأقانيم (الوجوه، الوجوه)... ولم يكن أي من هذه الأقانيم موجود للحظة قبل الآخر... ثلاثة وجوه وبلا أصل وأبدية واحدة الجوهر» الموعظة 60-80.
72- الموعظة 61، المرجع السابق ص 95.
73- مقدمة لتراتيل الحب الإلهي، 612،. 5.9-5.7، انظر كليمنت، مرجع سابق. انظر ص 29.
74- «أنا لا أتكلم بالأصالة عن نفسي، ولكن نيابة عن الكنز نفسه (الذي وجدته للتو)، وهذا يعني أن يسوع المسيح الذي يتحدث من خلالي: أنا القيامة والحياة»( يو 11، 25)، «أنا حبة خردل» (متى، الثالث عشر، 31-32)، «أنا لؤلؤة» (متى، الثالث عشر، 45-46) «أنا الخميرة« (متى الثالث عشر،33) «(الموعظة، 89، ص479 ). يعترف سمعان أنه في يوم من الأيام وهو في حالة من «الإثارة الجهنمية والتدفّق، توجه إلى الله واستقبل نوره» بدموع حارة، بعد أن أدرك من خلال تجربته الخاصة المملكة السماوية نفسها التي قد وصفتها الكتابات بأنها لؤلؤة (متى الثالث عشر، 45-46)، حبة خردل (متى الثالث عشر 31-32)، خميرة (متى، الثالث عشر، 33)، ماء حي (يوحنا، الرابع، 642)، النار (العهد القديم، 1، 7، إلخ)، خبز (لوقا، الثاني والعشرون، 19)، جناح الزواج (المزامير، الثامن عشر، 5-6)، الزوج (متى، الخامس والعشرون، 6؛ يوحنا، سفر الرؤيا الثالث، 29،، الحادي والعشرون، 9)... : «ما الذي يمكن أن أقوله أكثر مما لا يوصف... وبينما نمتلك كل هذا في أعماقنا من قبل الله، لا يمكننا فهمه بواسطة الذكاء ولا ننيره بكلمة» (الموعظة، 90، 490).
75- «أعطي الروح القدس وأرسل، ليس بالمعنى الذي لم يكن يتمناه، ولكن بمعنى أن الروح القدس، من خلال الابن الذي هو أحد أقانيم الثالوث، أنجز، كما لو كان كانت إرادته الخاصة، إرادة الآب. لأن الثالوث الأقدس لا تنفصل طبيعته، ولا جوهره وإرادته، بينما الأقانيم تعين شخصيًا، الآب، والابن والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم إله واحد واسمه الثالوث (الموعظة، 62، p. 105).
76- انظر أوليفييه كليمنت، المرجع السابق، ص 74.
77- راهب.
78- في قلب هذا التناضح المؤلم والممتع للأقانيم الثلاثة، يُنظر إلى الفردانية الذاتية بوصفها حدًّا ضروريًّا للحياة البيولوجية والاجتماعية، ولكنها تمنع تجربة غفران المحبة للآخرين. انظر هنا انعكاسات دستويـﭭسكي حول الحد الذاتي، في لحظة وفاة زوجته ماريا (الصفحات 205-206، 37).
79- انظر، ميخائيل باختين: شعرية دستويـﭭسكي.
80- انظر، سيجموند فرويد: دستويـﭭسكي وقتل الأب.
81- السؤال الحادي والعشرون الخلاصة اللاهوتية، الجزء الأول.
82- المرجع نفسه.
83- نقلًا عن القديس توما، المرجع نفسه.
84- نسبة إلى القديس توما الإكويني.
* عنوان الدراسة
دستويـﭭسكي
كتابة المعاناة والصفح
جوليا كريستيفا*
* أديبة وناقدة فرنسية من أصل بلغاري.
ترجمة: لطفي السيد منصور**
مجلة فصول العدد 102
** مترجم مصري.
مما لا شك فيه أن عالم دستويـﭭسكي المُعَذَّب (1821-1881) يهيمن عليه الصراع أكثر من السوداوية بالمعنى العيادي للكلمة(1). إذا ما كان أبقراط يطابق بين الكلمتين، وإذا ما كان «أرسطو» يميز بينهما تمامًا من خلال المقارنة، فإن العيادة الحالية تعتبرهما كيانين منفصلين على نحو عميق. ومع ذلك، نلاحظ، من خلال كتابات «دستويـﭭسكي»، الأسى الذي يسبق النوبة -أو يليها بشكل خاص- كما يصورها الكاتب نفسه، وكذلك أقنوم المعاناة الذي يفرض نفسه على مدار أعماله -دون علاقة واضحة أو مباشرة مع الصرع- وكأنه سمة جوهرية للأنثروبولوجيا الدوستويفسكية.
على نحو غريب، نجد أن إصرار دستويـﭭسكي على وجود معاناة مبكرة أو على الأقل أساسية، على حافة الوعي، يستدعي الأطروحة الفرويدية عن «دافع الموت» الفطري، حامل الرغبات، و«المازوخية الأولية». بينما عند ميلاني كلاين Melanie Klein(2) في غالب الأحيان الإسقاط النفسي يسبق الاستدماج(3) والعنف يسبق المعاناة، ويكمن الوضع الذهاني العصابي فيما وراء الوضع الاكتئابي، ويصر فرويد على ما يمكن أن يطلق عليه «الوضع صفر» للحياة النفسية (المازوخية الأولية، السوداوية) حيث المعاناة غير الإيروتيكية بمثابة مدخل نفسي أساسي لاختلال ما (قفز الذاكرة بين مادة لا عضوية ومادة عضوية؛ أثر الفصل بين الجسم والنظام البيئي، الطفل والأم، إلخ... بل وكذلك التأثير القاتل لـ «أنا» عليا مستديمة ومستبدة).
يبدو أن دستويـﭭسكي أقرب ما يكون لهذه الرؤية. إنه يتأمل المعاناة بوصفها أثرًا مبكرًا وأوليًّا لصدمة عصبية ما، ولكن قبل موضوعانية -بطريقة أو بأخرى- لا نستطيع بها تعيين عامل منفصل عن الذات، ومن المرجح، بناء على ذلك، أن تجذب نحو الخارج: طاقات، ومداخل نفسية، وتمثلات أو أفعالًا. كما أنه تحت تأثير الأنا العليا المبكر -هو أيضًا- يستدعي الأنا العليا السوداوية المتأملة عند فرويد بوصفها «ثقافة دافع الموت»، وتنكفئ دوافع أبطال دستويـﭭسكي على فضائها الخاص. فبدلًا من أن تصبح دوافع إيروتيكية، تندرج بوصفها حالة مزاجية للمعاناة. لا في الداخل ولا في الخارج، وإنما بين الاثنين، فعلى عتبة انفصال أنا/ الآخر -وحتى قبل أن يكون هذا الانفصال ممكنًا- تنشأ المعاناة الدوستويفسكية.
يشير كُتاب سيرة حياة دستويـﭭسكي إلى أنه كان يفضل التردد على أناس ميالين إلى الحزن. يستزرع الحزنَ في ذاته ويمجده في نصوصه كما في مراسلاته. فلنستشهد برسالة كتبها في فلورنسا وأرسلها إلى مايكوف Maikov في 27 مايو عام 1869. يقول:
«الأمر الرئيس هو الحزن، لكن لو نتحدث عن ذلك أو نشرحه، يجب أن نقول أكثر بكثير. ومع ذلك، الحزن هو أنني لو كنت وحيدًا، ربما لأصبحت مريضًا بالكآبة. على أي حال الحزن رهيب، والأسوأ أيضًا أنني، في أوروبا، سأشاهد كل شيء هنا كأبله. مهما يحدث، لقد قررت العودة إلى بطرسبرج في الربيع القادم...».
كانت نوبة الصرع والكتابة بالتوازي أعلى دافعين للحزن المرضي الشديد الذي يتبدل إلى بهجة باطنية خارج الزمن. وهكذا، يرد في «بطاقات الممسوسين أو الشياطين» (صدرت الرواية عام 1873):
«النوبة في السادسة صباحًا (إنه يوم وساعة عقاب تروبمان، تقريبًا (4)). لم أفطن لذلك، استيقظت في الساعة الثامنة مع الوعي بالنوبة. كنت قد شعرت بصداع، وتكسر الجسم. وفي العموم، كانت توابع النوبة عصبية في المزاج، وضعف في الذاكرة، وحالة ضبابية، وميل إلى التأمل -بطريقة أو بأخرى- وهذه التوابع تمتد الآن أكثر مما كانت في السنوات السابقة. قبل ذلك كانت تنقضي في ثلاثة أيام، أما الآن، فليس قبل ستة أيام. في المساء، خاصة، مع الشموع، وحزن وساوس المرض، دون موضوع، وكما ظل أحمر دامٍ على كل شيء(5)...».
أو: «ضحك عصبي وحزن باطني»(6)، يكرر، في إشارة ضمنية إلى رهبان «أسيديا»(7) من العصور الوسطى. أو أيضًا: كيف نكتب؟ «المعاناة، الكثير من المعاناة...».
تبدو المعاناة هنا «زائدة عن الحد»، تبدو قوة، أو لذة. لقد أفسحت الـ«نقطة السوداء» من سوداوية نيرفال الطريق للتدفق العاطفي، للانفعال الهستيري -إذا أردنا- حيث الفيضان المتدفق يحمل العلامات الوديعة وتأليفات الأدب الهادئة «المونولوجية». هذا يمنح نص دستويـﭭسكي بوليفونية مدوخة، ويفرض الجسد المتمرد الذي يستمتع بعدم الخضوع لكلمة الله -كما حقيقة مطلقة- على الإنسان الدستويـﭭسكي. وليست لذة المعاناة التي ليس بها «أي فتور ولا أي خيبة أمل شيئًا مما روج له بايرون من قبل»، لكنها متعطشة لملذات مبالغ فيها، لا تُشبع «متعطشة لحياة لا تُطفأ»، بما في ذلك «لذة السرقة، وقطع الطريق، ولذة الانتحار»(8). وعلى نحو رائع وصف كيريلوﭪ هذا التمجيد المزاجي، الذي يمكن أن ينقلب من معاناة إلى بهجة لا تُقَدر، في اللحظات التي تسبق الانتحار أو الأزمة:
«ثمة لحظات، تستمر خمس أو ست ثواني، عندما تشعر فجأة بالتناغم الخالد، تكون قد وصلت. إنه ليس أرضيًا: لا أود أن أقول إنه أمر سماوي، لكن الإنسان بجانبه الأرضي غير قادر على تحمله. ينبغي أن يتحول فيزيقيًّا أويموت. إنها عاطفة واضحة، لا نزاع فيها، مطلقة [...]. هي ليست الرأفة [...]وهي ليست أيضًا الحب. أوه! إنها أسمى من الحب. الأمر الأكثر رعبًا هو أنها واضحة على نحو فظيع للغاية. وبهجة هائلة جدًّا مع ذلك! لو أنها دامت أكثر من خمس ثواني، قد لا تحتملها النفس وينبغي أن تختفي [...]. لكي نتحمل ذلك لمدة عشر ثواني، ينبغي أن نتحول فيزيقيًّا [...].
- أنت لست مصروعًا؟
- لا.
- ستصبح كذلك، انتبه، يا كيريلوﭪ: لقد سمعت أنه هكذا تحديدًا كان يبدأ الصرع [...]»
وبخصوص قصر مدة هذه الحالة:
«تذكر إبريق محمد، الذي لم يكن قد فرغ بينما طاف محمد بالجنة. الإبريق، إنه ثوانيك الخمسة، وذلك لا يضارع كثيرًا سوى تناغمك؛ وفي هذه الحالة...*. انتبه للصرع يا كيريلوﭪ»(9).
مع عدم قابليته للاختزال في مشاعر، فإن الوجدان في جانبه المزدوج من تدفق فعال وتوثب فيزيقي - شفاف، وواضح، ومتناغم، وإن كان خارج اللغة- يعبر عنه هنا بإخلاص فائق الوصف. لا يمر الوجدان عبر اللغة وعندما تشير اللغة إليه، فإنها لا ترتبط به كما ترتبط بفكرة ما. فالتعبير لفظيًّا عن الانفعالات (بدون وعي أو به) ليس لديه نفس اقتصاد التعبير لفظيًّا عن الأفكار (بدون وعي أو به). قد نفترض أن التعبير لفظيًّا عن انفعالات غير واعية لا يجعلها واعية (لا تعرف الذات من أين تأتي بهجتها أو حزنها وكيف ولا تعدل فيهما)، لكنه (التعبير اللفظي) يجعلها تعمل بشكل مضاعف. فمن جانب، يوزع نظام اللغة ثانية ويولد الأسلوب. ومن جانب آخر يظهر اللاوعي في الشخصيات والأفعال التي تمثل العواطف الغريزية الأكثر تحريمًا وتجاوزًا. فالأدب كما الهيستيريا- التي هي بالنسبة لفرويد «عمل فني مشوه»- مسرح العواطف على المستوى البين ذاتي (الشخصيات) كما على المستوى البين لساني (الأسلوب).
على الأرجح فإن هذه الحميمية مع الانفعال العاطفي هي التي قادت دستويـﭭسكي إلى هذه الرؤية التي وفقًا لها تكمن إنسانية الإنسان في البحث عن اللذة أو المنفعة (وهي فكرة تكمن في التحليل النفسي الفرويدي على الرغم من الهيمنة الممنوحة في النهاية لـ«ما وراء مبدأ اللذة») أقل منها في التطلع إلى معاناة شهوانية. على خلاف التشاحن أو الغضب، التي هي أقل موضوعانية، وأكثر انكفاء على الشخص المناسب، في هذه المعاناة ليس هناك سوى خسارة الذات في ليل الجسم. إنها رغبة الموت المكبوتة، سادية تعوقها يقظة الوعي وتستدير من الآن نحو الذات المؤلمة والخاملة:
«يخضع غضبي لما يشبه التحلل الكيميائي، بالضبط، بحكم قوانين الوعي الملعونة نفسها. بالكاد أميز هدف كراهيتي، حتى يتلاشى، وتتبدد البواعث، ويختفي المسئول، والإهانة لا تعود إهانة، لكنها ضربة قدر، شيء ما كألم الأسنان، الذي لا يلام عليه أحد»(10).
