(هل يحسن بالشعر أن يكون واضحا حتي لا خلاف فيه أم أن بعض الغموض فيه مغتفر بل مطلوب)
- ط. ح -
يذكر قراء الرسالة ان الدكتور طه حسين كان قد عقد فصلاً ممتعاً حول غموض الشعر ووضوحه، وكان خلال بحثه يرمي الى غاية، وهي ان الشعر الغامض قد ينطوي على ابداع فني. ويذكرون ايضا انني علقت على الموضوع بكلمة ذهبت فيها الى ان الجمال والغموض لا يجتمعان في صعيد واحد، وانتهيت الى ان كل بديع في هذا الكون من منظر الى صوت الى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور أو تصور، وأن الوضوح هو جوهر الجمال.
وكان لي من تعليقي على مقال الدكتور غرض جوهري لم يخف على القارئ الاديب كما كان لي من ورائه امل في ان ينشط الادباء للكتابة حول الموضوع بالنظر لما أعتقده فيه من خطورة. وقد تحقق شيء من هذا الأمل بتعليق الاديب الفاضل شوقي ضيف على مقالي حول الغموض والوضوح بما يعرفه القراء الذين تتبعوا هذا البحث.
يتساءل الدكتور طه حسين (هل يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه).
نعم يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه اذا كان هم الشاعر ان يضمنه صوراً جميلة، وسوانح رائعة، لأن القارئ لا يستطيع ان يتبين الصورة الجميلة اذا كانت مغمورة في حجب الغموض الكثيفة ولا تتأثر نفسه بروعة السوانح الفكرية، والخوالج النفسية اذا كانت متلفعة من الشعر الغامض بأستار مظلمة.
الشعر الفاظ وتعابير، يستعين بها الشاعر على وصف مشاهد الكون وتصوير الحادثات، والانفعالات والانطباعات النفسية المتكونة من تأثير المحيط الخارجي في نفسه. فهو اذن وسيلة وليس غاية. والشعر بالفاظه وتعابيره واصطلاحاته واوزانه وقوافيه للشاعر كالقيثارة أو الكمان أو البيان للموسيقى. يجلس الموسيقى على شاطئ بحر في ليل عاصف، فتتأثر نفسه بصفير الرياح وهزيم الرعد وتلاطم الامواج، فيحاول ان يصور تأثير نفسه بانغام يتخيلها اولاً، ثم يؤلف بين متصاعداتها ومُتنازلاتها، ويوفق بين تموجاتها مستعيناً بآلاته الموسيقية حتى يهتدي الى تأليف قطعة موسيقية تتضمن من الانغام، ما لو سمعها الانسان لشعر بنفس التأثير الذي تأثر به الموسيقي ولخيل اليه انه في مجلس ذلك الموسيقي من شاطئ البحر في تلك الليلة:
ويجلس الشاعر مجلس هذا الموسيقي، ويتأثر بنفس ما تأثر به زميله، فيحاول ان يصف تأثره ويصور انفعالات نفسه بتخير الألفاظ والتعابير التي تحمل تلك التأثيرات الى نفوس السامعين ليجسم لهم الخيال المتولد من تأثير هذه الالفاظ والتعابير، صفير الريح وهزيم الرعد، كما يجسم لهم شعور الاستيحاش من الظلام الذي يشمل الطبيعة في ذلك الموقف
هذا اذا كان الأول يملك من الآلات الموسيقية ومن القابليات الفنية الخاصة بالموسيقى ما تمكنه من بلوغ غاية نفسه.
واذا كان الثاني ذا نفس شاعرة حساسة دقيقاً في تصوره، متقنا في تصويره، مالكاً زمام الالفاظ والتعابير يحسن استعمالها في مواطنها، حاذقاً في أسلوبه، عالماً بنفسيات الناس وما تتأثر به والى غير ذلك من الصفات التي يجب ان تتوفر في الشاعر.
