أمل الكردفاني/ قصة أتعس رجل في العالم / قصة قصيرة

هناك من أيقظني الساعة الثانية صباحا ، حيث أقبع في نزل صغير لا يكلف أكثر من خمسين جنيها في يوم بليلته. دلني إليه -منذ وقت بعيد- صديق كان يتردد عليه دائما عندما يأتي إلى العاصمة كي يبيع انتاج مخمساته من البصل. وهذا النزل مكتوب فوق بابه المتسخ (فندق الأكارم) ، وغالبا ما لا يكون الخفير الذي يأخذ الخمسين جنيها مستيقظا ، بعض النزلاء يتركون أجرتهم داخل مركوبه القديم المصنوع من جلد البقر وعندما يستيقظ لأي سبب ما ويدخل أقدامه ذات الأظافر المحشوة بالفطريات يشعر بملمس النقود الخشن.
أيقظني الهاتف ؛ لأنني أضعه تحت وسادتي فلا أضمن شركاء الغرفة الذين أجهل هواياتهم. حقيبتي تشاركني النوم وهي في اتجاه الحائط دائما كدرع للحماية وفوق هذا فإنني أربط حمالتيها بمعصمي عبر دوبارة خشنة. هذا ليس وسواسا قهريا ولكنني أبذل ما في وسعي حتى لا أشعر بالذنب لو سرقت.
غاصت كفي تحت الوسادة وأخرجت هاتفي القديم ولم استطع فتح عيني لقراءة رقم المتصل فأجبت مباشرة..صديقي السماني أخبرني بضرورة أن التقيه الساعة السابعة والنصف صباحا في أحد الفنادق المطلة على النهر. لم أقو على اكمال سماعه بل سقطت ذراعي وغصت في نوم عميق تخللته بضعة كوابيس مضحكة. لقد رأيت نفسي أبيض..نعم أبيض كالدجاجة تماما ، لكن ليس من مؤخرتي بل من إبهام يدي. وعندما استيقظت كان الصداع يثلم جمجمتي وعيناي ثقيلتان في محجريهما. ترددت في الذهاب لموعدي ثم نفضت الكسل وحملت حقيبتي خارجا من النزل.
التقاني السماني في مدخل الفندق الضخم ، وأنبني على أنني لم أحلق لحيتي ولم أهذب هندامي لكنه لم يزد على ذلك كثيرا بل دفعني إلى داخل صالة باردة أنعشتني رائحة عطر فيها لم أشمها من قبل. وعلى يسار صالة الاستقبال شبه الخالية -إلا من ثلاث فتيات أمامهن كؤوس آيسكريم أو شيء من هذا القبيل- كان رجل يجلس في ركن قصي. اتجهنا نحوه فحيانا وبدت لغته غريبة إلى حد ما.
عرفني به السماني كمدير لمكتب سلطان من سلاطين أفريقيا الأثرياء. لم أفهم معنى ذلك لكنني افترضت مباشرة أنه محتال..لقد التقيت كثيرا بأمثال هؤلاء المدعين من قبل. قال بأن مخدومه ينعت بسلطان الماس. ثم جرؤ فقص علينا كيف تحالف جد السلطان زعيم إحدى القبائل مع شركات تعدين الماس الأوروبية فتقاسما سرقة ثروات تلك الشعوب منذ أكثر من قرن من الزمان ، وأما حفيده السلطان الحالي فهو أقل نشاطا من جده ووالده. وقد أوكل لمدير مكتبه هذا إدارة كافة أعماله. قال بأنه عمل مجرد سائق للسلطان الشاب ولم يكن يملك الدربة الكافية لإدارة كل تلك المليارات..لكنه تعلم بمرور الوقت أن التنظيم هو أهم ما تحتاج إليه الإدارة حتى لا يفشل إن لم يحقق النجاح المنشود. ولما كان السماني من تلك النوعية التي لا تحتمل الإسهاب في القصص الجانبية فقد شرع في إفهامي الموضوع برمته.
وعلى قدر ضخامة ذلك العمل ازدادت شكوكي حول السلطان ومدير مكتبه لكنني فضلت إدعاء التصديق حتى يبلغ الحق محله..
عدت ادراجي للنزل ووجدت الخفير يتوضأ ، نظر إلي وقال:
- زاد سعر الدولار...
أدركت أنه يعني زيادة أجرة النزل وسألته فوجدت الأجرة قد زادت ثلاثين جنيها أخر..أي ثمانين جنيها.
قلت له بأن الناس سيفضلون استئجار منازل في المناطق الشعبية الرخيصة..فالفان واربعمائة جنيه يمكنها أن تدبر غرفة أفضل في منزل مشترك. قال بعينين محمرتين:
- طيب.. اجمع سكان الفندق واخبرهم بذلك فعلهم يشاركونك المنزل.
ثم حرك جثته الضخمة وجلس على كرسي وبدأ في الصلاة جالسا.
"لص يصلي" قلت وغادرت للغرفة التي تتكون من ثمان أسرة فوق بعضهم البعض. طرحت الفكرة على الرجال السبعة فلم يكترثوا لها. قال أحدهم بعد أن جاملني ورد: نحن لسنا مستقرين هنا.. هذا نزل..يبدو أنك تقيم منذ وقت طويل.
فكرت ورأيت أن هذا صحيح ، لي قرابة سنة ونصف وأنا أقبع هنا.. كجرز متعغن. وقد آن الأوان للرحيل. عندما خرجت سمعت الخفير يقول بامتعاض: بالسلامة.
لم أضع خطة لهذا التمرد ؛ فقط حملت حقيبتي وقررت المغادرة ، وكيفما اتفق اعتليت باصا لا أعرف وجهته.
قضيت يوما وليلة في حديقة عامة...حتى كادت بطارية هاتفي أن تنفد. أجريت اتصالا سريعا بالسماني الذي دعاني للبقاء عنده تمهيدا لاستقبال سلطان الماس. لم اشأ أن أنبهه بأن هذا سلطان الإحتيال لا الماس. دعني أستمتع ببضعة أيام في منزل طبيعي.
بعد ملحمة تغوط كبيرة وحمام بارد في حمام السماني الفخم. جلسنا سويا وقال بحزن:
- كنت أول الدفعة...ماذا حدث لك؟
أنا نفسي لا أعرف ماذا حدث لي ؛ قلت:
- لم يحدث لي شيء...لماذا تعتقد أنه قد حدث لي شيء.
قال بذات النبرة الحزينة:
- لا تكابر..لماذا أصبحت تعيش حياة التشرد...
قلت له: لكي أنعم بالسعادة...
نظر لي بدقة وقال:
- أصبحت بوهيميا..هل هذا ما تقصده؟
قلت:
- ليس لدي فلسفة.. أنا سعيد بحياتي وهذا يكفيني...
- حسن...
ثم أضاف:
- رشحتك لسلطان الماس...أعرفك جيدا.. أنت أذكى من عرفتهم خلال حياتي..
- سأرى ..
هذه المرة كنت أدلف إلى الفندق بملابس نظيفة اعارني لها السماني ، ورغم اتساعها قليلا لكنها كانت مناسبة. وعندما اقتربنا من سلطان الماس وجدت شابا في أواخر الثلاثينيات من العمر يرتدي جلبابا بنيا مطرزا بخيوط الذهب وتتلدى من عنقه سلاسل ذهبية كثيرة ؛ يرتدي نظارة إيطالية وعلى رأسه قبعة من نفس قماش الجلباب ؛ وحينما صافحته رأيت أصابعه الكبيرة مزدانة بالختم الفضية والذهبية والمشغولة والمطعمة بالأحجار الكريمة ، أما حذاؤه فكان مطليا بماء الذهب. وعموما كان تقديري لما يرتديه من فضة وذهب لا يقل عن مائتي ألف دولار إن لم يزد عن ذلك. أما عطره فلم أشتم مثل رائحته الطيبة من قبل فكان أن اتخذت من ذلك مدخلا للحديث فسألته عنه حينها قال:
- هناك مصنع في فرنسا ينتج لي عطوري الخاصة.
ثم ضحك وقال:
- لقد عينو سبعة من الخبراء بعضهم خبراء نفسيين وآخرون من العطارين والكيميائيين فقط لينتجوا لي هذا العطر.
سألته:
- خبراء نفسيون؟
قال وهو يخلع نظارته:
- نعم.. لجعل العطر أكثر انعاشا للنفس ويقلل الشعور بالكآبة...
قال ضاحكا:
