في ربيع 1966، دعيت مع معظم تلاميذ السلك الثانوية في ثانوية عبد الكريم لحلو، لاجتياز الفحوصات الطبية المتعلقة بالتأهيل للخدمة العسكرية الإجبارية، التي تقررت بعد شهور من انتفاضة 23 مارس 1965.
في الأيام الأخيرة من الموسم الدراسي وجهت استدعاءات للالتحاق بمراكز التدريب العسكري على العديد من المؤهلين، أما انأ وعدد آخر من هؤلاء، فلم يتم استدعاؤنا، وكان أمام الذين تم استدعاؤهم ما يكفي من الوقت لطلب التأجيل أو الإعفاء من قبل الراغبين في ذلك.
ولسوء حظي وحظ عدد من زملائي.. استدعينا للخدمة العسكرية بصورة متأخرة جدا، ولم نحصل على الشهادات المدرسية، المعتمدة في طلب التأجيل إلا بصعوبة شديدة بسبب العطلة، وعندما توجهنا إلى قيادة الأركان صرفونا بخفة شديدة، ونصحونا بتقديم الطلب إلى مسؤولي مركز التدريب، وأكدوا لنا أن بإمكان هؤلاء أن يستجيبوا لطلبكم لنعود إلى أهلنا.
في مركز التدريب سيدي سليمان، الذي أقيم مؤقتا في جزء من ثكنة الحاجب، كانت أبواب الأمل في العودة موصدة، واكتفى المسؤولون باستلامنا أولا، وتسليمنا حقائب الأمتعة العسكرية الفردية، والإسراع بحصد رؤوسنا التي تحولت في لمح البصر إلى “صلعات” لامعة.
لقد صدمت بقوة، وعشت طيلة عدة أيام في حالة شرود ذهني متواصل، وفي أحد الأيام انتبه إلي شريكي في الغرفة، المناضل اليساري المعروف عبد الحميد أمين، وكان فراشي مجاورا لفراشه، بادرني بسؤال مستفز عن مدة الأحكام السجنية الصادرة في حقي ! أفقت من شرودي وابتسمت لجاري، وشكرته على التفاتته، وبدأت أراجع نفسي وأن أروضها على التسليم بالأمر الواقع، وعلى النظر إليه بإيجابية. انخرطت بعد ذلك بكل جدية في التداريب المختلفة، بما فيها التمارين الاستعراضية ودروس المواجهة والقتال، فضلا عن الإحاطة بعدد من الأسلحة الخفيفة، وتفكيك وإعادة تركيب بعضها، وفضلا كذلك عن الرماية.
في أحد دروس القتال التي كنا نتلقاها في الغابات القريبة من الحاجب، فاجأنا قائد سريتنا الثامنة، «الملازم شهبون» بحضوره المباغث لأنشطتنا، وبمبادرته بطرح تساؤل علينا يتعلق بمعنى ودلالة قولة مأثورة بالفرنسية تفيد أن «الليل عدو للجميع وصديق للجميع»، وتطوع أحد الزملاء بعد تقديم نفسه وولائه للملازم، فأجاب بالقول «إن الليل عدو للكحبة» أي السعال، فضحك البعض بتحفظ تهيبا من وجود الملازم، وضحك الجميع بهستيرية بعد انصرافه. وطيلة مقامنا بالحاجب أصر المتدربون على مناداة المجند سيئ الحظ بـ»عدو الكحبة» وأثناء المشهد سالف الذكر، تقدمت للجواب مؤكدا أن الليل محايد مبدئيا، يكون في صالح من يستغل سكونه وليس في صالح من يعكر هذا السكون بالجلبة والضوضاء، ومن يكشف بذلك نفسه للأعداء. أثنى الملازم على الجواب الذي قدمته بالعربية الفصحى، ثم عاد في مناسبة أخرى تتعلق بتسجيلي 49 نقطة في الرماية بـ»الكارابين»، وكافأني برخصة خروج لمدة ست وثلاثين ساعة، في فترة التدريب الأساسي، التي لا يسمح فيها بخروج المتدربين، لكن انشغال سريتنا بتقديم التحية للجنرال بلعربي، الذي زار مركزنا في نهاية الأسبوع حال دون استفادتي من تلك الرخصة، وخلف مرارة شديدة لدى أهلي الذين انتظروا مجيئي إلى البيت دون جدوى.
بمناسبة عيد الاستقلال في 18 نونبر 1966، تقرر الاحتفاء بأول فوج من مجندي الخدمة العسكرية الإجبارية، وذلك من خلال إشراك هذا الفوج في الاستعراض العسكري الذي كان يرأسه الملك الراحل الحسن الثاني، ولهذا الغرض أقمنا بالمعرض الدولي بالبيضاء بضعة أيام، وكنا نجري تداريبنا الإعدادية قبالة المسبح البلدي الذي أصبح اليوم في خبر كان.
بعد نهاية التكوين الأساسي في توزيع المجندين حسب عدد التخصصات العسكرية والمهنية، وانتقلت مع مجموعة من هؤلاء إلى قاعدة سيدي سليمان الواقعة وسط غابات «كاليبتوس» وخضعنا هناك لتكوين عسكري ثان شبيه بما كان يقدمه مركز «هرمومو» لإعداد ضباط الصف، وبعد ذلك التحقنا بفوج الهندسة العسكرية وبدأنا نتعلم مهنة البناء.