في النهاية، هذه المجادلة عن المعاناة جديرة بـ «الأسيدا» القرووسطية، بل وأيضًا بـ النبي أيوب: ولماذا أنت واثق إذن لهذه الدرجة على نحو راسخ وجليل أن الضروري هو فقط العادي، والإيجابي، والرفاهي في كلمة واحدة؟ ألا يخطئ العقل في تقديراته؟ قد لا يحب هذا الإنسان الرفاهية. ألا يمكن أن يحب هذا الإنسان المعاناة بنفس القدر؟ ألا يمكن أن تكون المعاناة بالنسبة له مفيدة تمامًا كما الرفاهية ؟ يشرع الإنسان أحيانًا في حب المعاناة بشغف. إنها حقيقة [...].«إنه دوستويفسكي» جدًّا، تعريف المعاناة بوصفها حرية مؤكدة، بوصفها نزوة:
لست أدافع تحديدًا هنا عن المعاناة أو الرفاهية: إنها نزوتي أنا، وأنا أصر على تضمينها -عند الضرورة- وفي «الفودفيل» (المسرحيات الهزلية)، على سبيل المثال، لا تُقبل أشكال المعاناة، أعرف ذلك؛ كذلك لا يمكن قبولها في قصر الكريستال(11): ثمة شك، ثمة نفي في المعاناة [...] المعاناة! لكنها السبب الوحيد للوعي! [...]. الوعي، في رأيي، أحد أعظم شرور الإنسان؛ لكنني أعرف أن الإنسان يحبه ولا يقايضه بأي رضا، مهما يكن»(12).
المعتدي، هذا السوبرمان الدستويـﭭسكي، الذي يبحث عن نفسه -على سبيل المثال- من خلال مديح الجريمة في شخص راسكولنيكوﭪ Raskolnikov، ليس عدميًّا، ولكنه رجل قيم(13). معاناته هي الدليل الذي ينتج عن البحث الدائم عن المعنى. ذلك الذي يعي فعله الآثم، يعاقب نفسه لأنه يعاني من ذلك.
إنه عقابه بمعزل عن عقاب السجن بالأشغال الشاقة(14)؛
«المعاناة والألم لا ينفصلان عن الفطنة العالية، والقلب الكبير. ينبغي على العظام من البشر حقًّا، على ما يبدو لي، أن يكابدوا حزنًا عظيمًا على الأرض(15). وهكذا، عندما يُتهم نيكولا Nicolas بارتكابه جريمة بينما هو بريء، سيعتقد بورفير Porphyre أنه يكشف من خلال هذا الاتهام المتطرف عن التراث الروسي الصوفي العتيق الذي يمجد الألم كعلامة إنسانية:
«أتعرفون [...] ما تكونه الكفارة لبعض هؤلاء الناس؟ هم لا يفكرون في الكفارة من أجل شخص ما، لا، لكنهم بكل بساطة عطشون للمعاناة، ولو أن هذه المعاناة فُرضت عليهم من السلطات، فهذا هو أفضل شيء»(16). «فلتعانوا إذن! ربما لدى ميكولكا Mikolka حق في الرغبة في المعاناة!»(17)
ستكون المعاناة حقيقة للوعي، فالوعي (بالنسبة لدستويـﭭسكي) يقول:
عانِ. أن تكون واعيًا إذن هو أن تعاني، لكنني لا أريد أن أعاني، لأنه إلى أي حد قد أرضى بالألم؟ تبلغني الطبيعة -من خلال مجرى وعيي- أني لا أعرف ما هو الانسجام الكلي. ولقد شيَدت ديانات الوعي الإنساني حول هذه الفكرة [...]خاضعًا، لقبول المعاناة من أجل انسجام الكل والرضا بالحياة [...]. ولماذا ينبغي أن أهتم كثيرًا بمحادثته (الكل) بعدي؟ أسألكم عن ذلك!
كان من الأفضل لو خُلقت على غرار كل الحيوانات، أي على قيد الحياة ولكن غير واعٍ بذاتي عقلانيًّا: ألا يكون وعيي تحديدًا متناغمًا، بل على العكس، متنافرًا، لأنني تعيس بسببه. فلتنظروا من السعيد في العالم، وأي أناس يرضون بالحياة؟! بالضبط، أولئك الذين يشبهون الحيوانات، وبسبب التطور الضعيف لوعيهم، هم الأقرب لحال الحيوان»(18). من هذا المنطلق، سيكون الانتحار العدمي نفسه هو الإنجاز النهائي للإنسان الذي مُنح وعيًا، لكنه محروم من حب الصفح، من المعنى المثالي، من الله.
معاناة سابقة على الكراهية
لن نتعجل في تفسير هذه الأقوال بوصفها اعترافًا مازوخيًّا مرضيًّا. ألا يعني ذلك أن الكراهية تعني تدمير الآخر وربما قبل أي شيء قتله؟ أن الكائن البشري يعيش كحيوان رمزي؟ عنف فادح، لكنه مكبوح، يؤدي إلى قتل الذات بنفسها كي يولد هذا الموضوع. من وجهة نظر تعاقبية، نحن هناك على العتبة السفلى للذاتية قبلما تنفصل عن الآخر الذي هو موضوع الكراهية أو مداهمة الحب. ومع ذلك يتيح نفس هذا الكبح للكره أيضًا التحكم في العلامات: أنا لا أهاجمك، أنا أتحدث (أو أكتب) خوفي أو ألمي. معاناتي هي بطانة كلامي وحضارتي. نحن نتخيل المجازفات المازوخية لهذا التحضر. والكاتب، فيما يخصه، يمكنه أن يستمد من ذلك ابتهاجًا من خلال التلاعب الذي سوف يستطيع، على هذه القاعدة، أن يلحقه بالعلامات وبالأشياء.
المعاناة وجانبها التضامني، المتعة و«اللذة» بالمعنى الدستويـﭭسكي، يفرضان نفسيهما بوصفهما مؤشرًا نهائيًّا على قطيعة سابقة قليلًا على تمكين الذات والآخر. قد يكون انقطاع طاقة حيوية داخلية أو خارجية، أو انقطاعًا رمزيًّا يُعزى إلى التخلي، والعقاب، والنفي. لن نستدعي -بما يكفي- قسوة والد دستويـﭭسكي المشنع عليه من قبل «الموجيك moujiks »(19) الذين ربما أيضًا قتلوه (وفقًا لبعض سير الحياة المفنَّدة اليوم). المعاناة هي المحاولة الأولى أو الأخيرة للذات لتؤكد «نقاءها» الأقرب للوحدة البيولوجية -المُهَدَّدَة والنرجسية- الموضوعة على المحك. كذلك هي المبالغة البيولوجية، التضخم المدعي للـ«نقاء» كما يقال، هي معطى جوهري للحياة النفسية في طور التكوين أو الانهيار بموجب قانون الآخر المهيمن بالفعل وإن ظل مجهولًا من خلال غيريته القوية للغاية، تحت عين المثل الأعلى للأنا الملتحمة بـ«الأنا المثالية».
تبدو إشباقية المعاناة ثانويةً. في الحقيقة، يحدث ذلك فقط بالاندماج في تيار عدواني سادي/مازوخي موجه نحو الآخر، يلونه بشهوانية وهوى، الأمر الذي يمكن تبريره كاملا حينئذ كتجربة ميتافيزيقية للحرية والانتهاك. ومع ذلك، عند درجة سابقة منطقيًّا وتعاقبيًّا، تظهر المعاناة بمثابة العتبة النهائية، والعاطفة الأساسية، للتمييز أو الفصل. ولتحقيق هذه الغاية، سوف نضيف، في هذا السياق، الملاحظات القريبة، التي وفقًا لها يحدث الشعور بالتناغم أو بالبهجة اللذين استنفرهما الاقتراب من نوبة الصرع، بما لن يكون إلا ضربة لاحقة من الخيال الذي يحاول –بعد النوبة- أن يتوافق إيجابيًّا مع اللحظة البيضاء، المخربة لهذه المعاناة المستنفرة من الانقطاع (تفريغ عنيف للطاقة، كسر التتابع الرمزي في النوبة). وهكذا سوف يخدع دستويـﭭسكي الأطباء الذين اعتقدوا – من بعده- ملاحظة فترات اغتباطية تسبق الأزمة، عند المصابين بالصرع، بينما لحظة الكسر هذه ستتميز في الواقع فقط بتجربة الضياع والمعاناة المؤلمة، وهذا وفق التجربة الخفية لـدستويـﭭسكي نفسه(20).
يمكن أن ندعم أن المدخل النفسي للانقطاع - في الاقتصاد المازوخي- تمت معايشته بوصفه صدمةً أو ضياعًا. فالذات تَقمع وتُقصِي العنف البارانوي الفصامي الذي سيكون لاحقًا، من هذا المنظور، على المدخل النفسي المؤلم للانقطاع. وتنتقل (الذات) إذن منطقيًّا وتعاقبيًّا إلى السجل، حيث تكون الفواصل وكذلك الروابط (الذات/ الموضوع، والأثر والمعنى) مهددة. وتتبدى هذه الحالة عند السوداوي من خلال هيمنة الحالة المزاجية على إمكانية التعبير اللفظي نفسها، قبل حدوث شلل وجداني محتمل.
ومع ذلك، يمكن أن نتأمل عرَض الصرع بوصفه متغيرًا آخر لانسحاب الذات -المهددة بالعثور على نفسها في الوضع البارانوي الفصامي- التي تعثر، من خلال تفريغ محرك، على تشريع صامت لـ«دافع الموت» (تمزق موصلية الاختلال العصبي للروابط الرمزية، أو فشل توازن البناء الحي).
من هذا المنظور، فإن السوداوية بوصفها مزاجًا مُحطِّمًا للتواصل الرمزي، والصرع أيضًا بوصفه تفريغًا محركًا، هما بمثابة مراوغات للذات إزاء العلاقة الإيروتيكية مع الآخر، خاصة قبالة إمكانات وجود البارانويات الفصامية للرغبة. وفي المقابل، يمكن أن نفسر المثالية والتسامي بوصفهما محاولةً للتملص من المواجهة نفسها، ولكن بمعنى النكوص وتناقضه السادي/مازوخي. بهذا المعنى، فالصفح، جنبًا إلى جنب مع التسامي، يزيلان إيروتيكية ما وراء الإيروس. ويُستبدل بالثنائي إيروس/ تانتوس(21) الثنائي إيروس/ الصفح، الذي يتيح للسوداوية الممكنة عدم التجمد في الانسحاب العاطفي للعالم، وعبور تمثيل الروابط العدوانية والمُهَدِّدة للآخر. لأنه في التمثيل، بقدر ما يتعلق الأمر بالاقتصاد المثالي والمتسامي للصفح، تستطيع الذات ليس الفعل، ولكن تشكيل دافع موتها -وثنيًّا- على الرغم من روابطه الإيروتيكية.
دستويـﭭسكي وأيوب
يستدعي الكائن الذي يعاني عند دستويـﭭسكي مغامرة أيوب المتناقضة التي أثرت بالتأكيد في الكاتب:
«أقرأ سفر أيوب الذي يمدني بتمجيد المرض: أوقف القراءة وأتجول في حجرتي لمدة ساعة، تقريبًا، وأبكي [...]. عمل غريب، يا آنّا Anna، هذا السفر من أول الكتب التي أثرت فيّ... وكنت تقريبًا حينئذ رضيعًا»(22).
أيوب إنسان أقبلت الدنيا عليه ويخلص للرب، يجد نفسه مستحوذًا بقوة للغاية -بسبب الرب أم بسبب الشيطان؟- على ثروات مختلفة... لكن هذا «التعس»، موضوع السخرية («أنوجه لك الكلام؟ أنت تعس!») (23)) ليس حزينًا في المجمل إلا لأنه يريد الله. إن يكن هذا الإله غير رحيم، ظالمًا مع المؤمنين، كريمًا مع الكافرين لن يقوده ذلك إلى فسخ التعاقد الإلهي. بل على العكس، سيعيش باستمرار تحت عين الله ويوفر اعترافًا يدرك الخضوع التعس فيما يخص أناه العليا الممتزجة بالأنا المثالية:
«ما الإنسان بالنسبة لك يا (الله) لتضعه في هذه الحالات المرضية الكثيرة؟»(24)؛ «فلتسحب نفسك مني كي أكون مسرورًا قليلًا»(25).
ومع ذلك، لم يقدر أيوب قوة الله الحقيقية («إن يمر بجواري، لن أراه»(26)) وينبغي في النهاية أن يستعرض اللهُ نفسُه باختصار أمام هذا المكتئب من كلَّ الخلق، مما يؤكد وضعيته بوصفه مشرعًا أو «أنا» عليا قادرة على المثالية، كي يستعيد أيوب الأمل. أيكون المتألم نرجسيًّا، أيكون إنسانًا يهتم للغاية بنفسه، مرتبطًا بقيمته الخاصة، وتقريبًا يحسب نفسه جوهرًا للتسامي؟ ومع ذلك، بعد أن يُعاقبه يهوه الرب، يكافئه في النهاية ويجعله فوق مذميه. «لم تقولوا -مفندًا إياهم- بشأني، الحقيقة كعبدي «أيوب»(27).
كذلك المعاناة -عند دستويـﭭسكي المسيحي- أمارة رئيسة على الإنسانية، هي علامة خضوع الإنسان للقانون الإلهي، على الرغم من اختلافه الشديد فيما يتعلق بهذا القانون. وتوجد تزامنية العلاقة والخطأ، والإخلاص والانتهاك، وفي النسق الأخلاقي نفسه، حيث الإنسان الدستويـﭭسكي أبله من قبل القداسة، وكاشف من خلال الإجرامية.
هذا المنطق الترابطي الضروري بين القانون والانتهاك لا يمكن أن يكون غريبًا؛ حيث شرارة انطلاق نوبة الصرع هي في الغالب حالة تناقض شديد بين الحب والكراهية، بين الرغبة في الآخر ورفضه. يمكن أن نتساءل، من ناحية، لو أن التناقض الوجداني الشهير لأبطال دستويـﭭسكي -الذي أوصل باختين Bakhtine (28) إلى طرح مبدأ «الحوارية» على أساس شعريته- لم يكن محاولة، من خلال تصميم الخطابات والصراع بين الشخصيات لتمثيل هذا التعارض، دون حل توليفي للقوتين (السلبية والإيجابية) الخاصتين بالدافع والرغبة.