- لقد علمت من خلال قراءاتي لسيرتهم الذاتية قبل الموافقة عليها أنهم درسوا علما يسمى بعلم نفس العطور بالولايات المتحدة الأمريكية.
قلت:
- لم أسمع بذلك من قبل.
قال دون أن يتخلى عن ابتسامته:
- ولا أنا...
كان متواضعا ومتبسطا في حديثه وهذا ما لا يتمتع به المحتالون الدوليون ؛ شعرت حينها أن الأمر جاد.
قال:
- بلدكم رائع جدا .. لكن إن كان هذا أفضل فندق عندكم فمن الأفضل أن أبني فندقا من طراز أكثر حداثة...
قلت:
- ستخسر... الأفواج السياحية قليلة هنا.. بالكاد بضعة مئات كل عام.. الاستثمار هنا يعتمد على ما بداخل الأرض فقط...وأظنك تفهمني...
أومأ برأسه. صمت قليلا ثم باغتني بسؤال:
- ماذا تعمل؟
قفز السماني وأجاب:
- لقد نال المرتبة الأولى في الكلية..
أجبت:
- مشرد...أنا مشرد..وأعتقد أنني شاعر....
التمعت عيناه وقال:
- شاعر؟
قلت:
- أظن ذلك... إنهم يسمون ما نكتب شعرا..
سأل:
- وماذا تسميه أنت...
قلت:
- أسميه ثورة...تمردا.. وتتفيها لهذا العالم الأحمق...
حينها نهض فنهضنا معه لكنه قال:
- اتركاني مع هذا المتشعور قليلا... هلم بنا...
خرجنا من بهو الفندق ورأيت سيارة تقف أمامنا فركبنا في الخلف...
قال:
- طائرتي صغيرة لكنها مجهزة بما يلزم.. سأحدثك عندما نستقر داخلها...
وبالفعل أقلعت بنا طائرة صغيرة مجهزة بما يلزم.. كانت على جوانب المقاعد الأربعة ثلاجتان بهما كافة أنواع الخمور. نهض سلطان الماس وبدأ في خلع ملابسه فقلت بجزع:
- ماذا تفعل؟!!!.
أومأ برأسه ورأيته عاريا كما ولدته أمه فقلت:
- أنا لست من هذا النوع..يبدو أنك فهمت الأمر على نحو خاطئ...
لكنه أشار إلى جسده وقال:
- أنظر...
دققت النظر فرأيت جسدا مشوها بالجروح القديمة والحديثة...خطوط طولية تتقاطع مع خطوط عرضية...جلس عاريا وقال:
- أنا محطم...
أخذتني المفاجأة فلم أنبس ببنت شفة.
- يتملكني شعور مزمن بالسوداوية.. أشعر ببؤس شديد.. ولا أحد يفهمني...حتى الأطباء فشلوا في إيجاد دواء لي... أجرح جسدي حتى أخرج الألم من داخله..لكنه لا يخرج ..لا يخرج...
أجهش بالبكاء... ورأيت كرشه يهتز.
-أرجوك.. انت شاعر.. أنت يجب أن تفهم ما أعانيه...
قلت بجزع:
- أفهم أفهم...
فتح ذراعيه لاحتضنه فترددت ثم احتضنته وانهار بالبكاء...
ماذا لو رآني خفير النزل الآن وأنا احتضن رجلا عاريا...رجل يملك طائرة خاصة ومليارات في بنوك العالم ويمتلئ جسده بالجروح لأن روحه مشوهة بجروح أكبر.
سمعت صوت مضيفة أثيوبية تتنحنح وشعرت بالخزي غير ان سلطان الماس قال من بين دموعه:
- أخبري الكابتن بالعودة إلى المدرج.
ثم ارتدى ملابسه وكفكف دموعه. وهبطنا إلى الأرض.
قال:
- ارتحت قليلا.. لأول مرة أجهش بالبكاء على هذا النحو... رغم أنك ظللت صامتا ولم تقدم لي حلا...لكن تفهمك أفادني...
قلت:
- سأجد حلا بلا شك.. ليست هناك مشكلة بلا حل...حتى أكثر البشر تعاسة يملك حلا...
قال بحزن:
- متى تجده؟
قلت:
- الآن...
وأضفت:
- سننزل من هنا.. وستترك كل حاجياتك ورائك... سنزور أسرتي في قرية بعيدة الآن...هناك ستجد الدواء...
قال:
- حقا..؟!! هل لديهم دواء؟
اومأت بثقة.
