يُسوغ هذا المقال لتحليل الخطاب ضرورة أن يُدمج كليًا بداخله الحجاج باعتباره عنصرًا مؤسسًا للخطاب. غير أن عرضًا توليفيًا لنظرية الحجاج في الخطاب، عند مفترق طرق البلاغة الجديدة وتحليل الخطاب، والذي تم تطويره في فرنسا، يبين في أي شيء تختلف عن النسخة الجديدة من تحليل الخطاب النقدي التي تتغذى على النهج المعياري للتداولية- الجدلية، وفي الوقت نفسه، فإنه يحاول حل التوترات النظرية بين مفاهيم الحجاج المستوحاه من أرسطو وبيرلمان وتيارات تحليل الخطاب التي تستند على رؤية معاصرة للموضوع وللقيود الاجتماعية والمؤسسية التي تصيغ شكل الخطاب.
ويلي التوليف النظري تمثيلًا عمليًا: تحليل دقيق للتدوين الإلكتروني حول ارتداء النقاب في فرنسا. يقود المقال إلى النقاش حول الكيفيات، هذه التي –وفقًا لها-يقوم التحليلالذي يتناول الخطابات الاجتماعية والمشاكل المجتمعية يسمح أو يستبعد الالتزام السياسي أو الأخلاقي للباحثين.
مقدمة
نعلم أن تحليل الخطاب، من ناحية، ونظريات الحجاج أو البلاغة، من ناحية أخرى،لم يكونا دائمًا في توافق تام. يبدو أن فن الإقناع موصوم للغاية بالقصدية، وقليل الحساسية تمامًا للمحددات الاجتماعية ولعلاقات القوة؛ كي يجذب انتباه أوائل محللي الخطاب. في الواقع، هؤلاء المحللون، في أعقاب بيشو(1) (1969)، كانوا يسعون إلى الكشف في النص عن الأيديولوجية التي تحركه، وفضح سراب الموضوع سيد المعاني، على الرغم من استلهامهم ( من بين آخرين) من فوكو وألتوسير، إلا أنهم لم يستطعوا سوى أن يتجاهلوا البلاغة الجديدة المستوحاه من أرسطو، وبيرلمان، وأولبريشت- تيتيكا(2) التي نُشرت في عام 1958. وعلى الرغم من أن تلك «المدرسة الفرنسية» الأولى قد تم محوها تدريجيًا لصالح مقاربات أقل أيديولوجية، فإن اتجاهات تحليل الخطاب التي ظهرت في فرنسا في الثمانينيات، خاصة في عام 1990، استمرت في إظهار عدم الثقة في التقاليد البلاغية، ومع ذلك فإن الأصل في الدراسات حول اللغة تأخذ في أبعادها الفعل والتلفظ والاتصال. ويعرب دومينيك مينجينيو عن عدم الثقة هذا عندما يدون في رؤيته المهمة لعام 1991:
لا يزال هناك انقطاع لا يمكن اختزاله بين الـ«بلاغ» وملحقاتها الحديثة (التقنيات المتعددة للتواصل الفعال، والإقناع،...) وتحليل الخطاب، في حين أن الأولى تفترض موضوعًا سياديًّا «مستخدمة» إجراءات في خدمة غرض صريح، أما بالنسبة للثانية: أشكال الذاتية، فتكون متضمنة في شروط إمكانية التشكيل الخطابي نفسها (1991: 234).
يمكننا أن نرى أن مسألة الفاعلية العزيزة على البلاغة هى إلى حد كبير مصدر هذا الانقطاع. ويرفض الحجاج البلاغي، بقدر ما، التراث الأرسطي العظيم، يستند على كليات، وينغمس في تصنيفات ذات تعريف لا وقتي.
ومع ذلك، وعلى نحو متزايد، ستظهر محاولات للتقارب بين مجالي الدراسة معًا. وتجدر الإشارة إلى أن تكاملية (أو انصهار) البلاغة والحجاج، من ناحية، وتحليل الخطاب، من ناحية أخرى، تندرج في فضاء تفكير أوسع، مما يؤسس صلة وثيقة بين اللسانيات والبلاغة. يؤرخ للأعمال الأولى بمقالات رائدة لـ« جاكوبسون» (1963)، ثم مجموعة 1970μ(3)، والتي تُكرس بشكل رئيس للتحليل اللغوي صورًا بلاغية من خلال المنظور البنيوي المهيمن حينئذ. ومع ذلك، حتى لو كان من الممكن الاعتراف بالطبيعة الحجاجية للصور البلاغية من قبل التيارات المنحدرة من علوم اللغة، تركز هذه التيارات بشكل رئيس على الكلام دون الانشغال بمجمل مشروع الإقناع. من جهة أخرى، تم إدراج مفهوم الحجاج على نطاق واسع ضمن علوم اللغة، من خلال تيار سمي الحجاج في اللغة الذي بدأه أنسكومبر ودوكرو((1988، والذي نعرفه بوصفه نظرية تداولية - دلالية مشغولة بإظهار كيف أن توجهها الحجاجي يحدد معنى الملفوظات. بهذا المعنى، يعتبر الحجاج عنصرًا مكونًا للغة، وليس للخطاب. وعلاوة على ذلك، يصر دوكرو(2004) على أنه مهتم بالحجاج اللغوي بوصفه سلسلة من الكلام، وليس كـ «لوجوس»(4) يهدف إلى الإقناع؛ حيث يكون الكلام برهانًا أيضًا. يفتح هذان التياران- الدراسة اللسانية للصور البلاغية، والحجاج في اللغة- حقولًا بحثية خصبة، والتي لا تندرج ضمن المشروع؛ ومن ثم ما نتحدث عنه هنا: توضيح لسانيات الخطاب، وأكثر تحديدًا التيار الفرنسي لتحليل الخطاب، والحجاج البلاغي.
لمحات تاريخية
- مكانة الخطاب في نظريات الحجاج: البلاغة الجديدة والتداولية – الجدلية.
وقد يكون من المفيد التذكير بأن المتخصصين في الحجاج هم من كانوا مهتمين من البداية بالجانب اللساني في تخصصهم. في الواقع، في مواجهة الدراسات التي تركز على الحجاج ووجاهته المنطقية (مثل المنطق غير الرسمي)، نجد تيارات وضعت في محور اهتماماتها الجانب التواصلي واللساني للحجاج البلاغي. وأبرز مثال على ذلك هو البلاغة الجديدة لـ حاييم بيرلمان ولوسي أولبريشت – تيتيكا (1970 [1958]). في الواقع، ينطلق المؤلفان من الديناميكية التي تربط المتكلم والجمهور، ويكرسان جزءًا مهمًا من التفكير على الجانب اللفظي للتقنيات التي تهدف إلى الحصول على الاتساق. هذه الدراسة لعناصر اللغة المتعلقة بجهاز التلفظ، المخَاطب، المعجم، النماذج التقيمية، المهارات، إلخ، والتي هى تحت تصرف المتكلم تكون قيمة جدًا لتحليل الخطاب الإقناعي، ومع ذلك، لم تنجز، كما أوضحت في أماكن أخرى (أموسي 2002)، على أساس جهاز مفهومي تمت استعارته من تصور تقليدي جدًا عن اللغويات والنحو. فضلًا عن ذلك، الفصل المعنون بـ «عرض البيانات وأشكال الخطاب» لا يركز على تصنيف الحجج والمواضيع، والذي له اليد العليا؛ فيبقى المشروعان معزولين ومستقلين؛ ومن ثم، فإن التفكير في دور اللغة لا يلقي الضوء إلا على تحيز الأداء العام للخطاب الإقناعي، ولا ينتقل إلى ممارسة التحليل- المشروع الذي لم يُهم، على هذا النحو، حاييم بيرلمان. الفيلسوف وفيلسوف القانون لم يكرسا سوى اهتمام عرضي باللغة.
وهذا ليس الحال بالنسبة لـ «التداولية-الجدلية» التي تستند على المقدمات الفلسفية اللغوية التي وضعها أوستن وسيرل لتكيفها مع رؤية معيارية للحجاج. تلك الرؤية التي يُنظر إليها على أنها عملية شفهية تهدف إلى حل المنازعات عن طريق النقاش النقدي، كما أنها تستند هى نفسها على معايير عقلانية. ويطلق على النهج التحليلي «تداوليًّا» بقدر ما يعد الخطاب بشكل أساسي تبادلًا للأفعال اللغوية؛ كما يطلق عليه «جدليًّا» بقدر ما يعد هذا التبادل محاولة منهجية لحل اختلاف الرأي (فان إيميرن 1996: 291je traduis). وعلى نحو أدق، يدرس الطرفان معًا، في المناقشة النقدية، مقبولية وجهات النظر المناوئة في مواجهة منضبطة؛ فإنهما يحققان فيها المعيار الذي تبدو فيه المواقف المتقدمة مستساغة بالنسبة للمحاورين الموجودين في ضوء الحجج المضادة التي يقدمها كل منهما. يجري التبادل على أربع مراحل، أو الأطوار التي تمر بها العملية الحجاجية: المواجهة(بروز التنافر)، والانفتاح(المشاركة في إجراء الحل انطلاقًا من حد أدنى لعدد من المقدمات المنطقية المشتركة)، والحجاج (الدفاع وتفنيد الآراء)، والاستنتاج (تقرير الطرفين عن النتائج التي يجب أن تؤدي إلى حل للنزاع). هذا النقاش النقدي ذو الأربع مراحل يخضع لمجموعة من عشرة قواعد تضمن حسن سير التبادل العقلاني، وحيث تعد أي ثغرة استدلالًا زائفًا (مغالطة). لإعادة بناء الحجاج انطلاقًا من معطيات أمبريقية (ومن ثم الخطاب في ماديته)، ينبغي تحديد الأفعال اللغوية المختلفة التي تشارك في كل مرحلة من المراحل المذكورة (فان إميرينوجروتندوست1984). وهذه تتألف من أربعة أنواع: الإقرارية، التوجيهية، والتفويضية، والخبرية، وكل منها يلعب دورًا خاصًّا، وأكثر أو أقل حسمًا، في كل طور من أطوار النقاش النقدي (يتوفر جدول جامع في الصفحة 289 لـفان إميرين 1996). إن تحديد هذه الأفعال اللغوية وتحليل تسلسلها وبنيتها يسمح بمواجهة متطلبات وصف التداولية- الجدلية. إن تقييم احترام القواعد النقدية وانتهاكها يتيح ضمان البعد المعياري للتداولية- الجدلية؛ إنه يسمح بتقييم التبادل الحجاجي من خلال دراسة ما إذا كانت المعايير العقلانية والأخلاقية اللازمة لحل صراعات الرأي قد تم احترامها. باختصار، المقصود هنا مقاربة تعتبر أن نظرية الحجاج يجب أن يكون لها أساس صلب في تداولية الأفعال اللغوية. في الوقت نفسه؛ إنه يريد معيارية واضحة، الأمر ليس مجرد وصف كيفية حدوث الحجاج اللفظي على أرض الواقع، وإنما على العكس تمامًا تقييم سير النقاش النقدي وتوفير المعايير التي يمكن أن تضمن نجاحه.
وهذان النموذجان العظيمان– البلاغة الجديدة والتداولية الجدلية هما بالتأكيد ليسا حصريين؛ ولكنهما كثيفو الحضور بسبب انتشارهما الواسع؛ ولأنهما يقدمان طريقتين مختلفتين جدًا لاستيعاب مقاربات لغوية قادرة على أن توفر لنظرية الحجاج البلاغي أحد أبعادها المكونة. ولا شك أن المقاربتين تتقاسمان بعض السمات المشتركة؛ فكلتاهما تعطي الأولوية لتبادل على أساس المنطق الذي وفقًا له يمكن أن يتوصل المحاورون إلى نقطة اتفاق. ويظهر فيهما المحاجج على أنه كائن مزود بمنطق، بوعي وبروية، يلاحق استراتيجيات الإقناع، أو يشارك في التبادل النقدي بهدف التوصل إلى اتفاق بشأن المعقولية التي قد يبدو مسلمًا بها ومستساغة لمختلف المتحاورين. ومع ذلك، فإن البلاغة الجديدة تكشف عن العديد من العناصر (التلفظية، المعجمية، النحوية، إلخ) قادرة على إمدادنا بدراسة وصفية لأداء الحجاج في إطار تواصلي، فهي تضيء الخصائص المختلفة للعناصر الخطابية التي - جنبًا إلى جنب مع استخدام الحجج والموضوعات المستخدمة بحكمة - يمكن أن تثبت فعاليتها في محاولة لتحدي استنفار اتساق العقول مع الأطروحة. أما فيما يخص التداولية الجدلية لـ «مدرسة أمستردام»، فهى تستند على نظرية الأفعال اللغوية لمنح أسسها الخطابية نموذجًا معياريًا للحجاج، وفيما يتعلق بهذا النموذج المزدوج، حيث سنحاول رسم طرائق دمج الحجاج في تحليل الخطاب الذي يميز ما يسمى نظرية «الحجاج في الخطاب» (أموسى 2000ـــ 2010)، بمقابلتها مع المشروع الجديد والمثير؛ مشروع تحليل الخطاب النقدي المقترح من قبل فيركلوج (2012)، المنظر له والمتجلي في هذا العدد نفسه(5).
- مكانة الحجاج في تحليل الخطاب
وعندما يتعلق الأمر بالحجاج واللغة، فإن تحليل الخطاب يغير المنظورات ويعكس التراتبية الهرمية- طالما إنه يأخذ بعين الاعتبار العنصر الحجاجي. في الواقع، ليس الأمر بالنسبة له استكشاف الأبعاد اللغوية للحجاج من أجل تعبئة نظريته؛ بل المقصود أن نرى كيف يمكن للتحليل أن يدمج العنصر الحجاجي لإلقاء الضوء على أداء الخطاب موضوع التنفيذ بأكبر قدر ممكن من الدقة. والواقع أن الهدف من التحقيق الآن هو اللغة قيد الاستخدام، وموضع التنفيذ من خلال العناصر الاجتماعية الخطابية، ومن خلال العديد من الوظائف التي يمكن أن تفي بها في الفضاء الاجتماعي.
ومن هذا المنظور، كان قد كرس دومينيك مينجينيو مكانًا للحجاج في عمله حول تحليل الخطاب (1991، 228-250 )، والذي عُرِّف بوصفه تحقيقًا «لجهاز التلفظ الذي يربط بين تنظيم نصي ومكان اجتماعي محدد» (1991: 13). وقد أدمج ذلك في فصل عن الاتساق الخطابي؛ حيث يشكل الحجاج وفقًا له عاملًا متميزًا. هذه هى المحاولة الأولى في المجال الفرنسي، على حد علمي، للتفكير في الحجاج في إطار تحليل الخطاب، وهى محاولة مثيرة للاهتمام، والتي لم تتبعها أعمال «ماجينيو» اللاحقة. وأشار إلى المشكلة التي يثيرها أي تحليل للحجاج، متناولًا في حد ذاته– وبعبارة أخرى، التحليل الحجاجي «الذري»،(بلانتين 1995: 258):
ليس من الصعب الكشف عن بنية منطقية في مثل هذه الملفوظات [أي الإعلانية]؛ ولكن إذا التزمنا بهذا الحد نظل بعيدين كثيرًا عن التعقيد الفعلي للخطاب. وليس كافيًا تبين المحرك منطقيا؛ فمن الضروري دراسة وظيفته في الخطاب المدروس، ونعيده إلى الأرشيف الذي يعطيه معنى؛ في أي نمط وأي جنس للخطاب يجري هذا الحجاج؟ في أي مرحلة من مراحل تشكُل النص؟ ما البنى اللغوية التي تناسبه؟ ما آثاره التداولية؟ ما المعايير؟ ما المقدمات المنطقية التي يتم الاحتجاج بها؟ هل صريحة؟ إلخ (1991: 230)
ومن ثم، تؤكد المقاربات التي تأخذ في الحسبان الأهمية المادية اللغوية أن الحجج تنبني في كثافة الخطاب، ولا معنى لها إلا داخل الشبكة البين خطابية والإطار التواصلي الذي تندرج فيه؛ لذلك فمن الضروري أن نرى كيف تُضفر في النص، وكيف يدمجها في ديناميكية؛ حيث محاولات الفعل من جهة أخرى تحشد الوسائل اللفظية الأكثر تنوعًا، ووفق أي نمطيات يقع الخطاب في تبادل شامل يستند على أسس حجاجية محددة سلفًا، وما الوظائف الاجتماعية التي يفي بها في فضاء اجتماعي وثقافي معين؟
ومن خلال هذا المنظور، فإن تحليل الحجاج أو الترتيب الشفهي للتفكير المنطقي لا يمكن فصلهما عن مجمل الخطاب الذي يتم بناؤهما فيه. تتمثل الخطوة الأولى في تخليصهما من الأهمية المادية لهذا الخطاب: يتم الكشف عن مخطط مجرد من قبل القارئ/ المحلل ينطلق من آثار لغوية ويتعلق بنموذج معروف؛ ومن ثم يمكن إعادة بناء مخطط يُحيل إلى مخطط حجة القياس أو قياس إضماري أو حجة النتيجة أو قاعدة العدالة. وبمجرد إعادة بناء هذا المخطط من المهم أن نرى كيف يدعمه خطاب يكسبه معناه وقوته. وباختصار، لا يتعلق الأمر بتحديد ووسم الحجج باستخدام تصنيف مسبق، ناهيك عن تقييمها؛ ولكن برؤية كيفية وضعها في الخطاب، وتجدر الإشارة إلى أن محتوى الخطاب «اللوجوس»، كبرهان وخطاب يجد، في هذا الإجراء، وحدته المثالية، ومن خلال الأخذ في الاعتبار كلًا من الصيغ المجردة من المنطق (التي بالكاد يهتم بها محللو الخطاب)، والإجراءات المادية لوضع الخطاب (التي يهملها منظرو الحجاج)، والتي من الممكن أن توضح طرائق استخدام اللغة واقعيًا من خلال دمج أهداف التأثير بها.
- مقاربة اجتماعية – خطابية للحجاج
من خلال المنظور الاجتماعي الخطابي الذي تبناه بالإجماع محللو الخطاب من جميع الاتجاهات، لم يتم التركيز فقط على صياغة الحجج؛ ولكن أيضًا على القيود المؤسسية والأعباء العقائدية والأيديولوجية وألعاب السلطة؛ ومن ثم ينبغي أن يحدد التحليل العناصر التي تشكل الحجاج الخطابي من خلال ربطها بوضع خطابي، وبعلاقات المكان، وبخطاب بيني مشبع بأفكار مسلم بها، وبمجموعة من الحجج مسبقة التكوين. هذا يعني أن الحجاج يبدو أنه تشكل من قبل قيود اجتماعية، وبدوره يشكل المجتمع.
