مرة واحدة التقيت بالدكتور صادق جلال العظم الذي يمر هذه الأيام بحالة صحية حرجة. كان ذلك في بون في العام الدراسي ١٩٩٠/١٩٩١، فقد حضر ليشارك في مؤتمر علمي، حيث ألقى ورقة وشارك في النقاش.
كنت طالب دكتوراه أنفق فصلاً دراسياً في جامعة بون، وأحضر محاضرات مع بعض الأساتذة الألمان، فأستاذتي كانت في إجازة علمية في مصر.
في بون سأتعرف على د.العظم، فقد تحدثنا قليلاً أثناء فترات الاستراحة وتناول طعام الغداء، ولما عرف أنني من فلسطين سألني عن بعض كتبه، ومنها كتابه "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية"، وقد أعيدت طباعة الكتاب من أطراف كانت هي أيضا تنقد فكر المقاومة الفلسطينية باستمرار، وأظن أن جهات معارضة لها أعادت نشر كتاب المفكر منير شفيق الذي رد فيه على كتاب د.العظم، وأظنه كان بعنوان "الرد على مغالطات د.العظم".
يمكن القول إن د.العظم كان أحد أساتذتي الذين تعلمت من تجربتهم وكتبهم، لا من محاضراتهم، فلم أحضر له إلا مداخلة هي التي ذكرتها أعلاه. وعلى الرغم من أنني لم أتتلمذ على محاضراته مباشرة، إلا أنني أعد نفسي واحداً من طلابه، تأثرت به إلى حد كبير، وترك أثراً في تكويني لا يمحى، ولسنوات طويلات بقيت أتذكر كتبه التي قرأتها في بدايات حياتي الجامعية.
بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ كتب د.العظم كتابه الذي اشتهر وأعيدت طباعته "النقد الذاتي بعد الهزيمة " وهو كتاب يكاد يكون جديداً في بابه، فظاهرة النقد الذاتي ظاهرة لم يرب عليها الإنسان العربي الذي سحرته أشعار عمرو بن كلثوم وأبي الطيب المتنبي وجرير والأخطل والفرزدق والجواهري وأبي سلمى.
كانت سمة تضخيم الذات هي السمة الغالبة على أشعار أكثر هؤلاء، حتى ليمكن القول إننا نحن الذين قرأنا تلك الأشعار وحفظناها عن ظهر قلب أصابنا ورم كالورم الذي أصاب أصحابها. لقد كنا نردد أبياتاً مثل:
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
و:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
واسمعت كلماتي من به صمم
و:
ونحن السائرين بكل درب
سنصهر باللظى نير الرقاب
كنا نرددها كما لو أنها صادرة عن ذواتنا، ولقد أصابنا غرور كبير لدرجة أننا لم نكن نرى فينا أية منقصة أو مثلبة، فنحن كاملون مكتملون، ونحن الصواب كله، وآخرنا الذي نختلف معه هو الخطأ عينه وكله.
ولما حلت الهزيمة غدونا كما لو أن هناك من نفسنا، وهكذا صرنا نكرر قصائد مظفر النواب "ما أوسخنا.." وقصائد نزار قباني التي كتبت بعد الهزيمة، ورواية عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر" التي تطغى عليها نزعة جلد الذات.
كان كتاب د.العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة " اكتشافاً جديداً مذهلاً، وكان نشر في سلسلة " المفكر العربي" إن لم تخني الذاكرة، وأذكر أنني اقتنيته وأنا طالب جامعي في السنة الأولى، في العام ١٩٧٢، فقرأته وظللت أعود إليه إلى أن صودر من الرقيب الإسرائيلي وأنا عائد إلى فلسطين عبر الجسر، ومع ذلك فإن هذا الكتاب ما زال يعيش معي حتى اليوم، حتى أنني حصلت عليه مؤخراً الكترونياً كي أعيد قراءته، بخاصة بعد أن حفلت نصوصي التي أكتبها بأسلوب نقد الذات.
في فترة دراستي الجامعية قرأت أيضاً الكتاب الإشكالي الثاني وهو كتاب "نقد الفكر الديني"، ولم أكتف بقراءته، بل أخذت أبحث عن كتب رد أصحابها فيها على كتاب د.العظم، ومنها كتاب "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني" للشيخ محمد حسن آل ياسين.
كما لو أنني تعلمت الجدل من كتب د.العظم وما أثارته من جدل، وكما لو أنني أخذت أبحث عن الرأي والرأي الآخر، ولا أكتفي بالإصغاء إلى رأي واحد. هل أتذكر الأساتذة الذين علموني في الجامعة كما أذكر د.صادق جلال العظم؟ وهل ترك كثير منهم أثراً في؟
يقيناً أن كتاب "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية " ترك اثراً كبيراً فيّ، لا من خلال أطروحاته، فلربما نسيتها كلها، ولكن من خلال عدم مواصلة تقديس فصائل المقاومة التي كنا ننحاز لها انحيازاً أعمى، ونرى فيها الطهارة كل الطهارة، فلما كبرنا وخبرنا ممارسات كثيرة لها، صرنا نلجأ إلى ما لجأ إليه د.العظم في فترة مبكرة.
