إبراهيم عبد القادر المازني - الأدب وتحصيله.. على ذكر مقال (أدب السندوتش)

نعي صديق الأستاذ الزيات - صاحب الرسالة - على أدباء هذا الجيل الجديد، جهلهم بلغتهم وتقصيرهم في تحصيل آدابها، وقال: (أن الواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل. فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين، وجدت طبقة الأدباء كطبقة الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة، لا بالدرس والمعاناة) وقال أيضاً: (ولا تجد في تاريخ العربية قبل هذا العصر، ولا في تاريخ اللغات في جميع العصور، من يحسب نفسه أديباً في لغة وهو لا يعرف منها إلا ما يعرف العامي الألَفُّ).

وهذا صحيح. واحسبني من الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ؛ وإني لمن الكهول فقد جاوزت الأربعين وقاربت الخمسين، ولكني إن شاء الله من الباقين لا من الراحلين، فأني أحس من العزم والقوة والنشاط ما لو فرق بعضه على الأدباء النابتين أو الناجمين في زماننا هذا، لكفاهم وزيادة. ولست أكتب لأقول هذا، وإنما أريد أن أرسم للقراء صورة لأيام التحصيل الأولى. وأقول (الأولى) لأنا ما زلنا دائبين على التحصيل لا نعرف له نهاية إلا نهاية الحياة نفسها.

عرفنا القراءة والاطلاع ونحن تلاميذ في المدارس الثانوية؛ وأدع غيري وأتحدث عن نفسي فأقول إن مواردي كانت محدودة جداً؛ وكان حسبي أن أؤدي نفقات التعليم. وكنت أحمد الله إذا وجدت بعد ذلك قرشاً في اليوم. وكان من زملائي في مرحلة التعليم الثانوي الأستاذ حسن فهمي رفعت بك - وكيل الداخلية الآن - ولا أعرف كيف كان حاله، ولكني أعرف أنه كان يعيرني ما يشتري من الكتب بعد أن يفرغ منها؛ وقلما كان يسترد ما يقرضني من كتبه. وكان فريق منا يعني بأن يحضر دروس الأمام الشيخ محمد عبدة، والشيخ سيد المرصفي، وانتقلنا إلى التعليم العالي، وكتب الله لي - على خلاف ما كنت أريد - أن أدخل مدرسة المعلمين العليا، فكان مرشدي فيها وأستاذي، زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعراً ناضجا ذا مذهب في الأدب يدعو أليه؛ وكن أنا مبتدئا، فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة ومن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي. وكانوا ينقدوننا في هذه المدرسة بضعة جنيهات في الشهر: ثلاثة في السنة الأولى، وأربعة في الثانية والثالثة، فكنت أقسم هذه الجنيهات قسمة عادلة، فأدفع للبيت نصفها وأستأثر بالنصف، وأذهب إلى مكتبة فأنتقي منها (مؤونة الشهر). وكنت أعود إلى البيت بهذا الحمل فتسألني أمي، (أنفقت فلوسك كلها! وتظل طول الشهر تقول لي: هاتي!. هاتي!. أي تدبير هذا؟)

فأقول: (يا أمي. . لك مئونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مئونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك، ولا بي عن هؤلاء؟)

فتبتسم وتقول: (طيب. .) وتدعو لي بالتوفيق

وكنت أشتري ديوان الشعر ورقا، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أو إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نفترق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقاً فيقول له: (لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه) لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب. وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويخلصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب (الرسمي) كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي، وغيرهما أيضاً من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة

وتزوجت. وفى صباح ليلة الجلوة، دخلت مكتبتي ورددت الباب. وأدرت عيني في رفوف المكتب، فراقني منها ديوان (شيللي) فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ، ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة؛ وكانوا يبحثون عني في حيث يظنون أن يجدوني - في الحمام، وفي غرفة الاستقبال، وفي (المنظرة) - حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة، لأني (عريس) جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح! وكانت أمي في (الكرار) أو المخزن تعد مالا أدري لهذا الصباح السعيد، فأنبئوها أني اختفيت كأنما انشقت الأرض فابتلعتني، وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟

فضحكت أمي وقالت: (ليس في كل مكان. . . أذهبوا إلى المكتبة فأنه لا شك فيها).

فقالت حماتي وضربت صدرها بكفها: (في المكتبة؟ يا نهار أسود! وهل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟).

فقالت أمي بجزع: (أسمعي. . . كل ساعة من ساعات الليل والنهار وقت كتب. . . أفهمي هذا وأريحي نفسك، فأن كل محاولة لصرفه عن الكتب، عبث).

فقالت حماتي: (لو كنت أعرف هذا. . . مسكينة يا بنتي. . . وقعت وكان ما كان).