ومن ثم لا يمكن للمحاجج أن يمارس إرادته إلا عبر الأطر الاجتماعية والمؤسسية التي من خلالها يُعرض كلامه، وهذا، على الرغم من هذه القيود غالبًا ما تخفيها العادات، (إن لم يكن المظهر الاجتماعي) والأدلة التي تجنس وتخفي القوى الاجتماعية والسياسية الكامنة. ومن المؤكد أنه من الممكن التساؤل حول المصير المتحفظ من خلال هذا المنظور لمفاهيم: الهدف، المشروع، الاختيار، الاستراتيجية، والاتساق الحر للجمهور؛ ومن ثم الفاعلية التى هي أساس الحجاج البلاغي. يبدو لي أن حل هذه المشكلة صاغه على نحو جيد شارودو(2007: 15): إذا كانت «وضعية التواصل تفوق جزئيًا الفاعلين، تعطيهم تعليمات الإنتاج وتفسير الأفعال اللغوية»، وتكون من ثم «مشيدة المعنى»، ومع ذلك «كل فعل لغوي يوجد تحت مسئولية موضوع يكون في الوقت نفسه مقيدًا بالوضع وحرًّا في المضي قدمًا في الخطاب الذي يراه مناسبًا لمشروعه عن الكلام». ويقترح مارك أنجينو (2012: 67) صياغة أكثر صرامة، وأكثر تطرفًا من هذا الموقف. ووفقًا له، الاعتراف بحدود الممكن تصوره واللغة المعتمدة في مجتمع معين لا ينبغي أن يؤدي إلى رؤية «البشر بوصفهم غامضين ويتكيفون حسب البيئة وفي نهاية المطاف كذوات وهمية؛ مثل دمى أو ببغاوات اجتماعية تقتصر على الاحتياجات والمصالح...». وبعبارة أخرى، فإن التنظيمات والقرارات الاجتماعية لا تعرقل إمكانية التبادل؛ حيث يشارك المواطنون في مشروع ذي تأثير متبادل، وحيث يُنجز المتكلم الخيارات الحرة التي يدين بها بالكامل؛ ومن ثم فإننا نجد فاعلية البلاغة التي تفترض بأن المتكلمين قادرون على المبادرة والعمل، اللذين من خلالهما يمنحون أنفسهم قوة معينة للتأثير على الواقع؛ وأن هذه الحرية تعني المسئولية.
وهكذا تتم إزاحة ثلاثية؛ تلك التي تغوص بالاستدلالات المجردة في الأداء الشامل للخطاب دون أن تحله؛ وتلك التي تقحم الحجاج في فضاء اجتماعي يتضمن معايير وقيودًا مؤسسية وألعاب السلطة التي تقيده دون تمييع المشروع الإقناعي؛ وتلك التي تحرم المحاجج سيادته المطلقة من خلال إبراز القوى الاجتماعية التي تتعلق به، دون حرمانه من حريته ومسئوليته. ومن هذا المنظور، فإن تحليل الخطاب يمكن أن يتناول الحجاج البلاغي عن طريق محو أوجه عدم التوافق، والتي كانت تبدو لأول وهلة أنها تفصل تمامًا بين هذين التخصصين.
- الحجاج في الخطاب والبلاغة
من بين محللي الخطاب، يبدو لي أن باتريك شارودو أقرب إلى هذا البرنامج، عندما يتحدث عن «إشكالية التأثير» (2008: I) بقوله: «الحجاج هو جزء من إشكالية التأثير العامة؛ كل ذات متكلمة تسعى لمشاركة الآخر كونه الخطابي( 2007: 14). في الواقع، إنه يتعهد بدراسة العمليات اللغوية من خلال وجهة نظر موضوع الخطاب»؛ أي من خلال دراسة «المشاكل التي يواجهها عندما يسعى إلى إقناع شخص ما: كيف نجري تواصلًا مع الآخر؟ وما موقف السلطة المتبنى تجاه الآخر؟ وكيفية التأثير في الآخر؛ ومن ثم كيف ترتب أقواله؟». ويصر محلل الخطاب على ضرورة فحص المحاولات الشفهية للفعل من جهة أخرى، والتي لا تقتصر على استخدام الحجج أو نماذج التسلسلات الحجاجية. إنه يرى من خلال هذه المقاربة اندماجًا كاملًا للحجاج في تحليل الخطاب، كما يقول بوضوح في ختام مقاله عام 2008.
ومع ذلك، يرى شارودو في البلاغة نسقًا عفا عليه الزمن، ويقترح بأن يحل محلها العلوم الإنسانية المعاصرة. وعلاوة على ذلك، فإن تحليلاته للخطاب السياسي تركز أساسًا على الطرائق التي يقع بها الفرد في فخ مشروع قسري يجب أن ينجح فيه المحاجج في فرض نفوذه. ويبدو أن الحجاج بوصفه إقناعًا يتجه إلى السيطرة على الآخر بدلًا من الانخراط معه في حوار مقيد جزئيًا؛ ولكن حيث قد يلعب الشريك دورًا وقد يظهر حريته. وهذا يعني عند سيد تحليل الخطاب، الأخذ في الاعتبار أن الحجاج يسمح قبل كل شيء بالكشف عن ألعاب القوة والتأكيد على علاقة الخطاب بالسلطة.
لو أنها تتقاطع مع هذه الأعمال، فإن نظرية الحجاج في الخطاب، التي أحاول أن أتناولها في الأطروحة الأولى 2000 تطالب بصوت عال وقوى بميراث البلاغة (لا سيما ميراث شاييم بيرلمان). في الواقع، إنها تستعيد تناول الرؤية البلاغية بوصفها تفاوضًا على الاختلاف (ماير 2004: 11) الذي يحدث من خلال تبادل بين أفراد ذوي أوضاع اجتماعية ومسئولين عن خياراتهم. ما هو أكثر من ذلك، نظرية الحجاج في الخطاب تستعير بوضوح من أرسطو إطاره التأملي؛ إنها تُعنى بمسألة دراسة الطريقة التي يتفاعل بها البشر وتأثيرهم على بعضهم البعض من خلال تعبئة جميع الوسائل اللفظية المتعلقة بـ«اللوجوس»، و«الإيتوس»، و«الباتوس»؛ بل وتعُنى أيضًا بمسألة وضع هذه التبادلات في الأطر المؤسسية وأنواع الخطاب، حتى لو يبدو التقسيم الثلاثي لأنواع الخطاب: القضائي والاستشاري والاستدلالي من الآن بوصفه موجزًا جدًا فيما يتعلق بالتنوع الكبير جدًا في الخطابات المتداولة في الفضاء المعاصر، ومع ذلك، وكما يقال، يتم التحقيق من خلال مقاربة تحليلية تستكشف «اللوجوس» و«الإيتوس» و«الباتوس»؛ وذلك بفضل الأدوات التي وضعتها العلوم اللغوية المعاصرة: لسانيات التلفظ، التداولية، الحجاج في اللغة، دراسة التفاعلات اللفظية، إلخ.
- الحجاج بوصفه بعدًا مكونًا للخطاب
في الوقت نفسه، يجب التأكيد على أن محاولات التفاعل والحصول على التساق لا تتداخل بالضرورة في الخطابات ذات الهدف الإقناعي التي يتم فيها عرض متواليات حجاجية يمكن وسمها بوضوح. يحصل مفهوم الحجاج هنا على امتداد أكبر؛ فبقدر ما يُغطي أنواع الخطاب التي تدافع أو تفند صراحة أطروحة، يُغطي تلك التي تكتفي بتوجيه طرق الرؤية والتفكير.
أي كلام يميل إلى مشاركة وجهة نظر، أو طريقة رد الفعل على وضع ما، أو الشعور بحالة واقعية، والصيغة الاستدلالية فيه هى إلى حد ما مجهزة، وإلى حد ما واضحة. في كثير من الأحيان، التوجه المحدد للخطاب يظهر في آثار لغوية (الصيغات، البديهيات، الروابط، وما إلى ذلك) دون، مع ذلك، التخلي عن حجة صورية. في بعض الأحيان، يتم التعبير عن هذه الحجة، فقط، في شكل ضمني يتطلب اللجوء إلى خطاب بيني حتى يمكن إعادة بنائها. إنه للتمييز بين الخطابات الإقناعية عن تلك التي تنوي ببساطة التوجيه، طرح إشكالية، والقيام بالمشاركة؛ حيث قمت بالتفريق بين الهدف الحجاجي والبعد الحجاجي للخطاب(أموسي 2005، 2010). ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن هذا التمييز (في كثير من الأحيان جدلي- انظر النقد لـ رافاييل ميشيلي في هذا العدد) صدى لتصريحات غير مستثمرة إلى حد ما لـ دومينيك مينجينو حول تعيين الملفوظات الحجاجية بشكل صحيح: «هل مجمل الملفوظات تملك، من قريب أو بعيد، بعدًا حجاجيًا؟ من أجل حل هذه الصعوبة، يجب التمييز بشكل عام بين الحجاج المباشر، وغير المباشر، الأول وحده ينتج متواليات، والتي تقدم نفسها بوصفها حجاجية» (1991: 228).
يستعيد هذا المفهوم للحجاج؛ وفقًا لوضعياته الخاصة مفهوم جريز (1990) الذي يرى فيه طريقة للعمل على تمثيلات الآخر؛ ومن ثم على آرائه ومواقفه، بمساعدة التخطيطات. أو أيضًا مفهوم فينيو، الذي يرى أن «نتلفظ يعني أن نحاجج؛ لأنه ببساطة يعني أن نختار أن نقول أو نقدم بعض المعاني بدلًا من الأخرى» (1981:91). ومن ناحية أخرى، يرفضه آخرون؛ مثل كريستيان بلانتين، والذين ينددون «بذوبان مفهوم الحجاج في اللغة» (2005: 34)، وهو ذوبان يحاول بلانتين منعه من خلال اقتراح نموذج حواري قائم على «مواجهة وجهات النظر المتناقضة في الرد على السؤال نفسه» (2005: 53). هذا النموذج يتفق بالتأكيد مع التراث الذي ينحدر عن أرسطو الذي لا يتصور الحجاج سوى حول مسألة مثيرة للجدل، ومع ذلك، يمكن للمرء أن يرى فيه حالة لصورة بلاغية من بين صور أخرى. في الواقع، فمن خلال مفهوم الحوار المستوحى من باختين (1977)، تستجيب الخطابات وتتعارض وتعزز بعضها بعضًا؛ إنها تشكل مجموعة من التشكيلات المتحركة التي تقدم وجهات نظر متباينة أو مكملة أو متماثلة بشأن القضايا التي يناقشها أعضاء مجتمع معين، والمعارضة الصريحة والقوية للخطابات ليست إذًا سوى أعمدة التواصل الحجاجي، وهناك أيضًا نمطيات أخرى، مثل تعزيز الاتساق من خلال الاستدلالي(بيرلمان وأولبريشت – تيتيكا 19870 [1958])، وبناء الردود. يمكن القول إن مواجهة وجهات النظر، لا سيما عندما تكون جدلية، تشكل أحد أعمدة الحجاج، والآخر هو البعد الحجاجي للخطابات التي تؤثر على طرق التفكير والرؤية والشعور دون أن تعطي نفسها صراحة بوصفها مشروعًا للإقناع.
وفي هذه الحالة، يؤدي توسيع تعريف الحجاج إلى الكشف فيه عن بعد مكون للخطاب. ونفهم من ذلك أنه إذا كان الخطاب يحتوي على عناصر لا غنى عنها تشكله على هذا النحو، فإن الحجاج يشكل جزءًا منه فضلًا عن التلفظ أو استخدام اللغة من قبل الذات المتكلمة أو الحوارية التي تفترض أن كل كلمة هى دائمًا رد على كلمة الآخر. وقد أفضى بقوة التيار الذي بدأته أعمال إميل بنفينيست إلى إبراز مكونات وأداء التلفظ، بإدراجهما في سياق التبادل بين المتحدثـ(ين) والمتحدث لـ(هم). في أعقاب ذلك، لقد أعادت مسألة الذاتية النظر في المصطلحات الخطابية؛ لترى كيف تندرج في اللغة بمصطلحات تقييمية أو بديهيّة، وحتى في ممارسات المحو التلفظي التي تحاول محوها. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم حوارية «باختين» المستعاد والممتد من قبل مفاهيم التناص والخطاب البيني، سمح بإدراك النص من خلال تداول الخطابات التي يشاركها في إظهار كيف يُبنى وفقًا لكلام الآخر، وكيف أنهما ينسجان في إطار من قال بالفعل. من جانبها، أصرت التداولية على القول أيضًا بمثابة فعل: الكلام فعل.
إنه بصياغة كل هذه العناصر: استخدام اللغة في موضع فعلي، والحوارية، والكلام كفعل؛ حيث توجد الحجاجية الخطابية التي تفهم على أنها مكون أساسي ليس للغة (دوكرو)؛ ولكن للخطاب: يضيء التبادل اللفظي للأشياء بطريقة معينة، ويعزز أو يعدل الرؤية، وكذلك يؤثر في أو يعدل القيم المشتركة التي تكمن وراءه.
- مقاربات وصفية ومعيارية
في الأساس، يمكننا أن نقول إن نظرية الحجاج في الخطاب تقترح اندماج الحجاج البلاغي في تحليل الخطاب الذي يُترجم من خلال ممارسة تحليلية، وهذه الممارسة ليست معيارية ولا «نقدية»، بمعنى أنها لا تقترح تقييمًا أو تستنكر الخطاب الذي تتفحصه. وخلافًا لـمدرسة تحليل الخطاب النقدي التي تجعل من نفسها جزءًا من مشروع نقدي تتناوله العلوم الاجتماعية، فإن مدرسة تحليل الخطاب المعاصر «الفرنسية»،(التي تختلف في ذلك عن المدرسة الفرنسية الأولى لتحليل الخطاب)، ليس لديها برنامج أيديولوجي سابق الإعداد؛ ذلك لأنها تقع في هذا السياق؛ حيث نظرية الحجاج في الخطاب تعبر عن نظريات الحجاج بطريقة مختلفة تمامًا عن تلك، التي اقترحها مؤخرًا فيركلو وفيركلو)، (راجع مقالتهما في هذا العدد، فيركلو وفيركلو 2012). إن أنصار تحليل الخطاب النقدي في الواقع يجددون النسق من خلال الإشارة إلى نظريات الحجاج، خاصة التداولية– الجدلية، في جانبها المعياري. إن بناء الحجاج مجددًا الذي يجري من خلال خطابات سياسية يتيح لها قياس صحة التفكير المنطقي الخاضع للآخر وكشف أي شيء يخرق القواعد الجيدة للمداولات. وهذه المداولات مفهومة بمعنى ما أرسطي وهابرماسي في آن؛ إنها تربط العقلانية بعلم أخلاقيات النقاش؛ ومن ثم الحجاج الذي تعبئه الخطابات التي تهدف إلى السماح للمداولة بوصفها تبادلًا منطقيًا حول الخيارات والإجراءات الجماعية التي يجب اتخاذها من أجل الصالح العام. يتيح لدعاة تحليل الخطاب النقدي أن يسبروا بطريقة نقدية غور بعد أساسي للخطاب السياسي، كما أنه يسمح لهم بالحكم على الممارسات الخطابية من حيث معايير حجاجية معدة مسبقًا.
تعتزم دراسات الحجاج في الخطاب الذي يرتبط بأسلوب التحليل في المدرسة الفرنسية أن تقدم تقريرًا عن الطريقة التي يعمل بها الخطاب ويفي بوظائف معينة في هذا المجال دون إصدار حكم حول هذا الموضوع، لو أنها تشير إلى نظرية للحجاج، فليس إلى وجهة النظر المعيارية للتداولية الجدلية؛ ولكن حول الحجاج البلاغي باعتباره دراسة للجهاز التواصلي والتقنبيات الخطابية التي تجعل من الممكن الاتساق مع وضع ما. وخلافًا لأعمال نورمان فيركلو الذي يشارك بمشروع نقدي اجتماعي من خلال أن يكشف في الخطابات الممارسات الاستدراجية والأيديولوجيات السياسية الوبيلة، فإنها لا تمنح نفسها رسالة، ولم تود، بداهة، الالتزام أيديولوجيًا أو سياسيًا.
يمكن أن نتحدث عن نهج «وصفي»، بمعنى أن نضع في الاعتبار ديناميته في تعقيداتها الخاصة، دون مواجهتها بمعيار مثالي؛ يأخذ مصطلح «وصفي» معناه هنا من مقابلته بـمصطلح «معياري»؛ ولكن الأمر قبل كل شيء هو ممارسة تحليلية. في الواقع، إنه يفكك الخطاب من أجل العثور على مكوناته وإعادة بناء - وراء التجسيد المادي للسطح - النموذج الذي يكمن وراءه والمنطق الذي يحركه من خلال حالة اجتماعية- مؤسسية معينة؛ ومن ثم فإنه يسمح بكشف الأداء الخطابي في تنظيمه الخاص، ويبصر بنسق لا يظهر بالعين المجردة. إنه يقترح، دون الحكم على أساس معايير الصلاحية الكلية، استخلاص المنطق الخاص الذي يحكم صياغة الخطابات الملموسة. ويأخذ في الاعتبار تنوعها واختلافاتها، والروابط والفواصل التي تقام بينها. إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحجاج «ليس مساحة فارغة يُشيد فيه برهان»؛ لكنه «تدخل في خطاب اجتماعي مشبع ومتنافر» (أنجنو2012: 67)، فإن الصياغة وإدارة الاستدلال تختلف تبعًا للأوساط الاجتماعية والثقافات والعصور التي تجري فيها. ويسلط مارك أنجينو (2012: 42) الضوء على هذا الجانب من خلال تبني منظور تاريخي يلاحظ إلى أي درجة الاستدلالات التي من خلالها كان يدعو إنسان في الماضي جمهورًا محددًا من أجل أن يُقر بالمصداقية، وأن يتبني أطروحة ما قد تبدو صادمة للمعاصرين. وكان يقول بيرلمان: على الرغم من أن مفهوم المعقولية الذي يبدو معقولًا ومقبولًا لدى مجموعة معينة هو مفهوم نسبي وقابل للتغيير؛ ومن ثم لن تكون هناك معايير مطلقة للصلاحية تتيح تقييم الآخر باللاعقلانية، وإدانة طرق تفكيره؛ ولكن من خلال عقلانيات بديلة التي يجب تقييمها من خلال مقياس أنسقة الاعتقاد، وطرق التفكير في الفضاء الذي يشارك فيه الخطاب قيد البحث.
هذه هي المبادئ التي أود الآن أن أعبر عنها من خلال تحليل ملموس يقوم على إنجازات العلوم اللغوية ونظريات الحجاج.