جريدة الصباح
غشت 2019
في الأيام الأخيرة من الموسم الدراسي وجهت استدعاءات للالتحاق بمراكز التدريب العسكري على العديد من المؤهلين، أما انأ وعدد آخر من هؤلاء، فلم يتم استدعاؤنا، وكان أمام الذين تم استدعاؤهم ما يكفي من الوقت لطلب التأجيل أو الإعفاء من قبل الراغبين في ذلك.
ولسوء حظي وحظ عدد من زملائي.. استدعينا للخدمة العسكرية بصورة متأخرة جدا، ولم نحصل على الشهادات المدرسية، المعتمدة في طلب التأجيل إلا بصعوبة شديدة بسبب العطلة، وعندما توجهنا إلى قيادة الأركان صرفونا بخفة شديدة، ونصحونا بتقديم الطلب إلى مسؤولي مركز التدريب، وأكدوا لنا أن بإمكان هؤلاء أن يستجيبوا لطلبكم لنعود إلى أهلنا.
في مركز التدريب سيدي سليمان، الذي أقيم مؤقتا في جزء من ثكنة الحاجب، كانت أبواب الأمل في العودة موصدة، واكتفى المسؤولون باستلامنا أولا، وتسليمنا حقائب الأمتعة العسكرية الفردية، والإسراع بحصد رؤوسنا التي تحولت في لمح البصر إلى “صلعات” لامعة.
لقد صدمت بقوة، وعشت طيلة عدة أيام في حالة شرود ذهني متواصل، وفي أحد الأيام انتبه إلي شريكي في الغرفة، المناضل اليساري المعروف عبد الحميد أمين، وكان فراشي مجاورا لفراشه، بادرني بسؤال مستفز عن مدة الأحكام السجنية الصادرة في حقي ! أفقت من شرودي وابتسمت لجاري، وشكرته على التفاتته، وبدأت أراجع نفسي وأن أروضها على التسليم بالأمر الواقع، وعلى النظر إليه بإيجابية. انخرطت بعد ذلك بكل جدية في التداريب المختلفة، بما فيها التمارين الاستعراضية ودروس المواجهة والقتال، فضلا عن الإحاطة بعدد من الأسلحة الخفيفة، وتفكيك وإعادة تركيب بعضها، وفضلا كذلك عن الرماية.
في أحد دروس القتال التي كنا نتلقاها في الغابات القريبة من الحاجب، فاجأنا قائد سريتنا الثامنة، «الملازم شهبون» بحضوره المباغث لأنشطتنا، وبمبادرته بطرح تساؤل علينا يتعلق بمعنى ودلالة قولة مأثورة بالفرنسية تفيد أن «الليل عدو للجميع وصديق للجميع»، وتطوع أحد الزملاء بعد تقديم نفسه وولائه للملازم، فأجاب بالقول «إن الليل عدو للكحبة» أي السعال، فضحك البعض بتحفظ تهيبا من وجود الملازم، وضحك الجميع بهستيرية بعد انصرافه. وطيلة مقامنا بالحاجب أصر المتدربون على مناداة المجند سيئ الحظ بـ»عدو الكحبة» وأثناء المشهد سالف الذكر، تقدمت للجواب مؤكدا أن الليل محايد مبدئيا، يكون في صالح من يستغل سكونه وليس في صالح من يعكر هذا السكون بالجلبة والضوضاء، ومن يكشف بذلك نفسه للأعداء. أثنى الملازم على الجواب الذي قدمته بالعربية الفصحى، ثم عاد في مناسبة أخرى تتعلق بتسجيلي 49 نقطة في الرماية بـ»الكارابين»، وكافأني برخصة خروج لمدة ست وثلاثين ساعة، في فترة التدريب الأساسي، التي لا يسمح فيها بخروج المتدربين، لكن انشغال سريتنا بتقديم التحية للجنرال بلعربي، الذي زار مركزنا في نهاية الأسبوع حال دون استفادتي من تلك الرخصة، وخلف مرارة شديدة لدى أهلي الذين انتظروا مجيئي إلى البيت دون جدوى.
بمناسبة عيد الاستقلال في 18 نونبر 1966، تقرر الاحتفاء بأول فوج من مجندي الخدمة العسكرية الإجبارية، وذلك من خلال إشراك هذا الفوج في الاستعراض العسكري الذي كان يرأسه الملك الراحل الحسن الثاني، ولهذا الغرض أقمنا بالمعرض الدولي بالبيضاء بضعة أيام، وكنا نجري تداريبنا الإعدادية قبالة المسبح البلدي الذي أصبح اليوم في خبر كان.
بعد نهاية التكوين الأساسي في توزيع المجندين حسب عدد التخصصات العسكرية والمهنية، وانتقلت مع مجموعة من هؤلاء إلى قاعدة سيدي سليمان الواقعة وسط غابات «كاليبتوس» وخضعنا هناك لتكوين عسكري ثان شبيه بما كان يقدمه مركز «هرمومو» لإعداد ضباط الصف، وبعد ذلك التحقنا بفوج الهندسة العسكرية وبدأنا نتعلم مهنة البناء.
جريدة الصباح
غشت 2019