فاذا لم يتصف الموسيقى بما مر ذكره، أسمعنا ولا شك قطعة مزعجة في نغماتها، لا تناسب ولا وئام بين تموجاتها، فلا تولد في النفس التأثير الذي قصد الموسيقى اليه. وكذلك االشاعر اذا لم تتوفر فيه الصفات التي ذكرنا بعضها انشدنا كلاما غامضاً لا نكاد نتبين منهقصده، واذا لم يتبين الانسان قصد الشاعر بما نظم فأين يا ترى يكون موضع الجمال ومحل الابداع، وموطن الروعة من شعره؟
لكي يفلح الشاعر في وصف الجمال او القبح وتصوير اللذة او الالم وغيرها من الحادثات النفسية يجب ان يكون صافي الذهن والنفس، واضحاً في تعابيره واصطلاحاته. استعرض مناظر الكون جمعاء، تحت نور الشفق القاني الأدكن، وتحت أشعة الهاجرة المتوهجة، أو تحت نور الأصيل الذهبي الفاتح، وتحر الجمال وابحث عن الروعة في هذه المناظر، تجد نفسك مهتدياً اليهما دون أي عناء، وتراك تنجذب الى مواطنهما كما تنجذب الفراشة الى الورود والازاهير الزاهية بالوانها الفياحة باريجها.
فالجميل يكهرب حواسك، والبديع يمغطس مشاعرك، فيجذبك اليه فتنجذب. وما ذلك الا للتناسب الظاهر بين اجزائه وللنظام المسيطر على تراكيب تلك الاجزاء والاشكال، وهذا هو سر الوضوح.
استعرض دواوين الشعر ديواناً، واقرأ قصائدها واحدة بعد واحدة، تجد نفسك تعرض عن قراءة بعضها بينما تقبل على قراءة بعض آخر، ابحث في نفسك عن سبب اعراضك وتلمس دواعي إقبالك، تجد أنك في الحالة الأولى لا تستطيع أن تهتدي تحت جنح ظلام الغموض الى الجمال واللذة اللتين تنشدهما نفسك كما تجد أن نور الوضوح في الحالة الثانية ينير نفسك فتهتدي الى الجمال وتلمس اللذة.
اما أن يكون هناك غموضان أو نوعان من الغموض كما يرى الاديب الفاضل شوقي ضيف، فهذا ما لا أتفق معه عليه ولا إخال أحداً من الأدباء يوافقه في مذهبه.
فالكلام إما أن يكون واضحاً وإما غامضاً، ولك ما نرى أو نسمع أو نلمس، وكل ما تتأثر به أنفسنا بطريق الحواس: إما أن يكون واضحاً بتأثيره في النفس، وإما أن يكون غامضاً، ففي الحالة الأولى تتلذذ به لأن نفسنا تستطيع أن تلمس جماله، وتعانق ابداعه، وتحتضن روعته، وفي الحالة الثانية نشمئز منه وننفر؛ فنفسنا لا تتأثر به، لأنها لا تلمس منه إلا شيئاً واحداً، وهو الألم الذي تعانيه من معالجة حل رموزه وطلاسمه. فاذا كانت ثمة نتيجة من قراءة الشعر الغامض، فهي ليست حينئذ لذة من تلمس أثر جمال أو روعة، وإنما هي شعور بألم الخيبة، ولذة الراحة بعد العناء.
ومثل الذي يعالج استنباط المعنى أو الغرض من الشعر الغامض، كمثل من يتوهم أن في بقعة من الأرض ركازاً، فيظل ينبش أرض تلك البقعة الى أن يعييه الاجهاد، ولما لم يجد ما يتوهم وجوده يطرح بمعوله جانباً وهو يلهث كما يطرح بنفسه على الأرض وهو غير مفلح إلا بشيئين: ألم، ولذة. أما الأول فناشئ من شعور الخيبة في العثور على كنزه الموهوم. وأما الثاني فشعوره الناشئ من لذة الراحة بعد التعب والعناء.