التحليل الحجاجي والخطابي: مثال تدوينة حول النقاب
- تحليل حجاجي وتقييمي
فلنتناول مثالًا ملموسًا لنختبر سريعًا هذه الممارسة التحليلية، في إطار تحليل جزئي يتيح إعطاء مثال على مختلف النقاط المذكورة أعلاه. اخترت رسالة نُشرت في منتدى للنقاش على الإنترنت تمتثل لنموذج بعيد عن الضوابط الكلاسيكية للحجاج؛ ولكنها لا تمتلك أدنى هدف إقناعي مورس في إطار تبادل كلامي للعديد من المشاركين. الأمر يخص «تدوينة» تفاعلت مع مقال في مجلة اليسار «ماريان» تستنكر ارتداء النقاب في فرنسا وتدعو إلى تشريع بشأن هذه المسألة. وهناك مطالبة مضادة عُبر عنها بشدة من قبل مستخدمـ(ة) إنترنت، يطالب بالسماح للنساء المسلمات بحرية ارتداء الحجاب الكامل: «من أجل حرية التعبير وحق المرأة في اللباس كما يحلو لها، فالرجال الذين يرتدون الجلباب في الشارع لا يقال لهم شيء!!!!»[هكذا].
ماذا يحدث إذا حاولنا إجراء تحليل حجاجي محض لهذا النص، مع التركيز فقط على مضمونه الحجاجي؟ عندما ينظر المرء من خلال المستوى المنطقي المحض، يجد في هذه «التدوينة» أمرًا مزدوجًا؛ الأول قياسًا إضماريًا: العامل الرئيس ضمني: حرية التعبير قيمة( ديمقراطية) مهمة، العامل الأدنى يعتمد على أن الملابس (في هذه الحالة النقاب أو الجلباب) تشكل طريقة فردية أو جماعية للتعبير؛ والنتيجة هي أن للمرأة الحق في التعبير عن نفسها من خلال ارتداء النقاب. ويتضمن الثاني حجاجًا بالقياس:«أ» النقاب- يشبه «ب»- الجلباب– من حيث اشتراكهما في الخاصية نفسها– «خ»: إنها أردية (فوقية) يلبسها المسلمون في الفضاء العام. ما هو شرعي بالنسبة لـ«ب» يجب أن يكون كذلك بالنسبة لـ «أ»، وبعبارة أخرى: إذا كان الجلباب مسموح به في الشارع في فرنسا، يجب أن يكون النقاب كذلك بحكم التشابه «خ» بينهما.
لو بقي المرء على مستوى المنطق غير الصوري، منتبهًا إلى الاستدلالات وحريص على تقييم الصحة المنطقية بعيدًا عن وضعها في خطاب، يمكن أن يصل إلى تحليل معياري من حيث الاستدلالات الزائفة (المغالطات)؛ ومن ثم فمن الممكن تمييز الطابع المغالط للحجة من خلال إساءة استخدام القياس. إنها مسألة تتعلق بمعرفة ما إذا كان التشابه بين«أ» و«ب» يبرر تطبيق المقياس نفسه عليهما، وحيث إذا نشأت اختلافات تتطلب عدم تطبيق معاملة مماثلة لهما. وهكذا، على سبيل المثال، يمكن أن نبرهن أن النقاب، على عكس الجلباب، ليس مجرد ملابس، وإنما علامة دينية (تدعي أنها تستجيب للمبادئ الإلهية). وعلاوة على ذلك، إنه مخصص للنساء فقط هربًا من نظرات الرجال، في حين أن الجلباب هو معطف طويل الأكمام مع غطاء رأس، على الأرجح هو موضة شرقية (لا علاقة لها بالشعائر الدينية)، والتي يمكن أن يرتديها على حد سواء الرجال والنساء. وهذه الاختلافات التي تتعلق بالعلاقة المتباينة بين«أ»و«ب» في الممارسة الدينية، وفي الجنس الأنثوي، ستفوق التشابه الكامن وراء القياس الأوليّ؛ ومن ثم يدين المحلل خلطًا؛ أي قياسًا كاذبًا يبرر بشكل غير صحيح المعاملة غير المتساوية المطبقة فيما يخص النقاب والجلباب في فرنسا. ونحن نرى أنه، من ثم، يشارك في النقاش، ويفخر بنفسه في دحض الحجة المقترحة من خلال التقييم السلبي لصحتها المنطقية.
هنا نرى المعنى الذي يكتسيه التحليل، وهو يتألف من نهج مزدوج. فمن ناحية، فإنه يستخلص الأهمية المادية لملفوظات التخطيطات المجردة لإعادة بناء البرهان المنطقي. إنه يعثر عليها مستخرجًا منها شوائب الصياغات اللفظية بطريقة أو بأخرى: إنه (التحليل) يحول الملفوظات إلى قضايا منطقية، بتفسيرها على حساب اختزال الخطاب. يمكن القول إن المتخصصين في الحجاج يبحثون عن الهيكل أكثر من بحثهم عن المادة جسد النص. إن أنصار المنطق غير الصوري لا ينكرون ذلك بالتأكيد؛ لكن العملية لا تبدو لهم مقبولة فحسب؛ بل ضرورية أيضًا بقدر ما تبدو الطريقة الوحيدة للكشف عن بنية الحجة من أجل إعادة بنائها وتقييمها. والواقع أن النهج الثاني هو نهج ذو نسق معياري وتقييمي. إنه يهتم بقياس الصحة المنطقية للحجة في ضوء المعايير المعمول بها. إن منظر الحجاج الذي يطالب بالمنطق غير الصوري أو التداولية - الجدلية، يجعل من نفسه إذًا رقيبًا؛ إنه يدافع عن حقوق العقل عن طريق قياس الحجاج المقترح بمعايير المنطق السليم، ويحاول الحفاظ على مثالية قادرة على توجيه البشر في محاولاتهم في المداولات والتبادلات العقلانية؛ ومن ثم يتم تعريف التحليل على أنه إعادة بناء الحجج، وكتقييم لصحتها على حد سواء، في ضوء المعايير المعمول بها.
- تحليل جدلي وخطابي للملفوظ موضع الحالة
ولكن، كيف يكون الأمر عندما ندرس، ليس الحجاج في حد ذاته؛ ولكن الملفوظات موضع حالة؟ أولًا وقبل كل شيء، من الضروري الإشارة إلى نوع الخطاب لفهم الكلام في تمثيل القول، من خلال إمكاناته وقيوده. في هذه الحالة، المقصود هو«تدوينة»- رسالة إلكترونية نشرت في منتدى للنقاش، مفتوح للجميع، وهو ما يفسر النمط المعيب للرسالة التي ليست بحكم الواقع غير مؤهلة. ويشارك مستخدم الإنترنت الذي يعيّنه اسم مستعار، في نقاش عبر الإنترنت بشأن مسألة مثيرة للجدل تتعلق بالاهتمام العام؛ فالمنتدى عبارة عن فضاء افتراضي يتشكل فيه الرأي من خلال التبادل؛ بل من خلال مواجهة الآراء المتباينة أو المناوئة؛ ولذلك فإن هدف المتكلم هو التدخل في نقاش بشأن الإذن أو الحظر القانوني للحجاب الكامل في الأماكن العامة، والذي يُقترح أن يصدق عليه القانون. وفي هذه الحالة هذه «التدوينة» جدلية صريحة بقدر ما تقدم نفسها كخطاب مضاد يشارك في استقطاب المواقف العدائية. إنها لا تشكل مجرد منطق استدلالي صالح إلى حد ما؛ ولكن من موقف قوي في نقاش متناقض؛ حيث يقف مستخدم الإنترنت إلى جانب أولئك الذين يرفضون بعنف موقف صحفية جريدة «ماريان» المضاد لارتداء النقاب في فرنسا؛ ومن ثم فإن النص يندرج تحت تنظيم مزدوج، الأول: نوع المنتدى الإلكتروني الذي يسمح بتدخل قصير وإيجازي يأخذ فيه هذا التدخل معناه على أساس حجاجي عالمي، والذي يتداول في ساحة عامة؛ والثاني: الجدلي الذي غالبًا ما يعبر عن نفسه في شكل «شواظ» أو هجمات فظيعة وغير مقيدة إزاء الخصم في الفضاء الإلكتروني. في هذا الوضع بالذات، وهذا الإطار من التواصل (خطاب جدل على شبكة الإنترنت، في هذا النوع من منتدى النقاش على الإنترنت)؛ حيث ينبني «اللوجوس»- الخطاب كلغة وعقل.
ومع ذلك، تتكون هذه «التدوينة» من ثلاثة عناصر متجاورة: استدعاء لقيمة الشعار، ومبرر، ورابط تشعبي. إن رد الفعل الجدلي لمستخدم الإنترنت إزاء مقالة ماريان فظيع، وإنه أولًا وقبل كل شيء يلجأ إلى القوة؛ بل إلى العنف اللفظي الذي يجب أن يشار له. الأمر مرتبط بطابع الفعل الذي يتناول الملفوظ من خلال الصيغة التركيبية: بالنسبة إلى«س»، وهى صيغة تشير إلى وضعية من خلال حالة يجب فيها الاختيار ( مع/ ضد)؛ ومن ثم فإن الافتراض المسبق هو أن الخصم (الصحفية ماريان وجميع أتباعها المعادين لارتداء النقاب)، يعارض حرية التعبير، وهو يستعيد بالفعل التكافؤ في المكانة من خلال الحجاج حول الحجاب في فرنسا: حظر النقاب = التعدي على حرية التعبير التي هى أساس الديمقراطية.
تجعل الصيغة نفسها بمثابة دعوة للتعبئة. وفي هذا السياق، لا يتعلق الأمر بإعطاء أسباب، وإنما دفاع عن قضية تم مهاجمتها وإبراز صيغة يعلن عنها كشعار. هذه الصيغة- «بالنسبة لـ س»- يجب أن تكون لها قيمة مشتركة على نطاق واسع؛ حتى لا تتطلب مبررًا فوريًا وتستغني عن البرهان. هذا هو الأساس الممنوح له عن طريق التأشير إلى حجاج بسيط، فالقراء- وغيرهم من مستخدمي الإنترنت– عبارة عن مستفهمين، ولقد تم استدعاؤهم، ليس لإتاحة الاقتناع بالحجج؛ بل بالتجمع حول معيار، والدفاع عن قضية معروفة بالفعل باسمهم. وباختصار، فإن الملفوظ هو فعل مطالبة إقرارية، وفعل احتجاج ضمني، وتؤكد طبيعة فعل الملفوظ بقوة من قبل الصلة التي تعطى في نهاية هذه التدوينة نحو التماس يوقع عليه ضد ما يسمى بقانون الإسلاموفوبيا. إنها مسألة جعل الكلام سلاحًا قادرًا على حشد جميع القراء معًا على نفس فعل لمواطن.
على مستوى التبرير، نلاحظ في البداية أن المبدأ العظيم المستخف به وضع في المقدمة: حرية التعبير، ارتقت هنا إلى مصاف قيمة عليا، ولقد جاء بعد تجسيد هذا المبدأ في هذه الحالة أن الحرية تتمثل في السماح للفرد بأن يلبس كما يحلو له، وعدم فرض قيود على ملابسه. إن اختيار الملابس التي يعتزم كل فرد أن يرتديها يشير لقرار فردي، والذي لا يمكن أن يخضع لقيود: من خلال الربط بكلمة «و« «من أجل حرية التعبير»، و«حق المرأة في أن تلبس كما تشاء»، وتفترض مسبقًا هذه «التدوينة» أن العنصرين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا– وأن كلمة«و» هى التي تطرح التكافؤ بين الشريحتين. وعلاوة على ذلك، الجزء الثاني »ارتداء الملابس كما يرغب كل واحد« يبدو بمثابة تتمة ونتيجة لـ«حرية التعبير»، ( نستنتج الأولى من الثانية- الحق في اللباس كما يريد كل واحد هو حالة من حرية التعبير الفردية). من خلال هذا المنظور، يظهر ارتداء النقاب كطريقة لباس مثل أي شيء آخر؛ بل هو ملابس غير ضارة، والتي يمكن ترجيحها نتيجة اختيار شخصي. أن نشير، مع ذلك، إلى أنه يتم تفسير النقاب على أنه علامة انتماء إلى الإسلام، تدافع التدوينة في وقت واحد- ولو ضمنيًا– عن حرية تأكيد الهوية الدينية أو المجتمعية في مكان عام «في الشارع». ويغطي هذا الجانب جزئيًا مبدأ الحرية الفردية، بحيث لا تظهر المطالبة المجتمعية (المشار إليها في الرابط) مجرد تحيُّز.
وأخيرًا، فإن حرية التعبير تفترض مسبقًا إمكانية الاختيار وفقًا لقلب الفرد الذي يعززه اختيار مصطلح «الرغبة»، وهو يشير إلى الإرادة الحرة للمرأة في تبني النقاب، مشيرًا أيضًا، في دلالاته السياقية، إلى «الرغبة» (الواضحة بالتأكيد من خلال الخطأ الإملائي): «حق المرأة في اللباس كما يرغبون». إن قلب مفهوم «الرغبة» صارخ هنا، فإن عملية إخفاء جسمها ووجهها تصبح مرادفة للرغبة (الغرامية) التي تشير إلى المتعة. والضمني هو أن النساء يشبعن رغبتهن في ارتداء هذا الزي الذي يخفيهن عن أعين الناس والرجال. وهذا الاقتراح يتناقض مع ما يقال في أماكن أخرى، وهو أن هذه الملابس مفروضة على المرأة وتحرمها من حريتها واستقلاليتها وعلاقتها الحرة بجسدها. إن الجدل على قدم وساق، دون مواجهة بين مفهومين للحرية: مفهوم حرية أن يرتدي كل واحد كما يحلو له، ومفهوم حرية إظهار نفسه متحررًا في أعين الآخرين، معروضين بشكل واضح. لقد مرت الحجة المضادة في صمت؛ ومن ثم لا تخضع لأي قاعدة دحض. والكلام المتناول باسم المبادئ العظيمة وفعل النداء يسمحان ويغطيان عدم وجود حجاج مضاد حقيقي من خلال اللعب على آثار البداهة. وفي الوقت نفسه يقترح أن تلك الآثار التي تساعد في سرقة العلمانيين الفرنسيين تجد اعتبارها بطريقة مختلفة للحياة، والتي لا تعود إلى أولئك الذين لا يفهمونها بالإدانة متجاهلين الحرية الفاصلة وإرادة الأطراف المعنية.
ويدرج المتكلم/ة عاطفيته في الخطاب من خلال بناء الجملة الإضماري بواسطة لكمة؛ ولكن أيضًا من خلال الاستفاضة في نقاط التعجب للملفوظ الثاني. وتظهر هذه الأخيرة ثورته أمام ظلم؛ إنه انفجار من السخط الذي يرغب في أن يشارك به قراءه. يأتي تأثير «الباتوس» هنا ليدعم الاستدلال. وهو متحالف مع حجة القياس التي تحدثنا عنها من قبل، ومع تلك التي يسميها بيرلمان قاعدة العدالة: ما هو صالح لـ«س» هو أيضًا صالح لـ«ص»، عندما يكون هناك المساواة بين جزءين. ويشير الأسلوب السائد إلى أن هذا ليس انتهاكًا عديم الفائدة لقاعدة العدالة التي يجب أن تكون هى المعيار؛ بل تجاوزات مخزية ومثيرة، والتي يجب أن تدان علانية.
الافتراض المسبق للنداء الرقمي هو أن الرجل والمرأة متساويان، وأن ما يحدث لآخر يعود تلقائيًا على الآخر، ورفض أن ترتدي المرأة الملابس (المحلية) من شأنه أن يشكل جريمة لا تقتصر على سيادة العدالة فحسب، وإنما أيضًا على حق المرأة في الحرية والمساواة. وهكذا يقوم مستخدم الإنترنت ببناء «إتوس» بديل للدفاع عن حقوق المرأة، وهو يتعارض مع «إتوس» المدافعين عن حق المرأة بعدم إخفاء وجهها عن المارة والتصرف في جسدها. إنه يطالب بتطابق عقلاني وعاطفي في آن من جانب جمهوره، من المفترض التمرد ضد حقيقة أن «الرجال لا يقال لهم شيء فيما يخص ارتداء الجلباب»، في حين أنهم يريدون أن يحظروا على النساء ارتداء النقاب؛ ومن ثم هو يقوم بعرض صورة لأحد المستمعين من الجمهور: مقتنع بمبدأ المساواة بين الجنسين وحق المرأة في تقرير المصير، وهو مبدأ نسوي وجمهوري تدافع عنه تحديدًا صحيفة أسبوعية، والتي يقع فيها المنتدى، ماريان. إنه يحاول قلب أسلحته الخاصة ضد خصمه عن طريق الانتقام.
ولذلك فإن النداء هو بمثابة دفاع عن الحريات الفردية لكلا الجنسين؛ ولكن النساء في المقام الأول. هذا النوع من التدوينات وقاعدة الاسم المستعار يلعبان دورًا مهمًا هنا؛ لأننا لا نعرف ما إذا كان المستخدم رجلًا أو امرأة. إن كلمة «alier» التي لا تعني شيئًا في الفرنسية هي للجنسين. إن حقيقة أن الخطاب لا يقدم أي عنصر من شأنه أن يستدعي أي أثر محتمل لتأنيث يسمح بالشك، ويعطى هذه التدوينة كرسالة عالمية لا تميز بين الجنسين، أو حتى تحيد أثر الانتماء إلى نوع الجنس (الجندر) من خلال مشاجرة تتناول الملابس والسلوك الأنثوي، ويبقى عمدًا على مستوى المبادئ التي يجب على الجميع قبولها والاعتراف بها.
غير أن حياد «إتوس» المواطن مبدئيًا، والذي يرفض تصنيفه من حيث الجندر يزعجه مستوى اللغة الذي ينخفض فيه المستخدم بشكل خاص، والذي يصنفه على الفور في فئة غير المتعلمين. أخطاء لا حصر لها وفاحشة لقواعد اللغة والإملاء يعني، في الواقع، فردًا من دون تعليم، ولا يتقن الاستخدام السليم للغة. الرسالة الرقمية تُسمِع صوتًا شعبيًا، والذي لا يحتضن الاستدلالات المنطقية المتطورة جدًا. ومنذئذ، من المثير للاهتمام أن نرى أن مستخدم الإنترنت يستغل سمة رئيسة لهذا النوع، وإمكانية الروابط والنصوص التشعبية؛ إنه يضيف في نهاية هذه التدوينة رابطًا لالتماس «ضد قانون إسلاموفوبيا جديد». ومما لا شك فيه، كما قلنا، أن إدراج الرابط بالالتماس يعزز طابع الخطاب بوصفه فعلًا- نداء ومطلبًا. ومن ناحية أخرى، يتناقض نص الالتماس بعنف مع هذه التدوينة؛ لأنه يقدم حجاجًا متقنًا مفاده أن الموقعين يضطلعون بذلك. وعلاوة على ذلك، فإنه يُحرك المبرهن له «alier». في الواقع، فإن الالتماس يعرض قانونًا ضد النقاب بوصفه هجومًا ضد المسلمين وعلامة على الإسلاموفوبيا، والذي لا تفعله التدوينة؛ ومن ثم فإن مستخدم الإنترنت يلعب لتمرير القارئ من الدفاع عن حريات المرأة إلى الدفاع عن المسلمين في فرنسا، من النسوية إلى مقاومة العرقية. وهو يُسند أيضًا وظيفته القصيرة والمثقلة إلى استدلال قريب متأصل في أسباب شُرحت بوضوح.
