أمل الكردفاني/ النصف يشتغل- قصة قصيرة

"... يا حبيبي طاب الهوى ما علينا
لو حملنا الأيام في راحتينا
صدفة اهدت الورود الينا
واتاحت لقاءنا فالتقينا.."
قالت:
- صوتك جميل..
قال:
- ليس جميلا كما ينبغي للحب أن يكون.
"يا حبيبا قد طال فيه سهادي
وغريبا مسافرا بفؤادي..."

قالت:
- اكملها..
قال:
- لا... لا أحب ذلك المقطع..
قالت:
- سوف تلهو بنا الحياة وتسخر..
وضع سبابته على شفتيها وهمس:
- اتشاءم...
ثم حمل عوده وغادر فتابعت هي قامته النحيلة البائسة ، ابتسمت وبكت.
كانت آخر أغنية ستسمعها منه.

***

"هل في ليلتي خيال الندامى
والنواسي عانق الخيام"

- تبدو في حالة طيبة..
اجترع من عقار كأسه وقال:
- زفافها غدا يا فتى.

غمرهما صمت إلا من صوت وزن مفاتيح عوده بيده المتصلبة.
- ككل القصص الوهمية في هذه الحياة...لقد سبقتني أنت ..
- لم أتعافى حتى اليوم.. لا أملك موهبة العزف مثلك.. في الحقيقة لا أملك موهبة قط... ومن لا يملك موهبة يتكدس داخل ذاته بصمت...

"والمساء الذي تهادى إلينا
ثم أصغى..
والحب في مقلتينا...
لسؤال
وللهوى
وجواب
وحديث يلوح في شفتينا...."

- التلحين ليس إلا ككل فن.. خلق مفارقات مستمرة تنتظم في خط زمني ..وكلما مضى الزمن بانتظامها كلما أقلمت الأذن ذائقتها عليها فعشقتها...ثم ..وفي لحظة لا يمكن فهم سرها... تلفظ الذائقة ذلك كله... كل شيء يتجه نحو نهايته... ومن لا يستوعب تلك الحقيقة تستهلكه الأحزان...ولو استوعبها لما رغب في بلوغ منتهى الأشياء...وهذا ما جعلني دائما أكتفي بمنى كرمز...لذلك لست منهارا...ستكون هناك ألف منى ومنى...
سأله بدهشة:
- حقا؟!! هل أنت صادق؟
أجابه:
- طبعا لا.... هلم نغادر هذه الجدران الأسمنتية الخانقة....هناك حيث السماء سوداء ترصع النجوم كلاحتها فتؤجج شقوة البؤساء بدلا عن هدايتهم بنورها الشاحب....
- البحارة يقودهم نورها الشاحب...
- لأنهم جبناء...يبحثون عن الرسو.. لكنني لست كذلك...إن الرسو هو الموت بعينه... إنني ألقي مجدافي تاركا قاربي لإرادة الأمواج....
سأله:
- حقا؟؟!!
أجابه:
- طبعا لا....
قهقها وهما يمشيان ببطء في شارع ممهل بتربة رملية ، قبل أن تتوقف من على البعد سيارة أطل من نافذتها رأس امرأة نادت على صديقه الذي وقف قليلا ثم اتجه نحوها وانحني نحو نافذتها... كان هو واقفا يراقب الأمر ثم رأى صديقه يركب السيارة وهو يلوح له صائحا:
- سأعود بعد قليل يا صديقي...
لكنه لم يعد أبدا...

***

إنه لا يستحق كل ذلك... لقد عذبوه حتى الموت...كسروا فكه بعد ان اقتعلوا كل أسنانه وفقأوا عينيه وسلخوا جلده وقطعوا ذكره وخصيتيه وبقروا بطنه بعد ضربه ضربا مبرحا وصعقه بالكهرباء...

"الهوى أنت كله والأماني
فاملأ الكأس بالغرام وهات
.. بعد حين...
يبدل الحب دارا
والعصافير
تهجر الأوكارا.."..

كان الكلب يحملق فيه وهو يلهث..
- وجهك مضحك أيها الكلب اللطيف..
قال ثم فرك أسفل خطمه مداعبا... ظل الكلب يموء وهو يتحرك كملاكم يحاول تفادي لكمات خصمه.
- لا أملك لك طعاما ... لا أملك سوى حنين ما...
يئس الكلب ودار على رباعيته بخطوات مضطربة .. وقف وارتفعت أذناه ثم نبح مرة واحدة وأطلق قدميه للريح.....
- جيد .. اهرب.. اهرب وابحث عن الأمل...إنني املك طعاما.. سندوتشا وحيدا لا استطيع تقاسمه معك...قد تدهسك سيارة بعدها مباشرة..
أخرج سندوتشه وأخذ يلتهمه وعضلات وجنتيه تنتفخ حينها وتنكمش حينا آخر...
- يأت اللحن فجأة...كالموت...يخترق الجمجمة..ويغرز خطافاته الحادة الحارقة في الدماغ .. تلك الخطافات التي لا تنسحب إلا بعد أن تتشبع كل ثقوب اللحن بمد من أمواج الكمال المقدس...
"لا شيء يعود" قال وهو يراقب خطواته وبنطلون الجينز ينسحق طرفه تحت حذائه....لماذا بدا له وكأنه لن يتوقف عن السير... أجاب: لأنني لن أتوقف عن السير حتى لو توقفت....من يستطيع فعل ذلك...حقا من يستطيع أن يلاحظ أن كل الأشياء تظهر أمام وجهه فجأة ، تلتحم بطيفها في طيفه ثم تعبره وتختفي خلفه طوال سني عمره....البشر والحيوانات والنباتات والجمادات والسحب والنجوم ...والرمال تحت الحذاء.....
ثم يشيخ كل شيء .. يتقلص.. ينكمش... يتبعثر .. ثم يتبدد .. وتنتهي القصة...