أما الأديب الفاضل شوقي ضيف فقد أوجد غموضين (فجلل) الغموض الأول (من حنادس الليل بحجب وأستار) فجعله بذلك مشتملا على ظلام موحش وحلوكة دامسة. أما الثاني فقال عنه إنه غموض جميل (لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه وتهش له وتجد فيه لذة ومتاعاً كبيراً، ثم راح يشبه غموضه الجميل بالظلال التي لا (تحجب النور) وارتأى أنه لا يحول بين المرء وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية، وأنه منار للاعجاب ومبعث للسرور، وما إلى ذلك.
والعجيب كل العجب أن الأديب الفاضل لم يبتعد كثيراً عن غموضه الجميل الذي شبهه بالسدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، حتى أخذ يسرد لنا أسبابه وبشرح علته، فقال: إن كثيراً من الغموض يرجع أسبابه الى فقر اللغة وقصورها في الافصاح عن عواطف الشعراء وميولهم؛ ثم أردف هذه الأسباب بأخرى وهي تعقد الحياة النفسية وإبهامها وغموضها، ثم انتهى الى أن هذا الغموض سيظل مسيطراً على الشعر حتى تتضح الحياة النفسية.
أما قصور اللغة في الافصاح عن بعض الحوادث النفسية الدقيقة فأمر لا ننكره ولا ينكره أحد من الناس، ولكن ذلك لا يعني بأن الشعر الغامض يجب أن يكون منطوياً على جمال رائع، وفن بديع، ولا يسوغ لنا أن نعتبر الكلام المرتبك الغامض شعراً كما أنه لا يجوز لنا أن نعتبر الناظم الذي لا يوفق لتصوير خوالج نفسه وعواطف روحه وانفعالاته شاعراً مبدعاً
واذ القيت نظرة متأمل الى ضروب الشعر الوجداني والعاطفي تبين لك أن بين هذا الشعر ما قد تمكن من أن يصف لك أعمق العواطف البشرية وأدقها بأبرع اسلوب وأتم بيان، ومنه ما كان بالفاظه وتعابيره أشبه بالاحاجي والالغاز منه بالكلام المفهوم
وقد يجوز أن تجيش في نفس الانسان بعض الخواطر البديعة والمشاعر الرائعة، وقد يجوز أن يحتدم جيشانهما في أعماق نفسه فيضطرب شعوره بها ويظهر هذا الاضطراب ويفيض من جوانحه الى جوارحه فيصبح على أشبه ما يكون بثورة نفسية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يظره لغيره، ما تكنه نفسه لأنه ليس بشاعر ليتمكن من التوفيق بين الكلمات والتأليف بين التعابير والمصطلحات اللفظية التي تحمل الى نفوس الناس وافهامه ما خالج نفسه وما أثار شعوره وإحساسه، أو لأنه ليس برسام ليستطيع أن ينقل بريشته الوان تلك الصور والأشكال التي تأثرت بها نفسه، أو لأنه ليس بالفنان الذي يستطيع أن يستخدم وسائل فنه لتصوير ما جاشت به نفسه ووصف ما اضطرب له حسه.
فان شعوره ولا شك يبقى مطموراً في باطنه، ولا يمكن البتة أن يتأثر احد سواه بما تأثر به هو، ومثل الشاعر الغامض الذي ينظم قصيدة فيقرأها الناس ولا يفهمون ما اراد بها وما قصد، فيضطرون الى ان يسألوا منها عن مراده وقصده - كمثل كل انسان اعتيادي بما يشعر به تجاه مظاهر الكون وحوادثه.
والسبب الثاني الذي اورده الاديب الفاضل شوقي ضيف على غموض الشعر هو تعقد الحياة النفسية وابهامها، ولعله قاصد بهذا التعقد والابهام عجز الانسان عن تبين ماهية بعض من ميول نفسه ونزعاتها ورغباتها وانفعالاتها و. . . الخ
نعم ان الحياة النفسية معقدة بالرغم من مجهودات البشر العلمية في تحليلها الى ابسط ما يمكن، وستظل معقدة بل سيزيد تعقدها وابهامها كلما تقدمت جهود الانسان العقلية في البحث عن كنه النفس واسرار حوادثها.
