أمل الكردفاني / وجوه الثورة - قصة قصيرة

وجوه الثورة - قصة قصيرة

.......


"الغزي" يدفن ساقيه في الطين ، شاب نحيل يبدو كمريض بالسل ، وصدره عار تبرز أضلاعه منه وصرة عميقة مظلمة. ظهره ممد ورجلاه مغروزتان في طين النيل ، ذراعاه مصلوبتان خلف رأسه وعيناه على السماء وفمه مفتوح بأسنان بنية. لا شيء في عقله هذه اللحظة. خال تماما ، وهذا يسلم قلبه لكسل لطيف وخدر يدغدغ عظامه فيغمض عينيه.
رائحة النيل سمكية ، باردة ومشبعة برطوبة ثقيلة قليلا. والجو هادئ وآمن فالتماسيح منذ الثورة اختفت من النهر الأفعواني الطويل. لا شيء يتحمل الحرب حتى الحيوانات المفترسة.
(تجلس وحيدا؟)
قال صديقه ووقف يتأمل الفجر فأجابه:
- أتداوى بطين البحر...قدماي ساخنتان وكذلك بولي.
جلس إليه وأخذ يحصب النهر بالحصى مستمتعا برؤيتها وهي تتقافز على سطح الماء..
قال الغزي:
- أم عشة نصحتني بشرب الماء وغرز قدمي في الطين.
قال صديقه:
- الكحول والنساء هما مشكلتك..عليك التوقف عن ذلك..لو قبضوا عليك فستجلد وتلقى في السجن..
- لن يفعلوا.. إنهم يحتاجونني في الحرب...لقد انتصر نبي الله بفضل الله على الطاغوت في الجزيرة أبا وأباد قوات راشد بيك وذبح قوات الشلالي في قدير..وغيرها وكنت معه دائما...لي حظوة خاصة..رغم ضعف بنيتي الجسدية لكنني فارس...
قال صديقه:
- تغزو من أجل النساء والخمر وليس إيمانا..أعرفك جيدا..
امتقع وجه الغزي وقال:
- لا وحق شيخي .. بل ايمانا واحتسابا...مرحي يا صديقي ليس بالضرورة أن أكون نقيا كالملائكة لكي أكون مؤمنا بالمهدي عليه السلام...
قال مرحي:
- ولكني لست مؤمنا...
نظر إليه الغزي وقال:
- ستقتل.. أصمت..
أخرج الشاب قدميه من الطين وغسلهما ثم غادر مع صديقه ومضيا حتى بلغا قطية دلفا إليها برأسين منحنيين لقصر مدخلها ؛ أخرج الغزي زجاجة من تحت العنقريب وقال:
- غنمتها في آخر معركة من خواجة أحمر الوجه كقرن الشطة وشعر أصفر كالشمس...ذق..إنها عجيبة...
اجترع منها مرحي جرعة قفزت من شفتيه لمعدته مباشرة وقال:
- رائحتها زكية...هؤلاء القوم يملكون العجائب فعلا...
- مع ذلك هزمناهم شر هزيمة..
ثم ادخل الغزي يده في جلد خروف متكوم وأخرج علبة فضية أخذ يعالجها بسكين كانت معلقة على ذراعه:
- تذكرتها الآن...الفضول يقتلني لمعرفة مافيها...
نظر الشابان داخل العلبة بفضول ووجدا سمكا صغيرا فقال مرحي بدهشة:
- سمك؟
قال الغزي بثقة:
- صير..
ثم رفع واحدة وابتلعها دفعة واحدة حتى تراقصت تفاحة حنجرته مرتين. نظر إلى صديقه وقال بدهشة:
- جرب...أعجوبة أخرى...
حمل مرحي العلبة وعاد الغزي لكومة الجلد وأخرج منها كيسا مزركشا بالألوان.
- هؤلاء القوم ليسوا من الأرض..
فض رأس الكيس وأقحم سبابته في عمقه ثم اخرجها ومصها. بقى صامتا قليلا ثم قال:
- ماء...
-ماذا تقصد؟