ما من مقال نكتبه اليوم ونأتي فيه على ممارسات الفصائل وتنظيراتها يكاد يخلو من النقد الذي كان د.العظم سباقاً إليه.
كنت طالب دكتوراه أنفق فصلاً دراسياً في جامعة بون، وأحضر محاضرات مع بعض الأساتذة الألمان، فأستاذتي كانت في إجازة علمية في مصر.
في بون سأتعرف على د.العظم، فقد تحدثنا قليلاً أثناء فترات الاستراحة وتناول طعام الغداء، ولما عرف أنني من فلسطين سألني عن بعض كتبه، ومنها كتابه "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية"، وقد أعيدت طباعة الكتاب من أطراف كانت هي أيضا تنقد فكر المقاومة الفلسطينية باستمرار، وأظن أن جهات معارضة لها أعادت نشر كتاب المفكر منير شفيق الذي رد فيه على كتاب د.العظم، وأظنه كان بعنوان "الرد على مغالطات د.العظم".
يمكن القول إن د.العظم كان أحد أساتذتي الذين تعلمت من تجربتهم وكتبهم، لا من محاضراتهم، فلم أحضر له إلا مداخلة هي التي ذكرتها أعلاه. وعلى الرغم من أنني لم أتتلمذ على محاضراته مباشرة، إلا أنني أعد نفسي واحداً من طلابه، تأثرت به إلى حد كبير، وترك أثراً في تكويني لا يمحى، ولسنوات طويلات بقيت أتذكر كتبه التي قرأتها في بدايات حياتي الجامعية.
بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ كتب د.العظم كتابه الذي اشتهر وأعيدت طباعته "النقد الذاتي بعد الهزيمة " وهو كتاب يكاد يكون جديداً في بابه، فظاهرة النقد الذاتي ظاهرة لم يرب عليها الإنسان العربي الذي سحرته أشعار عمرو بن كلثوم وأبي الطيب المتنبي وجرير والأخطل والفرزدق والجواهري وأبي سلمى.
كانت سمة تضخيم الذات هي السمة الغالبة على أشعار أكثر هؤلاء، حتى ليمكن القول إننا نحن الذين قرأنا تلك الأشعار وحفظناها عن ظهر قلب أصابنا ورم كالورم الذي أصاب أصحابها. لقد كنا نردد أبياتاً مثل:
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
و:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
واسمعت كلماتي من به صمم
و:
ونحن السائرين بكل درب
سنصهر باللظى نير الرقاب
كنا نرددها كما لو أنها صادرة عن ذواتنا، ولقد أصابنا غرور كبير لدرجة أننا لم نكن نرى فينا أية منقصة أو مثلبة، فنحن كاملون مكتملون، ونحن الصواب كله، وآخرنا الذي نختلف معه هو الخطأ عينه وكله.
ولما حلت الهزيمة غدونا كما لو أن هناك من نفسنا، وهكذا صرنا نكرر قصائد مظفر النواب "ما أوسخنا.." وقصائد نزار قباني التي كتبت بعد الهزيمة، ورواية عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر" التي تطغى عليها نزعة جلد الذات.
كان كتاب د.العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة " اكتشافاً جديداً مذهلاً، وكان نشر في سلسلة " المفكر العربي" إن لم تخني الذاكرة، وأذكر أنني اقتنيته وأنا طالب جامعي في السنة الأولى، في العام ١٩٧٢، فقرأته وظللت أعود إليه إلى أن صودر من الرقيب الإسرائيلي وأنا عائد إلى فلسطين عبر الجسر، ومع ذلك فإن هذا الكتاب ما زال يعيش معي حتى اليوم، حتى أنني حصلت عليه مؤخراً الكترونياً كي أعيد قراءته، بخاصة بعد أن حفلت نصوصي التي أكتبها بأسلوب نقد الذات.
في فترة دراستي الجامعية قرأت أيضاً الكتاب الإشكالي الثاني وهو كتاب "نقد الفكر الديني"، ولم أكتف بقراءته، بل أخذت أبحث عن كتب رد أصحابها فيها على كتاب د.العظم، ومنها كتاب "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني" للشيخ محمد حسن آل ياسين.
كما لو أنني تعلمت الجدل من كتب د.العظم وما أثارته من جدل، وكما لو أنني أخذت أبحث عن الرأي والرأي الآخر، ولا أكتفي بالإصغاء إلى رأي واحد. هل أتذكر الأساتذة الذين علموني في الجامعة كما أذكر د.صادق جلال العظم؟ وهل ترك كثير منهم أثراً في؟
يقيناً أن كتاب "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية " ترك اثراً كبيراً فيّ، لا من خلال أطروحاته، فلربما نسيتها كلها، ولكن من خلال عدم مواصلة تقديس فصائل المقاومة التي كنا ننحاز لها انحيازاً أعمى، ونرى فيها الطهارة كل الطهارة، فلما كبرنا وخبرنا ممارسات كثيرة لها، صرنا نلجأ إلى ما لجأ إليه د.العظم في فترة مبكرة.
ما من مقال نكتبه اليوم ونأتي فيه على ممارسات الفصائل وتنظيراتها يكاد يخلو من النقد الذي كان د.العظم سباقاً إليه.