أمل الكردفاني - عزاء راقي جدا - قصة قصيرة

.
.



جلست النسوة في مقاعد متراصة داخل صالة الفيلا الجميلة. أخذن ينظرن لأخوات المرحومة الصامتات ثم يتبادلن النظر ويغمزن لبعضهن باستنكار.
والرجال في صيوان العزاء في الخارج بدورهم كانوا مندهشين ويتهامسون:
- ولا حتى صرخة .. ولا مجرد نحيب ولا عويل؟
يهمس آخر:
- أنتم لا تعرفون السر...
يقرب الرجال رؤوسهم ؛ ويخرج أحدهم حقة صعوطه ويشنق منها كومة داخل جوف لثته السفلى ليؤكد إنتباهه وتركيزه.
الرجل الذي من المفترض أن يخبرهم بالسر ، يمد في زمن صمته لكي يحصل على مزيد من الشعور بأهمية ما سيفضي به لهم عبر رفع سقف فضولهم ، فيلفهم صمت ورقابهم مشدودة في خط منحرف الزاوية..يتلفت الرجل حتى يتأكد من عدم وجود رجل من أقرباء المتوفية ثم يهمس:
- عائلة النشايبي من العائلات الملحدة...كلهم ملحدون...وخاصة هذا الفرع.. يقال أن أصولهم...
يصمت فينظر إليه الرجال بعيون محمرة من الإثارة..فيقول بسرعة وهو يزم شفتيه ويغمض عينيه: يهودية...
يهز الرجال روسهم من أعلى لأسفل بحركة بطيئة حتى لا يلفتوا انتباه أهل المتوفية. يقول كهل ذو رقبة متينة: بس هذا عيب... فيرد آخر: ولكنهم صلوا عليها قبل الدفن؟.. قال رجل السر: هم لا يعلنون إلحادهم.. يقول الكهل: بس .. هذا عيب.. لا يمكن للنساء أن يجلسن هادئات هكذا.. يتدخل أحدهم: ولا حتى صوت مواء قطة.. يجلسن بصمت وصوت القرآن فقط هو ما يكسر الصمت. يقول آخر: حتى لو كانوا ملحدين أفلا يحزنون على موتاهم..أفلا يجزعون...بل وحتى لو كانوا لا يجزعون أليس اتباع أعراف المجتمع مهم...يقول الكهل: حتى السلفيون عندنا ينوحون على موتاهم اتباعا للأعراف والتقاليد... يهمس أحدهم: جئت إلى صيوان العزاء وشعرت بالريبة إن كان هذا هو المكان الصحيح أم أنني اخطأت العنوان...
وفي الجانب الآخر ترقص إحداهن شفتيها يمينا ويسارا والرغبة في النميمة تحرق أحشاءها لكنها تخاف من ملاحظة صاحبات العزاء ، يختلس النسوة النظرات لبعضهن وبصمت يتبادلن حديثهن عبر ترقيص الشفاه والعينين المبحلقتين...بعض النسوة لم يتحملن الصمت كثيرا فغادرن قبل تناول وجبة الغداء لكي ينفجرن في الشارع بالنميمة...تقول إحداهن: لم استطع تحمل ذلك..ولا حتى شهقة حزن...ولو بتمثيل البكاء.. تقول أخرى: هل رأيتن ماذا يرتدين.. تقتحم أخرى الجملة وتكملها: تنورات قصيرة تظهر سيقانهن من الركبة وكأنهن في حفل...تقول واحدة: كانت هناك شائعة أن هذه العائلة مسكونة بالجن الكافر.. تتف إحداهن على صدرها وتقول: نسأل الله السلامة.. تقول إحداهن::يجلسن ووجوهن بميكاب كامل..تعترض أخرى: ليس بميكاب كامل فترد تلك: ربما اخطأت...لا أتذكر بدقة.. ثم يستمررن في النميمة حتى تقاطع الطرق فيبقين واقفات لساعات وهن يحللن الخبر من كل جوانبه التاريخية السيكولوجية والثيولوجية والميتافيزيقية ثم تتذكر كل واحدة منهن أنها لم تجهز طعام الغداء فيهربن فزعات لمنازلهن.
المعزون الباقون تفاجؤوا بالغداء في شكل أطباق خزفية فاخرة عليها قطع اللحم والسلطات المتنوعة والأرز والخبز والشوك والسكاكين توزع على كل فرد من الأفراد وبعدها يتم توزيع أطباق اخرى عليها حلويات وفواكه وعلب عصير. يهمس أحد الرجال: ما هذا؟ متى كان غداء العزاء عندنا بالأطباق...أين الطاولات الممتلئة بأطايب الطبيخ من الثريد والبطاطس والكمونية والضلع المحمر والكسرة ....فيجيب آخر: أخشى أن يوزعوا علينا صناديق سجائر وزجاجات ويسكي...وقبل أن يكمل حديثه وزع عليهم خادم بزي رسمي صناديق سجائر مستورد فاخر. ورغم أن الكثير منهم لم يكن مدخنا لكنهم أخذوا نصيبهم وزاد عليه البعض بعلبتين أو ثلاثة. همسوا: سجائر في عزاء..؟. بعد ساعة وزعت عليهم أطباق أخرى من الأطعمة الغريبة....كانت الأطباق تخرج من أفران متحركة. فأخذوا جميعا يأكلون بصمت وخدودهم تنقبض وتنتفخ من لوك الطعام. عند غروب الشمس جاء رجل دين بسيارة فاخرة وصلى بالجميع ثم جاءت مجموعة من الذكارة وتم إطعام الجميع مرات ومرات..فخرج الناس مغتبطين...قال أحدهم: هذا هو العزاء ولا بلاش... وقال آخر: ليتني كنت الميت... وسأل أحدهم: هل هم ملحدون حقا؟.. أجابه آخر: ربما لولا الحياء لأتوا بمطرب... رد ثان: لا .. هذه كبيرة...
ومضى جميع المعزين إلى منازلهم... فدخلت كل واحدة من أخوات الميتة لغرفتها وانتحبت بمفردها في الظلام...

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...