ومع ذلك، لو أن المرء فك الارتباط الرمزي، يصبح «أيوبنا»، كيريلوﭪ، إرهابيًّا انتحاريًّا. ولم يكن ميريكوفسكي Merejkovski (29) مخطئًا تمامًا في أن يرى الكاتب الكبير بمثابة المبشر بالثورة الروسية. هو بالتأكيد يرهبها، يرفضها، ويصِمها بالعار، لكنه هو الذي يعرف مجيئها الغامض من خلال نفس إنسانه المتألم، وعلى استعداد لخيانة تصاغر أيوب من أجل التمجيد المهووس بالثورة التي تلعب دور الله (وفقًا لدستويـﭭسكي، تلك هي العقيدة الاشتراكية للملحدين). تنقلب نرجسية المكتئب إلى الهوس بالنزعة الإرهابية الملحدة: إن كيريلوﭪ هو الإنسان بلا رب الذي اتخذ مكان الرب. تتوقف المعاناة عندما يتأكد الموت. فهل المعاناة تمثل حاجزًا ضد الانتحار والموت؟
الانتحار أو الموت
سنتذكر على الأقل حلين، كلاهما قاتل، للمعاناة الدستويـﭭسكية، هما: الستار النهائي للفوضى والتدمير.
إن كيريلوﭪ مقتنع بأن الله غير موجود، لكنه من خلال التمسك بالحالة الإلهية، يود أن يرفع الحرية الإنسانية إلى مصاف المطلق، من خلال الفعل النافي، والحر بامتياز، الذي يمثله الانتحار بالنسبة له: الله غير موجود - أنا الله - أنا غير موجود - أنتحر، هذا هو المنطق المفارق لنفي الأبوة أو الألوهية المطلقة، ومع ذلك محافظ عليها (الألوهية) كي أحظى بها.
في المقابل، فإن راسكولنيكوﭪ وكأنه في حالة دفاع جنوني ضد اليأس، يرحِّل كراهيته ليس إلى ذاته، ولكن إلى آخر مرفوض، مُشهَّر به. بسبب جريمته المجانية التي تقوم على قتل امرأة لا يعتد بها، ويكسر العقد المسيحي («سوف تحب مستقبلك كنفسك»). وينكر حبه للكائن الذي ينحدر عنه («بما أنني لا أحب أمي، فمستقبلي بلا معنى، ما يسمح لي بأن أزيله بلا ضيق»، يبدو أنه يقول ذلك). وانطلاقًا من هذا المفهوم الضمني، يسمح لنفسه بأن يحقق كراهيته ضد محيط ومجتمع يشعر بهما كمضطَهِدين له.
إن المعنى الميتافيزيقي لهذه التصرفات، كما نعلم، هو النفي العدمي للقيمة العليا التي تشير أيضًا إلى عدم القدرة على الترميز، أو التفكير، أو الاضطلاع بالمعاناة. وتثير العدمية عند دستويـﭭسكي ثورة المؤمن ضد التحامل المتعالي. سوف يُظهر المحلل النفسي افتتان الكاتب، الملتبس على الأقل، فضلًا عن بعض الدفاعات الهوسية الموضوعة ضد المعاناة والاكتئاب الرائع، والتي يغذيها –بالتأكيد- بوصفها بديلاً ضروريًّا ومتعارضًا مع كتابته.
إن هذه المتاريس البائسة: التخلي عن الأخلاق، وفقدان معنى الحياة، والإرهاب أو التنكيل، شائعة للغاية في واقعنا، ولا تتوقف عن تذكيرنا بذلك. أما فيما يخص الكاتب فلقد اختار الانتساب إلى الأرثوذوكسية الدينية. هذه النزعة الظلامية، التي ندد بها فرويد على نحو عنيف للغاية -بعد كل شيء- أقل ضررًا على الحضارة من النزعة العدمية الإرهابية. ما يتبقى علاوة على ذلك، مع الأيديولوجيا وفيما ورائها، فالكتابة: صراع مرير ومستمر لتأليف عمل، من الحافة إلى الحافة، مع ملذات التدمير والفوضى التي لا تحصى.
الدين أو الهوس أو ابنة البارانويا، أهُم فقط الثقل الموازن لليأس؟ إن الإبداع الفني يندمج بها ويستنفدها. وهكذا تقودنا الأعمال الفنية إلى إقرار علاقات أقل تدميرًا وأكثر هدوءًا، مع أنفسنا ومع الآخرين.
موت بلا قيامة.. مرحلة نهاية العالم
أمام لوحة المسيح الميت لـ«هولبين»، ميشكين، كما يبوليت في «الأبله» (1869) يساورهما الشك في القيامة. الموت الطبيعي جدًّا، القاسي جدًّا، لهذه الجثة لا يبدو أنه ترك مكانًا للخلاص:
«إن منظر هذا الوجه المتورم، المغطى بالجروح الدامية مرعب».
تكتب آنا جريجوريفنا دوستويـﭭسكايا في مذكراتها(30)، أيضًا:
«أضعف من أن أستمر في المشاهدة لفترة طويلة، خلال الموقف الذي كنت موجودة فيه حينئذ، انتقلت إلى قاعة أخرى. لكن زوجي كان يبدو ضائعًا. يمكن أن نجد في «الأبله» انعكاس هذا الأثر القوي جدًّا الذي تركته هذه اللوحة عليه. عندما رجعت بعد عشرين دقيقة، كان لا يزال هناك، في نفس المكان، مقيدًا. وجهه المتأثر يحمل هذا التعبير الفزع الذي لاحظته كثيرًا للغاية في بداية نوبات الصرع. أمسكته برقة بذراعي، اصطحبته إلى القاعة وأجلسته على مقعد، منتظرين من لحظة لأخرى النوبة، التي لحسن الحظ، لم تحدث. هدأ تدريجيًّا، لكن عند الخروج من المتحف لم يصر على أن يعاود رؤية هذه اللوحة مرة أخرى»(31).
زمن ملغي ترزح تحته هذه اللوحة، فحتمية الموت تمحو أي وعد بخطة ما، أو باستمرارية أو قيامة. مرحلة نهاية العالم التي يعرفها دستويـﭭسكي جيدًا: يبتعثها أمام رفات زوجته الأولى ماريا دميتريـﭭنا Maria Dmitrievna («لم يعد هناك وقت»)، في إشارة إلى نهاية العالم(Ⅹ، 6)، والأمير ميشكين يتحدث عن ذلك بنفس الكلمات إلى روجوجين Rogojine («في هذه اللحظة أشعر أنني أفهم الكلمة الفريدة» لم يعد هناك وقت»)، ولكن بتأمل، كما كيريلوﭪ، النسخة المحمدية السعيدة، لهذا التعليق الوقتي. بالنسبة لدستويـﭭسكي، تعليق الزمن، إنه تعليق الإيمان بالمسيح:
«إذن كل شيء يعتمد على هذا: فلنقبل المسيح كمثالية نهائية على الأرض. وهذا يعني أن كل شيء يعتمد على الإيمان بالمسيح. إذا ما آمنا بالمسيح سنؤمن أننا سنحيا على نحو خالد»(32).
لكن أي غفران، وأي سلام في مواجهة العدم الحتمي لهذا الجسم الخالي من الحياة؟ لهذه العزلة المطلقة في لوحة هولبين؟ الكاتب مضطرب، كما كان أمام جثة زوجته الأولى 1864.
ما هي اللباقة؟
معنى السوداوية؟ لا شيء سوى المعاناة السحيقة التي لا تستطيع أن تعطي دلالة لنفسها والتي، بعد أن تفقد المعنى، تفقد الحياة. هذا المعنى هو التأثير الأخرق الذي سوف يبحث عنه المحلل وبأقصى قدر من التعاطف، ما وراء التباطؤ المحرك واللفظي لاكتئاباته، من خلال نبرة صوتها أو من خلال تقطيع كلماتها الميتة، المبتذلة، المستهلكة، الكلمات التي اختفى منها أي نداء للآخر، في محاولة للانضمام إلى الآخر من خلال المقاطع، ومن خلال الشذرات، ومن خلال إعادة تأليفها(33). يتطلب هذا الاصغاء التحليلي النفسي اللباقة. ما اللباقة؟ الفهم حقًّا مع الغفران. الغفران: العطاء أكثر، والمراهنة على ما هو موجود، للتجديد، ولإعادة تشغيل المكتئب (هذا الغريب المنكفئ على جرحه)، ومنحه إمكانية لقاء جديد. ستظهر خطورة هذا الغفران في أحسن الأحوال من خلال المفهوم الذي يطوره دستويـﭭسكي فيما يخص معنى السوداوية: بين المعاناة والمرور إلى الفعل، فيمثل النشاطُ الجمالي غفرانًا. هنا تظهر المسيحية الأرثوذكسية لـدستويـﭭسكي التي تتشبع بها أعمال الفنان من العمق وحتى السطح. هنا ينشأ أيضًا -أكثر من تواطئه الخيالي مع الإجرامي- الشعور بالضيق الناجم عن نصوصه لدى القارئ الحديث المحاصَر بالعدمية.
في الواقع، إن أي تجديف حديث ضد المسيحية -حتى بما فيه تجديف نيتشه- هو تجديف ضد الغفران. بيد أن هذا الغفران المفهوم بوصفه رضا بمهانة ورخاوة ورفض للقوة لا يمكن أن يكون سوى الصورة التي نصنعها عن مسيحية منحطة. وعلى العكس، إن خطورة الغفران، كما تجرى في التراث اللاهوتي وكما يُرد اعتبارها من قبل التجربة الجمالية التي تتماهى مع الحقارة كي تعبرها وتعينها وتستنفدها، ملازمة لاقتصاد النهضة النفسية. وهكذا، تظهر على أي حال تحت الترحيب الحاد للممارسة التحليلية. من هذا المكان، إن «انحراف المسيحية» الموصوم بالعار من قبل نيتشه عند بسكال(34) ويوجد أيضًا منتشرًا بقوة من خلال تناقض الغفران الجمالي عند دستويـﭭسكي، هو بمثابة معركة قوية ضد البارانويا المعادية للغفران. مسار راسكولينكوﭪ Raskolnikov هو مثال لذلك الذي يعبر سوداويته، وإنكاره الإرهابي، وفي نهاية المطاف، اعترافه الذي يتضح أنه بعث.
الموت: عدم القدرة على الغفران
تكمن فكرة الغفران في كافة أعمال دستويـﭭسكي. وتجعلنا رواية «مذلون مهانون» (1861) نقابل، منذ الصفحات الأولى، جثة متجولة. هذا الجسم الذي يشبه ميتًا، لكنه في الواقع على وشك الموت، يتسلط على خيال دستويـﭭسكي، عندما سيرى لوحة هولبين في بازل 1869، بلا شك كان انطباعه هو العثور على معارف قديمة، أو شبح حميمي:
«ما أثر فيَّ أيضًا، هو نحافته الشديدة؛ لم يعد لديه جسم تقريبًا، صار كما لو كان مجرد جلد على عظم. عيناه واسعتان، لكن مطفأتان، تحوطهما دائرة زرقاء داكنة، كانتا تنظران دائمًا إلى الأمام مباشرة، وليس جانبيًّا أبدًا، ولا تريان شيئا أبدًا، وأنا واثق من ذلك [...] فيم يفكر؟ ذهبت بعيدًا عن نفسي، ماذا برأسه؟ هل لا يزال يفكر في شيء ما؟ وجهه ميت لدرجة أنه لم يعد يفصح عن أي شيء على الإطلاق»(35).
هذا ليس وصفًا للوحة هولبين، لكن لشخصية ملغزة يكون مدخلها من خلال «مذلون ومهانون». الأمر يخص عجوز يدعى سميث Smith، جد الصغيرة المصروعة نيللي Nelly، أب لفتاة «رومانتيكية وغير عقلانية» تلك التي لن يغفر لها أبدًا علاقتها مع الأمير ب. أ. ﭬالكوﭬسكي P.A. Valkovski، العلاقة التي ستُفني ثروة سميث، والفتاة ونيللي نفسها، أبناء غير شرعيين للأمير.
لدى سميث كرامة صلبة وقاتلة لذلك الذي لا يغفر. تدشن، من خلال الرواية، سلسلة من الشخصيات المُذَلَّة والمُهَانَة بعمق والتي لا تستطيع الغفران وتلعن في لحظة وفاتها، طاغيتها بعاطفية شديدة تسمح بالتخمين أنه حتى على عتبة الموت نفسه، فإن الظالم هو المرغوب. تلك هي حالة ابنة سميث ونيللي نفسها.
تتقابل هذه السلسلة بأخرى: سلسلة السارد الكاتب مثل دستويـﭭسكي، وعائلة إخمينيـﭯ Ikhmeniev التي -من خلال ظروف مشابهة لظروف عائلة سميث، «مذلون ومهانون»- ينتهي بها الأمر إلى الغفران، ليس للمتبجح ولكن للفتاة الضحية (سوف نعود إلى هذا الاختلاف عندما نصر على وصفة الجريمة التي لا تُمْحَى ولكنها تتيح للمصفوح عنه «استعادة طريقه»).
دعونا نؤكد الآن على استحالة الغفران: لن يغفر سميث لابنته ولا لـ ﭬالكوﭬسكي، ولن تغفر الأم لـ ﭬالكوﭬسكي ولا لأبيها الساخط. كما في رقصة جنائزية، تقود الإهانة بلا غفران الجولة وتقود «أنانية المعاناة» هذه إلى الحكم بالموت على الجميع داخل الحكاية وبواسطتها. يبدو أن رسالة خفية تُستخلص في أن: المحكوم عليه بالموت هو ذلك الذي لا يغفر. الجسم المهيض في الشيخوخة والمرض والوحدة، كل العلامات الفيزيقية للموت الحتمي، المرض والحزن نفسه يشيران بهذا المعنى إلى عدم القدرة على الغفران. يستنتج القارئ، بعد ذلك أن المسيح الميت نفسه سيكون مسيحًا متخيلًا بوصفه غريبًا على الغفران. كي يكون أيضًا «ميتا فعليًّا»، ذلك المسيح الذي لم يكن قد غُفر له ولن يغفر. على العكس، تظهر قيامته بوصفها أعلى مظهر للغفران: بإعادة ابنه إلى الحياة، يتصالح الأب معه، بل -الأكثر من ذلك- بإحيائه، يظهر المسيح للمؤمنين به أنه لم يغادرهم: «أتيت إليكم، يبدو أنه يقول، لتفهموا أني أغفر لكم».
أمر لا يُصَدَّق، غير أكيد، مُعجِز، ومع ذلك فإنه أمر أساسي للغاية في العقيدة المسيحية، وعلى حد سواء، في الجمالي والأخلاقي عند دستويـﭭسكي، فالغفران جنون تقريبًا في «الأبله». وحلٌّ خارق في «الجريمة والعقاب».
