أمل الكردفاني - غصن اليباس.. قصة قصيرة

تبختر القائد ومن حوله جحافل الجيوش..
يداه معقودتان خلف ظهره ، أنفه شامخ ، خطواته بطيئة ورشيقة ، حذاؤه أسود لامع ، تتدلى النياشين والأوسمة من قلبه متلألئة كمجرة وليدة.
أااااااااا...صفا...
اييينتباه...
تدق الطبول .. وتواكبها أصوات الساكس المزعجة .. وعلى الجوانب يتراص الجنود فيعبرهم القائد العظيم محدقا في وجوههم بصلف ويحدقون في وجهه بصرامة.
في المنصة العالية يخاطب المذيع الجماهير المتجمعة في كل مكان في الدولة:
(المعركة الحاسمة... معركة النصر.. معركة الحرية والكرامة..سندحر الأعداء).
وفي الحروب والأزمات ينسب القائد دوما كل شيء إلى الجماعة.. س (ن)دحر الأعداء .. وعندما تنتهي المعركة بالنصر المحتم تختفي تلك النون لينسب كل شيء للقائد.
القائد يخاطب شعبه..
(الشعب دوما ملك للقائد).. إنها علاقة رأسية هابطة...
لا يستطيع الشعب الاستغناء عن القائد ، لكن القائد يستطيع الاستغناء عن الشعب....
ينهار الشعب إذا اختفى القائد ، ويبقى القائد حتى لو اختفى الشعب..
تضج الموسيقى العسكرية بالمارشات....
الجماهير محتشدة حول كل جهاز مذياع....النشوة تخضب خدود الجماهير بالحمرة وتزيد من اتساع بؤبؤ أعينهم ، القشعريرة تسرى من تحت الجلد ، فتنزع الجبن والخوف وتدفع بخيالات الشباب نحو البطولة.
وخيال البطولة يرتبط بالأنثى ، بالوداع إلى ساحات الوغى ، والتضحية بحب خالد..من أجل المجد المبرر بالوطنية الخالصة.
القائد حليق الشارب وحليق الذقن وحليق الرأس ، يضع قبعته العسكرية لتظلل عينيه القاسيتين فتتمدد الظلال إلى الأنف الشامخ وتهبط إلى ما قبل الشفتين المزمومتين كصخرة وسط النهر الجاري.
.
.
.
أعلن القائد انطلاق الحرب.. وزحفت الجيوش العرمرم نحو حدود الأعداء... وماجت السماء بعناقيد اللهب ، أما أصوات الانفجارات وخرير الرصاص وسقوط الصواريخ فقد خلق ايقاعا راقصا للأرواح الحانقة.
السماء اختنقت بالدخان فبكت أمطارها لتكمل مشاهد الذبح من الوريد إلى الوريد. والإحتراق من الرأس لأخمص القدمين. وانهيار المباني تحت قصف الدبابات. الناس لم تصرخ..الشعوب انسال فرقها مع كل نقطة زمنية زاحفة فتبخرت وظيفة الحناجر عندما تجسدت الطاقة بكل قوة وعنفوان تحيزها في فضاء الزمان والمكان.
النسوة والأطفال والعجائز رابضوا في حصونهم تحت الأرض. لكنهم لم يجزعوا لأنهم كانوا غاضبين حد الهوس.
الحسم ..الحسم...
.
.
.
انهزمت الجيوش..
الأعداء تلقوا دعما من السماء...
انحدرت أرتالهم من كل حدب وصوب. كانوا كذرات الهواء في كل مكان...ينسلون من القمم ويغمرون السفوح...
القائد العظيم أصيب في أنفه إصابة سطحية وفر عبر الأدغال....
إنهار كل شيء... كان يفضل أن يموت قبل أن يشاهد تعريه من المجد...حتى الجندي الأخير رفض اتباعه وقرر وضع بندقيته على الأرض.
- لا مكان لنفر إليه يا سيدي..لا مكان..
كان مصيبا بالفعل ، مع ذلك فللقائد سحنته الجلمودية التي تقرر عدم منح الأعداء فرصة التشفي منه.