اما ان يظل الشعر يلازمه الغموض ما دامت الحياة النفسية غامضة فهذا حكم غير صائب، ولعل الاديب الفاضل قد تورط اضطرار في هذا الحكم وذلك لأنه ضيق على نفسه بيده مجال البحث فناط بالشعر وحده دون سواه من الفنون الجميلة اماطة اللثام عن اسرار هذه الحياة النفسية.
لا يا أخي شوقي! ما كان الشعر في جميع أدوار حياته، ولن يكون وحده الكفيل الضامن للنهوض بهذا العبء الثقيل، فقد وجدناه في سالف العصور ونجده الآن يمد يده الى اخوته، الفنون الجميلة مثل الرسم والنحت والموسيقى حتى الرقص يستعين بها على بلوغ هذه الغاية.
فهناك بعض الحوادث النفسية لا يستطيع الشعر أن يصفها بما لديه من وسائل، وتستطيع ريشة الرسام أن تبرزها واضحة، فعدم استطاعة الشعر في مثل هذا الموقف يجب ألا نعتبره عجزاً منه وتقصيراً بل هو في الحقيقة تكليفه بالخروج عن نطاق اختصاصه وقابليته كما أن هناك بعض الخوالج النفسية يعجز عن ابلاغها إلى النفوس كل من الشاعر والرسام والمثال والموسيقي، ولكن راقصة رشيقة فنانة تتمكن بحركات خاصة أن تعبر عنها وتجسم تأثيرها في النفوس.
فمطالبة الشعر وحده يكشف أسرار الحوادث النفسية ووصفها وتصويرها على اختلاف أنواعها وضروب تأاثيراتها هو السبب الذي حدا ببعض المفكرين أن يرموه بعلة الغموض، هذه العلة التي راحوا بعد اختراعها يتحرون بين طياتها الجمال الموهوم والابداع المزعوم.
بغداد
عباس فضلي خماس
في محكمة التاريخ
مجلة الرسالة - العدد 33
بتاريخ: 19 - 02 - 1934
- ط. ح -
يذكر قراء الرسالة ان الدكتور طه حسين كان قد عقد فصلاً ممتعاً حول غموض الشعر ووضوحه، وكان خلال بحثه يرمي الى غاية، وهي ان الشعر الغامض قد ينطوي على ابداع فني. ويذكرون ايضا انني علقت على الموضوع بكلمة ذهبت فيها الى ان الجمال والغموض لا يجتمعان في صعيد واحد، وانتهيت الى ان كل بديع في هذا الكون من منظر الى صوت الى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور أو تصور، وأن الوضوح هو جوهر الجمال.
وكان لي من تعليقي على مقال الدكتور غرض جوهري لم يخف على القارئ الاديب كما كان لي من ورائه امل في ان ينشط الادباء للكتابة حول الموضوع بالنظر لما أعتقده فيه من خطورة. وقد تحقق شيء من هذا الأمل بتعليق الاديب الفاضل شوقي ضيف على مقالي حول الغموض والوضوح بما يعرفه القراء الذين تتبعوا هذا البحث.
يتساءل الدكتور طه حسين (هل يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه).
نعم يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه اذا كان هم الشاعر ان يضمنه صوراً جميلة، وسوانح رائعة، لأن القارئ لا يستطيع ان يتبين الصورة الجميلة اذا كانت مغمورة في حجب الغموض الكثيفة ولا تتأثر نفسه بروعة السوانح الفكرية، والخوالج النفسية اذا كانت متلفعة من الشعر الغامض بأستار مظلمة.