في الحقيقة، بعيد عن نوباته التشنجية، فإن الأمير ميشكين ليس «أبله» سوى لأنه بلا ضغينة. يُستخف به، ويُسب، ويُستهزئ به، ويهدد بالموت من قبل روجوجين، والأمير يغفر. تجد فيه الرحمة تحققها النفسي حرفيًّا: بعد الكثير من المعاناة، يأخذ على عاتقه بؤس الآخرين. كما لو كان قد لمس المعاناة الكامنة في الأعمال العدوانية، إنه يتجاوز، ويمحو، بل ويواسي مشاهد العنف التعسفي التي يعاني منها، حيث يستدعي دستويـﭭسكي بقوة التراجيدي والبشع اللذين يؤذيانه: فلنتذكر تعاطفه من أجل الحياة الجنسية لفلاحة شابة سويسرية، مكروهة من قريتها، تلك التي تعلم الأطفال الحب؛ أو السخرية الصبيانية، والمثارة بمودة من أجليا Aglaia أو بصدده، حيث لم ينخدع حتى في المظهر البوهيمي الذاهل؛ أو الهجوم الهيستيري من ناستاسيا فيليبوﭬنا Nastassia Philipovna، في لقاء الأمير الخائر الذي تعرف أنه الوحيد الذي فهمها؛ حتى طعنة السكين الذي ناوله إياها روجوجين في الممر المظلم لهذا الفندق حيث رأى بروست Proust عبقرية دستويـﭭسكي تتجلى بوصفه مخترعًا لمساحات جديدة. لقد صدم الأمير من أشكال العنف هذه، فالشر يؤذيه، والرعب أبعد ما يكون عن النسيان أو التحييد بداخله، لكنه يتعافى، وضيقه اللطيف يظهر «ذكاءً عظيمًا»، كما ستقول أجليا:
«لأنه لو كنت مريضًا عقليًّا فعليًّا (لو سمحت، لا تخبرني عن ذلك، أفهم أن ذلك وجهة نظر سامية) الذكاء العظيم، في المقابل، متطور لديك أكثر من أي منهم، لدرجة أنهم ليس لديهم أي فكرة. لأن هناك نوعين من الذكاء، الأول الذكاء الأساسي والآخر ثانوي. أليس كذلك؟»(36).
قاده هذا «الذكاء» إلى تهدئة عنفه وإلى انسجام المجموعة التي يظهر فيها، بالتالي، ليس بوصفه عنصرًا نكرة، غريبًا، غثاء(37)، ولكن بوصفه قائدًا روحيًّا، حكيمًا، لا يمكن تجاوزه.
هدف الغفران
ما الذي يستهدفه الغفرانُ؟ إنه يستهدف الإهانات بكل تأكيد، وأيَّ جرح معنوي أو بدني، وأخيرًا، الموت. سوء السلوك الجنسي في القلب من «مذلون ومهانون» ويصاحب عددًا من الشخصيات النسائية عند دستويـﭭسكي (ناستسيا، وفيليبوﭬنا، وجروشينكا، وناتاشا...) كما أنه موضح أيضًا في الانحرافات الذكورية (اغتصاب القاصرين من قبل ستاﭬروجين، على سبيل المثال) لتقديم أحد البواعث الرئيسة للغفران. ومع ذلك يبقى الموت هو الشر المطلق وأيًّا كانت لذة المعاناة أو الأسباب التي تقود البطل الدوستويفسكي إلى تخوم الانتحار والقتل، فإن دستويـﭭسكي يدين بشراسة القتلَ، أي الموت الذي يمنحه الإنسان. لا يبدو أنه يمييز جريمة القتل المجنونة عن القتل الذي يكون عقوبة أخلاقية يحكم بها رجال العدالة. إن كان ينبغي عليه إرساء تمييزٍ بين الاثنين، فإنه يفضل التعذيب والألم اللذين، بإحداثهما لغلمته، يبدو أنهما يهذبان، وبالتالي يؤنسنان القتل والعنف في نظر فنان(38) لا يغفر، في المقابل، الموت البارد المحتوم، الموت «النظيف» تمامًا بالمقصلة: إنه «أقسى أنواع العذاب». «من يستطيع أن يقول إن الطبيعة الإنسانية قادرة على تحمل هذه المحنة دون أن تصاب بالجنون؟»(39) وفي الواقع، بالنسبة للمحكوم بالمقصلة، فإن الغفران مستحيل. إن وجه «المحكوم في اللحظة التي سيقصل فيها، عندما يكون بالفعل على السقالة وينتظر أن يُربط بأرجوحة المقصلة(40)» يُذكر الأمير ميشكين بلوحة بازل: «عن هذا العذاب وهذا الكرب تحدث المسيح»(41).
دستويـﭭسكي نفسه حكم عليه بالموت، ثم صُفح عنه. أيأخذ الصفح أهميته من رؤية دستويـﭭسكي للجمال وللعدل، وللتراجيديا التي تُحل عقدتها في اللحظة الأخيرة؟ أمن الممكن أن يأتي الصفح بعد موت تم تخيُّله، أو تمت معايشته، إن جاز التعبير، والذي أشعل بالضرورة حساسية كهربائية -مثل حساسية دستويـﭭسكي- قد تكشف حقًّا عن هذا الموت: تمحوه، وتصالح المحكوم عليه مع سلطة الإدانة؟ إن زخمًا عظيمًا للتصالح مع سلطة التخلي -أصبح ثانية مثالية مرغوبة- هو بلا شك ضروري حتى تستعاد الحياة بالنظر إلى الوراء، وحتى يتأسس اتصال مع الآخرين(42). زخم يكمن غالبًا تحته الكرب المضطرب السوداوي للذات الميتة من قبل، ذات مرة، على الرغم من البعث على نحو معجز... يستقر التناوب في خيال الكاتب، بين ما لا يمكن تجاوزه من المعاناة، وتألق الغفران، مترنمًا بعودهما الأبدي في كل أعماله.
يقترح الخيالُ الدراماتيكي لـ دستويـﭭسكي -على نحو خاص- في شخصياته الممزقة، صعوبة، بل استحالة هذا الحب المتسامح. ربما نجد التعبير الأشد كثافة الناجم عن ضرورة واستحالة الحب المتسامح في ملاحظات الكاتب على موت زوجته الأولى ماريا دميتريـﭭنا: «أن يحب الإنسان كما يحب نفسه وفق تعاليم المسيح، هذا مستحيل. أيقيدنا قانون الفرد على الأرض؟ الأنا تمنع ذلك». ومع ذلك فإن حيلة الغفران والقيامة الضروريين للكاتب تتدفق في «الجريمة والعقاب» 1866.
من الحزن إلى الجريمة
يصف راسكولينكوﭪ نفسه كشخصية حزينة:
«فلتسمع، يا رازوميخين Razoumikhine [...] لقد بذلت كل أموالي [...] أشعر بالحزن، الحزن الشديد! مثل امرأة...حقًا... (43)»
وتراه أمه كسوداوي:
«تعرفين، يا دونيا Dounia، كنت أنظر لكما الآن فقط، تشبهينه تمامًا، ليس جسديًّا بقدر ما هو نفسيًّا، كلاكما [راسكولينكوﭪ وأخته دونيا] سوداوي، كدر ونزق، كلاكما متكبر ونبيل»(44).
كيف ينقلب هذا الحزن إلى جريمة؟ يُدرس دستويـﭭسكي هنا وجهًا جوهريًّا لديناميات الاكتئاب: التذبذب بين الأنا والآخر، والإسقاط على الأنا والكراهية ضد الآخر، والعكس بالعكس، التحول ضد الآخر بانتقاص قيمة الأنا. أيهما أولًا: الكراهية أم الانتقاص؟ يسمح المديح الدستويـﭭسكي للمعاناة بافتراض أن دستويـﭭسكي يفضل التقليل من قيمة الذات، وامتهانها، بل ما يشبه المازوخية تحت النظرة الصارمة للأنا العليا المبكرة والمستبدة. من هذا المنظور، فالجريمة هي رد فعل دفاعي ضد الاكتئاب: قتل الآخر يحمي من الانتحار. النظرية والفعل الإجرامي لـ راسكولينكوﭪ يبرهنان كليًّا على هذا المنطق. فالطالب الكئيب الذي يسمح لنفسه بالعيش كمتشرد يُعد -كما نذكر- «تصنيفًا للبشر كعاديين وخارقين». يعلي النوع الأول من شأن الإنجاب، أما الآخر فلديه ملكات ومواهب أن يقول، في محيطه، كلامًا جديدًا. «في [الفئة] الثانية، الكل ينتهك القانون؛ إنهم مدمرون أو على الأقل كائنات تحاول التدمير وفق وسائلها»(45). أينتمي هو نفسه لهذه الفئة الثانية؟ هذا هو السؤال القاتل الذي سيحاول أن يرد عليه الطالب السوداوي بأن يجرؤ أو لا على العبور إلى الفعل.
يُنتزع الفعلُ القاتلَ المكتئبَ من السلبية والكآبة، بمواجهته بالكائن الوحيد المرغوب الذي يمثل له التحريم المتجسد من قبل القانون والسيد: «أن تفعل مثل نابليون»(46). إن ارتباط هذا القانون المستبد والمرغوب الذي يعني التحدي ليس سوى شيء تافه، من الهوام. من هو المنتسب للهوام؟ هل هو ضحية القاتل، أم الطالب السوداوي نفسه، المُمَجَّد مؤقتًا كقاتل، لكنه يعرف نفسه على نحو عميق بأنه ساقط وبغيض؟ يدوم التشوش، ويبرز دستويـﭭسكي، بعبقريةٍ، تماهيَ المكتئبِ مع الكائنِ المكروه:
«العجوز ليست سوى عارض... أود أن أنقذ العاطفة بأسرع ما يكون، لم أقتل إنسانًا، بل مبدأ»(47).
«كل شيء هناك، يكفي أن يتجرأ! يزعزع البناء من أساساته وكل شيء يُدمر، يرسل كل شيء إلى الشيطان... حينئذ، أنا وددت التجرؤ وقتلت [...] لم أتصرف إلا بعد تأملات ناضجة وهذا ما ضيعني [...] أو أنه على سبيل المثال، لو سألت نفسي: هل الإنسان هوام؟ إنه ليس هوامًا بالنسبة لي. إنه ليس كذلك سوى بالنسبة لذلك الذي لا يَرِدُ على ذهنه مثل هذه الأسئلة، ذلك الذي يسير في طريقه إلى الأمام دون تساؤل... أردت قتل، سونيا Sonia، بلا ضمير، قتلت من أجلي، من أجلي فقط [...] كنت بحاجة إلى المعرفة وفي أقرب وقت ممكن إذا ما كنت من الهوام مثل الآخرين أم إنسانًا؟ لو كنت أستطيع عبور الحاجز»(48).
وفي النهاية:
«إنها نفسي من قتلتُ، نفسي وليس هي، نفسي»(49).
«وفي النهاية أنا لست سوى هامّة بلا تغيير... [...] لأنني ربما أكثر شرًّا، أكثر جهلًا من الهوام التي قتلت»(50).
توصلت صديقته «سونيا» إلى النتيجة نفسها:
«آه، ماذا فعلت، ماذا فعلت بنفسك؟»(51).
أم وأخت: أم أو أخت
بين القطبين القابلين للانعكاس من انتقاص القيمة والكراهية، والذات والآخر. لا يؤكد المرور إلى الفعل ذاتًا، ولكن وضعًا ذهانيًّا، يُنهي المعاناة في نفس وقت القانون. يتأمل دستويـﭭسكي ترياقين لهذه الحركة الكارثية: اللجوء إلى المعاناة والصفح. يتم هذا المسار بالتوازي وربما بفضل كشف تحتاني، مبهم، يصعب إدراكه في خضم تشابك السرد الدستويـﭭسكي، ولكنه مع ذلك يلتقط بشفافية مسرنمة من قبل الفنان و... من قبل القارئ.
تتقارب آثار هذا «المرض»، الشيء التافه أو «الهامّة»، نحو أم أو أخت الطالب التعس؛ المحبوبتين والمكروهتين، الساحرتين والبغيضتين، تجد هاتان المرأتان القاتل في لحظات فعله وتأمله الحاسمة وكمانعتين للصواعق، تجذبان نحوهما عاطفته الملتبسة، ما لم تكونا في الأصل. هكذا:
«تتسارع المرأتان نحوه. لكنه يظل ساكنًا، متجمدًا، كما لو أنه حُرم من الحياة فجأة؛ كانت قد صعقته فكرة مفاجئة ولا تحتمل. ولم يعد بإمكان ذراعاه أن تمتدا لاحتضانهما: «لا، مستحيل». تعانقه أمه وأخته، تقبلانه، تضحكان، تبكيان. تقدم خطوة للأمام، ترنح، تدحرج على الأرض، أغشي عليه»(52).
«أمي، أختي، كما كنت أحبهما! من أين يأتي أنني أكرههما الآن؟ نعم أكرههما، كراهية جسدية، لا أستطيع أن أتحمل وجودهما بجانبي [...] أممم! هي [أمه] ينبغي أن تكون مثلي [...] أوه! كم أكره العجوز الآن! أعتقد أنني سأقتلها ثانية لو بعثت!»(53).
عبر هذه الأقوال الأخيرة التي ينطق بها هاذيًا، يكشف راسكولينكوﭪ عن تشوشه بين ذاته المنحطة، وأمه، العجوز المغتالة... لماذا هذا التشوش؟
وتكشف حلقة سفيدريجايلوف Svidrigailov إلى حدٍّ ما السرَّ: فالإنسان الماجن الذي عرف في راسكولينكوﭪ قاتل السيدة العجوز، يرغب في أخته دونيا. الحزين راسكولينكوﭪ مستعد من جديد للقتل، لكن هذه المرة ليدافع عن أخته. القتل، والانتهاك، كي يحمي سره من المشاركة، حبه المحرم المستحيل؟ يعرف ذلك تقريبًا:
«أوه! لو كنت قد استطعت أن أكون وحيدًا، وحيدًا، بلا أي عاطفة، وأنا أيضًا لا أحب أحدًا. كان سيسير كل شيء على نحو مختلف»(54).
