هذه إحدى القصص القديمة التي لم يقرأها احد من قبل كتبتها قبل حوالى عشرين عاما أو يزيد يعني خمس قرن...
✍أمل الكردفاني
الضفدع الممسوخ
.
في غابة من أضخم الغابات ، حيث تعلوا الأشجار وتنخفض النباتات ، سكنت مجموعة من الضفادع قرب أكبر البحيرات ... اتخذت من مائها الشراب وغذائها مما يحوم من الحشرات وخاصة الذباب .. وكان يحكمهم ملك ، قد شاب جلد رأسه وللحياة قد عرك .. يحكم بينهم بالعدل والأمانة ، ولم يغره في حكمه سلطانه ، فساد في عهده الأمان والرخاء ، وازداد عيشهم هناء .
إلا أن ضفدعا من الضفادع – وكان صغير السن يافع – جلس يوما يفكر ، يخطط للشر ويدبِّر ، فقال :
- أنا أكثر الضفادع قوة وشباب ، عقلي من أرجح العقول بين الألباب ، فمالي لا أكون ملكا عليهم في هذه الغاب .. خاصة أنني رأيت من غباء الضفادع الكثير ، فلا أقل من أن أكون عليهم أمير .. ولكن عليّ أن أخفي ما أكنه بصدري .. حتى لا يشيع بين عشيرتي ويسري ، فإذا علم به من علم ، ما سلمت من بطش ذلك الضفدع الهرم .
- وهكذا أخذ الضفدع في إحدى الليالي يقفز من سافل لعالي ، حتى إذا ما وصل إلى مخدع الشاه ، استل مدية مصقولة الشفاه ، وعمد إلى غمدها في صدره ، بجماع كل حقده وغدره .. لكن ضفدعة من حريم الملك رأته ، فأطلقت صرخة أرعبته .. فلاذ الشرير بالفرار ، دون أن يصيب الملك بالعوار ، فاستيقظ الملك على صرخة الضفدعة وتساءل عن سبب كل هذه الجعجعة .
- فقالت :
- أيها الملك النبيل ، ما منعك من معرفة ما حدث إلا نومك الثقيل ، إنما رأيت ضفدعا بمدية عليك يميل ، فصرختُ صرخة أرعبته ، وأطارت عقله وأربكته ، فلاذ الشرير بالفرار ، في ليل أسود الستار ، وما نحن بمدركيه إلا أن يطلع النهار ... لكنني أعرف شكله وخلقته ، وأخالني إن رأيته أدركت سحنته وصورته .. اغتمَّ الضفدع الملك لما جرى ، فعقد قرب البحيرة منبرا .. بعد أن جمع الحواشي من أصدقائه وخاصته ، ثم حكى لهم ما جرى برمته .
فقال وزيره الأمين :
- إنني أعرف أن إسمه " الضغين " ، وهو ضفدع يعيش في آخر البيوت ، تحت أصغر أشجار التوت .. وقد انفصل والداه منذ زمن ، فعانى من المصائب والمحن ، وأظن أن ذاك ما شكله على شاكلة الجرم وفي نفسه أصَّـله .
فقال الملك :
- وما ترانا نفعل .. ونحن لمكانه نجهل ؟
قال الوزير :
إن الضفادع لا تستطيع ترك الماء ، وأظنه سيتبع النجوم في السماء ، نحو اتجاه النهر في الشمال ، وذلك ما سيكون إليه المئآل ، فارسل بأسرع الضفادع إلى هناك وليأسروه وليمنعوه الحراك .. ثم فليأتوا به إلى عرشك العظيم ، واجلب الضفدعة التي شاهدته من الحريم ، ولتواجهه بسوء فعلته ، وسترى يا مليكي انهيار روحه وانكشاف سوءته ، ولك بعد اثبات الجريمة أن تحكم بما تشاء ، ولن يثير في أنفسنا عليه الرثاء .
ففعل الملك ما به الوزير قد أشار .. وقُبض على " الضغين " قبل أن يطلع النهار .
