العربي مفضال - تكسير جدار الصمت -1- في حضرة الفقيه المزمزي

أسرة من ثمانية أفراد تدبر مصروف الشهر بـ 150 درهما
ولدت في منطقة «الجبيل» القريبة من قلعة السراغنة، في ربيع 1949، ولكن والدي رحمه الله، رتبنا، أنا وإخوتي، في دفتر الحالة المدنية ترتيبا آخر، وحدد تاريخ ميلادي في 1948.
كانت منطقة “الجبيل” تتميز بضيق المساحات الزراعية من جهة، ومن جهة أخرى بوفرة المياه وقرب الفرشة المائية، وعاش سكانها من زراعة الحبوب وتربية المواشي، إضافة إلى بساتين الأشجار المثمرة والحناء والخضروات.
اشتغل والدي بستانيا في أراضي الغير مقابل نصيب من المزروعات الأساسية. في نهاية 1955 تدرب والدي ضمن مجموعة من رجال الدوار على يد جنود سابقين في الجيش الفرنسي، من أبناء الدوار نفسه، ورغم أن التداريب لم تتعد التمارين الحركية العسكرية، فإن المتدربين كانوا يمنون النفس بالالتحاق بجيش التحرير، لكن أي شيء من ذلك لم يتحقق، وبدأت الدنيا تضيق في وجه والدي، خاصة بعد أن انتهى الموسم الزراعي الجيد لسنة 1956، وأعقبه جفاف مرعب ظلت معه بذور الموسم الموالي تحت التراب.
وقبل نهاية السنة سالفة الذكر، أخد الوالد يمخر عباب الدارالبيضاء حينا والقنيطرة حينا آخر بحثا عن عمل. وكانت البيضاء أقدر على ابتلاعه، وساعدها على ذلك احتضانها لعدد من أقرب الأقرباء إليه، وتمكن فيها، بسهولة لم تكن موجودة اليوم، من الحصول على الوثائق الإدارية، بما فيها الحالة المدنية، واشتغل في «الإنعاش الوطني» الذي كان يسمى يومئذ بعمل «نص نهار».
وفي منتصف 1957، «أغمض» الوالد عينيه، وحمل زوجته وأبناءه الستة إلى البيضاء، بعد أن اكترى لهم غرفة مع الجيران وبعض الأثاث.
عشنا ظروفا شديدة القسوة، ليس فقط لأن 150 درهما التي كان يكسبها والدي شهريا لا تفي بأبسط الحاجيات، بل لأن هذه الأخيرة توقفت بعد مرض الوالد بسب العمل الشاق، الذي كان ينتقل إليه من درب الكبير أو درب الشرفاء مشيا في اتجاه الأوراش بعين السبع تارة، وعين الذياب تارة أخرى.
وعلى الرغم من الجهود المضنية التي كانت تبذلها الوالدة في غسل الصوف، فقد أصبح البقاء في البيضاء بعيد المنال، فقرر الوالد إعادة زوجته وأبنائه الخمسة إلى الدوار. أما أنا فقد تم استثنائي من الإعادة، وهذه قصة أخرى سأرويها…
وسواء تعلق الأمر بوالدتي وإخوتي الذين أعيدوا إلى «الجبيل» أو بالوالد الذي بقي في البيضاء من أجل العلاج، أو تعلق الأمر بي شخصيا، فإن العديد من الأمور لا يمكن أن تفهم أو تصدق خارج التضامن العائلي، الذي كان يومئذ، واسعا وراسخا.
أما قصتي الخاصة فتبدأ بموعد التسجيل في المدرسة الموسم 1957-1958، فقد توجهت مع والدي إلى مقاطعة «غريغوان»، القريبة من سوق القريعة قصد التسجيل، وتم رفض الطلب بسبب تجاوز سن الولوج إلى المدرسة، ورغم أني صدمت، فقد اعتبر أحد «المقدمين» وكان مناضلا بحزب الشورى والاستقلال، يتحدر من قلعة السراغنة، أن الأمر لا يستحق هذا العناء، وأن «الولد الذي حفظ القرآن الكريم من سورة «البقرة» إلى «طه»، يمكنه أن يواصل طريقه، وأنا أتكفل بأجرة الفقيه الذي سيدرس على يديه وبغذائه يوميا».
وذلك ما كان.. فقد التحقت بكتاب الفقيه المزمزي رحمه الله، وكنت أتغذى في بيت المقدم المعطي رحمة الله عليه، وقبل الغداء كنا نصلي الظهر ونقرأ حزبا قرآنيا كل يوم.
بعد عودة والدي إلى الدوار، بقيت في البيضاء بعض الوقت، أنتقل بين بيوت العائلة، إلى أن حان موعد الحصاد، فالتحقت بإخوتي، وكان والدي قد استكمل علاجه واستأنف عمله.
وفي عيد الأضحى، جاءنا الوالد بالألبسة، واشترى لنا الأضحية، وبلغنا أروع خبر سمعناه في حياتنا ذلك اليوم، إنه خبر الاشتغال الدائم في صفوف عمال بلدية الدارالبيضاء، وتمتيعه بالتعويضات العائلية عن أبنائه الستة.




جريدة الصباح
غشت 2019
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...