الطريق الثالث
يبدو الصفح بوصفه المخرج الوحيد، الطريق الثالث بين الجزع والقتل. يحدث ذلك عقب التنوير الإيروتيكي، ويظهر ليس بوصفه حركة للأمثلة كابحة العاطفة الجنسية، ولكن بوصفه رحلة. ملاك هذا الفردوس وفق سفر الرؤيا يسمى سونيا، عاهرة بالتأكيد تتعاطف وتهتم بأسرته البائسة، لكنها مع ذلك عاهرة. عندما تتبع راسكولينكوﭪ إلى سجن الأشغال الشاقة في موجة من التواضع وإنكار الذات، يطلق عليها المحكومون أمنا الحلوة والمخلصة(55). التصالح مع أم محبة لكن مخلصة بل عاهرة. أبعد من ذلك وعلى الرغم من «أخطائها»، تظهر بوصفها شرطًا للتصالح مع ذاته. تصبح «الذات» في النهاية مقبولة لأنها موضوعة من الآن بعيدة عن الولاية المستبدة للسيد. تصبح الأم الصافحة والمصفوح عنها أختًا مثالية وتحل محلنابليون. حينئذ يمكن أن يهدأ البطل المهان والمتحارب. ها نحن في المشهد الريفي الأخير: نهار مشرق ولطيف، أرض تغمرها الشمس، الزمن متوقف.
«يبدو أن الزمن كان قد توقف هناك في عصر إبراهيم وقبائله»(56).
وحتى لو بقي سبع سنوات في السجن، ترتبط المعاناة الآن بالسعادة:
«لكن راسكولينكوﭪ كان قد بُعث، كان يعرف ذلك، كان يشعر بذلك بكل كيانه. أما بالنسبة لـ سونيا فلم تكن تعيش سوى من أجله»(57).
لم تكن لتظهر هذه الخاتمة متجاوزة ما لم يتم تجاهل الأهمية الأساسية للأمثلة من خلال النشاط التصاعدي للكتابة. عبر راسكولينكوﭪ وشياطين أخرى متداخلة، أليست هذه دراماه الخاصة الواهنة التي يحكيها الكاتب؟ الخيال هو هذا المكان الغريب حيث تهدد هوية الذات، تضيع على عتبة الشر، والجريمة أو عمه الرموز، حتى تجتاز كل ذلك وتشهد عليهمن مكان آخر. فضاء مزدوج، لا يمكنه إلا أن يتعلق بقوة بالمثالي الذي يسمح للعنف المدمر أن يعبر عن نفسه بدلًا من أن يحدُث. إنه التسامي، إنه الحاجة للغفران.
أبدية الغفران
الغفران لا تاريخي. يكسر تسلسل الآثار والأسباب، والعقاب والجرائم، ويُعلق زمن الأفعال. ينفتح فضاء غريب على هذه الديمومة التي ليست فضاء اللاوعي الهمجي المشتهى والمميت، لكن نظيره: تساميه بمعرفة السبب، وتناغم غرامي لا يجهل أشكال عنفه لكن يحتفي بها، في مكان آخر. وبمواجهات تعليق الزمن والأفعال من خلال أبدية الغفران، نفهم هؤلاء الذين من أجلهم فقط يمكن أن يغفر الله(58). مع ذلك فإنه في المسيحية، نجد أن التعليق بالتأكيد الإلهي للجرائم وللعقاب هو قبل أي شيء من صنع البشر.
نُصر على أبدية الغفران هذه. إنها ليست العصر الذهبي للأساطير القديمة. عندما يتأمل دستويـﭭسكي هذا العصر الذهبي، يقوم بالإعلان عن أحلام يقظته من خلال ستاﭬروجين Stavroguine (الممسوسون)، وﭬيرسيلوﭪ Versilov (المراهق) وفي «أحلام رجل مضحك» (يوميات كاتب 1877). يتخذ كدعم «أسيس وجالاتيا» Acis et Galatee لـ كولود لورون Claude Lorrain.
من خلال طباق حقيقي مع لوحة «المسيح الميت» لـ هالوبين Holbein، هذا التمثيل للحب العذري بين الراعي الشاب «أسيس» والحورية «جالاتيا» تحت النظرة الغاضبة -بل ولفترة: النظرة المقهورة- من بوليفيرني Polypherne المحب الحالي هو وجه العصر الذهبي لزنا المحارم، الفردوس ما قبل الأوديبي النرجسي. العصر الذهبي هو خارج الزمن لأنه ينسحب من رغبة قتل الأب، ويغرق في استيهام القدرة الكلية للابن داخل «أركاديا النرجسية»(59). وهكذا كيف شعر ستاﭬروجين بذلك:
«توجد في متحف درسدن لوحة لـ كلود لورين التي ترسم في الكتالوج تحت عنوان «أسيس وجالاتيا»، على ما أعتقد. أنا كنت أطلق عليها، ولا أعرف لمَ: العصر الذهبي [...]. إنها اللوحة التي أراها في الحلم، ومع ذلك ليس كلوحة، لكن كواقع. كانت كذلك في اللوحة، زاوية من الأرخبيل اليوناني، وكنت، على ما يبدو، قد عدت ثلاثة آلاف سنة للخلف. أمواج زرقاء ومداعبة، وجزر وصخور، وشواطئ مزدهرة، بعيدًا، وبانوراما فاتنة، ونداء الشمس الغاربة... لا تستطيع الكلمات وصف ذلك. كان هنا مهد الإنسانية، وكانت تلك الفكرة تملأ نفسي بحب أخوي. إنه الفردوس الأرضي؛ تنزل الآلهة من السماء وتتحد بالبشر؛ هنا كانت تدور المشاهد الأولى للأسطورة. كانت تعيش أجمل إنسانية. يستيقظ البشر وينامون سعداء ووديعين؛ تدوي الغابات بأغانيهم المبهجة؛ ويتدفق فائض قوتهم الوفيرة في الحب، وفي الفرح الساذج. شعرت بذلك، بينما أميز المستقبل الضخم الذي ينتظرهم والذي لم يرتابوا فيه حتى، وقلبي يرتجف من هذه الأفكار. أوه! كم كنت سعيدًا أن قلبي يرتجف، وأنني استطعت أخيرًا الحب! تسلط الشمس أشعتها على الجزر وعلى البحر وتسر بأطفالها الجميلين. منظر بديع! وهمٌ سامٍ! حلم أكثر من مستحيل للجميع، لكن الإنسانية منحته كل قواها، من أجله ضحت بكل شيء؛ باسمه مات المرء على الصليب، وقتل الأنبياء، بدونه لا يرغب الناس في الحياة، بدونه لا يستطيعون أيضًا الموت [...]. لكن الصخور والبحر، والأشعة المائلة للشمس الغاربة- كل ذلك، كان يبدو لي أنني ما زلت أراه عندما كنت أستيقظ وأفتح عينيَّ المغرورقتين حرفيًّا بالدموع، للمرة الأولى في حياتي [...]. وفجأة تذكرت العنكبوت الأحمر الصغير. رأيته كما كنت قد تأملته على ورقة نبات إبرة الراعي، فيما كانت الشمس تفيض بأشعتها المائلة كما في هذا الوقت الراهن. ثمة شيء ما حاد دخلني. هكذا بالضبط كانت تجري الأمور»(60).
إن أحلام يقظة العصر الذهبي هي في الحقيقة إنكار للذنب. وعلى الفور بعد لوحة كلود لورين، يرى ستاﭬروجين في الحلم وحش الندم الصغير، العنكبوت، الذي يحجزه في شبكة هذا الوعي التعيس لكونه تحت طغيان قانون قمعي ومنتقم، حيث كانت الجريمة هي رد الفعل إزاءه تحديدًا. يقدم عنكبوت الذنب صورة للصغيرة ماتريوشا Matriocha المغتصبة والمنتحرة. بين أسيس وجالاتيا، أو العنكبوت، بين الهروب من خلال التقهقر، أو الجريمة التي تُشعر بالذنب في نهاية المطاف، يبدو ستاﭬروجين ممزقًا. ليست لديه إمكانية الوصول إلى وساطة الحب، إنه غريب على عالم الغفران.
وبطبيعة الحال، فإن دستويـﭭسكي هو من يتخفى تحت قناع ستاﭬروجين، وﭬيرسيلوﭪ والرجل المضحك الحالم بالعصر الذهبي. لكنه لم يعد يستعير قناعًا عندما يصف مسرح الغفران بين راسكولنيكوﭪ وسونيا: كفنان ومسيحي، إنه الراوي، الذي يضطلع بحيلة هذه الصورة الغريبة التي هي الخاتمة - الغفران لـ«الجريمة والعقاب». المشهد بين راسكولنيكوﭪ وسونيا، يذكرنا بذلك المشهد بين أسيس وجالاتيا، ومن خلال الفرح الرعوي والإشراق الفردوسي اللذين يخضبانه، لا يشير إلى لوحة كلود لورين ولا إلى العصر الذهبي. غريب هو العصر الذهبي الذي يقع في الواقع في قلب الجحيم، في السجن، بالقرب من هنجر المحكوم عليهم. يستحضر غفران سونيا التقهقر النرجسي لمحب زنا المحارم، ولكن لا يمتزج به: يعبُر راسكولنيكوﭪ فجوة السعادة الغرامية من خلال انغماسه في قراءة قصة لازار (أليعازر) Lazare وفقًا للإنجيل الذي تعيره سونيا إياه.
إن وقت الغفران ليس وقت المطاردة ولا وقت الكهف الأسطوري «ذي القبة الصخرية حيث لا يشعر المرء بالشمس في ذروة حرارتها ولا بالشتاء»(61)، بل هو وقت تعليق الجريمة، وقت وصفها الوصف الذي يعرف الجريمة ولا ينساها، ولكن دون التعمية على رعبها، دون الرهان على بداية جديدة، أو على قيامة للشخص(62):
«ترك راسكولنيكوﭪ الهنجر، وجلس على كومة من الخشب مكدسة على الجرف وبدأ يفكر في النهر الواسع والموحش. من هذا الشاطئ المرتفع اكتشف مساحة شاسعة من البلاد. من الشاطئ المقابل والبعيد جاءت أغنية يدوي صداها في آذان السجين. هناك، في السهوب الهائلة، التي تغمرها الشمس، حيث كانت تظهر خيام البدو هنا وهناك، كبقع سوداء تلحظ بالكاد،. كانت الحرية، وكان يعيش الرجال الذين لم يشبهوا في شيء أولئك المحكومين بالسجن. بدا وكأن الوقت قد توقف في عصر إبراهيم وقبائله. كان راسكولنيكوﭪ يحدق على مدى البصر، عيناه ثابتتان، دون أن تتحركا. لم يعد يفكر. كان يحلم ويتأمل، لكن في نفس الوقت كانت تكدره موجة قلق.
فجأة وجدت سونيا نفسها إلى جانبه. كانت قد اقتربت بهدوء وجلست بجانبه. [...] ابتسمت للسجين بهيئة ودودة وسعيدة، ولكن، كالمعتاد، مدت له يدها بخجل. فجأة، وبدون معرفة السجين كيف حدث ذلك، ألقت به قوة غير مرئية عند قدمي الفتاة. بدأ يبكي، معانقًا ركبتيها. في البداية، كانت خائفة بشكل رهيب وأصبح وجهها شاحبًا على نحو مميت. قفزت إلى قدميه ونظرت إليه مرتجفة، لكنها في الوقت نفسه فهمت كل شيء. سعادة لا نهائية أشرقت في عينيها. فهمت أنها تحبه، لم تكن تستطيع الشك في ذلك. كان يحبها حبًّا لا حدود له: إذن لقد وصلت اللحظة التي طال انتظارها»(63).
يبدو هذا الغفران الدستويـﭭسكي يقول:
حبي، أستبعدك بعض الوقت من الحكاية، وأعتبرك طفلًا، وهو ما يعني أنني أدرك الينابيع اللاواعية لجريمتك وأتيح لك التبدُّل. ولكي يكون اللاوعي جزءًا من قصة جديدة لا تعتبر العودَ الأبديَّ لدافعِ الموتِ من خلال دورة الجريمة/ العقاب، يجب أن ينتقل عبر حب المغفرة، ويتحول إلى حب المغفرة. تطبع ينابيع النرجسية والأمثلة علاماتها على اللاوعي وتعيد تشكيله. لأن اللاوعي غير محدد البنية كلغة، ولكن مثل جميع علامات الآخر، بما في ذلك –وخاصة- الأكثر تقادمًا، «السيميائية»، المصنوعة من الحسية الذاتية قبل اللفظية التي تعيدها لي الخبرة النرجسية أو العاطفية. يجدد الغفران اللاوعي لأنه يسجل الحق في التقهقر النرجسي من خلال التاريخ ومن خلال الكلام.
وهذان يتم تعديلهما. فهما ليسا هروبًا خطيًّا إلى الأمام، ولا عودة أبدية لتكرار موت الانتقام، ولكن دوامة تتبع مسار الدافع القاتل ومسار الحب - الانبعاث.
من خلال تعليق السعي التاريخي بفضل الحب، يكشف الغفران عن الإمكانات المتجددة الخاصة بالإشباع النرجسي والأمثلة الداخلية في علاقة الحب. وفي الوقت نفسه، يُؤخذ في الاعتبار سجلان للذاتية: السجل اللاواعي الذي يوقف الزمن من خلال الرغبة والموت، وسجل الحب الذي يعلق اللاوعي القديم والتاريخ القديم، ويبدأ إعادة بناء شخصية في علاقة جديدة من أجل آخر. لا وعيي هو إعادة الكتابة وراء هذه الهبة التي يهبني إياها شخص آخر لعدم إدانة أفعالي.
الغفران لا يغسل الأفعال. إنه يثير اللاوعي بموجب الأفعال ويجعله يلتقي بعاشق آخر: آخر لا يدين ولكنه يسمع حقيقتي من خلال قابلية الحب، ولهذا السبب نفسه يُسمح بميلاد جديد. الغفران هو المرحلة المضيئة من الأبدية اللاوعية المظلمة: المرحلة التي تُغير فيها هذه الأخيرة القانون وتتبنى التعلق بالحب كمبدأ لتجديد الآخر والذات.
الغفران الجمالي
ندرك خطورة مثل هذا الغفران مع الرعب غير المقبول ومن خلاله. ويمكن إدراك هذه الخطورة عبر الاستماع التحليلي الذي لا يدين ولا يحسب، ولكنه يحاول حل المسألة وإعادة تكوينها. وتتحقق دوامتها الزمانية في وقت الكتابة. ونتيجة الانفصال عن لا وعيي من خلال تحول جديد إلى آخر جديد أو إلى مثل أعلى جديد، فأنا قادر على كتابة دراما عنفي ويأسي غير القابلين للنسيان مع ذلك. وقت هذا الانفصال وهذه البداية الجديدة -الكامن في فعل الكتابة نفسه- لا يظهر بالضرورة في المواضيع السردية التي لا يمكن أن تكشف سوى عن جحيم اللاوعي، ولكنه يمكن أيضًا أن يعبر عن نفسه في حيلة الخاتمة، مثل خاتمة الجريمة والعقاب، التي تعلق مغامرة رومانتيكية قبل أن تبعثها مجددًا مع رواية جديدة. إن الجريمة التي لا تنسى -ولكنها دالة من خلال الغفران والرعب المكتوب- هي شرط الجمال. ليس هناك جمال بعيدًا عن الغفران الذي يتذكر الوضاعة ويرشحها بواسطة العلامات المُزَعزِعة، والمموسِقة، المجددة حسيًّا للخطاب الغرامي. الغفران جمالي، والخطابات (الأديان والفلسفات والأيديولوجيات) التي تلتصق بديناميات الغفران تشرط مسبقًا الانبثاق الجمالي في مدارها.