قال الجندي:
- سيقبض عليك وأنت هارب يا سيدي..
ثم بسط يده وفوقها مسدس صغير...
- لا تمنحهم هذه الفرصة...إحفر قبرك.. ونم عليه.. وبعد أن تنتهي من الأمر سأدفنك يا سيدي..حينها ستظل شبحا خالدا يخلق كوابيس الأعداء فلا يهنأوا بالاحتلال.
القائد يريد أن ينفجر باكيا ولكن ليس أمام الجندي...أخذ المسدس منه ثم صرفه..
إذا اختفى القائد فلن يبقى الشعب...
أخذ يهرول ببنية قوية...ولحية وشارب وشعر رأس...نما كل شيء ليواسيه...
لست وحدك..
نحن معك...
كن رجلا ولا تبك..
.
.
.
الأدغال مظلمة .. وموحشة...وتحرمه من ملاحته عبر النجوم ليهتدي إلى الطريق الصائب..
القائد يخلع بذته العسكرية ونياشينه ليخفف من ثقل حركته. يحفر حفرة في الطين اللازب ، ويدسها في أعماقها قبل أن يردمها ويليث سطحها بالأوراق والأعشاب ليموه هويتها.
حذاؤه الأسود لم يعد لامعا...بل انفتق من مقدمه أصبعه الكبير. وابتل جوفه فصار لزجا يعزف موسيقى حادة مزعجة ذكرته بالمارشالات العسكرية.
الأغصان وأوراق الشجر تنكسر تحت قدميه وتزن إيقاع خطواته المهرولة.
ليس لهذا تدرب طويلا على الجري...ولكن لأي شيء إن لم يكن لهذا؟
للنصر وليس للهزيمة...
(لم أهزم بعد)..
.
.
.
لا سبيل للنوم أبدا...
إنه القائد العظيم...
الوحيد الذي يملك قدرة لملمة الشتات وجمع الصفوف لقيادة المقاومة... ولذلك فلن يسمح لهم بقتله...
وعندما تسرب رماد الفجر إلى السماء..رأى نهاية الأدغال وبداية أرض سهلية ممتدة على الأفق. إنها حدود دولته.. هنا دولة مجاورة لا تكترث بقيمته كقائد عظيم.. ولن تتوانى عن تسليمه إن قبضوا عليه فيها...
كان غلام يعبر بقطيع من الأبقار..فناداه...
الغلام ناعم البشرة ومستدير الوجه... في السادسة عشر من عمره تقريبا..
لم يتقدم الغلام نحوه كما يفعل جنده فاضطر للتوجه هو نحوه..
- هل تعرفني..
هز الغلام رأسه نفيا..
- هل يمكنني مرافقتك..
هز الغلام رأسه إيجابا...
اكتفى بذلك وسار إلى جوار القطيع بصمت...
كل شيء اختفى... كل عالمه اختفى..وهاهو يعطي ظهره لحطام الماضي...
(لن أيأس..التاريخ يمكن أن يعود)..
نظر للغلام...فرأى وجها هادئا...لا يمكن أن تستنطق من ملامحه معرفة بما يختفي خلفه من كيان إنساني.
أذكي هذا الغلام أم أبله؟
لن يعرف أبدا إلا إن تحدث إليه.. لكنه عدل عن ذلك .. فربما عرفه الغلام قبل أن يعرف هو حقيقة الغلام...
إن الرعاة يملكون الفراسة.. تعلموها من فهم ملامح وجوه بهائمهم...يعرفون متى تلد ومتى تحتضر ومتى ترغب في السفاد ومتى تجوع ومتى تشبع..كل ذلك من وجوه البهائم العجماء المتبلدة... وأحيانا من نبرات أصواتها.. ومن طريقة مشيتها.. ومن تقاربها وتباعدها عن جمع القطيع. ولذلك فمن السهل عليهم استنطاق وجوه البشر التعساء بمشاعرهم الانسانية المفضوحة.
.
.
.
كان العجوز يراقب القطيع وهو يتقدم نحو زرعه.. عمر بندقيته بحركة أرادها مرئية ومسموعة للغلام ومرافقه...