ولكن، علاوة على ذلك، الالتماس الذي يبدأ بـ «نحن مواطنو الجمهورية الفرنسية المعلمين والمنتخبين والمثقفين ورجال الأعمال وأعضاء المجتمع المدني من جميع الطوائف»، إنه يصر ليس فقط على تجميع المواطنين؛ ولكن أيضًا على تدخل الكُتاب والأفراد ذوي الخلفية الفكرية والمكانة الاجتماعية. مستخدم الإنترنت، كما قيل، يستخدم لغة بسيطة جدًا مليئة بالأخطاء؛ ومن ثم فإن «الإتوس» الذي بلا تعمد؛ ولكن دون شك بوعي يُسقط أي رجل أو امرأة فظ أو بلا ثقافة يعوضه صورة الموقع الذي ينبني الالتماس كنص تشعبي. الآن، يمكن أن تنتج صورة الـ«alier» تأثيرًا مزدوجًا. جهل هذا أو ذاك الذي يدافع عن المبادئ العظيمة للحرية والمساواة يمكن أن يلعب ضد«ها»: كيف يمكن له/ لها أن يكون قادرًا على الحكم في جدل عام؟ ولكن هذه الصورة من الفظاظة يمكن أيضًا أن تقدم «إتوس» الشخص البسيط الذي يجعل صرخة القلب تسمع، والذي يتحدث للآخرين اللغة اليومية، لغة الشارع - لغة صبيانية تقريبًا: لم يُقل أي شيء للرجال الذين يرتدون الجلباب، «تشير إلى ما يسمى بتبادل الأطفال الشتائم عندما يشعرون بأنهم ضحية الظلم، هو، لم نقل له أي شيء!».
في الختام: موقف المحلل
والسؤال المطروح هنا ليس كيف يمكن لتحليل هذا الجزء الموجز من منتدى على شبكة الإنترنت أن يتيح تقييم صلاحيته المنطقية أو الحكم على قيمته التداولية في المجال الديمقراطي؟ التحليل الحجاجي، الخطابي الجزئي يستند على تسليط الضوء على اشتغالية التدوينة المحددة من أجل فهم أفضل كيف أن فلانًا، بالإضافة إلى ضعف تعليمه، يشارك في نقاش عام حول مشكلة اجتماعية، وهي الطريقة التي يشيد بها في ثقافة معينة استدلالات منطقية شعبية من نوع جدلي، والتي يجب أن يستخلص منها المنطق، والنمطيات التي يمكن بها لخطاب جدلي أن يؤدي وظيفة الاحتجاج والتجمع على الإنترنت. كما أنه يتيح إعادة بناء نظام الأسباب والمبررات التي تدعم الموقف الذي أعرب عنه من خلال تغلغل الملفوظ الإضماري في تناصه وإعادة تقييمه للحجج التي يتغذى عليها، وتبين أن المنطق المشبع بقوة بالوجدان هو من أجل نسق الشعور، وليس فقط من أجل الاقتناع العقلاني، وليس المقصود أن يدحض؛ ولكن لتسليط الضوء على الكيفية التي ارتبط بها جزئيًا «الباتوس» و«اللوجوس» ضمن المشاعر الأخلاقية مثل السخط. ويؤكد هذا النهج الطبيعة العاطفية للالتزام الذي يؤدي إلى التمسك ليس فقط بحرية التعبير؛ بل أيضًا بحرية المسلمين (والمسلمات) في فرنسا الذين يتعرضون للهجوم عبر كيفية حياتهم وممارستهم الدينية. بشكل عام، يبدو أن القيمة الحججية للخطاب المحدد لا يمكن قياسها في حد ذاتها، وفق معايير مجردة من العقلانية. التدوينة التي تدافع عن ارتداء النقاب هي على اتصال مع جميع الآراء والمعتقدات والصراعات التي تشكل الخطاب الاجتماعي في هذه اللحظة، وإنها في هذا الفضاء الاجتماعي الثقافي الذي يتم فيه تجهيز منطقه الفردي.
ومن هذا المنظور، لا ينتقد المحلل الدفاع عن الحجاب المتكامل ولا يتهم الخصم بعدم العقلانية، وهو يعثر، على المستوى الحجاجي (المخططات)، والخطابي (الصياغات) على العناصر المؤسسة للخطاب المعطى للقراءة في الفضاء العام للإنترنت؛ فإنه يدرس الطرق التي ترتب بها هذه العناصر لإنتاج معناها وآثارها؛ فهو يضعها في علاقة ما مع الخطاب البيني لمعرفة ما الذي يغذي التدوينة وما ينتج عنه في المقابل. وبذلك، يكشف عن المحددات الاجتماعية التي تؤثر على الخطاب، وكذلك عن إمكانيات تناول وضع وفعل المواطن التي يقدمها للمتحدث.
التحليل الذي يحلل ثم يعيد بناء مادة خطابية ليفهم منها الاشتغال، والمنطق الداخلي والتحديات، يشكل مشروعًا ينحرف انحرافًا صارخًا على النظريات المعيارية للحجاج والمقاربات النقدية لتحليل الخطاب؛ ولكن من وجهة نظر معينة، فإن «فك الارتباط» هذا لا يفشل في خلق مشكلة. في الواقع إن النظريات المعيارية للحجاج التي تفرز الغث من السمين، وتثبت الصلاحية المنطقية للحجج، تكرس نفسها لرسالة اجتماعية. إنها تعلم المواطنين الكشف عن المغالطات المنطقية، وضمان حسن سير المداولات والدفاع عن القيم الديمقراطية التي يقوم عليها نظامهم، وتتبنى نهجها النقدية والوصفية رسالة تعليمية. وعلاوة على ذلك، إنها تريد القيام بدور اجتماعي من خلال تحسين قدرتنا على بناء فضاء عام يمكن فيه مناقشة شؤون المدينة بصورة عقلانية من أجل التوصل إلى اتفاق تفاوضي. بهذا المعنى، نظريات الحجاج ليست مشروعات علمية بحتة؛ إنها تعتزم الإسهام في حل الصراعات، وفي الإدارة السليمة للشؤون الإنسانية، أو إلى إقامة إدارة حكم جديرة بهذا الاسم. ولذلك تستطيع إنشاء تحالف على نحو متناغم مع تحليل الخطاب النقدي الذي يعلن منذ البداية أهدافه الاجتماعية، ويضع خبرته في خدمة مثل أعلى معد مسبقًا؛ على سبيل المثال، نقد النيوليبرالية باعتبارها مدمرة لمجتمعاتنا الديمقراطية.
أما الآن، نظرية الحجاج في الخطاب لا تمتثل لهذه الأهداف المعيارية والنقدية؛ فإنها ليس لديها ميل وصفي. إنها تحاول أن تبني مادة (خطابية) تضيئها من الداخل؛ من أجل فهم طرق القول التي هى أيضًا طرق للفعل؛ فهى تعترف بالتنوع، والتعددية، ووجود عقلانيات بديلة. إن لديها ميلًا للعرض والتفاهم، الأمر الذي يقودها إلى سبر غور ظواهر خطابية متنوعة. دائمًا توضع متونها، وتدرس في الإطار الاجتماعي الذي يولدها، وحيثما تفي بالمهام التي تهتم بتحديدها. وبهذا المعنى تتبنى موقفًا منفصلًا عن الاثنوجرافيا التي تستكشف الظواهر الثقافية التي تكشف عن نسق المعتقدات والفكر في مجموعة بشرية، أو موقف المؤرخ الذي يحاول إعادة بناء أنماط الحياة والتفاعلات «الذهنيات» والممارسات الثقافية، في ظروفها الاجتماعية التاريخية. التحليل الدقيق للبوست الخاص بالنقاب يتيح لنا أن نرى كيف أن المعارضين للحظر القانوني لارتداء النقاب أو الحجاب المتكامل في الشارع يفكرون ويتفاعلون لفظيًا ضمن الجدل الذي مزق فرنسا. كما أنها تكشف عن طرق تفكير وتواصل المواطنين الذين حرموا من التعليم الرسمي، واستخدامهم للإنترنت من خلال استخدامه كمنصة للتعبير والاحتجاج والدعوة إلى التجمع حول قضية مثيرة للجدل.
وفي الوقت نفسه، يمكن للمحلل اختيار مدونات مثل تدوينة النقابـ في تناوله المشاكل المجتمعية التي يسلط عليها الضوء، والتي من أجلها يوفر أدوات التفكير النقدي. وهو على الرغم من إنه لا يتخذ وضعًا مباشرًا في الجدل بوصفه باحثًا، إلا أنه يختار التدخل بطريقته الخاصة في المجتمع الذي يشارك فيه؛ إنه يجزئ القضايا، يكشف عن طبيعة الاختلافات بين الفئات الاجتماعية، ويعرض الأسس المرتبطة بالدوكسا وأساليب التفكير المختلفة وغير المتوافقة في كثير من الأحيان؛ ومن ثم هو يقوم بأكثر من مجرد توفير المعرفة؛ فهو يحاول تحفيز التفكير من خلال رفعه فوق مستوى المواجهات اللفظية التي يشارك فيها الأطراف الفاعلة. و«الاثنوجرافي» أو المؤرخ المعاصر الذي يصف مجتمعه الخاص لا ينوي كذلك الانفصال عنه؛ بل من خلال تحليل الخطابات التي تبنيه، فإنه يحاول تقديم وجهة نظر نائية، والتي تتيح التفكير فيه على نحو أفضل. له الحرية، في المرة الثانية، في طرح نفسه بوصفه المواطن الذي يتخذ جانبًا مع أو ضد إزاء ما كشف عنه عندما يتعلق الأمر بالتدخل في الساحة العامة، وأن يناضل من أجل قرار جماعي (محاربة أو تعزيز مشروع القانون ضد ارتداء النقاب في الفضاء العام، على سبيل المثال).
في الواقع، فإن تحليل الخطاب، والحجاج من خلال الخطاب التابع له، هو بمثابة مادة لاستخدامات مختلفة. الأول: علمي، بمعنى اندماج المهارات الجديدة مع المعرفة المشتركة، وتسليط الضوء على الظواهر الاجتماعية التي تتناول من جانبها الخطابي، وهذا من خلال تعريف الباحثة ناتالي هينيش(6) (2002). قد يكون الثاني تطبيقيًّا بمعنى الاستخدام الذي يمكن أن يقوم به العديد من الفاعلين- المؤسسات والشركات ومحترفي المعرفة الذين يوفرهم محلل الخطاب- والذي يصبح بعد ذلك «الخبير» الذي يتم استدعاؤه (هاينيش 2002). وعلى نحو متزايد، فإن المجالس البلدية وهيئات صنع القرار وقادة المشروعات يستدعون مهارات محللي الخطاب لتحقيق نتائج ملموسة. الثالث، والأخير اجتماعي سياسي؛ إنه ذلك الاستخدام الذي يمكن استخدامه لتحليل الخطاب للتنديد بالأيديولوجيات التي تعتبر ضارة، ومكافحة المواقف التي تعتبر غير أخلاقية. تتحدث «هاينريش» في هذا الغرض عن «المفكر»، مرادف مفهوم المثقف الذي يحاول أن ينتقد أو يبرر الوضع مثل أي مواطن؛ ولكن مع كفاءته الفكرية وسمعته (2002: 118). كنت أفضل أن أرى ذلك امتدادًا مباشرًا لعمل الباحث، المسموح به من خلال نتائج بحثه. وبالنسبة للمحلل كباحث، تساعد المعرفة على «فهم العالم وتعزيز التفاهم المتبادل؛ وبالنسبة للمحلل كشخص متورط في المجتمع، يمكن أن تساهم هذه المعرفة نفسها في تغيير العالم»؛ مما يستدعي التزامًا معلنًا (فلوري فيلات(7)- ووالتر(8)2003: 101). أكثر من المعارضة، الأمر يختص بالتمييز الذي يهدف إلى الحفاظ بالنسبة للمحلل على إمكانية استقصاء موضوعه دون تحيز، وتمييز كل جوانبه في تعقداته؛ بل توتراته ومآزقه، بدون برنامج محدد مسبقًا...
الهوامش
1- ميشيل بيشو: فيلسوف فرنسي وهو من طور نموذج تحليل الخطاب في فرنسا.
2-أكاديمي بلجيكي.
3-مركز الدراسات الشعرية، جامعة لييج، بلجيكا.
4- فرق أرسطو بين ثلاثة أنواع من الأدلة التي يضعها خطاب الحجاج موضوع التنفيذ: تلك التي تعتمد على شخصية الخطيب(l'ethos)، وتلك التي تعتمد على محتوى الخطاب ذاته.(le logos)، وأخيرًا تلك التي تعتمد على مشاعر المتلقي(le pathos).
5-يشير لهذا العدد من المجلة الإلكترونية.
6-عالمة اجتماع فرنسية تخصصت في الفن، خاصة الفن المعاصر(1955-).
7- كاتبة فرنسية (1981-).
8- (1932-) مهندس وكاتب فرنسي (1932-).
مراجع الدراسة
Amossy, Ruth. 2002. « Nouvelle rhétorique et linguistique du discours », Koren, Roselyne & Ruth Amossy (éds). Après Perelman. Quelles politiques pour la rhétorique?, (Paris:L’Harmattan), 153-171
Amossy, Ruth. 2005. « The argumentative dimension of discourse », van Eemeren, Frans H. & Peter Houtlosser (éds). Practices of Argumentation (Amsterdam: John Benjamins Publishing Company), 87-98
Amossy, Ruth. 2010 [2000]. L’argumentation dans le discours (Paris: Colin)
Amossy, Ruth. 2010b. « La dimension argumentative du discours littéraire. L’exemple de Les Bienveillantes », Maingueneau, Dominique &IngerÖstenstad (éds). Concepts et démarches de l’analyse du discours littéraire (Paris:L’Harmattan)
Angenot, Marc. 2012. « La notion d’arsenal argumentatif: l’inventivité rhétorique dans l’histoire », Frydman, Benoît & Michel Meyer (éds). Chaïm Perelman (1912-2012). De la nouvelle rhétorique à la logique juridique (Paris: PUF), 39-68
Anscombre, Jean-Claude & Oswald Ducrot. 1988. L’Argumentation dans la langue (Liège: Mardaga)
DOI: 10.3406/lgge.1976.2306
Aristote, 1991. Rhétorique, trad. Ruelle, introd. M. Meyer, commentaire de B. Tmmermans (Paris: Le livre de poche)
Bakhtine, Mikhail (Volochinov). 1977. Le Marxisme et la philosophie du langage (Paris: Minuit)
Benveniste, Emile, 1966-1974. Problèmes de linguistique générale, 1-2 (Paris: Gallimard)
Charaudeau, Patrick. 2005. Le discours politique. Les masques du pouvoir (Paris: Vuibert)
Charaudeau, Patrick. 2008. « L’argumentation dans une problématique d’influence », Argumentation et Analyse du Discours 1
Ducrot, Oswald. 2004. « Argumentation rhétorique et argumentation linguistique », Doury, Marianne & Sophie Moirand (éds). L’argumentation aujourd’hui. Positions théoriques en confrontation (Paris: Presses de la Sorbonne Nouvelle)
Fairclough, Isabela & Norman Fairclough. 2012. Political Discourse Analysis. A Method for Advanced Students (London & New York: Routledge)
Fleury-Vilatte, Beatrice & Jacques Walter, 2003. « L’engagement des chercheurs (3) », Questions de communication 4, 231-249
DOI: 10.4000/questionsdecommunication.7465
Geisler, Cheryl. 2004. « How ought we to understand the concept of Rhetorical Agency ? Report from the ARS », Rhetorical Society Quarterly, 34: 3, 9-17
DOI: 10.1080/02773940409391286
Grize, Jean-Blaize. 1990. Logique et langage (Paris: Ophrys)
Groupe μ. 1970. Rhétorique générale (Paris: Larousse)
Heinich, Nathalie. 2002. « Sur l’engagement des chercheurs », Questions de communication 2, 117-127
Jakobson, Roman. 1963. Essais de linguistique générale (Paris: Minuit)
Kerbrat-Orecchioni, Catherine. 1980. L’Énonciation de la subjectivité dans le langage (Paris: Colin)
Koren, Roselyne. 2002. « La nouvelle rhétorique », « technique » ou « éthique » du discours ? Le cas de l’engagement du chercheur », Koren, Roselyne & Ruth Amossy (éds). Après Perelman. Quelles politiques pour la rhétorique ? (Paris:L’Harmattan), 197-228
Koren, Roselyne, 2004. « Sur la critique du contructivisme en communication », Questions de communication 5, 203-211
Maingueneau, Dominique. 1991. L’Analyse du Discours (Paris: Hachette)
DOI: 10.3406/reper.1979.1614
Meyer, Michel, 2004. La rhétorique (Paris: PUF, Que sais-je ?)
Moeschler, Jacques. 1984. Argumentation et conversation. Eléments pour une analyse pragmatique du discours (Paris: Hatier- Crédif)
Pêcheux, Michel. 1969. Analyse automatique du discours (Paris: Dunod)
Perelman, Chaim &OlbrechtsTyteca, Lucie, 1970 [1958]. Traité de l’argumentation. La nouvelle rhétorique (Bruxelles: Éditions de l’Université de Bruxelles)
Plantin, Christian. 1995. « L’argument du paralogisme », Hermès, Argumentation et rhétorique (I), 245-262
DOI: 10.4267/2042/15170
Plantin, Christian. 2005. L’argumentation (Paris: PUF, Que sais-je ?)
Van Eemeren, Frans H. and Grootendorst, Rob. 1984. Speech Acts in Argumentative Discussions (Doordrecht:Foris)
Van Eemeren, Frans H., Rob Grootendorst, & Francesca Snoek Hoekemans, 1996. Fundamentals of Argumentation Theory (NJ &London:Erlbaum)
Vignaux, Georges. 1981. « Enoncer, argumenter: opérations du discours, logiques du discours », Langue française 50, 91-116
DOI: 10.3406/lfr.1981.5093
- روث أموسي*
* مدير مجموعة «ADARR» البحثية (Analyse du discours, argumentation, rhétorique)، ورئيس تحرير مجلة «الحجاج وتحليل الخطاب» الإلكترونية، فرنسا.