- ماء.. إنه مجرد ماء...
أخذ مرحي الكيس وقربه من فمه فمنعه الغزي قائلا:
- لا تقربه... قد يكون محاية ..
- الخواجات مسلمون؟!!
سأل مرحي بهلع فأجابه:
- الترك مسلمون.. لابد وأنهم قد علموهم.. إسكبها سكب الله عليهم نار جهنم..
ثم جلس الرجلان ساهمين حتى قال الغزي:
- هؤلاء الناس يحاربوننا بكل أنواع الأسلحة التي لم نعرفها من قبل.. حتى المحايات سكبوها على النيل .. أقسم بسيدي أنهم يفعلون ذلك... حتى في القتال كانوا يغدرون .. يهاجمونك من ظهرك .. وأنت في مواجهة مقاتل آخر... غدارون...
- ستهزمون في نهاية الأمر..
التفت إليه الغزي وقال:
- لا تكن ضد الثورة يا صديقي...
- لست ضدها..لكنني أرى أنه لا طائل من ورائها إن استمرت على هذا النحو...الأمر يبدو فوضويا..
صاح الغزي:
- وماذا تعرف أنت عن الحرب...أنت خياط مسكين...لا هزيمة في الحرب أبدا حتى عندما تهزم...
قال مرحي:
- بل لا نصر في الحرب أبدا حتى عندما تنتصر...
صمت الغزي بعدها ثم قال:
- ساهم في الثورة بشيء أو فلتصمت...
أضاف بعدها:
- لكنك لا تملك شيئا.. إنك حتى لم تذبح شاة من قبل..حائك..حائك .. علي أن أقطع الجمار...
خرج تاركا صديقه خلفه.
كان الصباح ينفث لهب الشمس وشجيرات يابسة موزعة على التربة الطينية الجافة والمشققة.. قرفص الغزي وتبول ثم محق ذكره بحجر وعاد لكوخه..
- لست مؤمنا ولكنني سأساهم في حربكم ..
قال مرحي وهو راقد على العنقريب.. فرمى الغزي رأسه على كومة الجلد واضطجع على جنبه وقال:
- ناولني خمرة الخواجة..
مرر له الزجاجة فأخذها واجترعها بتلذذ ثم قال:
- بماذا ستساهم ..
اجابه مرحي:
- بجبة...سأحيك لكم جلبابا يربك العدو أثناء الحرب...لن يعرف المقاتلون إن كنتم تقاتلون من أمامكم أم بظهوركم...لن يتمكنوا من الغدر بكم حينها...
- جبة سحرية؟
قال الغزي متهكما فاجابه:
- بل جبة عادية.. لها جيبان من الأمام والخلف .. وشكلها من الأمام لن يختلف عن الخلف...واسعة وقصيرة .. تعين الجندي في القتال وتساعده حينما يفقد سيفه على إخراج سكينه من ذراعه بسرعة...
نصب الغزي ظهره وقال:
- تبدو لي فكرة غريبة .. فلأكن أول من يرتديها يا صديق...
غادر أمرحي تاركا الغزي يجرع خمر الخواجة وهو يتأمل في فكرة الجلباب الجديد..."ربما بهذا الجلباب المزدوج تنتصر الثورة"..
قال ذلك وبدأ الخمر يعربد داخل جمجمته...ثقل رأسه فغاب عن الوعي.. ولوهلة رأى جسده وجسد جنود أنصار النبي برأسين..رأس تجاه الأمام ورأس تجاه الخلف...ثم رأى سيوف الأعداء تقطع الرؤس المتجهة نحوهم .. قبل أن تقبل الرؤوس المتجهة للخلف في شفاهها كما لو كانت رؤوس مخنثين...
حينها نهض مفزوعا من النوم.. وتقيأ الخمر بألم وساقاه ساخنتان...جدا.

(تمت)
التفاعلات: محمد محضار

تعليقات

ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...