يستوجب هذا الغفران في البداية إرادة أو فرضية أولى أو مخططًا: المعنى موجود. الأمر لا يعني بالضرورة إنكار اللامعنى أو التمجيد الهوسي ضد اليأس (حتى لو -في عدد من الحالات- قد تهيمن هذه الحركة). هذه البادرة لتأكيد ونقش المعنى التي يحملها الغفران في ذاته، كأنها بديل تآكل المعنى، والكآبة والوضاعة. بفهمها، يتم زحزحتها، وباستيعابها، يتم تحويلها وربطها من أجل شخص آخر. «يوجد معنى»: بادرة انتقالية بارزة توجِد ثالثًا من أجل آخر وبواسطته. ويتجلى الغفران أولًا وقبل كل شيء كإعداد لشكل. وهذا الشكل له تأثير التشريع، الفعل، الخلق. تشكيل العلاقات بين الأفراد المهانين والمذلين: تناغم المجموعة. وتنسيق العلامات. وانسجام العمل، دون تفسير، ودون شرح، ودون فهم التكنيك والفن. ويوضح الجانب «الأساسي» لمثل هذا الفعل لماذا لديه القدرة على الوصول إلى ما وراء الكلمات والذهنيات، والمشاعر والأجسام الممزقة. ومع ذلك، فإن هذا الاقتصاد ليس بدائيًّا. إمكانية منطق التبديل (الإلغاء) الذي ينطوي عليه (اللامعنى والمعنى، هزة إيجابية ودمج عدمه الممكن) هو ناجم عن تعلق الذات الصلب بالمثل الأعلى الملتزم. ذلك الذي في مجال الغفران -الذي يمنحه والذي يقبله– هو قادر على التماهي مع أب، أب خيالي معه، بالتالي، هو مستعد للتأقلم مع قانون رمزي جديد.
إن الإنكار مشارك في عملية التبديل هذه أو المصالحة التماهوية. فهو يوفر متعة ضارة ومازوخية، من خلال عبور المعاناة نحو تأكيد العلاقات الجديدة التي هي بمثابة الغفران وكذلك العمل. ومع ذلك، على عكس إنكار الإنكار الذاتي الذي يلغي الدال ويؤدي إلى الكلام المفرغ من الكآبة(64)، تدخل عملية أخرى هنا في اللعبة لضمان الحياة الخيالية.
الأمر يختص بغفران جوهري في التسامي، يقود الذات إلى تماهٍ كامل (واقعي وخيالي ورمزي) مع إلحاح المثالي نفسه(65). وهو بسبب الحيلة المعجزة لهذا التماهي غير المستقر دائمًا، وغير المكتمل، بل والثلاثي باستمرار (واقعي، وخيالي، ورمزي) فإن الجسم المعاني للصافح -كما للفنان- يخضع لتغيير: «تبديلية»، كما يصفها جويس، إنها تسمح له أن يعيش حياة ثانية، حياة الشكل والمعنى، ممجدة نوعًا ما أو اصطناعية في نظر أولئك الذين ليسوا هناك، ولكنها هي الشرط الوحيد لبقاء الذات على قيد الحياة.
شرق وغرب: بواسطة الابن أم الروح القدس
المصدر الأوضح لمفهوم الغفران الذي ستطوره المسيحية لقرون يعود وفقًا للأناجيل إلى القديس بولس(66) والقديس لوقا(67). ومثل كل المبادئ الأساسية للمسيحية، سيتم تطويره لدى القديس أوجستين، ولكن لدى القديس جون الدمشقي (القرن السابع عشر) سوف نجد أقنوم «عطف الأب» (يودوكسيا)، و«رحمة العطاء» (أوسبلانخنا) و«التفضل» (الابن ينزل إلينا) (سينكاتاباسيس). بالمقابل، يمكن تفسير هذه المفاهيم بِعَدِّها خصوصية المسيحية الأرثوذكسية حتى في انفصال الابن/ الروح القدس.
يبدو أن اللاهوتي قد حدد بعمقٍ الإيمانَ الأرثوذكسيَّ الذي يعبر عن نفسه بقوة لدى دستويـﭭسكي/ ويمنح التجربة الداخلية الخاصة برواياته هذه الكثافة العاطفية، هذه العواطف الشجية الباطنية المستغربة للغاية بالنسبة للغرب. هذا هو القديس سيميون اللاهوتي الجديد (999-1022)(68). قصة تحول هذا الأمي إلى المسيحية نصفها بالأسلوب البولسي (نسبة للقديس بولس):
«وأنا دائم البكاء، ذهبت باحثًا عنك، غير معروف، لقد نسيت كل شيء... ثم ظهرت، أنت، غير مرئي، بعيد المنال... يبدو لي، يا رب، أنك، بلا حراك، تنتقل، أنت، مستديم، كنت تتغير، أنت، من دون هيئة، تتخذ وجهًا، وكنت متألقًا ويبدو لي أنك تتجلى لي كليًّا في كل شيء...»(69).
يفهم القديس سيميون الثالوث بوصفه انصهارًا لاختلافات الأشخاص الثلاثة، ويعلن ذلك بشكل مكثف من خلال استعارة النور(70).
النور والأقانيم، والوحدة والتجليات: هذا منطق الثالوث البيزنطي(71). على الفور يجد هذا المنطق لدى سيميون معادله الأنثروبولوجي:
«كما أنه من المستحيل أن يكون الإنسان كلمة أو روح من دون نفس، لذلك فمن المستحيل التفكير في الابن مع الآب من دون الروح القدس [...] لأن روحك، وكذلك نفسك، هي في فطنتك وفطنتك كلها هي في كلمتك وكل كلمتك هي في كل روحك، من دون انفصال ودون ارتباك. إنها صورة الله فينا»(72).
وبهذه الطريقة، يُثبت المؤمن نفسه بالاندماج مع الابن والروح:
«أشكرك على أنك، دون رتباك، ومن دون تغيير، جعلت روحَ قدسٍ واحدًا معي، على الرغم من أنك الله قبل كل شيء، أصبحت لي كل شيء في كل شيء»(73).
هنا نلمس «أصالة العقيدة». وهي سوف تؤدي، من خلال العديد من الجدل المؤسسي والسياسي، إلى الانفصال الذي تم في القرن الحادي عشر وأنجز مع الاستيلاء على القسطنطينية من قبل اللاتينيين في 1204. وعلى المستوى اللاهوتي البحت، إنه سيميون أكثر من فوتيوس، هو الذي صاغ المذهب الشرقي بواسطة الابن المعارض للروح القدس عند اللاتينيين. الإصرار على الروح القدس يؤكد على هوية الحياة في الروح والحياة في المسيح، وعلم الظواهر الروحية القوي هذا يعثر في الآب على أصله. ومع ذلك، فإن هذا الإلحاح الأبوي ليس مجرد مبدأ للسلطة أو سبب ميكانيكي بسيط: في الآب، يفقد الروح أهميته ويتماهى مع ملكوت الله المُعرَّف من خلال التحولات الجنينية، والإزهارية، والمغذية والإيروتيكية، التي تشير إلى -فيما وراء الطاقة الكونية التي تعتبر في كثير من الأحيان خاصة بالشرق- الانصهار الجنسي الصارخ مع الشيء في حدود إمكانية تسميته(74). من خلال هذه الدينامية، تبدو الكنيسة نفسها وكأنها هيئة جسم الروح soma pneumatikon، «سر»، أكثر منها مؤسسة على غرار الممالك.
هذا التماهي الانتشائي للأقانيم الثلاثة فيما بينها وبين المؤمن مع الثالوث لا يؤدي إلى مفهوم الاستقلال الذاتي للابن (أو المؤمن)، ولكن إلى انتماء روحاني لكل واحد بالآخرين، وهو ما يفسر تعبير بواسطة الابن (الروح القدس ينحدر من الآب بواسطة الابن) مقابل الروح القدس (الروح القدس ينحدر من الأب والابن(75)).
وكان من المستحيل، في ذلك الوقت، العثور على تسويغ عقلاني لهذه الحركة الصوفية الباطنية في الثالوث والعقيدة، حيث إنه دون أن يفقد الروح القدس قيمته الشخصية يندمج مع القطبين الآخرين، وفي الوقت نفسه، يعطيهما، وراء قيمة هويتهما أو سلطتهما المتميزة، عمقًا سحيقًا، مدوخًا، وبالتأكيد أيضًا جنسيًّا، وفيه تستقر التجربة النفسية للفقدان وللنشوة. إن العقدة البوروميوية التي استخدمها لاكان Lacan بوصفها كناية عن الوحدة والاختلاف بين الواقعي والخيالي والرمزي، ربما تسمح لنا بالتفكير في هذا المنطق، إذا كان من الضروري عقلنة ذلك. ولكن على وجه التحديد لا يبدو أن هذا هو غرض اللاهوتيين البيزنطيين من الـxp إلى القرن الثالث عشر، المشغولين بوصف ذاتية جديدة ما بعد أنتيكية، بدلًا من إخضاعها للعقل الحالي. من ناحية أخرى، فإن آباء الكنيسة اللاتينية، الأكثر منطقية، والذين اكتشفوا للتو أرسطو (حينئذ كان قد تشبع الشرق به ولا يسعى سوى للتمايز عنه)، منطقوا الثالوث من خلال رؤية أن الله جوهر فكري بسيط قابل للتوضيح من خلال ثنائيات: يلد الآب الابن. الآب الابن ككل ينبثق عنهما الروح القدس(76). تم تطوير هذه الحجة عن الروح القدس من قبل علم القياس الذي وضعه أنسيلم كانتوربوري(77) في مجلس باري في عام 1098، وسوف يتم تناولها وتطويرها من قبل توما الأكويني. سيكون لها ميزة ترسيخ السلطة السياسية والروحية للبابوية من جهة، ومن ناحية أخرى، الحكم الذاتي والعقلانية للشخص المؤمن الذي تماهى مع ابن له سلطة وهيْبة على قدم المساواة مع الآب. وهكذا ما اكتسبه من خلال المساواة، ومن ثم من خلال الأداء والتاريخانية، ربما يكون قد فقده في تحديد الهوية، بمعنى عدم الاستقرار الدائم للهوية.
التمايز والتماثل، بدلًا من الحكم الذاتي والمساواة، يربطان في المقابل هذا الثالوث الشرقي، الذي أصبح بالتالي مصدرًا للنشوة والتصوف. وسوف تغذي الأرثوذكسية ذلك بأن تعبد فيما وراء التقابلات الشعور بالكمال، حيث كل شخص من الثالوث يرتبط ويتماهى مع الآخرين تمامًا: انصهار إيروتيكي. في هذا المنطق «البوروميوي» للثالوث الأرثوذكسي، ينفتح المجال النفسي للمؤمن على أعنف حركات الاندفاعات نحو السرور أو الموت، والتي تتميز ببساطة لامتزاجها بوحدة الحب الإلهي(78). وعلى هذه الخلفية النفسية يجب أن نفهم جرأة الخيال البيزنطي في تمثيل الموت وعاطفة المسيح في فن الأيقونات، فضلًا عن ميل الخطاب الأرثوذكسي لاستكشاف المعاناة والرحمة. يمكن أن تضيع الوحدة (وحدة المسيح على جولجوثا، ووحدة المؤمن من خلال الإذلال أو الموت)، ولكن في حركة العقدة الثالوثية يمكن لهذه الوحدة استعادة صلابتها المؤقتة بفضل الخير والرحمة، قبل استئناف هذه الدورة الأبدية للاختفاء والظهور.
«أنا» ابن وروح قدس
فلنتذكر، بهذا المعنى، بعض الأحداث اللاهوتية، النفسية، التصويرية التي تعلن الانقسام، وفيما بعد، الروحانية الروسية، أساس الخطاب الدستويـﭭسكي. بالنسبة لـ سيميون اللاهوتي الجديد، لا ينفصل النور عن «الحنان المؤلم» katanyxis الذي ينفتح على الله بالخشوع وفيض من الدموع، لأن الحنان يَعرِف من البداية الغفران. من جهة أخرى، يقود المفهوم الروحاني لسر القربان المقدس الذي عرضه على سبيل المثال القديس ماكسيموس المعترف (القرن الثاني عشر)، إلى الاعتقاد بأن يسوع في نفس الوقت مؤله ومصلوب، وأن الموت فوق الصليب مغروس في الحياة وحَيٌّ. انطلاقًا من ذلك، سيسمح الرسامون لأنفسهم بعرض موت المسيح فوق الصليب: لأن الموت حي، الجسم الميت جسم عفيف قد تحفظه الكنيسة بوصفه صورة وواقعًا.
منذ القرن الحادي عشر أُثْرِيَ الرسم التخطيطي في العمارة وفن الأيقنة الكنسي بتمثيل المسيح محاطًا بالرسل (الحواريين)، يناولهم الكأس والخبز: مسيح «يُقدِّم ويُقَدَم»، حسب صيغة القديس «يوحنا فم الذهب». كما يؤكد ذلك أوليفييه كليمنت Olivier Clement، حتى فن الموزاييك يفرض حضور الضوء، منحة النعمة والروعة، وفي نفس الوقت يدعو التصوير الأيقوني لدورة مريم ولآلام المسيح إلى تماهي الأشخاص المؤمنين مع شخوص الكتابة. هذه النزعة الذاتية، من خلال شعاع النعمة، تجد أحد تعبيراتها المميزة في تصوير آلام المسيح: مثل الإنسان، يتألم المسيح ويموت. ومع ذلك يستطيع الرسام أن يعرض ذلك وأن يراه المؤمن، فإذلاله ومعاناته لأنهما غارقان في حنان الرحمة من أجل الابن في الروح القدس. كما لو أن القيامة جعلت الموت مرئيًّا وفي نفس الوقت أكثر إثارة للشفقة أيضًا. كانت مشاهد الآلام قد أضيفت إلى دورة الطقوس الدينية التقليدية 1164، في «نيريزي»، الكنيسة المقدونية المؤسسة من قبل الكومينيون.