- ترجمة: لطفي السيد منصور**
** مترجم مصري.
* المصدر:
- محلة فصول العدد 101
ويلي التوليف النظري تمثيلًا عمليًا: تحليل دقيق للتدوين الإلكتروني حول ارتداء النقاب في فرنسا. يقود المقال إلى النقاش حول الكيفيات، هذه التي –وفقًا لها-يقوم التحليلالذي يتناول الخطابات الاجتماعية والمشاكل المجتمعية يسمح أو يستبعد الالتزام السياسي أو الأخلاقي للباحثين.
مقدمة
نعلم أن تحليل الخطاب، من ناحية، ونظريات الحجاج أو البلاغة، من ناحية أخرى،لم يكونا دائمًا في توافق تام. يبدو أن فن الإقناع موصوم للغاية بالقصدية، وقليل الحساسية تمامًا للمحددات الاجتماعية ولعلاقات القوة؛ كي يجذب انتباه أوائل محللي الخطاب. في الواقع، هؤلاء المحللون، في أعقاب بيشو(1) (1969)، كانوا يسعون إلى الكشف في النص عن الأيديولوجية التي تحركه، وفضح سراب الموضوع سيد المعاني، على الرغم من استلهامهم ( من بين آخرين) من فوكو وألتوسير، إلا أنهم لم يستطعوا سوى أن يتجاهلوا البلاغة الجديدة المستوحاه من أرسطو، وبيرلمان، وأولبريشت- تيتيكا(2) التي نُشرت في عام 1958. وعلى الرغم من أن تلك «المدرسة الفرنسية» الأولى قد تم محوها تدريجيًا لصالح مقاربات أقل أيديولوجية، فإن اتجاهات تحليل الخطاب التي ظهرت في فرنسا في الثمانينيات، خاصة في عام 1990، استمرت في إظهار عدم الثقة في التقاليد البلاغية، ومع ذلك فإن الأصل في الدراسات حول اللغة تأخذ في أبعادها الفعل والتلفظ والاتصال. ويعرب دومينيك مينجينيو عن عدم الثقة هذا عندما يدون في رؤيته المهمة لعام 1991:
لا يزال هناك انقطاع لا يمكن اختزاله بين الـ«بلاغ» وملحقاتها الحديثة (التقنيات المتعددة للتواصل الفعال، والإقناع،...) وتحليل الخطاب، في حين أن الأولى تفترض موضوعًا سياديًّا «مستخدمة» إجراءات في خدمة غرض صريح، أما بالنسبة للثانية: أشكال الذاتية، فتكون متضمنة في شروط إمكانية التشكيل الخطابي نفسها (1991: 234).
يمكننا أن نرى أن مسألة الفاعلية العزيزة على البلاغة هى إلى حد كبير مصدر هذا الانقطاع. ويرفض الحجاج البلاغي، بقدر ما، التراث الأرسطي العظيم، يستند على كليات، وينغمس في تصنيفات ذات تعريف لا وقتي.
ومع ذلك، وعلى نحو متزايد، ستظهر محاولات للتقارب بين مجالي الدراسة معًا. وتجدر الإشارة إلى أن تكاملية (أو انصهار) البلاغة والحجاج، من ناحية، وتحليل الخطاب، من ناحية أخرى، تندرج في فضاء تفكير أوسع، مما يؤسس صلة وثيقة بين اللسانيات والبلاغة. يؤرخ للأعمال الأولى بمقالات رائدة لـ« جاكوبسون» (1963)، ثم مجموعة 1970μ(3)، والتي تُكرس بشكل رئيس للتحليل اللغوي صورًا بلاغية من خلال المنظور البنيوي المهيمن حينئذ. ومع ذلك، حتى لو كان من الممكن الاعتراف بالطبيعة الحجاجية للصور البلاغية من قبل التيارات المنحدرة من علوم اللغة، تركز هذه التيارات بشكل رئيس على الكلام دون الانشغال بمجمل مشروع الإقناع. من جهة أخرى، تم إدراج مفهوم الحجاج على نطاق واسع ضمن علوم اللغة، من خلال تيار سمي الحجاج في اللغة الذي بدأه أنسكومبر ودوكرو((1988، والذي نعرفه بوصفه نظرية تداولية - دلالية مشغولة بإظهار كيف أن توجهها الحجاجي يحدد معنى الملفوظات. بهذا المعنى، يعتبر الحجاج عنصرًا مكونًا للغة، وليس للخطاب. وعلاوة على ذلك، يصر دوكرو(2004) على أنه مهتم بالحجاج اللغوي بوصفه سلسلة من الكلام، وليس كـ «لوجوس»(4) يهدف إلى الإقناع؛ حيث يكون الكلام برهانًا أيضًا. يفتح هذان التياران- الدراسة اللسانية للصور البلاغية، والحجاج في اللغة- حقولًا بحثية خصبة، والتي لا تندرج ضمن المشروع؛ ومن ثم ما نتحدث عنه هنا: توضيح لسانيات الخطاب، وأكثر تحديدًا التيار الفرنسي لتحليل الخطاب، والحجاج البلاغي.
لمحات تاريخية
- مكانة الخطاب في نظريات الحجاج: البلاغة الجديدة والتداولية – الجدلية.
وقد يكون من المفيد التذكير بأن المتخصصين في الحجاج هم من كانوا مهتمين من البداية بالجانب اللساني في تخصصهم. في الواقع، في مواجهة الدراسات التي تركز على الحجاج ووجاهته المنطقية (مثل المنطق غير الرسمي)، نجد تيارات وضعت في محور اهتماماتها الجانب التواصلي واللساني للحجاج البلاغي. وأبرز مثال على ذلك هو البلاغة الجديدة لـ حاييم بيرلمان ولوسي أولبريشت – تيتيكا (1970 [1958]). في الواقع، ينطلق المؤلفان من الديناميكية التي تربط المتكلم والجمهور، ويكرسان جزءًا مهمًا من التفكير على الجانب اللفظي للتقنيات التي تهدف إلى الحصول على الاتساق. هذه الدراسة لعناصر اللغة المتعلقة بجهاز التلفظ، المخَاطب، المعجم، النماذج التقيمية، المهارات، إلخ، والتي هى تحت تصرف المتكلم تكون قيمة جدًا لتحليل الخطاب الإقناعي، ومع ذلك، لم تنجز، كما أوضحت في أماكن أخرى (أموسي 2002)، على أساس جهاز مفهومي تمت استعارته من تصور تقليدي جدًا عن اللغويات والنحو. فضلًا عن ذلك، الفصل المعنون بـ «عرض البيانات وأشكال الخطاب» لا يركز على تصنيف الحجج والمواضيع، والذي له اليد العليا؛ فيبقى المشروعان معزولين ومستقلين؛ ومن ثم، فإن التفكير في دور اللغة لا يلقي الضوء إلا على تحيز الأداء العام للخطاب الإقناعي، ولا ينتقل إلى ممارسة التحليل- المشروع الذي لم يُهم، على هذا النحو، حاييم بيرلمان. الفيلسوف وفيلسوف القانون لم يكرسا سوى اهتمام عرضي باللغة.
وهذا ليس الحال بالنسبة لـ «التداولية-الجدلية» التي تستند على المقدمات الفلسفية اللغوية التي وضعها أوستن وسيرل لتكيفها مع رؤية معيارية للحجاج. تلك الرؤية التي يُنظر إليها على أنها عملية شفهية تهدف إلى حل المنازعات عن طريق النقاش النقدي، كما أنها تستند هى نفسها على معايير عقلانية. ويطلق على النهج التحليلي «تداوليًّا» بقدر ما يعد الخطاب بشكل أساسي تبادلًا للأفعال اللغوية؛ كما يطلق عليه «جدليًّا» بقدر ما يعد هذا التبادل محاولة منهجية لحل اختلاف الرأي (فان إيميرن 1996: 291je traduis). وعلى نحو أدق، يدرس الطرفان معًا، في المناقشة النقدية، مقبولية وجهات النظر المناوئة في مواجهة منضبطة؛ فإنهما يحققان فيها المعيار الذي تبدو فيه المواقف المتقدمة مستساغة بالنسبة للمحاورين الموجودين في ضوء الحجج المضادة التي يقدمها كل منهما. يجري التبادل على أربع مراحل، أو الأطوار التي تمر بها العملية الحجاجية: المواجهة(بروز التنافر)، والانفتاح(المشاركة في إجراء الحل انطلاقًا من حد أدنى لعدد من المقدمات المنطقية المشتركة)، والحجاج (الدفاع وتفنيد الآراء)، والاستنتاج (تقرير الطرفين عن النتائج التي يجب أن تؤدي إلى حل للنزاع). هذا النقاش النقدي ذو الأربع مراحل يخضع لمجموعة من عشرة قواعد تضمن حسن سير التبادل العقلاني، وحيث تعد أي ثغرة استدلالًا زائفًا (مغالطة). لإعادة بناء الحجاج انطلاقًا من معطيات أمبريقية (ومن ثم الخطاب في ماديته)، ينبغي تحديد الأفعال اللغوية المختلفة التي تشارك في كل مرحلة من المراحل المذكورة (فان إميرينوجروتندوست1984). وهذه تتألف من أربعة أنواع: الإقرارية، التوجيهية، والتفويضية، والخبرية، وكل منها يلعب دورًا خاصًّا، وأكثر أو أقل حسمًا، في كل طور من أطوار النقاش النقدي (يتوفر جدول جامع في الصفحة 289 لـفان إميرين 1996). إن تحديد هذه الأفعال اللغوية وتحليل تسلسلها وبنيتها يسمح بمواجهة متطلبات وصف التداولية- الجدلية. إن تقييم احترام القواعد النقدية وانتهاكها يتيح ضمان البعد المعياري للتداولية- الجدلية؛ إنه يسمح بتقييم التبادل الحجاجي من خلال دراسة ما إذا كانت المعايير العقلانية والأخلاقية اللازمة لحل صراعات الرأي قد تم احترامها. باختصار، المقصود هنا مقاربة تعتبر أن نظرية الحجاج يجب أن يكون لها أساس صلب في تداولية الأفعال اللغوية. في الوقت نفسه؛ إنه يريد معيارية واضحة، الأمر ليس مجرد وصف كيفية حدوث الحجاج اللفظي على أرض الواقع، وإنما على العكس تمامًا تقييم سير النقاش النقدي وتوفير المعايير التي يمكن أن تضمن نجاحه.
وهذان النموذجان العظيمان– البلاغة الجديدة والتداولية الجدلية هما بالتأكيد ليسا حصريين؛ ولكنهما كثيفو الحضور بسبب انتشارهما الواسع؛ ولأنهما يقدمان طريقتين مختلفتين جدًا لاستيعاب مقاربات لغوية قادرة على أن توفر لنظرية الحجاج البلاغي أحد أبعادها المكونة. ولا شك أن المقاربتين تتقاسمان بعض السمات المشتركة؛ فكلتاهما تعطي الأولوية لتبادل على أساس المنطق الذي وفقًا له يمكن أن يتوصل المحاورون إلى نقطة اتفاق. ويظهر فيهما المحاجج على أنه كائن مزود بمنطق، بوعي وبروية، يلاحق استراتيجيات الإقناع، أو يشارك في التبادل النقدي بهدف التوصل إلى اتفاق بشأن المعقولية التي قد يبدو مسلمًا بها ومستساغة لمختلف المتحاورين. ومع ذلك، فإن البلاغة الجديدة تكشف عن العديد من العناصر (التلفظية، المعجمية، النحوية، إلخ) قادرة على إمدادنا بدراسة وصفية لأداء الحجاج في إطار تواصلي، فهي تضيء الخصائص المختلفة للعناصر الخطابية التي - جنبًا إلى جنب مع استخدام الحجج والموضوعات المستخدمة بحكمة - يمكن أن تثبت فعاليتها في محاولة لتحدي استنفار اتساق العقول مع الأطروحة. أما فيما يخص التداولية الجدلية لـ «مدرسة أمستردام»، فهى تستند على نظرية الأفعال اللغوية لمنح أسسها الخطابية نموذجًا معياريًا للحجاج، وفيما يتعلق بهذا النموذج المزدوج، حيث سنحاول رسم طرائق دمج الحجاج في تحليل الخطاب الذي يميز ما يسمى نظرية «الحجاج في الخطاب» (أموسى 2000ـــ 2010)، بمقابلتها مع المشروع الجديد والمثير؛ مشروع تحليل الخطاب النقدي المقترح من قبل فيركلوج (2012)، المنظر له والمتجلي في هذا العدد نفسه(5).
- مكانة الحجاج في تحليل الخطاب
وعندما يتعلق الأمر بالحجاج واللغة، فإن تحليل الخطاب يغير المنظورات ويعكس التراتبية الهرمية- طالما إنه يأخذ بعين الاعتبار العنصر الحجاجي. في الواقع، ليس الأمر بالنسبة له استكشاف الأبعاد اللغوية للحجاج من أجل تعبئة نظريته؛ بل المقصود أن نرى كيف يمكن للتحليل أن يدمج العنصر الحجاجي لإلقاء الضوء على أداء الخطاب موضوع التنفيذ بأكبر قدر ممكن من الدقة. والواقع أن الهدف من التحقيق الآن هو اللغة قيد الاستخدام، وموضع التنفيذ من خلال العناصر الاجتماعية الخطابية، ومن خلال العديد من الوظائف التي يمكن أن تفي بها في الفضاء الاجتماعي.
ومن هذا المنظور، كان قد كرس دومينيك مينجينيو مكانًا للحجاج في عمله حول تحليل الخطاب (1991، 228-250 )، والذي عُرِّف بوصفه تحقيقًا «لجهاز التلفظ الذي يربط بين تنظيم نصي ومكان اجتماعي محدد» (1991: 13). وقد أدمج ذلك في فصل عن الاتساق الخطابي؛ حيث يشكل الحجاج وفقًا له عاملًا متميزًا. هذه هى المحاولة الأولى في المجال الفرنسي، على حد علمي، للتفكير في الحجاج في إطار تحليل الخطاب، وهى محاولة مثيرة للاهتمام، والتي لم تتبعها أعمال «ماجينيو» اللاحقة. وأشار إلى المشكلة التي يثيرها أي تحليل للحجاج، متناولًا في حد ذاته– وبعبارة أخرى، التحليل الحجاجي «الذري»،(بلانتين 1995: 258):
ليس من الصعب الكشف عن بنية منطقية في مثل هذه الملفوظات [أي الإعلانية]؛ ولكن إذا التزمنا بهذا الحد نظل بعيدين كثيرًا عن التعقيد الفعلي للخطاب. وليس كافيًا تبين المحرك منطقيا؛ فمن الضروري دراسة وظيفته في الخطاب المدروس، ونعيده إلى الأرشيف الذي يعطيه معنى؛ في أي نمط وأي جنس للخطاب يجري هذا الحجاج؟ في أي مرحلة من مراحل تشكُل النص؟ ما البنى اللغوية التي تناسبه؟ ما آثاره التداولية؟ ما المعايير؟ ما المقدمات المنطقية التي يتم الاحتجاج بها؟ هل صريحة؟ إلخ (1991: 230)
ومن ثم، تؤكد المقاربات التي تأخذ في الحسبان الأهمية المادية اللغوية أن الحجج تنبني في كثافة الخطاب، ولا معنى لها إلا داخل الشبكة البين خطابية والإطار التواصلي الذي تندرج فيه؛ لذلك فمن الضروري أن نرى كيف تُضفر في النص، وكيف يدمجها في ديناميكية؛ حيث محاولات الفعل من جهة أخرى تحشد الوسائل اللفظية الأكثر تنوعًا، ووفق أي نمطيات يقع الخطاب في تبادل شامل يستند على أسس حجاجية محددة سلفًا، وما الوظائف الاجتماعية التي يفي بها في فضاء اجتماعي وثقافي معين؟
ومن خلال هذا المنظور، فإن تحليل الحجاج أو الترتيب الشفهي للتفكير المنطقي لا يمكن فصلهما عن مجمل الخطاب الذي يتم بناؤهما فيه. تتمثل الخطوة الأولى في تخليصهما من الأهمية المادية لهذا الخطاب: يتم الكشف عن مخطط مجرد من قبل القارئ/ المحلل ينطلق من آثار لغوية ويتعلق بنموذج معروف؛ ومن ثم يمكن إعادة بناء مخطط يُحيل إلى مخطط حجة القياس أو قياس إضماري أو حجة النتيجة أو قاعدة العدالة. وبمجرد إعادة بناء هذا المخطط من المهم أن نرى كيف يدعمه خطاب يكسبه معناه وقوته. وباختصار، لا يتعلق الأمر بتحديد ووسم الحجج باستخدام تصنيف مسبق، ناهيك عن تقييمها؛ ولكن برؤية كيفية وضعها في الخطاب، وتجدر الإشارة إلى أن محتوى الخطاب «اللوجوس»، كبرهان وخطاب يجد، في هذا الإجراء، وحدته المثالية، ومن خلال الأخذ في الاعتبار كلًا من الصيغ المجردة من المنطق (التي بالكاد يهتم بها محللو الخطاب)، والإجراءات المادية لوضع الخطاب (التي يهملها منظرو الحجاج)، والتي من الممكن أن توضح طرائق استخدام اللغة واقعيًا من خلال دمج أهداف التأثير بها.
- مقاربة اجتماعية – خطابية للحجاج
من خلال المنظور الاجتماعي الخطابي الذي تبناه بالإجماع محللو الخطاب من جميع الاتجاهات، لم يتم التركيز فقط على صياغة الحجج؛ ولكن أيضًا على القيود المؤسسية والأعباء العقائدية والأيديولوجية وألعاب السلطة؛ ومن ثم ينبغي أن يحدد التحليل العناصر التي تشكل الحجاج الخطابي من خلال ربطها بوضع خطابي، وبعلاقات المكان، وبخطاب بيني مشبع بأفكار مسلم بها، وبمجموعة من الحجج مسبقة التكوين. هذا يعني أن الحجاج يبدو أنه تشكل من قبل قيود اجتماعية، وبدوره يشكل المجتمع.