فقالت أمي: (هل تكون مسكينة إذا وطدت نفسها على هذه المعرفة؟ ويحسن أن تكبحي لسانك، وأن تدعي الأمر لبنتك فانه من شأنها).

فلم تكبح لسانها بل قالت: (لو كانت ضرة. . . لكان أهون!).

فقالت أمي: إنك حمقاء. . . وليس في الأمر ما يحوج إلى هذا الهراء. . . أذهبي إليه وناديه. . .).

فارتدت إليّ، وفتحت الباب علي، وكنت ذاهلا؛ فلما شعرت بالباب يفتح أزعجني ذلك، فأشرت إلى الداخل أن يرجع من غير أن أنظر إليه؛ وكنت مقطباً، وكان لساني يخرج أصواتاً كهذه: (شش! شش!).

فخرجت المسكينة وأغلقت الباب، وذهبت تقول لأمي والدموع تنحدر من عينيها إني طردتها وصحت بها: (هشش!) كما يصاح بالدجاج؟

وقد عرفت هذا كله فيما بعد، فطردتها، لأن خفت أن تخرب لي البيت؛ ثم إني تزوجت بنتها، ولم أتزوجها هي، فما مقامها عندي ولها بيت طويل عريض وزوج كريم؟ وكان رأي بنتها فيها مثل رأيي، فلم يسؤها مني ما فعلت. وأراحنا الله من دوشتها، ولكن زوجتي كانت تقول إلى آخر أيام حياتها رحمها الله: (ليس لي ضرة سوى هذه الكتب) - كانت تقول لها مازحة، فقد راضت نفسها على احتمال هذا الجنون مني، واستطاعت أن تدرك أنه ليس لها ولا لسواها حيلة، وأن في الوسع صرفي عن أي شيء إلا الكتب والدرس.

ويا ما أذكى المرأة!! تكون لها حاجة تريد مني قضاءها، وتخشى رفضي وعنادي، فتكتمها ولا تكاشفني بها، وتنتظر حتى تراني غارقاً في كتاب، وذاهلا به عن الدنيا، وآية الذهول أن تدخل مرات فلا أشعر بها، فتقبل علي وتلاطفني وهي عارفة بما سيكون مني، فأعبس، كما كانت تتوقع، فتقول (كلمة واحدة. . . لن أعطلك. . .).

فأقول متململاً متأففاً: (لا حول ولا قوة إلا بالله! قوليها يا ستي ولا تعطليني) فتطيل عامدة لتضجرني: (كلمة واحدة بس. . . لماذا تغضب هكذا؟. . . ألا يتسع صدرك لكلمة ليس إلا؟)

فأكاد أجن وأقول: (يا ستي قوليها، وأريحيني!)

فتقول: (المسألة الفلانية. . .)

وأنهض، وأمضي بها إلى الباب وأنا أقول: اصنعي ما تشائين. كل ما بدا لك اصنعيه، ولكن لا تعطليني. . . أنا محتاج لعقلي كله الآن. . . ألا تفهمين؟ هذه نسخة مخطوطة، منسوخة. . . من ديوان أبن الرومي. . . نسخها حمار كلها غلط وتحريف وتصحيف،. . . ليس فيها بيت واحد له معنى. . . فكيف يمكن أن أصلح غلطة واحدة إذا كنت تطيرين لي عقلي بالفساتين والخياطة والركامة. . .؟؟. . .)

فتبتسم، فقد بلغت سؤلها، وتعدني أن تحرس هذا الباب فلا تترك أحداً يدخل منه أو يقربه.

ومن العناء الذي تكلفته أني اشتريت الأغاني الذي طبعه (الساسي) - اشتريته ورقاً على عادتي، فكنت أراجع الأبيات التي ترد فيه، في دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى، فأصلحها أو أتمم القصيدة - أنسخ ذلك في ورقة وألصقها في الكتاب، وكلما فرغت من جزء جلدته، وقد أصبح ضعف ما كان؛ وهذا هو الكتاب الوحيد الذي بعته بأضعاف ثمنه، فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش، فلما بعت مكتبتي في سنة 1917 أو 1918 - لا أذكر - ابتاعه مني وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت على بيعه، فما أستطيع أن أصنع الآن ما صنعته قديماً، ولكن العناء الذي تكبدته نفعني، فقد أحوجني إلى مراجعات لا آخر لها، وأطلعني على ما كنت خليقاً أن أخطئه فيفوتني العلم به وأنا مع ذلك أقل الثلاثة - العقاد وشكري - اطلاعاً وصبراً على التحصيل. وأدع للقارئ أن بتصور مبلغ شرههما العقلي؛ ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف، ولكنهما يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما!

إبراهيم عبد القادر المازني


مجلة الرسالة - العدد 207

بتاريخ: 21 - 06 - 1937
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...