مع نهاية الولاية الأولى للأسد عام 2007 والتحضير للولاية الثانية دُعيت إلى إلقاء محاضرة في مدينة الرقة، وقد تُرك لي أن أختار عنوان المحاضرة، ففعلت، وكان عنوانها « سوريا في عيون مثقفيها ». وقد حضر المحاضرة ثلاثة رجال هم الذين يشغلون أعلى الهرم من المرجعيات الثلاث في المدينة: رئيس المخابرات، ورئيس الحزب الحاكم، والمحافظ، والتأم الحضور. أما السؤال الأول الذي طرحته فكان التالي: ما الذي أنجزه الرئيس في الولاية الأولى؟ وما إن انتهيت من ذلك، لاحظت أن المسؤولين الثلاثة – وقد جلسوا في الصف الأول – اتفقوا بالأعين على أمر ما اتضح حالاً أنه الخروج من قاعة المركز الثقافي، بحركة تستبطن احتجاجاً أو بعض الاحتجاج
كان ما شاهده وأحس به الجمهور أمراً يختزل نصف قرن تقريباً من عمر سلطة راحت شيئاً فشيئاً تختزل الوطن والشعب، بحيث انتهى الأمر إلى أن صاحب هذه المقالة ربما تمكن من الكشف عن القانونية العمومية، التي ضبطت المجتمع السوري على امتداد ما يقترب من نصف قرن. أما هذه القانونية، فلعلها أن تكون ما صُنفته بقانون الاستبداد الرباعي: الاستئثار بالسلطة – وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية (القول بأن الحزب الحاكم هو الذي يقود الدولة والمجتمع). ومن ثم جاء الخروج من قاعة المحاضرات بمثابة استنكار للسؤالين المعنيين بمثابتهما « تعدياً » على حقوق الرئاسة في ألا يُعترض على ما يصدر عنها: البقاء في الحكم إلى الأبد أولاً، والتصرف بكل شؤون الجمهورية دون مساءلة أو اعتراض ثانياً، حتى لو حدث من كوارث الفساد والإفساد والاستبداد ما يعرّض الوطن ومَن فيه إلى التفكك والتصدع من الداخل والخارج، وكأنما نحن أمام نموذج تاريخي برز في فرنسا قبل الثورة الفرنسية الكبرى، وذلك حين أعلن ملك فرنسا عملية التماهي بينه وبين القانون، فقال: »أنا القانون، والقانون أنا، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام أكثر من حكم (ملكي) وراثي، فلقد تحول الوطن إلى ملكية خاصة فاقدة حتى للضوابط القانونية (المكتوبة والمقر بها
في تلك الحالة الهائلة الدلالة، اتضح أن « الخارج » لم يبق صامتاً ودون حراك أمام « داخل منهك ومستباح » ينادي أن تعالوا خذوني، مشيراً بذلك إلى المثل الشعبي الدقيق والحازم والذي يقول: المال الداشر يعلّم الناس على السرقة، إزاء ذلك كله، نجد أنفسنا أمام طرفة تقارب الكوميديا السوداء، وتتلخص في أن ذلك الحُطام الذي انتجه « صُناع الاستبداد والفساد » يأتي هؤلاء ليقدموه إلى الناس على أنه « تعبير عن مؤامرة خارجية من قِبل الأعداء » يسوّقها أهل البلد « المرتبطون بهؤلاء »، وبفعل خيانتهم الوطنية وحقدهم الإجرامي على صانعي « الرخاء والحداثة والعدالة »، وكذلك الواقفين كالطود « في وجه » العدو التاريخي للعرب
هكذا نعلم أين موقع كل ما يأسس للخراب الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والتحلل من قيم الكرامة والحرية والسير عمقاً وسطحاً في تيار الفقر والإفقار، ومن ثم فإن إحالة المسألة إلى « مؤامرة خارجية »، إنما هي نفسها جزء من مؤامرة مرجعيتها الداخل نفسه أولاً، مع التأكيد أن الخارج وجد نفسه، والحال كذلك، أمام حالة داخلية مفتوحة، ما عليه إلا أن يقتحمها
بل ينبغي هنا التساؤل المر عن المحاولات الحثيثة، لرفض الاعتراف، بضرورة قصوى، بأن داخلاً من الدواخل العربية ليس جديراً بأن يمنحه أهله جهداً عظيماً لإصلاحه، بعد مرور أربعة عقود ونيف، إذ هل الإصلاح الحقيقي تعبير عن حقد أهل البلد على رؤسائه، أم هو فضيلة كبيرة لكل الطبقات والفئات والمجموعات الاجتماعية، خصوصاً منها فئة الشباب، التي أفقدت كل شيء، عدا العار، لقد غابت الحكمة الوطنية وعيبت في أوساط من بأيديهم القرار، إذن ليس امتهاناً لقواعد الحكم أن تطرح أسئلة على من يقفون في رأس الهرم، بل إنه من الجهل والاستبداد والإجرام السياسي والوطني أن يعتقد أن فلاناً أو آخر هو خارج التاريخ والمساءلة، وإذا غاب ذلك فإن الوطن يكون الضحية والتباكي خوفاً من « تدخل الأجنبي يصبح غطاء لأكثر المسالك خطراً »