الشعر الفاظ وتعابير، يستعين بها الشاعر على وصف مشاهد الكون وتصوير الحادثات، والانفعالات والانطباعات النفسية المتكونة من تأثير المحيط الخارجي في نفسه. فهو اذن وسيلة وليس غاية. والشعر بالفاظه وتعابيره واصطلاحاته واوزانه وقوافيه للشاعر كالقيثارة أو الكمان أو البيان للموسيقى. يجلس الموسيقى على شاطئ بحر في ليل عاصف، فتتأثر نفسه بصفير الرياح وهزيم الرعد وتلاطم الامواج، فيحاول ان يصور تأثير نفسه بانغام يتخيلها اولاً، ثم يؤلف بين متصاعداتها ومُتنازلاتها، ويوفق بين تموجاتها مستعيناً بآلاته الموسيقية حتى يهتدي الى تأليف قطعة موسيقية تتضمن من الانغام، ما لو سمعها الانسان لشعر بنفس التأثير الذي تأثر به الموسيقي ولخيل اليه انه في مجلس ذلك الموسيقي من شاطئ البحر في تلك الليلة:
ويجلس الشاعر مجلس هذا الموسيقي، ويتأثر بنفس ما تأثر به زميله، فيحاول ان يصف تأثره ويصور انفعالات نفسه بتخير الألفاظ والتعابير التي تحمل تلك التأثيرات الى نفوس السامعين ليجسم لهم الخيال المتولد من تأثير هذه الالفاظ والتعابير، صفير الريح وهزيم الرعد، كما يجسم لهم شعور الاستيحاش من الظلام الذي يشمل الطبيعة في ذلك الموقف
هذا اذا كان الأول يملك من الآلات الموسيقية ومن القابليات الفنية الخاصة بالموسيقى ما تمكنه من بلوغ غاية نفسه.
واذا كان الثاني ذا نفس شاعرة حساسة دقيقاً في تصوره، متقنا في تصويره، مالكاً زمام الالفاظ والتعابير يحسن استعمالها في مواطنها، حاذقاً في أسلوبه، عالماً بنفسيات الناس وما تتأثر به والى غير ذلك من الصفات التي يجب ان تتوفر في الشاعر.
فاذا لم يتصف الموسيقى بما مر ذكره، أسمعنا ولا شك قطعة مزعجة في نغماتها، لا تناسب ولا وئام بين تموجاتها، فلا تولد في النفس التأثير الذي قصد الموسيقى اليه. وكذلك االشاعر اذا لم تتوفر فيه الصفات التي ذكرنا بعضها انشدنا كلاما غامضاً لا نكاد نتبين منهقصده، واذا لم يتبين الانسان قصد الشاعر بما نظم فأين يا ترى يكون موضع الجمال ومحل الابداع، وموطن الروعة من شعره؟
لكي يفلح الشاعر في وصف الجمال او القبح وتصوير اللذة او الالم وغيرها من الحادثات النفسية يجب ان يكون صافي الذهن والنفس، واضحاً في تعابيره واصطلاحاته. استعرض مناظر الكون جمعاء، تحت نور الشفق القاني الأدكن، وتحت أشعة الهاجرة المتوهجة، أو تحت نور الأصيل الذهبي الفاتح، وتحر الجمال وابحث عن الروعة في هذه المناظر، تجد نفسك مهتدياً اليهما دون أي عناء، وتراك تنجذب الى مواطنهما كما تنجذب الفراشة الى الورود والازاهير الزاهية بالوانها الفياحة باريجها.
فالجميل يكهرب حواسك، والبديع يمغطس مشاعرك، فيجذبك اليه فتنجذب. وما ذلك الا للتناسب الظاهر بين اجزائه وللنظام المسيطر على تراكيب تلك الاجزاء والاشكال، وهذا هو سر الوضوح.
استعرض دواوين الشعر ديواناً، واقرأ قصائدها واحدة بعد واحدة، تجد نفسك تعرض عن قراءة بعضها بينما تقبل على قراءة بعض آخر، ابحث في نفسك عن سبب اعراضك وتلمس دواعي إقبالك، تجد أنك في الحالة الأولى لا تستطيع أن تهتدي تحت جنح ظلام الغموض الى الجمال واللذة اللتين تنشدهما نفسك كما تجد أن نور الوضوح في الحالة الثانية ينير نفسك فتهتدي الى الجمال وتلمس اللذة.