فلما اقتيد إلى الملك ومثل ، سأله الملك بهدوء عما حصل . فقال " الضغين " :
- أيها الملك العظيم ، ويا من عرفت بأنك الكريم ، إني لا أخالك وعهدي بك حكيم ، ذو عقل راجح ، أن يجتاحك غضب جامح .. فتظن بضعيف مثلي سوء الظنون ، ويثيرك عليَّ قول من عليك يحقدون ، عندما اقترب انكشاف أمرهم .. وأدركوا بأن كيدهم سيؤدي لنحرهم ، ومالي والله بحاجة إلى قتلك ، ولست أحمقا حتى أفكر في أمر كهذا مهلك ، فإن لي منزلا كبيرا .. ومطعما كثيرا .. أتخم بالليل من الطعام ، فأنقُّ قليلا ثم أنام .. فإذا استيقظت في الصباح .. ولاح لي من العمل ما لاح ، انصرفت إلى أدائه في عجل ، وما أثناني عنه كلل ولا ملل ، ولعمري ما فكـّـرتُ في السياسة ، ولا في أن أشغل الوزارة أو الرياسة .
فقال الملك :
- فلِمَ هربت إلى مكان بعيد ، وما قولك فيما أخبرنا الشهود ؟
قال " الضغين " :
- أيها الملك الكريم ، عافاك الله وأنجاك من كيد الحواشي والحريم .. أما عن ابتعادي فلم يكن فرارا من جرم ارتكبته ، أو ذنب أثمته .. إنما أتاني في مساء ذلك اليوم الوزير .. فأنبأني بأمر عاجل خطير .
فالتفت الملك إلى الوزير ، ثم التفت إلى " الضغين " المكير ، الذي قال :
- نعم .. أنبأني بأن مولاي سقيم عليل ، وأن دواءه في بعضٍ من ثمار النخيل ، وأنها قرب مصب النهر في الشمال .. وأمرني بأن آتيه بما قال في الحال .
فسأله الملك :
- ولِمَ اختارك أنت بالذات ؟
فقال الضغين :
- لقد أدهشني ذلك وتضاربت في عقلي الإجابات ، فسألته مثل هذا السؤال ، فأجاب بأن غيري بطيء القفذ مثقال .. فلما علمت بأنك عليل ، لم آخذ من الزاد لا الكثير ولا القليل ، بل اتبعت النجوم في السماء ، لتدلني على مكمن الدواء .
فقال الملك :
- هذا عن ذهابك البعيد ، فماذا عن أقوال الشهود ؟
فقال " الضغين " :
- ما كنت يا مولاي من أهل خاصتك ، ولا قريبا من ناصيتك ، وإنما أناْ من عامة الضفادع .. ومن عشيرتك قد يوجد المخادع .. ولولا أنني أخاف بطشتك ، لأخبرتك بما بان لي في حرمتك .
فقال الملك :
- لك الأمان ، فقل مالك قد بان .
فقال " الضغين " :
- أيها الملك المبجَّـل ، إن النفوس بين وهلة وأخرى تتبدل ، وإنها لتجحد النعيم ، وتعشق الذميم .. وما أخال وزيرك الذي ائتمنته إلا خائنا وضيع .. أغوى إحدى حريمك بأمر شنيع ، ودبَّر لخلاص أمره إذا استيقظت من المنام ، بما يلهيك عن جرمهما في فعل الحرام .. وهو إذ ذاك مدبِّر لما فعل منذ وقت بعيد .. ليفلت من عقابك الشديد .. فينال هو الشكر والتحية وأكون أنا من قبله الضحيَّة .
فزاغت عينا الملك من الغضب ، ولمعت كما يلمع البرق فوق السحب .. وبنظرة ملؤها الشك ، التفت إلى وزيره المرتبك .. من هول ما جاء به الضفدع الحقير في حق حرمة الملك وخادمه الوزير .. فقال الملك بصوت هدير :
- ما قولك أيها الوزير ؟
فتمالك الوزير ما بقى من نفسه ، وتذكر ما قضاه في غده وأمسه ، وقال :
- أيها الملك المعظَّم .. قد نادمتك منذ زمن وأنت تعلم .. ووالله ما وجدتني إلا مكرَّم ، بعيدا كل البعد عما يحرَّم ، وإن السنين قد داولت عليك وعلينا خطوبها ، فتحملنا ما تلفظه من كروبها ، وتقاسمنا في أمل أفراحها وفي صبر أتراحها .. وكنتُ لك في مملكة الضفادع خير ناصح ولجماح الهوى في عشيرتنا كابح .. وما نصحتك إلا بما وسَّع الحكم ، وكشف عن نفس مولاي الهم والغم .. ولئن فعلت غير ما قلت ، فقل لي وخبرني .. وبالذل والهوان عفِّرني .