أوقف الغلام القطيع.. ثم حركه إلى اليمين...
- سأغادر الآن.. أشكرك..
قال القائد ولم يرد عليه الغلام الذي مضى ببهائمه إلى حيث تغرب الشمس.
ضاقت عينا العجوز..
(رجل واحد لن يستطيع إرهابي)..
قال المزارع...
توقف القائد على مسافة عشرة أمتار ورفع يده بالسلام..
ظل العجوز يرمقه بصمت...
- أريد مأوى... مؤقتا...
دار العجوز على عقبيه فتبعه القائد العظيم...
كانت حقول النعناع منتشية بخضرة داكنة .. ثم اختفى هيكلها في جنح الغروب..
كانت هناك سقيفتان من القش .. إحداهما خالية والأخرى عليها سرير..
- يمكنك أن تنام الليلة على سريري لأنك ضيف...
قال العجوز بأشداق هطمة...
- لا أملك شيئا آخر...فاخدم نفسك..
.
.
.
(سقطت الحامية الشمالية يا سيدي في أيدي الأعداء..)
(الحاميتان الشرقية والغربية أيضا..)
(تم قصف مخازن الأسلحة وتدميرها تماما...)..
(الخونة.. دعمتهم الدول الأخرى...)
الجنود يقتحمون غرفة نومه... زوجته تصرخ وهي تتعرض للاغتصاب... يخرج مسدسه من تحت وسادته ويطلق النار)
يصيح ديك الفجر...
يستيقظ القائد ويتذكر أنه لم يحتفظ بأي زوجة من زوجاته الخمس...لقد طلقهن جميعا لأنهن لا يطعن الأوامر...ارتاح قليلا عندما أدرك أنه كابوس سريع...الزمن في الأحلام والكوابيس يتمدد خارج منطقه الطبيعي...الأحداث تأخذ ساعات في الحلم وتأخذ أقل من ثانية من الزمن في الواقع..كذلك عندما تقع الكوارث بغتة..وينهار مجد الأمس كأنه لم يكن...
رأى المزارع يضرب الأرض بمعوله فتوجه نحوه..
- أريد أن أعمل معك...
لم يجب العجوز.. قبضتاه قويتان مغلفتان بعروق نافرة..أصابعه مدببة الأطراف..ساعده نحيف وقاس...تأمل فيه قوام جندي سابق...
- لا أريد إزعاجك يا سيدي..ولكنني أرغب في العمل معك..
قال العجوز:
- لا أملك أجرا ﻷمنحه لك..
واصل القائد:
- الأرض شاسعة وأنت تحتاج لرجل قوي مثلي..لن أحصل على أجر بل اكتفي بالبقاء هنا..وقليل من الماء والخبز..
صلب العجوز ظهره ومسح جبهته المتعرقة بكم جلبابه:
- ماذا تعرف عن الزراعة؟
- لا شيء لكنني قوي البنية ومطيع للأوامر...
مد العجوز له بالمعول وقال:
- حسن..رغم أنك تقترب من الستين لكن بنيتك قوية حقا.. خذ وابدأ العمل وسؤافيك بالتوجيهات المناسبة...
حمل المعول وانتظر تعليمات العجوز...
.
.
.
هناك حقل آخر يمكننا زراعته ما دمت معي..
قال المزارع وأضاف:
- لا يعني هذا أي اعتراف مني بشراكتك..ستظل أجيرا عندي..
قال القائد:
- أنت منتبه لحقوقك جيدا كما لو كنت محاميا..
نظر العجوز لنجمة وحيدة تبقت من ليلة البارحة في فجر اليوم...ثم نهض فتبعه القائد على مهل.
- نصف هذا الحقل سنزرعه بالخضروات...
أشار لمساحة واسعة بأصابعه المتورمة..
سأله القائد:
- والنصف الآخر..
- النصف الآخر نتركه لبهائم الرعاة..إنهم قساة .. وأحرار أكثر مما يجب..
ردد القائد قول العجوز: أحرار أكثر مما يجب...؟!!!
.
.
.
لن تكون قائدا عظيما إن لم تعتبر الهزيمة سوى معركة لم تنته...بل ولن تنتهي أبدا.