اما أن يكون هناك غموضان أو نوعان من الغموض كما يرى الاديب الفاضل شوقي ضيف، فهذا ما لا أتفق معه عليه ولا إخال أحداً من الأدباء يوافقه في مذهبه.
فالكلام إما أن يكون واضحاً وإما غامضاً، ولك ما نرى أو نسمع أو نلمس، وكل ما تتأثر به أنفسنا بطريق الحواس: إما أن يكون واضحاً بتأثيره في النفس، وإما أن يكون غامضاً، ففي الحالة الأولى تتلذذ به لأن نفسنا تستطيع أن تلمس جماله، وتعانق ابداعه، وتحتضن روعته، وفي الحالة الثانية نشمئز منه وننفر؛ فنفسنا لا تتأثر به، لأنها لا تلمس منه إلا شيئاً واحداً، وهو الألم الذي تعانيه من معالجة حل رموزه وطلاسمه. فاذا كانت ثمة نتيجة من قراءة الشعر الغامض، فهي ليست حينئذ لذة من تلمس أثر جمال أو روعة، وإنما هي شعور بألم الخيبة، ولذة الراحة بعد العناء.
ومثل الذي يعالج استنباط المعنى أو الغرض من الشعر الغامض، كمثل من يتوهم أن في بقعة من الأرض ركازاً، فيظل ينبش أرض تلك البقعة الى أن يعييه الاجهاد، ولما لم يجد ما يتوهم وجوده يطرح بمعوله جانباً وهو يلهث كما يطرح بنفسه على الأرض وهو غير مفلح إلا بشيئين: ألم، ولذة. أما الأول فناشئ من شعور الخيبة في العثور على كنزه الموهوم. وأما الثاني فشعوره الناشئ من لذة الراحة بعد التعب والعناء.
أما الأديب الفاضل شوقي ضيف فقد أوجد غموضين (فجلل) الغموض الأول (من حنادس الليل بحجب وأستار) فجعله بذلك مشتملا على ظلام موحش وحلوكة دامسة. أما الثاني فقال عنه إنه غموض جميل (لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه وتهش له وتجد فيه لذة ومتاعاً كبيراً، ثم راح يشبه غموضه الجميل بالظلال التي لا (تحجب النور) وارتأى أنه لا يحول بين المرء وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية، وأنه منار للاعجاب ومبعث للسرور، وما إلى ذلك.
والعجيب كل العجب أن الأديب الفاضل لم يبتعد كثيراً عن غموضه الجميل الذي شبهه بالسدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، حتى أخذ يسرد لنا أسبابه وبشرح علته، فقال: إن كثيراً من الغموض يرجع أسبابه الى فقر اللغة وقصورها في الافصاح عن عواطف الشعراء وميولهم؛ ثم أردف هذه الأسباب بأخرى وهي تعقد الحياة النفسية وإبهامها وغموضها، ثم انتهى الى أن هذا الغموض سيظل مسيطراً على الشعر حتى تتضح الحياة النفسية.
أما قصور اللغة في الافصاح عن بعض الحوادث النفسية الدقيقة فأمر لا ننكره ولا ينكره أحد من الناس، ولكن ذلك لا يعني بأن الشعر الغامض يجب أن يكون منطوياً على جمال رائع، وفن بديع، ولا يسوغ لنا أن نعتبر الكلام المرتبك الغامض شعراً كما أنه لا يجوز لنا أن نعتبر الناظم الذي لا يوفق لتصوير خوالج نفسه وعواطف روحه وانفعالاته شاعراً مبدعاً
واذ القيت نظرة متأمل الى ضروب الشعر الوجداني والعاطفي تبين لك أن بين هذا الشعر ما قد تمكن من أن يصف لك أعمق العواطف البشرية وأدقها بأبرع اسلوب وأتم بيان، ومنه ما كان بالفاظه وتعابيره أشبه بالاحاجي والالغاز منه بالكلام المفهوم
وقد يجوز أن تجيش في نفس الانسان بعض الخواطر البديعة والمشاعر الرائعة، وقد يجوز أن يحتدم جيشانهما في أعماق نفسه فيضطرب شعوره بها ويظهر هذا الاضطراب ويفيض من جوانحه الى جوارحه فيصبح على أشبه ما يكون بثورة نفسية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يظره لغيره، ما تكنه نفسه لأنه ليس بشاعر ليتمكن من التوفيق بين الكلمات والتأليف بين التعابير والمصطلحات اللفظية التي تحمل الى نفوس الناس وافهامه ما خالج نفسه وما أثار شعوره وإحساسه، أو لأنه ليس برسام ليستطيع أن ينقل بريشته الوان تلك الصور والأشكال التي تأثرت بها نفسه، أو لأنه ليس بالفنان الذي يستطيع أن يستخدم وسائل فنه لتصوير ما جاشت به نفسه ووصف ما اضطرب له حسه.