- اخلع كل ذهبك هذا واترك اموالك وحتى وثائقك الشخصية وارتدي بنطلونا وقميصا. واتبعني ولا تسألني عن شيء...رافقني فقط...
أطاعني بحماس...
ولم أكن أعرف ماذا علي أن أفعل بعد ذلك. لم املك خطة وكل ما قلته كان مجرد أكذوبة...ولا اعرف لماذا كذبت... ألم يكن من السهل أن أخبره بأنني لا املك حلا لأزمته النفسية. لماذا شعرت بمسؤولية مفاجئة تجاهه؟
لم أجد إجابة .. وعموما عشت دائما بلا إجابات وربما بلا تساؤلات...
***
فتح الباب ونظر إلينا ثم أدخلنا مرحبا..سألته:
- ألم تعرفه؟
نظر إلى وجهه مليا فأجبت بنفسي:
- سلطان الماس...
وحين اختلى بي في غرفته قال:
- كيف أطعم هذا الشخص .. سأنفق كل مدخراتي...لماذا أتيت به...؟
- سنبيت الليلة هنا فقط.. لقد سرنا مسافة طويلة..قرابة ثلاثة وعشرين كيلو...وهو مرهق...
لقد سرت به طويلا...كنت أرغب في تشتيت انتباهه بالتعب ، لكن عظمه قوي..
-إنه غارق في النوم...شخيره عال جدا...
خرجت به فجرا ثم قطعنا طرقا متربة ومعبدة تحت شمس حارقة وهواء مكتوم...لم تكن حياتي سوى سير مستمر ...أنا أسير فقط بلا هدف... كسيمفونية طويلة...ما أعذب ذلك... واصلنا سيرنا تجاه القرية التي لا أعرف مكانها ولا سكانها...قررت أن ادفع بأقصى طاقته للانهيار....وعندما انقطع بنا الأمر في الطريق الصحراوي أخبرته بكل شيء وأنني لا أملك مليما واحدا في جيبي ، كان سلطان الماس ثابتا والعرق يملأ قميصه لقد نظر في الأفق وقال:
- لم أملك موهبة واحدة في حياتي...دعني أرى ما استطيع فعله....
قال السماني ونحن في غرفته:
- لقد ورطت نفسك..
لكنني لا أشعر بأي ورطة...من قال لهذا الأحمق أن كل الشعراء رومانسيين...إنهم خبراء في الكذب فقط ومتقلبون وكسالى وتافهون مثلي...سأحرق هذا السلطان بل وسأنتحر معه..فقدته إلى عمق الصحراء الأفريقية التي هجرتها الحشرات...واستوطنتها الشياطين...
مالت الشمس للغرب قليلا...حذرته من خلع قميصه فسيحترق جلده الخرتيتي...
قال:
- هل تشم رائحتي من غير عطور؟
قلت:
- كرائحة جثة نافقة... أنت مثلنا تماما...
ضحك:
- كل عرق يشم رائحة عفنة في العرق الآخر...إنهم يتوهمون ذلك لمجرد الاختلاف... الأوروبيون يعتقدون أننا كأفارقة ذوي رائحة عفنة .. ونحن نعتقد أن الشقر رائحتهم كذلك عفنة...وهذا ما نعتقده في الهنود والشرق آسيويين... لكن يبدو أن هذا مجرد توهم....آه...كم أنا عطش...
- سآتيك بماء ... لا تتحرك فالصحراء شاسعة وستتوه بسرعة لو فارقتني...
لم يرد فغذيت سيرى مختفيا خلف الكثبان ومن هناك قطعت عشرات الكيلومترات عائدا إلى الطريق الرئيسي..سرت في الشارع المعبد محاولا إيقاف أي سيارة ، وقد حدث ذلك. انطلق سائق الشاحنة وهو يقول:
- علينا أن نصل إلى أقرب مدينة قبل الغروب... ماذا تفعل هنا...؟
صمت...لقد تركته وحده وهربت...دعه يجابه الخوف وحده وربما الموت...لست شاعرا..بل متشعورا كما وصفني بكل احتقار...احتضنني بجسده العاري لمجرد أنه يملك مليارات وكأنني عبده...فليذهب إلى الجحيم...
قهقهت بنواجز ملؤها الشر فنظر إلي السائق ثم عاد لمراقبه طريقه لكنني لاحظت أنه يتحسس سكينا مربوطا بذراعه.