ومع ذلك جُمِّدَ هذا التقدم لفن الأيقونات البيزنطي فيما يتعلق بالتراث الكلاسيكي أو اليهودي فيما بعد. كانت النهضة لاتينية، ومن المرجح أن الأسباب السياسية والاجتماعية أو الغزوات الأجنبية لم تكن وحدها ما ساهمت في خسوف الفن التصويري الأرثوذكسي من خلال الرسم التخطيطي. بالتأكيد المفهوم الشرقي عن الثالوث أعطى استقلالية أقل للفرد عندما لم يخضعه لسلطة، ولم يشجعه بالتأكيد على أن يتحول إلى نوع من «الفردانية الفنية.» ومع ذلك، في أقل المستويات إثارة، وأكثرها حميمية، وبالتالي أقلها سيطرة على الفن اللفظي، حدث هذا النمو بالفعل، على الرغم من التأخير الذي نعرفه، على سبيل المكافأة، مع الاستخلاص الكيميائي للمعاناة وخاصة في الأدب الروسي.
بعد أن جاءت في وقت متأخر بعد الانطلاقة البيزنطية وبعد انطلاقة سلاف الجنوب (البلغار والصرب)، أبرزت الكنيسة الروسية نزعاتها الروحانية والصوفية. التراث ما قبل المسيحي، الوثني، الديونيسي، الشرقي، طبع البيزنطية الأرثوذكسية المنصرمة في روسيا بذروة لم تصلها أبدًا: إن الخلاصيين «khlysty» هم طائفة صوفية مستلهمة من المانوية، التي تفضل الإفراط في المعاناة والنزعة الإيروسية من أجل تحقيق انصهار كامل للمشيعين مع المسيح. ظهور الإلهي في الأرض (تلك الفكرة التي سوف تؤدي إلى فكرة أن موسكو بمثابة «روما ثالثة»، بعد القسطنطينية... بل أيضًا أدت إلى الأممية الثالثة، كما يُعقب البعض)؛ تمجيد الخلاص الذاتي، وخاصة أقنوم الحنان oumiliénié، عند مفترق طرق المعاناة والفرح في المسيح. إن حركة «أولئك الذين عانوا الآلام» strastotierptsy، أي أولئك الذين تعرضوا فعليًّا للوحشية والإذلال لكن لا يستجيبون للشر سوى بالغفران - من بين التعبيرات الأكثر وظيفية وأكثر واقعية للمنطق الأرثوذكسي الروسي.
لا يمكن للمرء أن يفهم دستويـﭭسكي بدونها. تتدفق حواريته وبوليفونيته(79) «بلا شك من مصادر متعددة. وسيكون من الخطأ أن نهمل بوليفونية الإيمان الأرثوذكسي التي تلهم التثليث (التمايز ووحدة الأقانيم الثلاثة في روحانية معممة تدعو أي ذاتية لنشر الحد الأقصى لتناقضاتها) كل من «حوارية» الكاتب ومديحه للمعاناة جنبًا إلى جنب المغفرة. في ضوء ذلك، فإن صورة الأب المستبد، موجودة في الكون الـ دستويـﭭسكي، التي رأى فيها فرويد مصدر الصرع وهكذا التبديد اللعوب (شغف اللعبة)(80)، يكون لتحقيق التوازن – من أجل فهم، ليس دستويـﭭسكي العصابي ولكن دستويـﭭسكي الفنان - مع صورة الأب المرحب تمامًا بالثالوث البيزينطي، مع رقته وغفرانه.
الغفران المنطوق
موقف الكاتب هو موقف الكلام: بناء رمزي يمتص ويستبدل الغفران بوصفه حركة عاطفية، رحمة، وشفقة مجسمة. القول بأن العمل الفني هو غفران بالفعل يفترض بالفعل الخروج من المغفرة النفسية (ولكن دون تجاهلها) – تجاه فعل فريد، فعل التعيين والتأليف.
لذلك لن نستطيع فهم فيمَ الفنُّ مغفرة سوى من خلال فتح جميع السجلات التي تعمل فيها المغفرة وتستنفد نفسها. نبدأ بمعرفة غفران التماهي النفسي، الذاتي، مع معاناة وحنان الآخرين، «الشخصيات» والنفس، يدعمه لدى دستويـﭭسكي الإيمان الأرثوذكسي. سوف نمر بعد ذلك من خلال الصيغة المنطقية لفاعلية الغفران بوصفه عملًا من أعمال الإبداع عبر الشخصي، كما يفهمها القديس توما (داخل الروح القدس هذه المرة). وأخيرًا، يرى المرء تأرجح هذا الغفران فيما وراء بوليفونية العمل، من خلال الأخلاق الوحيدة للأداء الجمالي، من خلال التمتع بالعاطفة كالجمال. لا أخلاقية محتملة تعود هذه المرة الثالثة للغفران - الأداء، إلى نقطة البداية لهذه الحركة الدائرية: إلى معاناة وحنان الآخر بالنسبة للأجنبي.
فعل العطاء يمتص التأثير
يربط القديس توما «رحمة» الرب «بعدله»(81). بعد أن أكد أن «عدل الرب يتعلق بمواءمات وجوده، التي وفقًا لها يتعهد لنفسه بما يجب عليه»، اهتم القديس توما بإثبات حقيقة هذا العدل، على أن يكون مفهومًا أن هذه الحقيقة «تتوافق مع مفاهيم الحكمة، التي هي قانونه». فيما يخص الرحمة نفسها، لا يفوتنا ذكر الرأي الأنثروبولوجي القوي، ومن ثم النفسي للقديس يوحنا الدمشقي «الذي يطلق على الرحمة أنها نوع من الحزن». يفصل بينهما القديس توما معتقدًا أن «رحمة الله لا يمكن أن تكون عاطفة تؤثر في الله، لكنها [...] أثر يضبطه». ولذلك عندما يتعلق الأمر بالله، فإنه فيما يخص الحزن بشأن بؤس الآخرين لا يمكنه أن يتدخل؛ لكن إبعاد هذا البؤس يلائمه بامتياز، ويقصد بهذا البؤس نقص ما، عيب من نوع ما(82). «من خلال ملء النقص وصولًا للكمال، ستكون الرحمة عطية». «فلتعطوا بعضكم بعضًا، كما أعطاكم المسيح» (تترجم أيضًا: «اشكروا النعمة» أو «فلتغفروا»). يسد الغفران النقص، هو هبة إضافية ومجانية. أهبك نفسي، تقبلني، أنا داخلك. لا العدل ولا الظلم، سيكون الغفران «العدل الكامل» بعد الحكم. هذا ما يجعله يقول للقديس جاك: «الرحمة تعلو على الحكم»(83).
لو أنه حقيقي أن الغفران الإنساني لا يتساوى بالرحمة الإلهية، فإن ذلك الغفران الإنساني يحاول أن يصيغ نفسه على صورته: الهبة، قربان إبطال الحكم، يفترض الغفران تماهيًا محتملاً مع ألوهية الرحمة المؤثرة والفعالة التي يتحدث عنها اللاهوتي. ومع ذلك، وعلى عكس الرحمة الإلهية التي تود أن تُعفي من الحزن، يجمع الغفران في طريقه نحو الآخر الحزن الإنساني للغاية. معترفًا بالنقص والجرح اللذين نتجا عنه، ويتغلب عليهما بمنحة مثالية: الوعد، والخطة، والحيلة، هذه الأمور تُدْرج الكائن المهان والمذل في نظام مثالي وتعطيه ضمانًا بالانتماء لهذا النظام. الحب، في مجمله، بعد الحكم، يشير مع ذلك إلى الحزن المتضمن، المفهوم، الواضح. قد نغفر لأنفسنا بأنفسنا، بالإشارة، بفضل شخص ما يُفهمنا نقصنا أو جرحنا في نظام مثالي متأكدون أننا ننتمي له، ويضمن لنا عدم الاكتئاب. بيد أنه كيف نتأكد من انتمائنا لهذا النظام من خلال النقص، دون المرور ولو لمرة واحدة بموكب التماهي مع المثالية الكاملة، الأبوية الودودة، الضمانة الأساسية لسلامتنا؟
الكتابة: غفران غير أخلاقي
كل من يخلق نصًّا أو تفسيرًا هو أكثر انجذابًا من أي شخص للالتحام بهذه الحالة المنطقية والنشطة تمامًا للرحمة «التومية»(84) فيما وراء التدفق العاطفي. إنه يلتحم بقيمة العدالة في الفعل بل أكثر من ذلك أيضًا: بسلامة الفعل. بأن يجعل كلامه ملائمًا لعطفه، وبهذا المعنى، فقط، يكتمل التحام الذات بالمثال المتسامح، وكذلك يصبح ممكنًا الغفران الفعال نحو الآخرين كما نحو الذات نفسها. على حدود العواطف والفعل، تصل الكتابة فقط بحلول لحظة إنكار التأثير الوجداني كيما تولد فعالية العلامات. تنقل الكتابة الانفعال إلى الأثر: actus purus (الفعل مطلق الإتقان) كما كان يقول القديس توما. إنها تنقل التأثيرات ولا تقمعها، تعرض عليها مخرجًا متساميًا، تستنسخها إلى آخر، من خلال طرف ثالث، خيالي، رمزي. لأن الكتابة غفران، وتحول، واستنساخ، وترجمة.
انطلاقًا من هذه اللحظة، يفرض عالم العلامات منطقه الخاص. البهجة التي يتحصلها، بهجة العرض كما بهجة التلقي، تطمسان -على نحو متقطع- المثالي، وكذلك أي إمكانية لعدالة خارجية. النزعة اللا أخلاقية هي مجموع هذه العملية التي يعرفها دستويـﭭسكي جيدًا: الكتابة لها صلة بالشر ليس فقط عند الانطلاق (فيما قبل نصها، في مواضيعها) بل كذلك في النهاية، من خلال ذروة عالمها الذي يستثني أي غيرية. ربما أيضًا من خلال الوعي بأن الأثر الجمالي حُبس داخل عاطفة دون خروج -من خلال المجازفة بحبسة الموت وكذلك السرور عبر إفناء ذاتي خيالي، عبر استبداد الجميل- هو ما دفع دستويـﭭسكي إلى الارتباط بعنف بدينه ومبدئه، الغفران. هكذا ينطلق عود أبدي لحركة ثلاثية: الرقة المعقودة بالمعاناة، والعدل المنطقي وصحة العمل الأقنوم، وأخيرًا فتنة العمل المطلق. ثم، من جديد، من أجل الغفران، نستعيد المنطق الثلاثي للغفران - ألا نحتاج ذلك كي نعطي معنى حيًّا -إيروتيكيًّا- غير أخلاقي- لمسألة الكآبة؟
الهوامش:
* الدراسة من كتاب جوليا كريستيفا (شمس سوداء) الاكتئاب والمالخوليا، الصادر عن دار جاليمار 1989.
1- تتأمل الأطروحة الفرويدية حول دستويـﭭسكي الكاتب من وجهة نظر الصرع، واللاأخلاقية، وقتل الأب واللعب، وتتناول تلميحًا فقط «السادومازوخية» الكامنة وراء المعاناة. انظر «دوستويفسكي وقتل الأب»، 1927، الترجمة الفرنسية في النتائج، الأفكار، المشاكل، t. II، P.U.F.، Paris، 1985، pp. 161-179•، S.E، t. XXI، p. 175 Sq. ; GW، t. XIV، p. 173 sq. ولمناقشة هذه الأطروحة، راجع، فيليب سولرز: «دوستويفسكي، فرويد، العجلة»، نظرية الاستثناءات، فوليو، جاليمار، باريس، 1986.
2- Melanie Klein ميلاني كلاين (1882-1960): نمساوية الأصل تنحدر من أسرة يهودية، اتجهت في أبحاثها نحو دراسة التكوين النفسي للأطفال، وكان لها طريقة مميزة عن فرويد، لم تدرس علم النفس أو الطب النفسي، وبالصدفة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى قرأت مقالاً لفرويد وشغفت على إثره بالتحليل النفسي، وبدأت تتعلم على يدي ساندوز فيرينزي.
3- الاستدماج Introjection: مصطلح يشيع استخدامه في التحليل النفسي، ورغم تباين معانيه فإنه في صورته العامة عبارة عن عملية يحاول فيها الشخص نسخ أو تكرار سلوكيات أو أفكار من الوسط المحيط أو من أشخاص آخرين وجعلها جزءًا من داخله، على سبيل المثال عندما يقوم الشخص بالتقاط سلوك أو أفكار من شخص آخر كصديق مثلا فهذا هو الاستدماج.
يعد مصطلحي الاستبطان والتماهي مصطلحات قريبة الشبه بالاستدماج، كما وصف الإسقاط بأنه بداية أساسية لعملية الاستدماج.
4- تروبمان: قاتل فرنسي حكم عليه بالإعدم وكتب عنه تورجنيف.
5- نشير هنا إلى رواية ديستوفيسكي: مفكرة الشياطين، البلياد، جاليمار، باريس، 1955، ص 810-811.
6- المرجع نفسه، ص812.
7- الأسيديا: مفهوم أخلاقي وديني نفسي اتخذ معاني مختلفة اعتمادًا على الثقافات التي يستخدم فيها. وهذا يعني في الأصل نقص الرعاية. ثم كان يستخدمه المسيحيون من قبل آباء الصحراء للدلالة على عدم العناية بالحياة الروحية. إن نتيجة هذا الإهمال هي ألم الروح التي يعبر عنها الملل، وكذلك الاشمئزاز من الصلاة، التكفير عن النفس والقراءة الروحية. عندما تصبح أسيديا حالة من الروح التي تسبب العزم الروحي والانسحاب، بل هو المرض الروحي. (الجملة بأكملها مرتبكة ومعناها غير مترابط مع السابقة عليها) البابا جريجوري العظيم يدمج الأسيديا في الحزن.
8- مفكرة الشياطين، مرجع سابق، ص1154.
* حذفت هيئة التحرير جملة من النص، رأت أنها تسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
9- الشياطين، المرجع السابق، انظر ص 619-620.
10- مذكرات من العالم السفلي، البلياد، جاليمار، باريس، 1955. 699.
11- مدينة ملاهٍ.
12- مذكرات من العالم السفلي، مرجع سابق، 713-714.