الليل منسجم مع صمته إنما رأسه لا يكف عن الضجيج. العجوز ملقى في السقيفة الأخرى ، يسمع صوت سعاله بين الفينة والأخرى. كان يبصق البلغم من صدره كل ربع ساعة.. لقد طعن في السن وليس معه أحد... لا جند ولا زوجات ولا أبناء..ولم يطلق رصاصة واحدة ليردي بها أحدا. كان هناك مزارعون وكان يمر بهم أثناء الحرب ، مثل هذا المزارع الذي لا تضيف زراعته أي قيمة اقتصادية للدولة والشعب يزرعون ليتمكنوا من التنفس فقط. حتى الأعداء كانوا يشفقون عليهم ولا يتعرضون لهم. يعبرونهم كلا شيء. من الغريب أن يكون أول قاتل في الوجود مزارعا.
جاءه صوت العجوز:
- عليك غدا أن تصنع سريرا خشبيا..هذه الأرض مليئة بالأفاعي والعقارب.. أعذرني فقد نسيت أن أخبرك..يمكنك مقاسمتي السرير إن كنت خائفا.
- لا لست خائفا..أشكرك...
سمعه يبصق البلغم. ثم يلفهما الصمت.
أمتدت مساحة السماء بعد سقف السقيفة. سماء مشتعلة بالنجوم ، سماء سوداء .. بعيدة بعدا يخيف كل رجل ملقى على حافة الوجود وحيدا كملاك مطرود. ذلك الشعور لم ينتابه منذ أن بلغ سن الرجولة. فتذكر أمه لوهلة...وهاله الاعتراف بالخوف.
وكالطفل بكى بصمت...
.
.
.

تأمل غضيض الفجر الرمادي الواهن يجثم من السماء بلطف على حقول الخضار. لم يجد العجوز فوقف ينتظره في مشارف الحقول.
أين اختفى العجوز؟..حينها رآه قادما من بعيد حاملا قطعا من الخشب الصلد والحبال. وعندما اقترب رمى بها على الأرض وغمغم:
-لن نزرع اليوم شيئا...
أخذ يعمل بعضلات ساعديه النحيلين والقويين في نفس الوقت. كان هناك غمد سكين جلدي مربوط على عضده الأيسر. أخرج السكين الحاد وبدأ في قطع الحبال الليفية القوية.
- يمكنك أن تجلس لتتعلم إن أحببت..
شعر القائد بعاطفة من كلمات العجوز الرقيقة..لم يكن خبيرا بصناعة الأسرة الخشبية فلم يجد بدا من الجلوس على الأرض ومراقبة العجوز بصمت...
بدأ الصباح ينشر أشعة دافئة تمهيدا لنهار حار....الجند في هذه الساعات يكونون في أدنى طاقاتهم الجسدية والمعنوية..يميلون إلى الجلوس والكسل.. كان ينظر إليهم بحسرة ويقول في نفسه: (لن تصبحو قوادا عظماء أبدا وأنتم تتحلون بصفات العمال وليس الجند). لم يكن الجيش منضبطا أبدا كما هو المفروض به. الشعب كان فقيرا جدا..لا زال يعتمد على المذياع بعد حجب التكنولوجيا عنه حتى لا يتعرض لحرب نفسية من العدو..الشعب جائع ومريض .. قال بصوت مسموع: (الدول الأخرى ما كانت لتسمح لنا.. ما كانت لتسمح لنا).. سمعه العجوز وفضل الصمت...عاد هو واستغرق في مراقبة العجوز...بعد ساعتين تشكل هيكل سرير بدائي.
- سنتناول الإفطار قبل أن نواصل العمل.
قال العجوز بصيغة الجمع رغم أن القائد العظيم لم يفعل شيئا.
- سنأتي لك ببعض القرع الكبير ونجوفه .. ثم نملؤه بالماء .. أربع قرعات على كل قاعدة للسرير... ستمنع الحشرات والأفاعي من الصعود لسريرك..
كان العجوز يدلله فقواعد سرير العجوز نفسه لم تسند على قرع.