د. طيب تيزيني
الاتحاد – ٣/١/٢٠١٢
كان ما شاهده وأحس به الجمهور أمراً يختزل نصف قرن تقريباً من عمر سلطة راحت شيئاً فشيئاً تختزل الوطن والشعب، بحيث انتهى الأمر إلى أن صاحب هذه المقالة ربما تمكن من الكشف عن القانونية العمومية، التي ضبطت المجتمع السوري على امتداد ما يقترب من نصف قرن. أما هذه القانونية، فلعلها أن تكون ما صُنفته بقانون الاستبداد الرباعي: الاستئثار بالسلطة – وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية (القول بأن الحزب الحاكم هو الذي يقود الدولة والمجتمع). ومن ثم جاء الخروج من قاعة المحاضرات بمثابة استنكار للسؤالين المعنيين بمثابتهما « تعدياً » على حقوق الرئاسة في ألا يُعترض على ما يصدر عنها: البقاء في الحكم إلى الأبد أولاً، والتصرف بكل شؤون الجمهورية دون مساءلة أو اعتراض ثانياً، حتى لو حدث من كوارث الفساد والإفساد والاستبداد ما يعرّض الوطن ومَن فيه إلى التفكك والتصدع من الداخل والخارج، وكأنما نحن أمام نموذج تاريخي برز في فرنسا قبل الثورة الفرنسية الكبرى، وذلك حين أعلن ملك فرنسا عملية التماهي بينه وبين القانون، فقال: »أنا القانون، والقانون أنا، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام أكثر من حكم (ملكي) وراثي، فلقد تحول الوطن إلى ملكية خاصة فاقدة حتى للضوابط القانونية (المكتوبة والمقر بها
في تلك الحالة الهائلة الدلالة، اتضح أن « الخارج » لم يبق صامتاً ودون حراك أمام « داخل منهك ومستباح » ينادي أن تعالوا خذوني، مشيراً بذلك إلى المثل الشعبي الدقيق والحازم والذي يقول: المال الداشر يعلّم الناس على السرقة، إزاء ذلك كله، نجد أنفسنا أمام طرفة تقارب الكوميديا السوداء، وتتلخص في أن ذلك الحُطام الذي انتجه « صُناع الاستبداد والفساد » يأتي هؤلاء ليقدموه إلى الناس على أنه « تعبير عن مؤامرة خارجية من قِبل الأعداء » يسوّقها أهل البلد « المرتبطون بهؤلاء »، وبفعل خيانتهم الوطنية وحقدهم الإجرامي على صانعي « الرخاء والحداثة والعدالة »، وكذلك الواقفين كالطود « في وجه » العدو التاريخي للعرب
هكذا نعلم أين موقع كل ما يأسس للخراب الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والتحلل من قيم الكرامة والحرية والسير عمقاً وسطحاً في تيار الفقر والإفقار، ومن ثم فإن إحالة المسألة إلى « مؤامرة خارجية »، إنما هي نفسها جزء من مؤامرة مرجعيتها الداخل نفسه أولاً، مع التأكيد أن الخارج وجد نفسه، والحال كذلك، أمام حالة داخلية مفتوحة، ما عليه إلا أن يقتحمها
بل ينبغي هنا التساؤل المر عن المحاولات الحثيثة، لرفض الاعتراف، بضرورة قصوى، بأن داخلاً من الدواخل العربية ليس جديراً بأن يمنحه أهله جهداً عظيماً لإصلاحه، بعد مرور أربعة عقود ونيف، إذ هل الإصلاح الحقيقي تعبير عن حقد أهل البلد على رؤسائه، أم هو فضيلة كبيرة لكل الطبقات والفئات والمجموعات الاجتماعية، خصوصاً منها فئة الشباب، التي أفقدت كل شيء، عدا العار، لقد غابت الحكمة الوطنية وعيبت في أوساط من بأيديهم القرار، إذن ليس امتهاناً لقواعد الحكم أن تطرح أسئلة على من يقفون في رأس الهرم، بل إنه من الجهل والاستبداد والإجرام السياسي والوطني أن يعتقد أن فلاناً أو آخر هو خارج التاريخ والمساءلة، وإذا غاب ذلك فإن الوطن يكون الضحية والتباكي خوفاً من « تدخل الأجنبي يصبح غطاء لأكثر المسالك خطراً »
د. طيب تيزيني
الاتحاد – ٣/١/٢٠١٢