***

"سهر الشوق
في العيون الجميلة..
حلم آثر الهوى...
أن يطيله
وحديث في الحب
ان لم نقله
أوشك الصمت حولنا..
أن يقوله"..

فرد الطبيب صباعه تحت شفته السفلى ونظر بتأمل نحوه وقال:
- أنت مكتئب فقط...
ثم بدل وضع قدميه فوق بعضهما...
- أدرك ذلك..
قال الطبيب:
- ذكاء منك أن تكون واعيا بمشكلتك... وأيا ما كان سبب ذلك الاكتآب إلا أن معدتك قد أضرها اكلك للحشرات بهذه الكثافة...ولا أفهم لماذا تأكلها...هل لا تمتلك مالا لشراء خبز ...
اجابه:
- لا املك مالا ولكن ليس ذلك هو السبب..في الواقع أنا لا آكلها... إنني لا أمضغها حتى لا تتأذى... إنني ابتلعها..
- ولماذا تبتلعها؟
أجاب بعد أن سرح بصره بعيدا وأصابع يده اليمنى تعقد خصلتين من شعره:
- لأنني أحبها...
- تحب الحشرات؟
- نعم...
سأله الطبيب:
- وهل من يحب يأكل حبيبه؟
أجابه بذات النظرة الساهمة:
- نعم.... لا .. أنا لم آكلها... أنا أحتويها داخلي....أحتويها في أعماقي...ذلك الصرصار القاني اللامع المنتحب دائما.. تلك الخنفساء السوداء الحزينة...إن الحشرات تعاني معاناة شديدة...
دارت مقلتا الطبيب وسأل وهو يكبت فزعا داهمه فجأة:
- مم تعاني؟
- تتألم؟
- مم تتألم؟
- تتألم بشدة... إنها تهيم فقط..تهيم بلا قيمة.. البشر يطلقون على تلك الأرواح اللطيفة حشرات.. وكل من يحتقرونه ينعتونه بالحشرة....إنني أحبها حقا... وهي كذلك تحبني..إنني أحتويها في أعماقي..في سويداء قلبي...
قال الطبيب:
- المعدة ليست القلب؟
- تنطحن داخلها... تتحلل وتجري في دمي...تغذي دمي .. تمنحني الحياة... أليست تلك قيمة كبرى لها....إنه الوصال المطلق...
نهض الطبيب وقال:
- على أية حال كل ما عليك فعله هو أن تتوقف عن ابتلاع أحبتك...
- سيتبددون ... سيتبددون ككل شيء...
سأله الطبيب بجدية:
- هل دفعت ثمن الكشف؟
نهض وقال:
- لا تخش شيئا..لست مجنونا.. وداعا..

***

"فادنو مني
وخذ إليك حناني
ثم أغمض عينيك
حتى تراني"

لم يكن سياسيا...
ولا حزبيا...
كان دودة فقط...
فلماذا قتلوه بهذه الوحشية...
ليس من المهم معرفة هويتهم
فقد مات على كل حال...
كان يراقب حشرة لم ير مثلها من قبل... كانت خضراء تماما.. ملساء ولامعة...ذات جناحات خضراء ... لكنها لا تطير...مد سبابته ومسها برقة على جناحها الأيسر ، ارتعشت قليلا وواصلت سيرها البطيء...
همس:
- أجنحة بلا وظيفة...لماذا تفعل الطبيعة ذلك...بالنعام والبطريق والديوك .. في حين تطير الكواسر لتهدد مثل هذه الحشرة العسولة...
سألها:
- دلوعة أنت؟ أليس كذلك...؟
رفع عوده فوق حجره وأخذ يتأملها...
- لست خائنة..
(تخاطب الحشرة!!!)
التفت فوجد طفلا ينظر نحوه ببله.
- نعم....
قال الطفل:
- هل أنت عالم حشرات؟
التقفت الأم كف طفلها بسرعة وغادرا...التفت الطفل وغمز له بعينه اليسرى وابتسامته واسعة. وأدهشه ذلك التصرف. أدهشه حتى انمحى كل مافي عقله من أفكار...
اختفت الحشرة الخضراء....
(عالم حشرات.. ولم لا؟)...
- بصفقة عادلة سأضمك لفصل دراسي واحد مقابل عودك هذا.. ها ما رأيك... سأحصل على عودك وتحصل على دراستك...
نظر إلى الرجل:
- ولكن هذا العود هو رابطي الوحيد بالعالم...
قال الرجل:
- كل شيء سيربطك بالعالم حتى دراسة الحشرات..مع ذلك ستظل مستقلا عن هذا العالم مهما فعلت... عليك أن تختار...؟
ثم فتح كفيه:
- عودك العراقي هذا ..أو .. الحشرات...
أغمض عينيه وزم شفتيه وأجاب:
- حسن...
ثم مد ذراعيه وكفاه تحملان العود .. كجندي يسلم رايته لجندي آخر.


***

"سوف تلهو بنا الحياة وتسخر..
فتعال..
احبك الآن..
الآن أكثر..."...
مد سبابته وأغلق شفتي منى الطريتين كالزبد الملون...
- أتشاءم...
- لا تتشاءم ...
قالت وهي تلف كفها البض على سبابته الجافة...
همست:
- عش بنصف واحد فقط.. وسأعيش بنصف واحد فقط... نصف واحد يشتغل...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...