- ربما عانيت بسبب البعوض ولا أعرف حلا لهذا..
قال القائد:
- أنا قائد عسكري .. وقد تحملت أكثر مما يمكنك تخيله...
قال ذلك بغضب مكبوت شعر به المزارع العجوز فلم يعقب.
أصابع العجوز المتورمة الخشنة تلاعبت بالحبال وعقدتها بقسوة ثم نهض ليتناولا الإفطار.
.
.
.
يحدث الخلل المفاجئ في منتصف كل عمل ؛ في المعركة اختل النظام فجأة.. حدث ارتباك سريع غير مبرر.. كربكة الكاتب التي تشعر بها وسط سطور روايته فتضعف من قيمتها الأدبية.
اتسعت دائرة الارتباك وبدأ الاندحار...رغم أنه اتخذ كل التدابير اللازمة لحجب إعلام العدو منعا لتثبيط الجند والشعب. لم يكن الخلل مبررا ؛ لم يجد له تبريرا فكل شيء انهار فجأة... وفي المقابل ازدادت سيطرة العدو وأصبحت ضرباته أكثر تركيزا وتدميرا... جنوده فروا تاركين أسلحتهم وراءهم. وأنهمرت سيول جند الأعداء.
باءت كل محاولاته لإعادة السيطرة على الأمور بالفشل. وتساقطت المدن والقرى واحدة وراء أخرى وكأنها كانت خالية من الجند.
العدو لم يزحف عبر الطرق الخالية بل تعمد اكتساح المناطق المأهولة بالبشر ليخلق صدمة واسعة وينتقل الشعور بالخزي والاحباط لباقي الشعب.
عمليات القتل والاغتصاب والإبادة تمت بهمجية ممنهجة. وتم تضخيمها لزرع الرعب في النفوس. لقد خالف الأعداء قواعد الحرب الدولية مع ذلك فهو نفسه ما كان ليلتزم بها. ففي الحرب لا مكان للقلب الطيب...
وسيعود... سيعود وسيقاومهم بلا شك...
راى العجوز يلقي بما في يده وينهض منصتا للسماء...بقى برهة هكذا ثم ارتمى على الأرض ووضع أذنه اليمنى على التراب...قال بعدها:
- الرعاة قادمون...
رأه يغوص في سقيفته ويعود حاملا بندقيته القديمة... ودون أن يدعوه تبعه حيث سارا طويلا بعد تجاوزهما لحدود الحقول ... بعدها وقف العجوز وعيناه تضيقان لتراقبا الأفق.. ظهر عجاج الأتربة التي تثيرها أقدام القطعان. كانت قطعانا ضخمة..تمتد يمينا ويسارا وهي تسير ببطء وبضربات أقدام قاسية.
همس العجوز:
- الإخوان الثلاثة...
سأله القائد:
- الإخوان الثلاثة؟
- إنهم ثلاثة إخوة شرسين جدا ويملكون أضخم عدد من رؤوس الماشية. ستراهم الآن.
ظهرت ثلاثة جمال تعدو من الخلف إلى الأمام قبل أن تتباطأ متجهة نحو العجوز والقائد...ثم توقفت وفوقها ثلاثة شبان يلفون وجوههم بعمامات متسخة.
نظر الرجال نحو العجوز والقائد. فابتدر العجوز:
- لو اتجهتم غربا ثم جنوبا فستجدون الكلأ .. تعرفون ذلك ..
أماط الأوسط منهم لثامه والتفت نحو شقيقيه مبتسما بسخرية. أسنانه صفراء ووجه مستدير وممتلئ ؛ كان قبيحا كخنزير...
الأعداء في كل مكان..قال القائد لنفسه بغضب ثم أخرج مسدسه بسرعة وصوبه نحو الشاب وهو يقول:
- سمعتم ما قاله العجوز.
حدجه الثلاثة بصمت وهمس العجوز:
- صوب نحو البقر.
التفت إليه القائد فرأى وجهه متصلبا. وقرر إطاعة الأوامر دون استفسار فوجه مسدسه نحو الأبقار. حينها هز الشاب الأوسط رأسه مشيرا لأخويه ثم غطى وجهه باللثام ودار نحو الغرب...