فزال بعض الشك من نفس الملك ، وابيضّ في عينيه جزء مما حلك ، ثم قال :
- والله ما فعلت إلا ما قلت أيها الوزير .. وإني لحسن نصحك لست بنكير .
فقال الوزير :
- أما عن هروب " الضغين " فهو أمر محتـَّـم ، ولقوله بذهابي إليه لبهتان معظّم ، وذلك أنني وبعض خاصتك ، لم نبرح مجلسك ، ولم نغادر مؤنسك ، نتناقش في أمر كريه بغيض ، هو أن بحيرتنا قد بدأت تغيض ، وما حديث " الضغين " إلا كذب وتحريض ، كذلك فإن حديثه في حرمتك الذي لا يجوز .. يهدره أنني ضفدع عجوز ، وقد أحصنني مرور الدَّهر ، فلست بقادر على ما يضعضع الظهر ، وبعد هذا فلابد من عقاب " الضغين " بأشد أنواع العقاب ، ليس لما وجهه لي من قذف وسباب ، وإنما لتعريضه بحُـرمة الملك ، وخدشه لحياء أسرته بقول بهتان وإفك .
فقال الملك وقد أراحه دفاع الوزير ، ورجحان عقله المستنير :
- وما ترى فاعلين بهذا الضفدع النكرة ، ليكون لغيره عظة وعبرة ومدّكرا ؟
فقال الوزير :
- إن الرأى أولا وأخيرا لك ، ولكنني أقول رأيي وأخبرك ، فإن كان سديدا أخذت به ، وإلا فلا تلتفت إليه ولا تنتبه .
فقال الملك :
- قل أيها الوزير المخلص الأمين ، وإني لك من السامعين .
فقال الوزير :
- يا مولاي ، إن بذرة الفساد لتكبر وتطغى في البلاد ، والقتل لهذا " الضغين " ، لراحة له من العذاب والأنين ، فلا تعفه من العقاب ، ولا تقتله فيقل العذاب ، وإنما هناك في أقصى الغاب ، ضفدع عجوز له محراب ، فلتأمره يا سيدي بأن يمسخ هذا المجرم " الضغين " ، فيلبث في العذاب المهين .
فنادى الملك :
- أن آتوني بالضفدع الساحر ليمسخ هذا المجرم الماكر .
فقهقه " الضغين " قهقهة الساخر ، ثم قال :
- إلى أي شيء سيمسخني هذا الساحر المخادع ، ألم تعلموا بأنه لا أقبح من وجوه الضفادع .. فإن أعطاني ستة أعين زيادة على عيني .. أو حوّل لون جلدي من الأخضر للبنِّي ، فإني لن أكون أقبح مما أناْ عليه الآن ، بل ربما صرت من الوجهاء الحسان .. فاقتلوني تستريحون وأستريح ، وإن الموت لفيه للنفس من الهم ترويح .
فلما قدم الساحر ماثلا أمام الضفدع الشاه ، قال الملك :
- أصغ لي بانتباه .. إن هذا الضفدع أجرم في حق نفسه ، وعليه أن يشرب من مُرِّ كأسه ، وقد أشار إليك الوزير في المقال بأن تمسخ هذا الضفدع لأسوأ الأشكال .
فقال الساحر :
- والله يا سيدي ما علمت أسوأ من الضفادع شكلا في الأشكال ، فعفوا ، إلى أيِّ شكل أقبح مما فيه يمكن أن يُحال ؟
فالتفت الملك إلى الوزير قائلا :
- والله إن خلقة الله ليس لنا فيها تثريب ، ولن نجحد نعمة الله بالتعييب ، ولكن قول الساحر فيه صواب ، فما يرى وزيرنا فيما عنه قد غاب .