ومن ثم لا يمكن للمحاجج أن يمارس إرادته إلا عبر الأطر الاجتماعية والمؤسسية التي من خلالها يُعرض كلامه، وهذا، على الرغم من هذه القيود غالبًا ما تخفيها العادات، (إن لم يكن المظهر الاجتماعي) والأدلة التي تجنس وتخفي القوى الاجتماعية والسياسية الكامنة. ومن المؤكد أنه من الممكن التساؤل حول المصير المتحفظ من خلال هذا المنظور لمفاهيم: الهدف، المشروع، الاختيار، الاستراتيجية، والاتساق الحر للجمهور؛ ومن ثم الفاعلية التى هي أساس الحجاج البلاغي. يبدو لي أن حل هذه المشكلة صاغه على نحو جيد شارودو(2007: 15): إذا كانت «وضعية التواصل تفوق جزئيًا الفاعلين، تعطيهم تعليمات الإنتاج وتفسير الأفعال اللغوية»، وتكون من ثم «مشيدة المعنى»، ومع ذلك «كل فعل لغوي يوجد تحت مسئولية موضوع يكون في الوقت نفسه مقيدًا بالوضع وحرًّا في المضي قدمًا في الخطاب الذي يراه مناسبًا لمشروعه عن الكلام». ويقترح مارك أنجينو (2012: 67) صياغة أكثر صرامة، وأكثر تطرفًا من هذا الموقف. ووفقًا له، الاعتراف بحدود الممكن تصوره واللغة المعتمدة في مجتمع معين لا ينبغي أن يؤدي إلى رؤية «البشر بوصفهم غامضين ويتكيفون حسب البيئة وفي نهاية المطاف كذوات وهمية؛ مثل دمى أو ببغاوات اجتماعية تقتصر على الاحتياجات والمصالح...». وبعبارة أخرى، فإن التنظيمات والقرارات الاجتماعية لا تعرقل إمكانية التبادل؛ حيث يشارك المواطنون في مشروع ذي تأثير متبادل، وحيث يُنجز المتكلم الخيارات الحرة التي يدين بها بالكامل؛ ومن ثم فإننا نجد فاعلية البلاغة التي تفترض بأن المتكلمين قادرون على المبادرة والعمل، اللذين من خلالهما يمنحون أنفسهم قوة معينة للتأثير على الواقع؛ وأن هذه الحرية تعني المسئولية.
وهكذا تتم إزاحة ثلاثية؛ تلك التي تغوص بالاستدلالات المجردة في الأداء الشامل للخطاب دون أن تحله؛ وتلك التي تقحم الحجاج في فضاء اجتماعي يتضمن معايير وقيودًا مؤسسية وألعاب السلطة التي تقيده دون تمييع المشروع الإقناعي؛ وتلك التي تحرم المحاجج سيادته المطلقة من خلال إبراز القوى الاجتماعية التي تتعلق به، دون حرمانه من حريته ومسئوليته. ومن هذا المنظور، فإن تحليل الخطاب يمكن أن يتناول الحجاج البلاغي عن طريق محو أوجه عدم التوافق، والتي كانت تبدو لأول وهلة أنها تفصل تمامًا بين هذين التخصصين.
- الحجاج في الخطاب والبلاغة
من بين محللي الخطاب، يبدو لي أن باتريك شارودو أقرب إلى هذا البرنامج، عندما يتحدث عن «إشكالية التأثير» (2008: I) بقوله: «الحجاج هو جزء من إشكالية التأثير العامة؛ كل ذات متكلمة تسعى لمشاركة الآخر كونه الخطابي( 2007: 14). في الواقع، إنه يتعهد بدراسة العمليات اللغوية من خلال وجهة نظر موضوع الخطاب»؛ أي من خلال دراسة «المشاكل التي يواجهها عندما يسعى إلى إقناع شخص ما: كيف نجري تواصلًا مع الآخر؟ وما موقف السلطة المتبنى تجاه الآخر؟ وكيفية التأثير في الآخر؛ ومن ثم كيف ترتب أقواله؟». ويصر محلل الخطاب على ضرورة فحص المحاولات الشفهية للفعل من جهة أخرى، والتي لا تقتصر على استخدام الحجج أو نماذج التسلسلات الحجاجية. إنه يرى من خلال هذه المقاربة اندماجًا كاملًا للحجاج في تحليل الخطاب، كما يقول بوضوح في ختام مقاله عام 2008.
ومع ذلك، يرى شارودو في البلاغة نسقًا عفا عليه الزمن، ويقترح بأن يحل محلها العلوم الإنسانية المعاصرة. وعلاوة على ذلك، فإن تحليلاته للخطاب السياسي تركز أساسًا على الطرائق التي يقع بها الفرد في فخ مشروع قسري يجب أن ينجح فيه المحاجج في فرض نفوذه. ويبدو أن الحجاج بوصفه إقناعًا يتجه إلى السيطرة على الآخر بدلًا من الانخراط معه في حوار مقيد جزئيًا؛ ولكن حيث قد يلعب الشريك دورًا وقد يظهر حريته. وهذا يعني عند سيد تحليل الخطاب، الأخذ في الاعتبار أن الحجاج يسمح قبل كل شيء بالكشف عن ألعاب القوة والتأكيد على علاقة الخطاب بالسلطة.
لو أنها تتقاطع مع هذه الأعمال، فإن نظرية الحجاج في الخطاب، التي أحاول أن أتناولها في الأطروحة الأولى 2000 تطالب بصوت عال وقوى بميراث البلاغة (لا سيما ميراث شاييم بيرلمان). في الواقع، إنها تستعيد تناول الرؤية البلاغية بوصفها تفاوضًا على الاختلاف (ماير 2004: 11) الذي يحدث من خلال تبادل بين أفراد ذوي أوضاع اجتماعية ومسئولين عن خياراتهم. ما هو أكثر من ذلك، نظرية الحجاج في الخطاب تستعير بوضوح من أرسطو إطاره التأملي؛ إنها تُعنى بمسألة دراسة الطريقة التي يتفاعل بها البشر وتأثيرهم على بعضهم البعض من خلال تعبئة جميع الوسائل اللفظية المتعلقة بـ«اللوجوس»، و«الإيتوس»، و«الباتوس»؛ بل وتعُنى أيضًا بمسألة وضع هذه التبادلات في الأطر المؤسسية وأنواع الخطاب، حتى لو يبدو التقسيم الثلاثي لأنواع الخطاب: القضائي والاستشاري والاستدلالي من الآن بوصفه موجزًا جدًا فيما يتعلق بالتنوع الكبير جدًا في الخطابات المتداولة في الفضاء المعاصر، ومع ذلك، وكما يقال، يتم التحقيق من خلال مقاربة تحليلية تستكشف «اللوجوس» و«الإيتوس» و«الباتوس»؛ وذلك بفضل الأدوات التي وضعتها العلوم اللغوية المعاصرة: لسانيات التلفظ، التداولية، الحجاج في اللغة، دراسة التفاعلات اللفظية، إلخ.
- الحجاج بوصفه بعدًا مكونًا للخطاب
في الوقت نفسه، يجب التأكيد على أن محاولات التفاعل والحصول على التساق لا تتداخل بالضرورة في الخطابات ذات الهدف الإقناعي التي يتم فيها عرض متواليات حجاجية يمكن وسمها بوضوح. يحصل مفهوم الحجاج هنا على امتداد أكبر؛ فبقدر ما يُغطي أنواع الخطاب التي تدافع أو تفند صراحة أطروحة، يُغطي تلك التي تكتفي بتوجيه طرق الرؤية والتفكير.
أي كلام يميل إلى مشاركة وجهة نظر، أو طريقة رد الفعل على وضع ما، أو الشعور بحالة واقعية، والصيغة الاستدلالية فيه هى إلى حد ما مجهزة، وإلى حد ما واضحة. في كثير من الأحيان، التوجه المحدد للخطاب يظهر في آثار لغوية (الصيغات، البديهيات، الروابط، وما إلى ذلك) دون، مع ذلك، التخلي عن حجة صورية. في بعض الأحيان، يتم التعبير عن هذه الحجة، فقط، في شكل ضمني يتطلب اللجوء إلى خطاب بيني حتى يمكن إعادة بنائها. إنه للتمييز بين الخطابات الإقناعية عن تلك التي تنوي ببساطة التوجيه، طرح إشكالية، والقيام بالمشاركة؛ حيث قمت بالتفريق بين الهدف الحجاجي والبعد الحجاجي للخطاب(أموسي 2005، 2010). ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن هذا التمييز (في كثير من الأحيان جدلي- انظر النقد لـ رافاييل ميشيلي في هذا العدد) صدى لتصريحات غير مستثمرة إلى حد ما لـ دومينيك مينجينو حول تعيين الملفوظات الحجاجية بشكل صحيح: «هل مجمل الملفوظات تملك، من قريب أو بعيد، بعدًا حجاجيًا؟ من أجل حل هذه الصعوبة، يجب التمييز بشكل عام بين الحجاج المباشر، وغير المباشر، الأول وحده ينتج متواليات، والتي تقدم نفسها بوصفها حجاجية» (1991: 228).
يستعيد هذا المفهوم للحجاج؛ وفقًا لوضعياته الخاصة مفهوم جريز (1990) الذي يرى فيه طريقة للعمل على تمثيلات الآخر؛ ومن ثم على آرائه ومواقفه، بمساعدة التخطيطات. أو أيضًا مفهوم فينيو، الذي يرى أن «نتلفظ يعني أن نحاجج؛ لأنه ببساطة يعني أن نختار أن نقول أو نقدم بعض المعاني بدلًا من الأخرى» (1981:91). ومن ناحية أخرى، يرفضه آخرون؛ مثل كريستيان بلانتين، والذين ينددون «بذوبان مفهوم الحجاج في اللغة» (2005: 34)، وهو ذوبان يحاول بلانتين منعه من خلال اقتراح نموذج حواري قائم على «مواجهة وجهات النظر المتناقضة في الرد على السؤال نفسه» (2005: 53). هذا النموذج يتفق بالتأكيد مع التراث الذي ينحدر عن أرسطو الذي لا يتصور الحجاج سوى حول مسألة مثيرة للجدل، ومع ذلك، يمكن للمرء أن يرى فيه حالة لصورة بلاغية من بين صور أخرى. في الواقع، فمن خلال مفهوم الحوار المستوحى من باختين (1977)، تستجيب الخطابات وتتعارض وتعزز بعضها بعضًا؛ إنها تشكل مجموعة من التشكيلات المتحركة التي تقدم وجهات نظر متباينة أو مكملة أو متماثلة بشأن القضايا التي يناقشها أعضاء مجتمع معين، والمعارضة الصريحة والقوية للخطابات ليست إذًا سوى أعمدة التواصل الحجاجي، وهناك أيضًا نمطيات أخرى، مثل تعزيز الاتساق من خلال الاستدلالي(بيرلمان وأولبريشت – تيتيكا 19870 [1958])، وبناء الردود. يمكن القول إن مواجهة وجهات النظر، لا سيما عندما تكون جدلية، تشكل أحد أعمدة الحجاج، والآخر هو البعد الحجاجي للخطابات التي تؤثر على طرق التفكير والرؤية والشعور دون أن تعطي نفسها صراحة بوصفها مشروعًا للإقناع.
وفي هذه الحالة، يؤدي توسيع تعريف الحجاج إلى الكشف فيه عن بعد مكون للخطاب. ونفهم من ذلك أنه إذا كان الخطاب يحتوي على عناصر لا غنى عنها تشكله على هذا النحو، فإن الحجاج يشكل جزءًا منه فضلًا عن التلفظ أو استخدام اللغة من قبل الذات المتكلمة أو الحوارية التي تفترض أن كل كلمة هى دائمًا رد على كلمة الآخر. وقد أفضى بقوة التيار الذي بدأته أعمال إميل بنفينيست إلى إبراز مكونات وأداء التلفظ، بإدراجهما في سياق التبادل بين المتحدثـ(ين) والمتحدث لـ(هم). في أعقاب ذلك، لقد أعادت مسألة الذاتية النظر في المصطلحات الخطابية؛ لترى كيف تندرج في اللغة بمصطلحات تقييمية أو بديهيّة، وحتى في ممارسات المحو التلفظي التي تحاول محوها. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم حوارية «باختين» المستعاد والممتد من قبل مفاهيم التناص والخطاب البيني، سمح بإدراك النص من خلال تداول الخطابات التي يشاركها في إظهار كيف يُبنى وفقًا لكلام الآخر، وكيف أنهما ينسجان في إطار من قال بالفعل. من جانبها، أصرت التداولية على القول أيضًا بمثابة فعل: الكلام فعل.
إنه بصياغة كل هذه العناصر: استخدام اللغة في موضع فعلي، والحوارية، والكلام كفعل؛ حيث توجد الحجاجية الخطابية التي تفهم على أنها مكون أساسي ليس للغة (دوكرو)؛ ولكن للخطاب: يضيء التبادل اللفظي للأشياء بطريقة معينة، ويعزز أو يعدل الرؤية، وكذلك يؤثر في أو يعدل القيم المشتركة التي تكمن وراءه.
- مقاربات وصفية ومعيارية
في الأساس، يمكننا أن نقول إن نظرية الحجاج في الخطاب تقترح اندماج الحجاج البلاغي في تحليل الخطاب الذي يُترجم من خلال ممارسة تحليلية، وهذه الممارسة ليست معيارية ولا «نقدية»، بمعنى أنها لا تقترح تقييمًا أو تستنكر الخطاب الذي تتفحصه. وخلافًا لـمدرسة تحليل الخطاب النقدي التي تجعل من نفسها جزءًا من مشروع نقدي تتناوله العلوم الاجتماعية، فإن مدرسة تحليل الخطاب المعاصر «الفرنسية»،(التي تختلف في ذلك عن المدرسة الفرنسية الأولى لتحليل الخطاب)، ليس لديها برنامج أيديولوجي سابق الإعداد؛ ذلك لأنها تقع في هذا السياق؛ حيث نظرية الحجاج في الخطاب تعبر عن نظريات الحجاج بطريقة مختلفة تمامًا عن تلك، التي اقترحها مؤخرًا فيركلو وفيركلو)، (راجع مقالتهما في هذا العدد، فيركلو وفيركلو 2012). إن أنصار تحليل الخطاب النقدي في الواقع يجددون النسق من خلال الإشارة إلى نظريات الحجاج، خاصة التداولية– الجدلية، في جانبها المعياري. إن بناء الحجاج مجددًا الذي يجري من خلال خطابات سياسية يتيح لها قياس صحة التفكير المنطقي الخاضع للآخر وكشف أي شيء يخرق القواعد الجيدة للمداولات. وهذه المداولات مفهومة بمعنى ما أرسطي وهابرماسي في آن؛ إنها تربط العقلانية بعلم أخلاقيات النقاش؛ ومن ثم الحجاج الذي تعبئه الخطابات التي تهدف إلى السماح للمداولة بوصفها تبادلًا منطقيًا حول الخيارات والإجراءات الجماعية التي يجب اتخاذها من أجل الصالح العام. يتيح لدعاة تحليل الخطاب النقدي أن يسبروا بطريقة نقدية غور بعد أساسي للخطاب السياسي، كما أنه يسمح لهم بالحكم على الممارسات الخطابية من حيث معايير حجاجية معدة مسبقًا.
تعتزم دراسات الحجاج في الخطاب الذي يرتبط بأسلوب التحليل في المدرسة الفرنسية أن تقدم تقريرًا عن الطريقة التي يعمل بها الخطاب ويفي بوظائف معينة في هذا المجال دون إصدار حكم حول هذا الموضوع، لو أنها تشير إلى نظرية للحجاج، فليس إلى وجهة النظر المعيارية للتداولية الجدلية؛ ولكن حول الحجاج البلاغي باعتباره دراسة للجهاز التواصلي والتقنبيات الخطابية التي تجعل من الممكن الاتساق مع وضع ما. وخلافًا لأعمال نورمان فيركلو الذي يشارك بمشروع نقدي اجتماعي من خلال أن يكشف في الخطابات الممارسات الاستدراجية والأيديولوجيات السياسية الوبيلة، فإنها لا تمنح نفسها رسالة، ولم تود، بداهة، الالتزام أيديولوجيًا أو سياسيًا.
يمكن أن نتحدث عن نهج «وصفي»، بمعنى أن نضع في الاعتبار ديناميته في تعقيداتها الخاصة، دون مواجهتها بمعيار مثالي؛ يأخذ مصطلح «وصفي» معناه هنا من مقابلته بـمصطلح «معياري»؛ ولكن الأمر قبل كل شيء هو ممارسة تحليلية. في الواقع، إنه يفكك الخطاب من أجل العثور على مكوناته وإعادة بناء - وراء التجسيد المادي للسطح - النموذج الذي يكمن وراءه والمنطق الذي يحركه من خلال حالة اجتماعية- مؤسسية معينة؛ ومن ثم فإنه يسمح بكشف الأداء الخطابي في تنظيمه الخاص، ويبصر بنسق لا يظهر بالعين المجردة. إنه يقترح، دون الحكم على أساس معايير الصلاحية الكلية، استخلاص المنطق الخاص الذي يحكم صياغة الخطابات الملموسة. ويأخذ في الاعتبار تنوعها واختلافاتها، والروابط والفواصل التي تقام بينها. إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحجاج «ليس مساحة فارغة يُشيد فيه برهان»؛ لكنه «تدخل في خطاب اجتماعي مشبع ومتنافر» (أنجنو2012: 67)، فإن الصياغة وإدارة الاستدلال تختلف تبعًا للأوساط الاجتماعية والثقافات والعصور التي تجري فيها. ويسلط مارك أنجينو (2012: 42) الضوء على هذا الجانب من خلال تبني منظور تاريخي يلاحظ إلى أي درجة الاستدلالات التي من خلالها كان يدعو إنسان في الماضي جمهورًا محددًا من أجل أن يُقر بالمصداقية، وأن يتبني أطروحة ما قد تبدو صادمة للمعاصرين. وكان يقول بيرلمان: على الرغم من أن مفهوم المعقولية الذي يبدو معقولًا ومقبولًا لدى مجموعة معينة هو مفهوم نسبي وقابل للتغيير؛ ومن ثم لن تكون هناك معايير مطلقة للصلاحية تتيح تقييم الآخر باللاعقلانية، وإدانة طرق تفكيره؛ ولكن من خلال عقلانيات بديلة التي يجب تقييمها من خلال مقياس أنسقة الاعتقاد، وطرق التفكير في الفضاء الذي يشارك فيه الخطاب قيد البحث.
هذه هي المبادئ التي أود الآن أن أعبر عنها من خلال تحليل ملموس يقوم على إنجازات العلوم اللغوية ونظريات الحجاج.