ظل العجوز والقائد يتابعان انحراف القطعان الهائلة نحو الغرب. واستمرا هكذا لنصف ساعة حتى خلت الأرض منهم. فدار العجوز عائدا نحو حقوله.
قال القائد:
- لماذا أمرتني بالتصويب تجاه الأبقار.
قال العجوز:
- الأبقار عندهم أهم من البشر.
قال القائد:
- أشرار في كل مكان.
فعقب العجوز:
- إنهم جزء من طبيعة هذه الأرض..
قال القائد بغضب:
- أليسو أعداء؟
أجابه العجوز:
- لن تجد أرضا تمنحك السلام فقط..إلا إن كانت خالية من كل حياة...
لاحت مشارف الحقول وحرارة العصر تغرق الرجلين بالعرق. قال القائد:
- سيمونوف من عيار 7.62 قديمة... لماذا لم تستخدمها؟
اجابه العجوز دون أن ينظر إليه:
- ليس بها رصاص...
- ولماذا تحملها إذن؟
- مجرد إظهار للمقاومة.. إنهم يمتلكون أسلحة أكثر فتكا ومقاومتهم بالعنف ما كانت لتكسبني شيئا بقدر ما كانت ستلحق بي خسائر فادحة... إنهم يعلمون ذلك كما أعلمه...
- لكنهم غادروا عندما صوبت مسدسي تجاههم؟
قال العجوز:
- كان بإمكانهم قتلك بسهولة...لن تفهم العلاقة بين الرعاة والمزارعين أبدا يا سيدي...هناك مسائل معنوية تقيد حسابات الجميع... إطلاق الرصاص آخر ما يحدث.
عندما وصلا إلى السقيفتين قال القائد:
- تعلمت طريقة جدل الحبال سأكمل العمل بدلا عنك....
ثم جلس قرب هيكل السرير البدائي وبدأ النسج.
.
.
.
- أنت رجل متعلم؟
سأل العجوز فأومأ القائد برأسه ثم قال:
- لست متخصصا في شيء غير العسكرية .. وربما نسج الأسرة مؤخرا..والقليل مما تعلمته منك في الزراعة...
بدا العجوز مكتئبا ومطرقا:
- أتبول بصعوبة مؤخرا...ولون البول نفسه غريب...ارهاق بدا يعتري جسدي...ربما كان وجودك معي سببا لالتفاتي لجسدي...الوحدة كانت تخيفني..والخوف كنت أقمعه بالعمل المستمر....
قال القائد:
- عليك أن تزور طبيبا...
- سأذهب غدا إلى المدينة للالتقاء بالسماسرة فأبيعهم المحصول ثم أزور طبيبا...
غادر الرجلان الحقول في فجر اليوم التالي ؛ وهناك استقلا سيارة نقل قديمة مخرت الطرق الترابية لساعات قبل أن تستقر في محطة الناقلات. كان السوق مزدحما وانعطف العجوز بالقائد نحو نزل صغير حيث باتا حتى صباح الغد.
بدت المدينة بائسة في عين القائد ؛ فلقد اعتادت عيناه على امتداد الخضرة على خط البصر طوال الأشهر الماضية. وما أن بلغا بورصة المحاصيل حتى انخرط العجوز في التفاوض مع السماسرة لفترة وجيزة. قال العجوز بعدها:
- السماسرة يبخسون كل منتجاتنا ثم يبيعونها هم بأسعار باهظة. نحن المزارعون لا نربح شيئا.. لكن لكل إنسان رزقه..
السرعة في المدينة مطلوبة ؛ فزيارة الطبيب تستلزم الحضور قبل المواعيد بساعتين على الأقل. حيث قرر الطبيب إجراء فحوصات متنوعة على جسد العجوز...