قال الوزير :
- يا مولاي ، إنني أرَ أن الخبيث بين الأخيار ، لشرارة تشتعل منها النار ، وإن الخبيث بين قوم أعتى منه في الإجرام ، ككسيح أوهن أعلاه السقام ، فلا حراك في أسفله ولا حراك في أوله ، وقد ترى من الحيوان القبيح فلا تسمع عنه إلا المديح ، ومن يعاشر النبيل على قباحته يأمن من لؤم الوضيع ووقاحته ، ومن يعاشر الوضيع على جماله ، لم يأمن من شرور أفعاله ، فالخير أن نرى أخس وأحط المخلوقات ، فيمسخ الضفدع إلى نفس ما تحمله من سحنات ، فإن عاش معها أذاقته الأمرين ، بما ملكت من خبث الأصغرين .
فقال الملك :
- وكيف لنا أن نتخير أسوأ المخلوقات ، وقد خلق الله منها المئات ، بل ربما زادت عن ذلك بكثير ، بما يفوق الضباع والأسود والدجاج والحمير ؟
فانبرى الساحر قائلا :
- يا مولاي ، فإننا معشر الضفادع لنجاوز في عددنا المئات ، فليبعث الملك بكل ضفدع إلى إحدى هذه المخلوقات ، فليأتنا بخبرها اليقين ، فيتضح الأمر لي ويستبين .
فقال الوزير :
- إني إلى رأي الساحر لأميل .. فأمر كل ضفدع بالرحيل .
وهكذا مضت عدة أشهر ، قطعها بعض الضفادع بالبرِّ حينا وبالأنهر ، بحثا وتمحيصا لمخلوقات الله ، وإخبار أخبثها إلى علم الشاه ، ليأمر بمسخ الضفدع لها ، فيستحيل إلى ذات شكلها .
وبعد ذلك اجتمع الضفادع .. وتعاظم حشدهم حتى تدافع .
فقال الملك :
- والآن يا أبناء جنسي ، اخبروني بما فعلتم بالأمس .
فقال أوّل الضفادع :
- لقد زرت يا مولاي معشر الأسود ، وأتيت بخبر عنهم أكيد .
فقال الملك :
- هلمَّ وأخبرنا أيها الضفدع الطيِّب ، عن ذكورهم وإناثهم البكر منهن أو الثيِّب .
فقال الضفدع :
- إن معشر الأسود لقوم غرباء ، تستهويهم اللحوم والدماء ، إلا أنهم لا يفترسون إلا عند الجوع ، ولا يأكلون الجيفة أو المرجوع ، فلا يأكلون ما كان سابقا قد مات ، ولو كان لحمه من أشهى الأكلات ، وتكفيهم لسكناهم رقعة من الأرض ، فلا يغدرون من أجلها ببعضهم البعض ، ويبدو على ذكورهم النبل والوجاهة وعلى نسائهم العفة والنزاهة .
قال الضفدع ذلك وسكت .. فقامت إحدى الضفادع وحكت :
- وأنا يا مولاي زرت الغزلان ، وهن من أجمل الحيوان ، وقد تحدثت إليهن بأمان ، فأدركت ما بهن وما كان .
فقال الملك :
- حسنا أخبرينا بما رأيتِ .. ولنا الحكم فيما رويتِ .
فقالت :
- إنهن رشيقات الحركة ، تحف في قربهن الخيرات والبركة ، فهن مسالمات ، والعشب أشهى ما تقتات ، ولكنهن يخفن من الأسود ، خاصة إناث الغزلان الولود ، فتعلَّمن على إخفاء أولادهن ، حتى يكبرن فيسبقوهنَّ في جريهنَّ ، ومتى حدث ذلك وأشتد العود ، ما عادت تخشى عليهن من الأسود ، وهذا جلَّ ما رأيته في الغزلان ، فطبع حياتهن الحب والحنان ..
قال الوزير :
- أما عن الأسود .. فإن وضع الضفدع اللعين بينهم بالفائدة لن يعود .. بل ربما يسيء إلى طباعها بتعليمها الغدر والنفاق ، فلا يسلم بعد ذلك منهم مغرد ولا نابح ولا نقَّاق .. كما قد يسلب من ذكورهم النبل والوجاهة .. ومن إناثهم العفة والنزاهة ، فيفترسوا من غير جوع ، وينبذوا خصلة القنوع .