فان شعوره ولا شك يبقى مطموراً في باطنه، ولا يمكن البتة أن يتأثر احد سواه بما تأثر به هو، ومثل الشاعر الغامض الذي ينظم قصيدة فيقرأها الناس ولا يفهمون ما اراد بها وما قصد، فيضطرون الى ان يسألوا منها عن مراده وقصده - كمثل كل انسان اعتيادي بما يشعر به تجاه مظاهر الكون وحوادثه.
والسبب الثاني الذي اورده الاديب الفاضل شوقي ضيف على غموض الشعر هو تعقد الحياة النفسية وابهامها، ولعله قاصد بهذا التعقد والابهام عجز الانسان عن تبين ماهية بعض من ميول نفسه ونزعاتها ورغباتها وانفعالاتها و. . . الخ
نعم ان الحياة النفسية معقدة بالرغم من مجهودات البشر العلمية في تحليلها الى ابسط ما يمكن، وستظل معقدة بل سيزيد تعقدها وابهامها كلما تقدمت جهود الانسان العقلية في البحث عن كنه النفس واسرار حوادثها.
اما ان يظل الشعر يلازمه الغموض ما دامت الحياة النفسية غامضة فهذا حكم غير صائب، ولعل الاديب الفاضل قد تورط اضطرار في هذا الحكم وذلك لأنه ضيق على نفسه بيده مجال البحث فناط بالشعر وحده دون سواه من الفنون الجميلة اماطة اللثام عن اسرار هذه الحياة النفسية.
لا يا أخي شوقي! ما كان الشعر في جميع أدوار حياته، ولن يكون وحده الكفيل الضامن للنهوض بهذا العبء الثقيل، فقد وجدناه في سالف العصور ونجده الآن يمد يده الى اخوته، الفنون الجميلة مثل الرسم والنحت والموسيقى حتى الرقص يستعين بها على بلوغ هذه الغاية.
فهناك بعض الحوادث النفسية لا يستطيع الشعر أن يصفها بما لديه من وسائل، وتستطيع ريشة الرسام أن تبرزها واضحة، فعدم استطاعة الشعر في مثل هذا الموقف يجب ألا نعتبره عجزاً منه وتقصيراً بل هو في الحقيقة تكليفه بالخروج عن نطاق اختصاصه وقابليته كما أن هناك بعض الخوالج النفسية يعجز عن ابلاغها إلى النفوس كل من الشاعر والرسام والمثال والموسيقي، ولكن راقصة رشيقة فنانة تتمكن بحركات خاصة أن تعبر عنها وتجسم تأثيرها في النفوس.
فمطالبة الشعر وحده يكشف أسرار الحوادث النفسية ووصفها وتصويرها على اختلاف أنواعها وضروب تأاثيراتها هو السبب الذي حدا ببعض المفكرين أن يرموه بعلة الغموض، هذه العلة التي راحوا بعد اختراعها يتحرون بين طياتها الجمال الموهوم والابداع المزعوم.
بغداد
عباس فضلي خماس
في محكمة التاريخ
مجلة الرسالة - العدد 33
بتاريخ: 19 - 02 - 1934
مجلة الرسالة/العدد 33/حول الغموض والوضوح أيضا - ويكي مصدر
ar.wikisource.org