***

خرجت من مرحاض أحد المساجد وأنا جائع ؛ سرت قليلا ثم لم أر شيئا امامي بعد ذلك.

***

هذا رجل فاضل .. عليك أن تشكره...
قال ممرض شاب...ورأيت رجلا قصيرا ومكتنزا يقول:
- الحمد لله..لقد اطمأننت عليك... إلى اللقاء...
أضاف الممرض:
- لم تأكل منذ أيام..ألا تملك نقودا .. ماذا تعمل؟
أجبت:
- صحفي...
قال:
- في أي صحيفة...
أغمضت عيني..فقال:
- لا تحرك يدك حتى لا تفقد الفراشة التي تنقل لك الدم..
تركني ثم رأيته يعود قائلا:
- بما أنك صحفي..ألا يمكنك أن تكتب عما نعانيه في هذه المستفيات الحكومية... نقابتنا قوية لكنها لا تملك شيئا من أمرها...إنني أتحدث عنكم أنتم كمواطنين مستفيدين من هذه المشافي.
غمغمت:
- سأكتب ... سأكتب...

***

صحت: مائتا جنيه فقط..
قال:
- ولا جنيه واحد.. أنك حتى لم تحصل على رخصة ممارسة الصحافة..
- وهل الصحافة تحتاج لرخصة إنها موهبة.. كتبت لك موضوعين وكل موضوع بمائة جنيه...
قال بنفاد صبر:
- لم انشرهما لأمنحك مالا....ولا احتاج لمواضيعك...الناس يتمنون أن يدفعوا ملايين لأنشر لهم ولقد جاملتك بما فيه الكفاية...
- سأموت جوعا...
صاح:
- وهل كنت تكترث يوما لذلك..ما الذي استجد في الأمر... إنك ترفض العمل بشكل رسمي في أي وظيفة... إلى متى ستعيش عالة على الآخرين...
قلت بتمسكن:
- حسن..سأعمل..اقرضني المائتي جنيه إذن... دين مؤقت ولن يكلفك شيئا..إنك تمنحها لطفلك ليشتري بها شيبسي..
قال:
- هذا طفلي وأنت لست طفلي...إحمل نفسك الحقودة وغادر مكتبي فورا...
قلت بإصرار:
- لابد أن أغادر هذه المدينة .. سادفع نصف ثمن التذكرة لسائق الباص ليحملني إلى الشمال...
أصر بدوره:
- هذا شأنك يا ولد...أنا لست مسؤولا عنك..يكفيك ما أهدرته من ماء وجهك حتى الآن...

***

- لقد كنت آخر من شوهد معه المفقود...
قلت بغضب:
- شوهدت أم لم أشاهد...لقد افترقنا وذهب لحال سبيله..لست مسؤولا عنه ومع ذلك..أنا مستعد تماما للاعتراف بأي تهمة توجهونها لي...حتى لو كانت القتل...
قال الشرطي:
- أنت لا تفهم موقفك جيدا فدول كثيرة تدخلت للكشف عن سبب اختفائه...
- لا أكترث لذلك...إشنقوني بلا محاكمة...هل تريد أن أقول بأنني قلته..حسنا..أنا قلته...
قال بجزع مصطنع:
- كيف قتلته...
أجبته:
- هكذا..
ثم انقضضت على جيب الشرطي وانتزعت مسدسه وحاولت إطلاق الرصاص على نفسي لكن المسدس لم يكن محشوا وكان هو يراقبني ساخرا..
- يبدو أنك مصاب بلوثة عقلية...سأدون ضدك تهمة الشروع في الانتحار...وتهمة الاعتداء على رجل سلطة عامة... وتهمة حيازة سلاح لا تملكه...وتهمة قتل السيد مانديو ماليك أكيلو المشهور بسلطان الماس..وللنيابة ان تتخذ اجراءاتها فورا بإحالتك للمحاكمة ...