13- يربط نيتشه بين نابليون ودستويـﭭسكي من خلال تأمل حول «المجرم وأولئك الذين يشبهونه»: يكشف هذان العبقريان عن حضور «الوجود الملتهب» في قاعدة أي تجربة استثنائية تحمل تحويلًا للقيم. «بالنسبة للمشكلة التي تهمنا، فإن شهادة دستويـﭭسكي ذات وزن كبير (دستويـﭭسكي هو، بالمناسبة، الطبيب النفسي الوحيد الذي كان لديه شيء يعلمني إياه. أعتبره من أفضل المكاسب في حياتي، بل وأكثر من اكتشافي لستندال). هذا الرجل العميق، الذي كان لديه ألف مرة الحق في كراهية الألمان السطحيين، عاش طويلاً بين مداني سيبيريا [...]. وفقًا لنسخة W. II. 6. «النوع الإجرامي هو إنسان قوي يتم وضعه في ظل ظروف غير مواتية: حتى يتسنى لجميع الغرائز، المتأثرة بالازدراء، والخوف والخجل أن تختلط بشكل لا ينفصم بمشاعر الاكتئاب، وهذا من الناحية الفسيولوجية، متدنٍ (ف. نيتشه: الأعمال الكاملة «أفول الأصنام»، جاليمار، باريس، 1974، ص 140 و 478). في حين أن نيتشة يمتدح الـ«عبقرية الجمالية» و«المجرم» عند دستويـﭭسكي، كثيرًا ما ينتقد نيتشه ما يبدو له علم النفس المرضي للمسيحية الذي وقع في فخ الحب، وحيث ينشر الكاتب الروسي: سيكون هناك «احتقان طفولي» في الإنجيل كما هو الحال في «رواية روسية»، وفقًا لعدو المسيح. لا يمكننا أن نؤكد على سحر دستويـﭭسكي لنيتشه، الذي يرى فيه المبشر بالسوبرمان، دون أن يذكر بشكل خاص الضيق الناجم لدى الفيلسوف الألماني عن المسيحية الدستويـﭭسكية.
14- ديستوفيسكي: الجريمة والعقاب، البلياد، جاليمار، باريس، 1967، ص 317.
15- المرجع نفسه، ص 318.
16- المرجع نفسه، ص514-515.
17- المرجع نفسه، ص520.
18- حكمة، يوميات كاتب، البلياد، جاليمار، باريس، 1972، ص 725-726.
19- فلاح في الإمبراطورية الروسية وضيع الطبقة إلى حد أنه يوضع في مقابل القِن.
20- انظر، ج. كاتو: الإبداع الأدبي لدى دستويـﭭسكي، معهد الدراسات السلافية، باريس، 1978، ص125-180.
21- تجسيد الموت في الأسطورة الإغريقية وإيروس تانتوس أي دافع الحياة ودافع الموت.
22- دوستويفسكي: رسائل إلى زوجته، II، 1875-1880، بلون، باريس، 1927، ص 61، رسالة 10يونيو، 1875.
حول اهتمام دوستويفسكي بأيوب، ب، بورسوف، شخصية دوستويفسكي (باللغة الروسية)، في زفيزدا 1970، العدد رقم 12، ص. 104: «لقد عانى من الله والكون، لأنه لم يكن يريد الدفاع عن القوانين الأبدية للطبيعة والتاريخ لدرجة أنه رفض أحيانا الاعتراف بأن ما تم إنجازه قد أنجز. حتى أنه كان ضد كل شيء. (أعيد طبعه في كتاب، طبعة سوفيتسكي بيساتيل، 1979.)
23- سفر أيوب، الإصحاح السادس،2.
24- سفر أيوب، الإصحاح السابع،17.
25- سفر أيوب، الإصحاح العاشر، 27.
26- سفر أيوب, الإصحاح التاسع، 11.
27- سفر أيوب، الإصحاح الثاني والأربعين،8.
28- ميخائيل باختين: «شعرية دستويـﭭسكي»، دار سوي، باريس، 1970.
29- د. ميروكوفسكي: «نبي الثورة الروسية» 1906 (روسيا).
30- آنا. ج0دوستويفسكايا: دوستويفسكي، جاليمار، باريس، 1930، ص173؛ يشير النص إلى رحلتهما إلى سويسرا في عام 1867.
31- في ملاحظات مخطوطة مذكراتها، بتاريخ 24/12 أغسطس 1867، تشير زوجة الكاتب: «في متحف مدينة بازل، رأى فيودر ميهايلوفيتش لوحة هانز هولبين. تأثر بها على نحو رهيب وقال لي إن «مثل هذه الصورة يمكن أن تفقدك الإيمان». وفق لـ ب. جروسمان، دوستويفسكي كان يعرف وجود هذه الصورة منذ طفولته من رسائل الرحالة الروسي «كرامزين» الذي يعتبر أنه لا يوجد «أي شيء إلهي» في مسيح هولبين هذا. ويفترض أن الناقد نفسه يرجح مسبقًا قراءة دوستويفسكي من مريم إلى الشيطان لجورج صاند، التي تؤكد على تأثير المعاناة في عمل هولبين. (انظر ل.ب.جروسمان،ف.م. لبستويفسكي، مولودايا جفارديا، 1962، وندوة عن لبستويفسكي، 1923، باللغة الروسية).
32- التراث الأدبي، طبعة. نوكا، رقم883، ص174، استشهاد ج. كاتو، المرجع السابق، الصفحة 174.
33- انظر أعلاه، الفصل الثاني، ص. 66-69.
34- انحراف باسكال الذي كان يعتقد في انحراف عقله بسبب الخطيئة الأصلية، في حين كان ينظر إلى انحرافه بسبب المسيحية فقط (عدو المسيح، في الأعمال الكاملة، جاليمار، باريس، 1974، 163).
35- ديستوفيسكي: مذلون ومهانون، البلياد، جاليمار، باريس 1953، ص937.
36- ديستوفيسكي: الأبله، البلياد، جاليمار، باريس،1953، ص 521.
37- المرجع نفسه، ص 515.
38- يستدعي إغلام المعاناة (حاولت أن أبحث عن مقابل مناسب لكلمة إغلام التي تكررت في المقالة فلم أجدها في مادة غلم بمعنى يقترب مما أفهمه من سياق المقالة أبدا) هذا الموازي لرفض عقوبة الإعدام المواقفَ المماثلة للماركيز دو ساد. كان قد أقر التقارب بين الكاتبين، وليس من دون خداع، من قبل معاصري دوستويفسكي. وهكذا، في رسالة مؤرخة في 24 فبراير 1882 موجهة إلى سالتيكوف تشترشيدرين، يلاحظ تورجينيف أن دستويـﭭسكي، مثل دو ساد، «يصف في رواياته الملذات الحسية»، وشعر بالسخط ضد فكرة أن «الأساقفة الروس احتفلوا بالقداس وأشادوا بهذا السوبرمان، دو ساد روسيا! في أي وقت غريب نعيش فيه؟»
39- ديستوفيسكي: الأبله، ص27.
40- المصدر نفسه، ص 77.
41- المصدر نفسه، ص27
42- وفي هذا الصدد، سوف نتذكر علاقة البنوة التي عقدها دوستويفسكي مع النائب العام كونستانتين بوبيدونوستسيف، وهو شخصية استبدادية تجسد الظلامية القيصرية. تسفيتان ستويانوف، العبقري وولي أمره، صوفيا، 1978.
43- ديستوفيسكي: الجريمة والعقاب، ص 242.
44- المرجع نفسه، ص 291.
45- المرجع نفسه، ص 313.
46- المرجع نفسه، ص 328.
47- المرجع نفسه، ص 328.
48- المرجع نفسه، ص 477-478.
49- المرجع نفسه، ص 476.
50- المرجع نفسه، ص470.
51- المرجع نفسه، ص 243-244.
52- المرجع نفسه، ص 243-244.
53- المرجع نفسه، ص 583.
54- المرجع نفسه، ص 608.
55- المرجع نفسه، ص 608.
56- المرجع نفسه، ص 611.
57- المرجع نفسه، ص 612.
58- كما تصرح هانا أرندت: «إن المبدأ الروماني المتمثل في تجنيب المهزومين هو حكم غير معروف تماما لليونانيين»، في حالة الإنسان الحديث، كالمان ليفي، باريس، 1961، ص 269.
59- وفق تعبير أ. بيزانسون le Tsarevitch- الطفل الضحية باريس 1967 ص214.
60- الشياطين، 733-734.
61- أوفيد: «أسيس وجالاتيا»، مسخ الكائنات.
62- تستدعي «حنا أرندت» عند القديس «لوقا» الكلمات الإغريقية المختلفة لمعنى الصفح aphienai, métanoein يبعث، يحرر، يغير رأي، يستعيد طريقه. المرجع سالف الذكر ص 170.
63- الجريمة والعقاب، ص611. حول الحوار والحب عند دستويـﭭسكي انظر، جاك رولان: دستويـﭭسكي. مسألة الآخر، دار «فيردييه» 1983.
64- الفصل الثاني من 62-69.
65- انظر حول التماهي، قصصنا عن الحب، دونيل، باريس 1983 من ص 30 إلى ص51.
66- أفسس: أعمال الرسل، رسالة القديس بولس 32 ,IV , «فلتأخذو بعين الاعتبار بعضكم البعض، ولتكونوا متسامحين، ولتصفحوا كما صفح عنكم الله في المسيح.»
67- «يا أحشاء رحمة إلهنا التي ستزورنا من فوق بلاد الشام» (لوقا، الأول، 78).
68- انظر القديس سيميون اللاهوتي الجديد: الأعمال، موسكو، 1890(روسيا)، والمصادر المسيحية.
69- انظر، أوليفييه كليمنت: صعود المسيحية الشرقية، المنشورات الجامعية الفرنسية 1964 ص25-26.
70- «نور الله، نور الابن، ونور الروح القدس - هذه الأنوار الثلاثة هي نور الأبدية، لا يتجزأ، من دون ارتباك، غير مخلوق، محدود، غير قابل للاستنفاد، غير مرئيى، كما أنه مصدر كل نور» (الموعظة، 57، الأعمال، موسكو، 1890، 11، 46)؛ «لا فرق بين الله الذي يسكن في النور والنور نفسه الذي هو مسكنه. كما لا يوجد فرق بين نور الله والله. بل هما واحد، المسكن والساكن، النور والله» (الموعظة، 59، المرجع نفسه، 72)؛ «الله نور، نور لا نهائي، ونور الله يُكشف لنا من قبل طبيعته التي لا يمكن فصلها بشكل لا لبس فيه عن الأقانيم [الوجوه، المحيا]. الآب نور، الابن نور، والروح القدس نور، والثلاثة هي نور واحد بسيط، غير معقد، من نفس الجوهر، من نفس القيمة، من نفس المجد» (موعظة، 62، المرجع السابق، ص 105).
71- «لأن الثالوث هو وحدة في ثلاثة مبادئ وهذه الوحدة تسمى الثالوث في الأقانيم (الوجوه، الوجوه)... ولم يكن أي من هذه الأقانيم موجود للحظة قبل الآخر... ثلاثة وجوه وبلا أصل وأبدية واحدة الجوهر» الموعظة 60-80.
72- الموعظة 61، المرجع السابق ص 95.
73- مقدمة لتراتيل الحب الإلهي، 612،. 5.9-5.7، انظر كليمنت، مرجع سابق. انظر ص 29.
74- «أنا لا أتكلم بالأصالة عن نفسي، ولكن نيابة عن الكنز نفسه (الذي وجدته للتو)، وهذا يعني أن يسوع المسيح الذي يتحدث من خلالي: أنا القيامة والحياة»( يو 11، 25)، «أنا حبة خردل» (متى، الثالث عشر، 31-32)، «أنا لؤلؤة» (متى، الثالث عشر، 45-46) «أنا الخميرة« (متى الثالث عشر،33) «(الموعظة، 89، ص479 ). يعترف سمعان أنه في يوم من الأيام وهو في حالة من «الإثارة الجهنمية والتدفّق، توجه إلى الله واستقبل نوره» بدموع حارة، بعد أن أدرك من خلال تجربته الخاصة المملكة السماوية نفسها التي قد وصفتها الكتابات بأنها لؤلؤة (متى الثالث عشر، 45-46)، حبة خردل (متى الثالث عشر 31-32)، خميرة (متى، الثالث عشر، 33)، ماء حي (يوحنا، الرابع، 642)، النار (العهد القديم، 1، 7، إلخ)، خبز (لوقا، الثاني والعشرون، 19)، جناح الزواج (المزامير، الثامن عشر، 5-6)، الزوج (متى، الخامس والعشرون، 6؛ يوحنا، سفر الرؤيا الثالث، 29،، الحادي والعشرون، 9)... : «ما الذي يمكن أن أقوله أكثر مما لا يوصف... وبينما نمتلك كل هذا في أعماقنا من قبل الله، لا يمكننا فهمه بواسطة الذكاء ولا ننيره بكلمة» (الموعظة، 90، 490).
75- «أعطي الروح القدس وأرسل، ليس بالمعنى الذي لم يكن يتمناه، ولكن بمعنى أن الروح القدس، من خلال الابن الذي هو أحد أقانيم الثالوث، أنجز، كما لو كان كانت إرادته الخاصة، إرادة الآب. لأن الثالوث الأقدس لا تنفصل طبيعته، ولا جوهره وإرادته، بينما الأقانيم تعين شخصيًا، الآب، والابن والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم إله واحد واسمه الثالوث (الموعظة، 62، p. 105).
76- انظر أوليفييه كليمنت، المرجع السابق، ص 74.
77- راهب.
78- في قلب هذا التناضح المؤلم والممتع للأقانيم الثلاثة، يُنظر إلى الفردانية الذاتية بوصفها حدًّا ضروريًّا للحياة البيولوجية والاجتماعية، ولكنها تمنع تجربة غفران المحبة للآخرين. انظر هنا انعكاسات دستويـﭭسكي حول الحد الذاتي، في لحظة وفاة زوجته ماريا (الصفحات 205-206، 37).
79- انظر، ميخائيل باختين: شعرية دستويـﭭسكي.
80- انظر، سيجموند فرويد: دستويـﭭسكي وقتل الأب.
81- السؤال الحادي والعشرون الخلاصة اللاهوتية، الجزء الأول.
82- المرجع نفسه.
83- نقلًا عن القديس توما، المرجع نفسه.
84- نسبة إلى القديس توما الإكويني.
* عنوان الدراسة
دستويـﭭسكي
كتابة المعاناة والصفح
جوليا كريستيفا*
* أديبة وناقدة فرنسية من أصل بلغاري.
ترجمة: لطفي السيد منصور**
مجلة فصول العدد 102
** مترجم مصري.