وأما بالنسبة للغزلان ، فإنه يكفيها ما تُـعان ، وما أسهل على هذا الضفدع الغادر أن يؤذي مثل هذا الطهر النادر .
فقال ضفدع آخر :
- يا مولاي ، قد جئت من معشر الحمير ، وإنه ليس لدي في الحديث عنهم الكثير ، فكل ما يمكن أن أقول عنهم ..... أنهم حمير .
فقال ضفدع آخر :
- جئت يا مولاي من معشر الثعالب ، وعلمت ما في خصالهم من مثالب ، لكنهم فطروا على أفعالهم ، فهي في أجدادهم وعيالهم ، إنهم لا يفترسون إلا خلسة ، ولا تأمنهم في جلسة ، ولكنهم فيما بينهم متعاضدون ، الضعيف منهم يعاونه القويُّ السمين ، وعدوُّ الثعلب الواحد عدو للجميع ، ولو كان ثعلبا تافها وضيع .
فقال الوزير :
- والله إن مسخنا هذا الضفدع لثعلب ، لأفسد بغدره تعاونهم وتغلّب ، وفرقهم أشتاتا وفرادى ولجاوز في الفسق وتمادى .
وهكذا تناوبت الضفادع في السرد ، وأوجز الوزير رفضا في الرد ، حتى أتي آخر الضفادع وقال :
سيدي ومولاي الملك المهيب ، قد أتيتك من شعاب الأرض بخبر عن خلق عجيب ، خلق ما له شبيه في الحيوان ، مفرده يدعى إنسان ، وهم يفوقوننا بالمئات بل بالألوف بل وأكثر .. خلقوا جميلي المظهر والمنظر ، لهم نساء يفقن أنثيات الضفادع في الجمال ، ورجال عراض طوال ، والأعجب يا مولاي في العقول ، فقد ركبوا الهواء وتركوا الحمير والبغال والخيول .. يسكنون في بنايات كالجبال ، ويمشي أغنياؤهم في اختيال .
قال الوزير :
- وماذا تقصد بالأغنياء .. أليس لكل واحد منهم طعام وماء !؟
قال الضفدع :
- إنهم لم يخلقوا مثلنا في دوام الحال ، فقد صكوا ما يسمى عندهم بالمال ، الجميع يجري لكي يغترف منه وينال .
قال الملك :
- وكيف أدركت كل أحوالهم ، وأخلاقهم وأعمالهم ؟
قال الضفدع :
- أقول لك - والحق أقول – يا مولاي ، لقد لحقني منهم العذاب منذ أن وطأت أرضَهم قدماي .
قال الملك :
- فهات ما عندك ربما أحسنت ، فأجزلت لك العطاء من ميت الذباب وأنعمت .
فقال الضفدع :
- أما عن أحوالهم وما يفعلون ، فأمر ولأسفي لشد مأفون ، فبالرغم مما أكثره الله عليهم من نعم ، لكنهم يعيشون الحياة كالعدم ، يظهرون ما لا يبطنون ، ولا يصلون بالنهار ويسهرون في المجون ، قلوبهم مسودة بالحقد والحسد ، من ولد منهم ومن كبر حتى لحد ، ليس من أخلاقهم التدين والأمانة ، بل تـأصلت في طبعهم الخيانة ، جاحدون للكريم مطيعون للئيم ، إن آويت أحدهم غدرك ، وإذا احتجته عبرك ، يهوون الحديث بالإفك والبهتان ، ولا تلق بجانبهم أمان ، فأرسل الله أنبياءه لهم بالنصيحة ، فأقذعوهم بالألفاظ القبيحة ، فكثر حديث الأنبياء وما عـُـقل ، فمنهم من نفيَّ ومنهم من قـُـتل ، والله إن عيشهم لأسوأ من العيش في هذه الغاب ، وإن أخلاقهم لأسوأ من زق الذباب ، يتقاتلون لإمتلاك الأرض ، وما صانوا شرفا ولا عرض ، الفقراء يباعون في النخاسة وأغنياؤهم غارقون في النجاسة ، يدبرون لبعضهم المكائد ، وينصبون الشراك والمصائد ، الكريم ينعتونه بالغبي ، والجنون ينسبونه لكل نبي .