التحليل الحجاجي والخطابي: مثال تدوينة حول النقاب
- تحليل حجاجي وتقييمي
فلنتناول مثالًا ملموسًا لنختبر سريعًا هذه الممارسة التحليلية، في إطار تحليل جزئي يتيح إعطاء مثال على مختلف النقاط المذكورة أعلاه. اخترت رسالة نُشرت في منتدى للنقاش على الإنترنت تمتثل لنموذج بعيد عن الضوابط الكلاسيكية للحجاج؛ ولكنها لا تمتلك أدنى هدف إقناعي مورس في إطار تبادل كلامي للعديد من المشاركين. الأمر يخص «تدوينة» تفاعلت مع مقال في مجلة اليسار «ماريان» تستنكر ارتداء النقاب في فرنسا وتدعو إلى تشريع بشأن هذه المسألة. وهناك مطالبة مضادة عُبر عنها بشدة من قبل مستخدمـ(ة) إنترنت، يطالب بالسماح للنساء المسلمات بحرية ارتداء الحجاب الكامل: «من أجل حرية التعبير وحق المرأة في اللباس كما يحلو لها، فالرجال الذين يرتدون الجلباب في الشارع لا يقال لهم شيء!!!!»[هكذا].
ماذا يحدث إذا حاولنا إجراء تحليل حجاجي محض لهذا النص، مع التركيز فقط على مضمونه الحجاجي؟ عندما ينظر المرء من خلال المستوى المنطقي المحض، يجد في هذه «التدوينة» أمرًا مزدوجًا؛ الأول قياسًا إضماريًا: العامل الرئيس ضمني: حرية التعبير قيمة( ديمقراطية) مهمة، العامل الأدنى يعتمد على أن الملابس (في هذه الحالة النقاب أو الجلباب) تشكل طريقة فردية أو جماعية للتعبير؛ والنتيجة هي أن للمرأة الحق في التعبير عن نفسها من خلال ارتداء النقاب. ويتضمن الثاني حجاجًا بالقياس:«أ» النقاب- يشبه «ب»- الجلباب– من حيث اشتراكهما في الخاصية نفسها– «خ»: إنها أردية (فوقية) يلبسها المسلمون في الفضاء العام. ما هو شرعي بالنسبة لـ«ب» يجب أن يكون كذلك بالنسبة لـ «أ»، وبعبارة أخرى: إذا كان الجلباب مسموح به في الشارع في فرنسا، يجب أن يكون النقاب كذلك بحكم التشابه «خ» بينهما.
لو بقي المرء على مستوى المنطق غير الصوري، منتبهًا إلى الاستدلالات وحريص على تقييم الصحة المنطقية بعيدًا عن وضعها في خطاب، يمكن أن يصل إلى تحليل معياري من حيث الاستدلالات الزائفة (المغالطات)؛ ومن ثم فمن الممكن تمييز الطابع المغالط للحجة من خلال إساءة استخدام القياس. إنها مسألة تتعلق بمعرفة ما إذا كان التشابه بين«أ» و«ب» يبرر تطبيق المقياس نفسه عليهما، وحيث إذا نشأت اختلافات تتطلب عدم تطبيق معاملة مماثلة لهما. وهكذا، على سبيل المثال، يمكن أن نبرهن أن النقاب، على عكس الجلباب، ليس مجرد ملابس، وإنما علامة دينية (تدعي أنها تستجيب للمبادئ الإلهية). وعلاوة على ذلك، إنه مخصص للنساء فقط هربًا من نظرات الرجال، في حين أن الجلباب هو معطف طويل الأكمام مع غطاء رأس، على الأرجح هو موضة شرقية (لا علاقة لها بالشعائر الدينية)، والتي يمكن أن يرتديها على حد سواء الرجال والنساء. وهذه الاختلافات التي تتعلق بالعلاقة المتباينة بين«أ»و«ب» في الممارسة الدينية، وفي الجنس الأنثوي، ستفوق التشابه الكامن وراء القياس الأوليّ؛ ومن ثم يدين المحلل خلطًا؛ أي قياسًا كاذبًا يبرر بشكل غير صحيح المعاملة غير المتساوية المطبقة فيما يخص النقاب والجلباب في فرنسا. ونحن نرى أنه، من ثم، يشارك في النقاش، ويفخر بنفسه في دحض الحجة المقترحة من خلال التقييم السلبي لصحتها المنطقية.
هنا نرى المعنى الذي يكتسيه التحليل، وهو يتألف من نهج مزدوج. فمن ناحية، فإنه يستخلص الأهمية المادية لملفوظات التخطيطات المجردة لإعادة بناء البرهان المنطقي. إنه يعثر عليها مستخرجًا منها شوائب الصياغات اللفظية بطريقة أو بأخرى: إنه (التحليل) يحول الملفوظات إلى قضايا منطقية، بتفسيرها على حساب اختزال الخطاب. يمكن القول إن المتخصصين في الحجاج يبحثون عن الهيكل أكثر من بحثهم عن المادة جسد النص. إن أنصار المنطق غير الصوري لا ينكرون ذلك بالتأكيد؛ لكن العملية لا تبدو لهم مقبولة فحسب؛ بل ضرورية أيضًا بقدر ما تبدو الطريقة الوحيدة للكشف عن بنية الحجة من أجل إعادة بنائها وتقييمها. والواقع أن النهج الثاني هو نهج ذو نسق معياري وتقييمي. إنه يهتم بقياس الصحة المنطقية للحجة في ضوء المعايير المعمول بها. إن منظر الحجاج الذي يطالب بالمنطق غير الصوري أو التداولية - الجدلية، يجعل من نفسه إذًا رقيبًا؛ إنه يدافع عن حقوق العقل عن طريق قياس الحجاج المقترح بمعايير المنطق السليم، ويحاول الحفاظ على مثالية قادرة على توجيه البشر في محاولاتهم في المداولات والتبادلات العقلانية؛ ومن ثم يتم تعريف التحليل على أنه إعادة بناء الحجج، وكتقييم لصحتها على حد سواء، في ضوء المعايير المعمول بها.
- تحليل جدلي وخطابي للملفوظ موضع الحالة
ولكن، كيف يكون الأمر عندما ندرس، ليس الحجاج في حد ذاته؛ ولكن الملفوظات موضع حالة؟ أولًا وقبل كل شيء، من الضروري الإشارة إلى نوع الخطاب لفهم الكلام في تمثيل القول، من خلال إمكاناته وقيوده. في هذه الحالة، المقصود هو«تدوينة»- رسالة إلكترونية نشرت في منتدى للنقاش، مفتوح للجميع، وهو ما يفسر النمط المعيب للرسالة التي ليست بحكم الواقع غير مؤهلة. ويشارك مستخدم الإنترنت الذي يعيّنه اسم مستعار، في نقاش عبر الإنترنت بشأن مسألة مثيرة للجدل تتعلق بالاهتمام العام؛ فالمنتدى عبارة عن فضاء افتراضي يتشكل فيه الرأي من خلال التبادل؛ بل من خلال مواجهة الآراء المتباينة أو المناوئة؛ ولذلك فإن هدف المتكلم هو التدخل في نقاش بشأن الإذن أو الحظر القانوني للحجاب الكامل في الأماكن العامة، والذي يُقترح أن يصدق عليه القانون. وفي هذه الحالة هذه «التدوينة» جدلية صريحة بقدر ما تقدم نفسها كخطاب مضاد يشارك في استقطاب المواقف العدائية. إنها لا تشكل مجرد منطق استدلالي صالح إلى حد ما؛ ولكن من موقف قوي في نقاش متناقض؛ حيث يقف مستخدم الإنترنت إلى جانب أولئك الذين يرفضون بعنف موقف صحفية جريدة «ماريان» المضاد لارتداء النقاب في فرنسا؛ ومن ثم فإن النص يندرج تحت تنظيم مزدوج، الأول: نوع المنتدى الإلكتروني الذي يسمح بتدخل قصير وإيجازي يأخذ فيه هذا التدخل معناه على أساس حجاجي عالمي، والذي يتداول في ساحة عامة؛ والثاني: الجدلي الذي غالبًا ما يعبر عن نفسه في شكل «شواظ» أو هجمات فظيعة وغير مقيدة إزاء الخصم في الفضاء الإلكتروني. في هذا الوضع بالذات، وهذا الإطار من التواصل (خطاب جدل على شبكة الإنترنت، في هذا النوع من منتدى النقاش على الإنترنت)؛ حيث ينبني «اللوجوس»- الخطاب كلغة وعقل.
ومع ذلك، تتكون هذه «التدوينة» من ثلاثة عناصر متجاورة: استدعاء لقيمة الشعار، ومبرر، ورابط تشعبي. إن رد الفعل الجدلي لمستخدم الإنترنت إزاء مقالة ماريان فظيع، وإنه أولًا وقبل كل شيء يلجأ إلى القوة؛ بل إلى العنف اللفظي الذي يجب أن يشار له. الأمر مرتبط بطابع الفعل الذي يتناول الملفوظ من خلال الصيغة التركيبية: بالنسبة إلى«س»، وهى صيغة تشير إلى وضعية من خلال حالة يجب فيها الاختيار ( مع/ ضد)؛ ومن ثم فإن الافتراض المسبق هو أن الخصم (الصحفية ماريان وجميع أتباعها المعادين لارتداء النقاب)، يعارض حرية التعبير، وهو يستعيد بالفعل التكافؤ في المكانة من خلال الحجاج حول الحجاب في فرنسا: حظر النقاب = التعدي على حرية التعبير التي هى أساس الديمقراطية.
تجعل الصيغة نفسها بمثابة دعوة للتعبئة. وفي هذا السياق، لا يتعلق الأمر بإعطاء أسباب، وإنما دفاع عن قضية تم مهاجمتها وإبراز صيغة يعلن عنها كشعار. هذه الصيغة- «بالنسبة لـ س»- يجب أن تكون لها قيمة مشتركة على نطاق واسع؛ حتى لا تتطلب مبررًا فوريًا وتستغني عن البرهان. هذا هو الأساس الممنوح له عن طريق التأشير إلى حجاج بسيط، فالقراء- وغيرهم من مستخدمي الإنترنت– عبارة عن مستفهمين، ولقد تم استدعاؤهم، ليس لإتاحة الاقتناع بالحجج؛ بل بالتجمع حول معيار، والدفاع عن قضية معروفة بالفعل باسمهم. وباختصار، فإن الملفوظ هو فعل مطالبة إقرارية، وفعل احتجاج ضمني، وتؤكد طبيعة فعل الملفوظ بقوة من قبل الصلة التي تعطى في نهاية هذه التدوينة نحو التماس يوقع عليه ضد ما يسمى بقانون الإسلاموفوبيا. إنها مسألة جعل الكلام سلاحًا قادرًا على حشد جميع القراء معًا على نفس فعل لمواطن.
على مستوى التبرير، نلاحظ في البداية أن المبدأ العظيم المستخف به وضع في المقدمة: حرية التعبير، ارتقت هنا إلى مصاف قيمة عليا، ولقد جاء بعد تجسيد هذا المبدأ في هذه الحالة أن الحرية تتمثل في السماح للفرد بأن يلبس كما يحلو له، وعدم فرض قيود على ملابسه. إن اختيار الملابس التي يعتزم كل فرد أن يرتديها يشير لقرار فردي، والذي لا يمكن أن يخضع لقيود: من خلال الربط بكلمة «و« «من أجل حرية التعبير»، و«حق المرأة في أن تلبس كما تشاء»، وتفترض مسبقًا هذه «التدوينة» أن العنصرين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا– وأن كلمة«و» هى التي تطرح التكافؤ بين الشريحتين. وعلاوة على ذلك، الجزء الثاني »ارتداء الملابس كما يرغب كل واحد« يبدو بمثابة تتمة ونتيجة لـ«حرية التعبير»، ( نستنتج الأولى من الثانية- الحق في اللباس كما يريد كل واحد هو حالة من حرية التعبير الفردية). من خلال هذا المنظور، يظهر ارتداء النقاب كطريقة لباس مثل أي شيء آخر؛ بل هو ملابس غير ضارة، والتي يمكن ترجيحها نتيجة اختيار شخصي. أن نشير، مع ذلك، إلى أنه يتم تفسير النقاب على أنه علامة انتماء إلى الإسلام، تدافع التدوينة في وقت واحد- ولو ضمنيًا– عن حرية تأكيد الهوية الدينية أو المجتمعية في مكان عام «في الشارع». ويغطي هذا الجانب جزئيًا مبدأ الحرية الفردية، بحيث لا تظهر المطالبة المجتمعية (المشار إليها في الرابط) مجرد تحيُّز.
وأخيرًا، فإن حرية التعبير تفترض مسبقًا إمكانية الاختيار وفقًا لقلب الفرد الذي يعززه اختيار مصطلح «الرغبة»، وهو يشير إلى الإرادة الحرة للمرأة في تبني النقاب، مشيرًا أيضًا، في دلالاته السياقية، إلى «الرغبة» (الواضحة بالتأكيد من خلال الخطأ الإملائي): «حق المرأة في اللباس كما يرغبون». إن قلب مفهوم «الرغبة» صارخ هنا، فإن عملية إخفاء جسمها ووجهها تصبح مرادفة للرغبة (الغرامية) التي تشير إلى المتعة. والضمني هو أن النساء يشبعن رغبتهن في ارتداء هذا الزي الذي يخفيهن عن أعين الناس والرجال. وهذا الاقتراح يتناقض مع ما يقال في أماكن أخرى، وهو أن هذه الملابس مفروضة على المرأة وتحرمها من حريتها واستقلاليتها وعلاقتها الحرة بجسدها. إن الجدل على قدم وساق، دون مواجهة بين مفهومين للحرية: مفهوم حرية أن يرتدي كل واحد كما يحلو له، ومفهوم حرية إظهار نفسه متحررًا في أعين الآخرين، معروضين بشكل واضح. لقد مرت الحجة المضادة في صمت؛ ومن ثم لا تخضع لأي قاعدة دحض. والكلام المتناول باسم المبادئ العظيمة وفعل النداء يسمحان ويغطيان عدم وجود حجاج مضاد حقيقي من خلال اللعب على آثار البداهة. وفي الوقت نفسه يقترح أن تلك الآثار التي تساعد في سرقة العلمانيين الفرنسيين تجد اعتبارها بطريقة مختلفة للحياة، والتي لا تعود إلى أولئك الذين لا يفهمونها بالإدانة متجاهلين الحرية الفاصلة وإرادة الأطراف المعنية.
ويدرج المتكلم/ة عاطفيته في الخطاب من خلال بناء الجملة الإضماري بواسطة لكمة؛ ولكن أيضًا من خلال الاستفاضة في نقاط التعجب للملفوظ الثاني. وتظهر هذه الأخيرة ثورته أمام ظلم؛ إنه انفجار من السخط الذي يرغب في أن يشارك به قراءه. يأتي تأثير «الباتوس» هنا ليدعم الاستدلال. وهو متحالف مع حجة القياس التي تحدثنا عنها من قبل، ومع تلك التي يسميها بيرلمان قاعدة العدالة: ما هو صالح لـ«س» هو أيضًا صالح لـ«ص»، عندما يكون هناك المساواة بين جزءين. ويشير الأسلوب السائد إلى أن هذا ليس انتهاكًا عديم الفائدة لقاعدة العدالة التي يجب أن تكون هى المعيار؛ بل تجاوزات مخزية ومثيرة، والتي يجب أن تدان علانية.
الافتراض المسبق للنداء الرقمي هو أن الرجل والمرأة متساويان، وأن ما يحدث لآخر يعود تلقائيًا على الآخر، ورفض أن ترتدي المرأة الملابس (المحلية) من شأنه أن يشكل جريمة لا تقتصر على سيادة العدالة فحسب، وإنما أيضًا على حق المرأة في الحرية والمساواة. وهكذا يقوم مستخدم الإنترنت ببناء «إتوس» بديل للدفاع عن حقوق المرأة، وهو يتعارض مع «إتوس» المدافعين عن حق المرأة بعدم إخفاء وجهها عن المارة والتصرف في جسدها. إنه يطالب بتطابق عقلاني وعاطفي في آن من جانب جمهوره، من المفترض التمرد ضد حقيقة أن «الرجال لا يقال لهم شيء فيما يخص ارتداء الجلباب»، في حين أنهم يريدون أن يحظروا على النساء ارتداء النقاب؛ ومن ثم هو يقوم بعرض صورة لأحد المستمعين من الجمهور: مقتنع بمبدأ المساواة بين الجنسين وحق المرأة في تقرير المصير، وهو مبدأ نسوي وجمهوري تدافع عنه تحديدًا صحيفة أسبوعية، والتي يقع فيها المنتدى، ماريان. إنه يحاول قلب أسلحته الخاصة ضد خصمه عن طريق الانتقام.
ولذلك فإن النداء هو بمثابة دفاع عن الحريات الفردية لكلا الجنسين؛ ولكن النساء في المقام الأول. هذا النوع من التدوينات وقاعدة الاسم المستعار يلعبان دورًا مهمًا هنا؛ لأننا لا نعرف ما إذا كان المستخدم رجلًا أو امرأة. إن كلمة «alier» التي لا تعني شيئًا في الفرنسية هي للجنسين. إن حقيقة أن الخطاب لا يقدم أي عنصر من شأنه أن يستدعي أي أثر محتمل لتأنيث يسمح بالشك، ويعطى هذه التدوينة كرسالة عالمية لا تميز بين الجنسين، أو حتى تحيد أثر الانتماء إلى نوع الجنس (الجندر) من خلال مشاجرة تتناول الملابس والسلوك الأنثوي، ويبقى عمدًا على مستوى المبادئ التي يجب على الجميع قبولها والاعتراف بها.
غير أن حياد «إتوس» المواطن مبدئيًا، والذي يرفض تصنيفه من حيث الجندر يزعجه مستوى اللغة الذي ينخفض فيه المستخدم بشكل خاص، والذي يصنفه على الفور في فئة غير المتعلمين. أخطاء لا حصر لها وفاحشة لقواعد اللغة والإملاء يعني، في الواقع، فردًا من دون تعليم، ولا يتقن الاستخدام السليم للغة. الرسالة الرقمية تُسمِع صوتًا شعبيًا، والذي لا يحتضن الاستدلالات المنطقية المتطورة جدًا. ومنذئذ، من المثير للاهتمام أن نرى أن مستخدم الإنترنت يستغل سمة رئيسة لهذا النوع، وإمكانية الروابط والنصوص التشعبية؛ إنه يضيف في نهاية هذه التدوينة رابطًا لالتماس «ضد قانون إسلاموفوبيا جديد». ومما لا شك فيه، كما قلنا، أن إدراج الرابط بالالتماس يعزز طابع الخطاب بوصفه فعلًا- نداء ومطلبًا. ومن ناحية أخرى، يتناقض نص الالتماس بعنف مع هذه التدوينة؛ لأنه يقدم حجاجًا متقنًا مفاده أن الموقعين يضطلعون بذلك. وعلاوة على ذلك، فإنه يُحرك المبرهن له «alier». في الواقع، فإن الالتماس يعرض قانونًا ضد النقاب بوصفه هجومًا ضد المسلمين وعلامة على الإسلاموفوبيا، والذي لا تفعله التدوينة؛ ومن ثم فإن مستخدم الإنترنت يلعب لتمرير القارئ من الدفاع عن حريات المرأة إلى الدفاع عن المسلمين في فرنسا، من النسوية إلى مقاومة العرقية. وهو يُسند أيضًا وظيفته القصيرة والمثقلة إلى استدلال قريب متأصل في أسباب شُرحت بوضوح.
