فريدة النقاش - العَلمانية ليست كفرًا..

نجح خصوم الديمقراطية وبخاصة تيارات الإسلام السياسي بمختلف اتجاهاتها في تشويه العَلمانية ومحاصرة معانيها والأفكار والتاريخ الطويل الذي ارتبط بها، وفعلوا ذلك حين قرنوا بينها وبين الكفر والإلحاد رغم أنهم يعلمون جيدا أن هناك ملحدين كثيرين ليسوا علمانيين، وأن هناك علمانيين ليسوا ملحدين، ويعلمون أيضا أن الإلحاد ينتمي إلى ميدان الفلسفة وأنه وجد مبكرا جدا في تاريخ البشرية حتى قبل عصر الديانات؛ ويعلمون أيضا أن العلمانية تنتمي إلى ميدان الفكر السياسي، وأننا إذا شئنا تقديم تعريف مبسط لها فسوف نقول إنها فصل الدين عن السياسة والدولة وليس فصله عن المجتمع والحياة. ذلك أن الدولة الدينية هي بالضرورة دولة استبدادية ليس فقط لأن هذا هو التاريخ الذي عرفناه عن الدولة الدينية سواء كانت تلك التي هيمنت عليها الكنيسة في التاريخ الأوروبي في العصور المظلمة، أو كانت دولة الخلافة الإسلامية التي كانت دولة استبداد وفساد في غالبية عهودها وكانت سنوات العدل والشورى والرحمة فيها هي الاستثناء والنشاز.
ليس لهذه الأسباب التاريخية فقط، ويصبح فصل الدين عن الدولة ضرورة وإنما أيضا لأسباب فكرية عميقة هي جوهر السلطة الدينية، أي الدولة الدينية تتخلص هذه الأسباب في حقيقة أن النظرة الدينية للعالم تستبعد الآخرين عامة، لأنها هي التي تمتلك الحقيقة المطلقة ولابد أن تأتي بكل الآخرين علي أرضها لأنهم ضالون، وما سعيها لحاقهم بها إلا عملية إنقاذ لأرواحهم الهائمة في عالم الضلال، وتصحيح لمسارهم في الدنيا والآخرة.
لذلك حين تتأسس دولة علي هذه الرؤى والأفكار والمفاهيم فإنها تخاصم الديمقراطية والتعددية من حيث المبدأ، إذ إن الديمقراطية والتعددية تبقي مفاهيم غريبة علي أساسها وبعيدة عنها كل البعد. ولم يكن أحد زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ مخطئا حين قال عشية بوادر نجاح الجبهة في الانتخابات التشريعية في الجزائر مطلع التسعينيات: إنها الديمقراطية لمرة واحدة لأن الديمقراطية قرينة الإلحاد وهي قيمة مستوردة من الغرب، ولذلك فإن مطلب تداول السلطة كمطلب ديمقراطي أصيل وركن من أركان الديمقراطية يظل بدوره مطلبا غريبا علي الإسلاميين، فمع من سوف يتداول السلطة هؤلاء الذين يملكون الحقيقة الإلهية ويتحدثون باسم الله ويقيمون شرعه علي الأرض؟ إن مجرد احتمال أن يقضي مثل هذا التداول إلي تغيير الحكومة التي تتحدث باسم الله وتنتمي لدولة لها دينها سيكون عدوانا أثيما علي شرع الله الذي تقيمه هذه الحكومة.
كذلك فإن النظرة الدينية للعالم وللعلاقات الاجتماعية ولصراع الأفكار والرؤى وهو صراع دائر رغم كل تحوطاتها ترفض من حيث المبدأ مسألة الحوار، وتضع الطاعة الكاملة لأولي الأمر في مكانه، سواء كان أولو الأمر يتربعون علي عرش الحكومة أو الحزب أو المؤسسة أي أن هناك خصومة ضمنية مع العقلانية التي تتعامل عادة مع بدائل هي بنت الحوار والصراع والعقل النقدي الحر، ذلك العقل الذي يطرح الأسئلة علي الوجود والكون والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بالجماعة وبخالقه وحينه يرفض دعاة الدولة الدينية القول بأن علاقة الإنسان بالله هي مسألة شخصية تخص كل فرد على حدة وهو مسئول عنها طبقا للأقوال الشعبية التي تتضمن حكمة عميقة واحتراما أصيلا لحرية الفرد: كل واحد متعلق من عرقوبة أو رب الكل يحاسب الكل- حين يرفضون هذه الرؤية المنفتحة التي أستطيع أن أسميها عَلمانية فطرية إنما يتطلعون للتوسط بين البشر وإلههم فيصبحون هم المرجع المعتمد، وكم أفضى مثل هذا التوسط القسري إلى مآس وعنف وقتل ودماء على مدار التاريخ، وارتكب كل هذه الأفعال الوحشية من فوضوا أنفسهم متحدثين باسم الله ونوابا عنه وأوصياء علي البشر في دينهم ودنياهم في ملبسهم ومأكلهم وطريقة تفكيرهم وخياراتهم كافة باعتبار أن الإسلام دين ودينا كما يقولون.
ولذا كله لا بد من تشويه الفكرة العلمانية التي تتجنب المطلق، وتبقي في مجال النسبي، وتفكر في النسبي بما هو نسبي، وتؤمن أنه لا سلطان على العقل الإنساني إلا العقل ذاته. ويبقي إيمان الإنسان بربه شأنا خاصا بينهما. ولم تكن العلمانية لا لدى نشأتها ولا في مسار تطورها تشترط الإلحاد أو تبشر به إلا فيما ندر بين بعض فلاسفة التنوير في صراعهم ضد الكنيسة.
لكن، ولأن الذين يرتبون لهذه الحملات ضد العلمانية يدافعون عن مصالح هائلة يحيمها الاستبداد المدني والديني، تعمدوا أن يلمسوا هذا الوتر الحساس لدى المؤمنين، بل ونقلوا معركتهم حول الكفر والإيمان والدولة الدينية والدولة العلمانية من ساحة الفكر والجدل الديني إلي ساحة البسطاء والفقراء ليحشدوا جمهورا ضد الفكرة العلمانية وأساسها الديمقراطي العقلاني وكونها شرط أساسي للمواطنة الحقة وللتعايش الخلاق علي أساس الاحترام المتبادل بين الديانات جميعا.
لذلك يتعين علي دعاة العلمانية أن يخوضوا معركة الدفاع عنها في الأوساط الشعبية وبين المؤمنين مسيحيين ومسلمين ليمزقوا تلك الستر الزائفة السوداء التي ألقي بها مغرضون على الفكرة العلمانية والدولة العلمانية التي هي دولة كل المواطنين بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة وليست دولة المؤمنين بالإسلام وحده، وهي أصلا لا تنهض علي الإيمان إنما على المواطنة.


أعلى