***

أغلق الحارس رتاج الزنزانة بعنف ورأيت السجناء ينظرون نحوي كذئاب رأت دجاجة...
صحت:
- هذا هو تأويل الحلم... لقد بضت بيضة .. والآن سأفعل ذلك..
خلعت بنطالي وتغوطت فصاحوا وهاجوا وأخذوا يطرقون الباب منادين على الحارس.
- أنظروا ..هذه هي البيضة..إ..إح....أححح... أنظروا بيضة اخرى..
توقف يا ملعون..عليك العنة ....

***

عند الفجر أيقظني الشرطي وهمس:
- حان الوقت...
ذهبوا بي لغرفة أخرى واجري علي الفحص الطبي والوزن وخلافه من إجراءات مملة...
- سيلقنك رجل الدين الشهادة...
قلت:
- وهل أنا طفل...هل هناك من يحتاج ليلقنه شخص آخر الشهادة...إنني لا أكترث لذلك..يمكنكم أن تتجاوزوا هذا الإجراء....
صاح الضابط:
- لا تدعي الشجاعة...قال الطبيب أن نسبة السكر عندك مرتفعة ونبضات قلبك عالية... هذا هو التقرير أمامي.. وأشم أيضا رائحة ما تطلقه بطنك من غازات...
- لن يكون هذا كابوسا..
دخل شرطي وهمس في أذن القاضي الذي كان جزءا من هيئة تنفيذ الحكم.
تداول رجال الهيئة الأمر بينهم بهمس. ثم قال القاضي:
- حسنا يا بني.. السيد أكيلو لا زال حيا... هذا لا يعني أننا سنطلق سراحك فورا فهناك إجراءات أخرى وتهم أخرى...مع ذلك فسنرفع توصية لإصدار عفو عنك...

***

حلقت بي طائرة سلطان الماس .. ذات تلك المضيفة الأثيوبية الجميلة كانت تبتسم بتكلف في وجهي...قلت:
- لماذا تبتسمين؟
قالت وهي لا زالت مبتسمة:
- هذا عملي يا سيدي ...
قلت بغضب:
- ولكنك لا تؤدينه بإخلاص .. إن ابتسامتك المتكلفة هذه تزعجني كثيرا...تبدين كشخص يتحملني على مضض وهو يضمر لي شرا في نفسه...
قالت وهي مبتسمة:
- آسفة يا سيدي...
قلت:
- سأخبر السيد ماليك بهذا الإزعاج المتعمد....
حينها أطبقت على شفتيها وغادرت.

***

قال سلطان الماس:
- كلانا مررنا بتجربة حياة أو موت...
قلت:
- لا .. أنت وحدك من مررت بتجربة حياة أو موت... أما أنا فقد مررت بتجربة موت فقط...
قال بتردد:
- ولكنك اقتربت من الموت ومع ذلك لم تمت...
قلت:
- هذا ما تظنه أنت...أنا ولدت ميتا...وعشت ميتا وسأموت ميتا...
قال وابتسامة واسعة تغمر وجهه:
- لا أعرف كيف أشكرك...منذ تلك اللحظة التي شعرت فيها باقتراب الموت وأنا أعشق الحياة....كم كنت فزعا وكل ما حولي ليس أكثر من كثبان رملية صفراء بدأت تتحول للون أسود مظلم... سمعت أصوات الذئاب والشياطين...سأخبرك كيف نجوت.. كم هي قصة مشوقة..
قلت له:
- لا أريد أن أعرف....ولكني سأخبرك بشيء كنت أتردد في إخبارك به في تلك اللحظة حينما خلعت ملابسك...
صمت وانتظرني فقلت:
- حسنا.. ولكن قضيبك صغير جدا .. لو كان قضيبي في حجمه لفضلت الموت في الصحراء...
انفجر سلطان الماس ضحكا...وقرع كأسه بكأسي بجزل...

(تمت)
التفاعلات: مصطفى معروفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...