ولكن، علاوة على ذلك، الالتماس الذي يبدأ بـ «نحن مواطنو الجمهورية الفرنسية المعلمين والمنتخبين والمثقفين ورجال الأعمال وأعضاء المجتمع المدني من جميع الطوائف»، إنه يصر ليس فقط على تجميع المواطنين؛ ولكن أيضًا على تدخل الكُتاب والأفراد ذوي الخلفية الفكرية والمكانة الاجتماعية. مستخدم الإنترنت، كما قيل، يستخدم لغة بسيطة جدًا مليئة بالأخطاء؛ ومن ثم فإن «الإتوس» الذي بلا تعمد؛ ولكن دون شك بوعي يُسقط أي رجل أو امرأة فظ أو بلا ثقافة يعوضه صورة الموقع الذي ينبني الالتماس كنص تشعبي. الآن، يمكن أن تنتج صورة الـ«alier» تأثيرًا مزدوجًا. جهل هذا أو ذاك الذي يدافع عن المبادئ العظيمة للحرية والمساواة يمكن أن يلعب ضد«ها»: كيف يمكن له/ لها أن يكون قادرًا على الحكم في جدل عام؟ ولكن هذه الصورة من الفظاظة يمكن أيضًا أن تقدم «إتوس» الشخص البسيط الذي يجعل صرخة القلب تسمع، والذي يتحدث للآخرين اللغة اليومية، لغة الشارع - لغة صبيانية تقريبًا: لم يُقل أي شيء للرجال الذين يرتدون الجلباب، «تشير إلى ما يسمى بتبادل الأطفال الشتائم عندما يشعرون بأنهم ضحية الظلم، هو، لم نقل له أي شيء!».
في الختام: موقف المحلل
والسؤال المطروح هنا ليس كيف يمكن لتحليل هذا الجزء الموجز من منتدى على شبكة الإنترنت أن يتيح تقييم صلاحيته المنطقية أو الحكم على قيمته التداولية في المجال الديمقراطي؟ التحليل الحجاجي، الخطابي الجزئي يستند على تسليط الضوء على اشتغالية التدوينة المحددة من أجل فهم أفضل كيف أن فلانًا، بالإضافة إلى ضعف تعليمه، يشارك في نقاش عام حول مشكلة اجتماعية، وهي الطريقة التي يشيد بها في ثقافة معينة استدلالات منطقية شعبية من نوع جدلي، والتي يجب أن يستخلص منها المنطق، والنمطيات التي يمكن بها لخطاب جدلي أن يؤدي وظيفة الاحتجاج والتجمع على الإنترنت. كما أنه يتيح إعادة بناء نظام الأسباب والمبررات التي تدعم الموقف الذي أعرب عنه من خلال تغلغل الملفوظ الإضماري في تناصه وإعادة تقييمه للحجج التي يتغذى عليها، وتبين أن المنطق المشبع بقوة بالوجدان هو من أجل نسق الشعور، وليس فقط من أجل الاقتناع العقلاني، وليس المقصود أن يدحض؛ ولكن لتسليط الضوء على الكيفية التي ارتبط بها جزئيًا «الباتوس» و«اللوجوس» ضمن المشاعر الأخلاقية مثل السخط. ويؤكد هذا النهج الطبيعة العاطفية للالتزام الذي يؤدي إلى التمسك ليس فقط بحرية التعبير؛ بل أيضًا بحرية المسلمين (والمسلمات) في فرنسا الذين يتعرضون للهجوم عبر كيفية حياتهم وممارستهم الدينية. بشكل عام، يبدو أن القيمة الحججية للخطاب المحدد لا يمكن قياسها في حد ذاتها، وفق معايير مجردة من العقلانية. التدوينة التي تدافع عن ارتداء النقاب هي على اتصال مع جميع الآراء والمعتقدات والصراعات التي تشكل الخطاب الاجتماعي في هذه اللحظة، وإنها في هذا الفضاء الاجتماعي الثقافي الذي يتم فيه تجهيز منطقه الفردي.
ومن هذا المنظور، لا ينتقد المحلل الدفاع عن الحجاب المتكامل ولا يتهم الخصم بعدم العقلانية، وهو يعثر، على المستوى الحجاجي (المخططات)، والخطابي (الصياغات) على العناصر المؤسسة للخطاب المعطى للقراءة في الفضاء العام للإنترنت؛ فإنه يدرس الطرق التي ترتب بها هذه العناصر لإنتاج معناها وآثارها؛ فهو يضعها في علاقة ما مع الخطاب البيني لمعرفة ما الذي يغذي التدوينة وما ينتج عنه في المقابل. وبذلك، يكشف عن المحددات الاجتماعية التي تؤثر على الخطاب، وكذلك عن إمكانيات تناول وضع وفعل المواطن التي يقدمها للمتحدث.
التحليل الذي يحلل ثم يعيد بناء مادة خطابية ليفهم منها الاشتغال، والمنطق الداخلي والتحديات، يشكل مشروعًا ينحرف انحرافًا صارخًا على النظريات المعيارية للحجاج والمقاربات النقدية لتحليل الخطاب؛ ولكن من وجهة نظر معينة، فإن «فك الارتباط» هذا لا يفشل في خلق مشكلة. في الواقع إن النظريات المعيارية للحجاج التي تفرز الغث من السمين، وتثبت الصلاحية المنطقية للحجج، تكرس نفسها لرسالة اجتماعية. إنها تعلم المواطنين الكشف عن المغالطات المنطقية، وضمان حسن سير المداولات والدفاع عن القيم الديمقراطية التي يقوم عليها نظامهم، وتتبنى نهجها النقدية والوصفية رسالة تعليمية. وعلاوة على ذلك، إنها تريد القيام بدور اجتماعي من خلال تحسين قدرتنا على بناء فضاء عام يمكن فيه مناقشة شؤون المدينة بصورة عقلانية من أجل التوصل إلى اتفاق تفاوضي. بهذا المعنى، نظريات الحجاج ليست مشروعات علمية بحتة؛ إنها تعتزم الإسهام في حل الصراعات، وفي الإدارة السليمة للشؤون الإنسانية، أو إلى إقامة إدارة حكم جديرة بهذا الاسم. ولذلك تستطيع إنشاء تحالف على نحو متناغم مع تحليل الخطاب النقدي الذي يعلن منذ البداية أهدافه الاجتماعية، ويضع خبرته في خدمة مثل أعلى معد مسبقًا؛ على سبيل المثال، نقد النيوليبرالية باعتبارها مدمرة لمجتمعاتنا الديمقراطية.
أما الآن، نظرية الحجاج في الخطاب لا تمتثل لهذه الأهداف المعيارية والنقدية؛ فإنها ليس لديها ميل وصفي. إنها تحاول أن تبني مادة (خطابية) تضيئها من الداخل؛ من أجل فهم طرق القول التي هى أيضًا طرق للفعل؛ فهى تعترف بالتنوع، والتعددية، ووجود عقلانيات بديلة. إن لديها ميلًا للعرض والتفاهم، الأمر الذي يقودها إلى سبر غور ظواهر خطابية متنوعة. دائمًا توضع متونها، وتدرس في الإطار الاجتماعي الذي يولدها، وحيثما تفي بالمهام التي تهتم بتحديدها. وبهذا المعنى تتبنى موقفًا منفصلًا عن الاثنوجرافيا التي تستكشف الظواهر الثقافية التي تكشف عن نسق المعتقدات والفكر في مجموعة بشرية، أو موقف المؤرخ الذي يحاول إعادة بناء أنماط الحياة والتفاعلات «الذهنيات» والممارسات الثقافية، في ظروفها الاجتماعية التاريخية. التحليل الدقيق للبوست الخاص بالنقاب يتيح لنا أن نرى كيف أن المعارضين للحظر القانوني لارتداء النقاب أو الحجاب المتكامل في الشارع يفكرون ويتفاعلون لفظيًا ضمن الجدل الذي مزق فرنسا. كما أنها تكشف عن طرق تفكير وتواصل المواطنين الذين حرموا من التعليم الرسمي، واستخدامهم للإنترنت من خلال استخدامه كمنصة للتعبير والاحتجاج والدعوة إلى التجمع حول قضية مثيرة للجدل.
وفي الوقت نفسه، يمكن للمحلل اختيار مدونات مثل تدوينة النقابـ في تناوله المشاكل المجتمعية التي يسلط عليها الضوء، والتي من أجلها يوفر أدوات التفكير النقدي. وهو على الرغم من إنه لا يتخذ وضعًا مباشرًا في الجدل بوصفه باحثًا، إلا أنه يختار التدخل بطريقته الخاصة في المجتمع الذي يشارك فيه؛ إنه يجزئ القضايا، يكشف عن طبيعة الاختلافات بين الفئات الاجتماعية، ويعرض الأسس المرتبطة بالدوكسا وأساليب التفكير المختلفة وغير المتوافقة في كثير من الأحيان؛ ومن ثم هو يقوم بأكثر من مجرد توفير المعرفة؛ فهو يحاول تحفيز التفكير من خلال رفعه فوق مستوى المواجهات اللفظية التي يشارك فيها الأطراف الفاعلة. و«الاثنوجرافي» أو المؤرخ المعاصر الذي يصف مجتمعه الخاص لا ينوي كذلك الانفصال عنه؛ بل من خلال تحليل الخطابات التي تبنيه، فإنه يحاول تقديم وجهة نظر نائية، والتي تتيح التفكير فيه على نحو أفضل. له الحرية، في المرة الثانية، في طرح نفسه بوصفه المواطن الذي يتخذ جانبًا مع أو ضد إزاء ما كشف عنه عندما يتعلق الأمر بالتدخل في الساحة العامة، وأن يناضل من أجل قرار جماعي (محاربة أو تعزيز مشروع القانون ضد ارتداء النقاب في الفضاء العام، على سبيل المثال).
في الواقع، فإن تحليل الخطاب، والحجاج من خلال الخطاب التابع له، هو بمثابة مادة لاستخدامات مختلفة. الأول: علمي، بمعنى اندماج المهارات الجديدة مع المعرفة المشتركة، وتسليط الضوء على الظواهر الاجتماعية التي تتناول من جانبها الخطابي، وهذا من خلال تعريف الباحثة ناتالي هينيش(6) (2002). قد يكون الثاني تطبيقيًّا بمعنى الاستخدام الذي يمكن أن يقوم به العديد من الفاعلين- المؤسسات والشركات ومحترفي المعرفة الذين يوفرهم محلل الخطاب- والذي يصبح بعد ذلك «الخبير» الذي يتم استدعاؤه (هاينيش 2002). وعلى نحو متزايد، فإن المجالس البلدية وهيئات صنع القرار وقادة المشروعات يستدعون مهارات محللي الخطاب لتحقيق نتائج ملموسة. الثالث، والأخير اجتماعي سياسي؛ إنه ذلك الاستخدام الذي يمكن استخدامه لتحليل الخطاب للتنديد بالأيديولوجيات التي تعتبر ضارة، ومكافحة المواقف التي تعتبر غير أخلاقية. تتحدث «هاينريش» في هذا الغرض عن «المفكر»، مرادف مفهوم المثقف الذي يحاول أن ينتقد أو يبرر الوضع مثل أي مواطن؛ ولكن مع كفاءته الفكرية وسمعته (2002: 118). كنت أفضل أن أرى ذلك امتدادًا مباشرًا لعمل الباحث، المسموح به من خلال نتائج بحثه. وبالنسبة للمحلل كباحث، تساعد المعرفة على «فهم العالم وتعزيز التفاهم المتبادل؛ وبالنسبة للمحلل كشخص متورط في المجتمع، يمكن أن تساهم هذه المعرفة نفسها في تغيير العالم»؛ مما يستدعي التزامًا معلنًا (فلوري فيلات(7)- ووالتر(8)2003: 101). أكثر من المعارضة، الأمر يختص بالتمييز الذي يهدف إلى الحفاظ بالنسبة للمحلل على إمكانية استقصاء موضوعه دون تحيز، وتمييز كل جوانبه في تعقداته؛ بل توتراته ومآزقه، بدون برنامج محدد مسبقًا...
الهوامش
1- ميشيل بيشو: فيلسوف فرنسي وهو من طور نموذج تحليل الخطاب في فرنسا.
2-أكاديمي بلجيكي.
3-مركز الدراسات الشعرية، جامعة لييج، بلجيكا.
4- فرق أرسطو بين ثلاثة أنواع من الأدلة التي يضعها خطاب الحجاج موضوع التنفيذ: تلك التي تعتمد على شخصية الخطيب(l'ethos)، وتلك التي تعتمد على محتوى الخطاب ذاته.(le logos)، وأخيرًا تلك التي تعتمد على مشاعر المتلقي(le pathos).
5-يشير لهذا العدد من المجلة الإلكترونية.
6-عالمة اجتماع فرنسية تخصصت في الفن، خاصة الفن المعاصر(1955-).
7- كاتبة فرنسية (1981-).
8- (1932-) مهندس وكاتب فرنسي (1932-).
مراجع الدراسة
Amossy, Ruth. 2002. « Nouvelle rhétorique et linguistique du discours », Koren, Roselyne & Ruth Amossy (éds). Après Perelman. Quelles politiques pour la rhétorique?, (Paris:L’Harmattan), 153-171
Amossy, Ruth. 2005. « The argumentative dimension of discourse », van Eemeren, Frans H. & Peter Houtlosser (éds). Practices of Argumentation (Amsterdam: John Benjamins Publishing Company), 87-98
Amossy, Ruth. 2010 [2000]. L’argumentation dans le discours (Paris: Colin)
Amossy, Ruth. 2010b. « La dimension argumentative du discours littéraire. L’exemple de Les Bienveillantes », Maingueneau, Dominique &IngerÖstenstad (éds). Concepts et démarches de l’analyse du discours littéraire (Paris:L’Harmattan)
Angenot, Marc. 2012. « La notion d’arsenal argumentatif: l’inventivité rhétorique dans l’histoire », Frydman, Benoît & Michel Meyer (éds). Chaïm Perelman (1912-2012). De la nouvelle rhétorique à la logique juridique (Paris: PUF), 39-68
Anscombre, Jean-Claude & Oswald Ducrot. 1988. L’Argumentation dans la langue (Liège: Mardaga)
DOI: 10.3406/lgge.1976.2306
Aristote, 1991. Rhétorique, trad. Ruelle, introd. M. Meyer, commentaire de B. Tmmermans (Paris: Le livre de poche)
Bakhtine, Mikhail (Volochinov). 1977. Le Marxisme et la philosophie du langage (Paris: Minuit)
Benveniste, Emile, 1966-1974. Problèmes de linguistique générale, 1-2 (Paris: Gallimard)
Charaudeau, Patrick. 2005. Le discours politique. Les masques du pouvoir (Paris: Vuibert)
Charaudeau, Patrick. 2008. « L’argumentation dans une problématique d’influence », Argumentation et Analyse du Discours 1
Ducrot, Oswald. 2004. « Argumentation rhétorique et argumentation linguistique », Doury, Marianne & Sophie Moirand (éds). L’argumentation aujourd’hui. Positions théoriques en confrontation (Paris: Presses de la Sorbonne Nouvelle)
Fairclough, Isabela & Norman Fairclough. 2012. Political Discourse Analysis. A Method for Advanced Students (London & New York: Routledge)
Fleury-Vilatte, Beatrice & Jacques Walter, 2003. « L’engagement des chercheurs (3) », Questions de communication 4, 231-249
DOI: 10.4000/questionsdecommunication.7465
Geisler, Cheryl. 2004. « How ought we to understand the concept of Rhetorical Agency ? Report from the ARS », Rhetorical Society Quarterly, 34: 3, 9-17
DOI: 10.1080/02773940409391286
Grize, Jean-Blaize. 1990. Logique et langage (Paris: Ophrys)
Groupe μ. 1970. Rhétorique générale (Paris: Larousse)
Heinich, Nathalie. 2002. « Sur l’engagement des chercheurs », Questions de communication 2, 117-127
Jakobson, Roman. 1963. Essais de linguistique générale (Paris: Minuit)
Kerbrat-Orecchioni, Catherine. 1980. L’Énonciation de la subjectivité dans le langage (Paris: Colin)
Koren, Roselyne. 2002. « La nouvelle rhétorique », « technique » ou « éthique » du discours ? Le cas de l’engagement du chercheur », Koren, Roselyne & Ruth Amossy (éds). Après Perelman. Quelles politiques pour la rhétorique ? (Paris:L’Harmattan), 197-228
Koren, Roselyne, 2004. « Sur la critique du contructivisme en communication », Questions de communication 5, 203-211
Maingueneau, Dominique. 1991. L’Analyse du Discours (Paris: Hachette)
DOI: 10.3406/reper.1979.1614
Meyer, Michel, 2004. La rhétorique (Paris: PUF, Que sais-je ?)
Moeschler, Jacques. 1984. Argumentation et conversation. Eléments pour une analyse pragmatique du discours (Paris: Hatier- Crédif)
Pêcheux, Michel. 1969. Analyse automatique du discours (Paris: Dunod)
Perelman, Chaim &OlbrechtsTyteca, Lucie, 1970 [1958]. Traité de l’argumentation. La nouvelle rhétorique (Bruxelles: Éditions de l’Université de Bruxelles)
Plantin, Christian. 1995. « L’argument du paralogisme », Hermès, Argumentation et rhétorique (I), 245-262
DOI: 10.4267/2042/15170
Plantin, Christian. 2005. L’argumentation (Paris: PUF, Que sais-je ?)
Van Eemeren, Frans H. and Grootendorst, Rob. 1984. Speech Acts in Argumentative Discussions (Doordrecht:Foris)
Van Eemeren, Frans H., Rob Grootendorst, & Francesca Snoek Hoekemans, 1996. Fundamentals of Argumentation Theory (NJ &London:Erlbaum)
Vignaux, Georges. 1981. « Enoncer, argumenter: opérations du discours, logiques du discours », Langue française 50, 91-116
DOI: 10.3406/lfr.1981.5093
- روث أموسي*
* مدير مجموعة «ADARR» البحثية (Analyse du discours, argumentation, rhétorique)، ورئيس تحرير مجلة «الحجاج وتحليل الخطاب» الإلكترونية، فرنسا.
- ترجمة: لطفي السيد منصور**
** مترجم مصري.
* المصدر:
- محلة فصول العدد 101