قال الملك :
- والله لقد أدركت من أحوالهم الكثير ، وأكثرت فيهم السب والتحقير ، فهل ذلك لأذى به أصابوك ، أم فقط لما رأيته من سوء السلوك .
قال الضفدع :
- إنما كان ذهابي إليهم لنذير بؤسي ونحسي ، فكم ضاقت بما رأته نفسي .
قال الملك :
- فماذا بالله رأيت ، هلَّا بما رأيت حكيت ؟
قال الضفدع :
سأحكي القليل من الكثير ، حتى لا أصيب مزاج مولاي بالتعكير ، إني سكنت منذ أن ارتحلت بمنزل ، وكنت عن مرأى أهله بمعزل ، أشاهدهم ولا يشاهدونني ، وأسمعهم ولا يسمعونني ، فكان صاحبه قد سكنه منذ عهد قريب وكان طيب القلب في طبعه تهذيب ، وله زوجة آية في الجمال ، وغلام وسيم حسن الخصال ، وكان له في الحيِّ ثلاثة جيران ، أحدهم شاب يعشق الحسان ، والثاني بخيل يحب شراء البيوت والأطيان ، وثالثهم شاذ التصرفات ، يأتي الفجور مع الصبيان دون البنات ؛ فكان أولهم وأقصد الشاب يحرِّض زوجة الرجل إذا غاب ، حتى إذا ما حضر أكثرت عليه العتاب ، فتغادر منزله دون أن يدري إلى منزل الشاب ، وكان البخيل إذا ما رأى الشجار أغرى الرجل بالسفر بعد بيع الدار ، وأما الثالث وأقصد الشاذ ، فيقول أن الشجار أمام الغلام لا يـُـجاز ، فيأخذ الغلام ويختلي به ، دون أن يدرك الأب أو ينتبه .
وفي ليلة كان المسكين في عمل ، أتى الشاب إلى مسكنه ودخل ، ومضت ساعة حتى عاد صاحب الدار ، فسمع في غرفته الأنين والخوار ، فدلف إلى الغرفة حيث ينام ، ليلقى الإثنين في وضع حرام ، فاستلَّ سكينه وقتلهما ، نكالا بما كان عملهما ، وجن جنونه بعد ذلك ، ولم يكن لنفسه يوم ذاك مالك ، فارتاب في نسب الغلام ، لعله نتيجة الحرام ، فقتل الغلام الصغير ، دون هوادة ولا تفكير ، فلما أفاق ورأى من قتل ومن نحر ؛ عمد إلى سكينه فانتحر ، وقبل أن يبرد جثمانه في تربته ، اشترى البخيل الدار من ورثته ، وهذا والله يا مولاي لقليل من كثير ، وما زدته وما أضفيت عليه شيئا من التحوير .
فضرب الملك والوزير والرعيَّة كفا بكف ، فقال الساحر بعد أن نهض ووقف :
- لعمري ما رأيت أسوأ من الإنسان ، وحمدا لربي أن خلقني من معشر الحيوان ، فما هو رأي الملك بعد ما سمع بالآذان ؟
قال الملك :
- ما رأيك أيها الوزير ؟
فقال الوزير بالرأي المستنير :
- إن ما سمعته من سوء الآن ، ليدفعني إلى القول بمسخ الضغين إلى إنسان ، حتى يناله من سوء خلقهم الهوان ، ولابد أن عيشه مع مثل هؤلاء لمصيبه حتما بالهم والشقاء .
قال الملك :
- ما رأي الرعية من الضفادع الإخوان ؟
فهتف الجميع :
- امسخوا الضفدع الحقير إلى إنسان ... امسخوا الضفدع " الضغين " إلى إنسان .. امسخوا الضفدع الحقير إلى إنسان ..
وقد سمعت أن " الضغين "عندما مسخ لإنسان ، صار ملكا وحاكما وسلطان ...