في المساء خرج القائد من النزل تاركا العجوز خلفه ؛ واتجه نحو السوق ؛ كان يرغب في وقف نزيف التفكير قليلا من جمجمته. الأفكار كانت مشتتة وغير منتظمة ، فسار ببطء وبغير هدى بين أزقة الدكاكين. هناك أقمشة وأحذية ومجوهرات مقلدة ، وتوابل وعطور .. لكنه لم ير شيئا منها. إن العجوز مريض جدا ؛ ويبدو أن الطبيب لم يجد أسلوبا أخف وطأة من إخباره مباشرة بالمرض. تلقى العجوز الخبر بشجاعة ولم يهتز. قال له:
- لا شيء جديد في حياتنا يا سيدي.. إننا نتبع طريق الإنسان الطبيعي...
ثم ابتسم لأول مرة وقال:
- سنلتقي حتما..فلا تحزن...
أين سيلتقي به؟
في العالم الآخر؟
لم يشأ أن يطرح عليه هذا السؤال. فلن تكون للإجابة أي قيمة أبدا.
"سيدي الجنرال"
قطع الصوت حبل أفكاره فالتفت خلفه ليجد شابا متوسط الطول يبتسم قائلا:
- كنت أحد جنودك يا سيدي الجنرال...
رفع الشاب كفه بالتحية العسكرية فنظر له القائد بصمت:
- الكتيبة الثانية عشر سيدي الجنرال...
قال الجنرال:
- كيف الحال هناك؟
أجاب الشاب:
- بخير.. المقاومة تزداد التهابا يوما بعد يوم...والعدو يتلقى ضربات موجعة .. حرب العصابات أفقدته توازنه....لقد عبرت الحدود لشراء مؤونة للمقاتلين...
قال القائد:
- جيد...
أستطرد الشاب:
- نحتاجك أيها القائد..لا نملك قيادة ذات كفاءة مثلك.. لقد ظن المقاتلون أنك قتلت..
نظر القائد إلى السماء وقال:
- لم أقتل...
قال الشاب:
- نعم... ألن تعود لقيادتنا؟
صمت القائد قليلا.. ثم قال:
- لا... لن أعود أيها الجندي... إن النبتة لا ترجع بذرة كما كانت أبدا...
قال الشاب:
- لكنها تنتج بذورا جديدة...
قال القائد:
- أنتم بذورها الجديدة... أما أنا فأمامي مهمة أخرى...
سأل الشاب:
- أهم من مقاومة الأعداء؟
هز القائد رأسه وقال:
- بلى يا فتى... عد أدراجك الآن.. وأرسل تحياتي للجنود.... وعندما تنتصروا .. ستجدونني في الحقول الجنوبية هنا.
قال الشاب بحزن:
- تركت القتال وأصبحت مزارعا يا سيدي؟
قال القائد:
- نعم...
غادر الشاب وعاد هو إلى النزل حيث تمدد على سريره قرب سرير العجوز.
التفت إلى العجوز وتأمل وجهه ، ورآه نحيلا وشاحبا كمومياء بائسة... وسمعه يقول:
- لا تتأملني بحزن هكذا يا سيدي...ففي كل الأحوال يمكننا أن نقاوم كل الأعداء ما عدا الزمن..أليس كذلك؟
نظر القائد إلى السقف...ثم سأل العجوز:
- هل لديك أبناء.. أو أقارب...؟
سعل العجوز وصمت.
رأى عيني العجوز مسمرتين على السقف.
وادرك أنه مات.


(تمت)
التفاعلات: محمد حساين

تعليقات

جميلة
تساءلت وانا أقرأ السطرين
"يحدث الخلل المفاجئ في منتصف كل عمل ؛ في المعركة اختل النظام فجأة.. حدث ارتباك سريع غير مبرر.. كربكة الكاتب التي تشعر بها وسط سطور روايته فتضعف من قيمتها الأدبية".
هل في منتصف هذه القصة خلل او لنقل هل فيها اثر لارتباك؟
 
شكرا على لطف قراءتك..
نعم دائما هناك خلل ما دام العمل بشريا... ومع ذلك فالكاتب لا يحاول اصلاحه في اوقات اخرى لانه يتصالح مع الارتباك... ويعتبره وليد لحظة تستحق ان لا تجهض. غير ان الكتاب الكبار يتعودون على المراجعة والتنقيح .. ويستطيعون استئصال أجنتهم من رحم النص بلا شفقة...
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...