تكفي نظرة خاطفة للميدان الغربي في ذلك الفجر لتوقع نتيجة المعركة؛ فقد تناثرت على طرف الميدان أجساد هزيلة، تغطي الأسمال أجزاء قليلةً منها، قابضةً على سيوف لم تتلوث سوى بالغبار. بينما على الطرف الآخر كتيبة صغيرة لا تتجاوز العشرة جنود، تراصوا وقد ثنوا إحدى القدمين على الأرض موجهين فوهات بنادقهم ذات الحواف المعدنية اللامعة.
المسافة الفاصلة بين المجموعتين كانت دليلاً على سوء تنظيم المعركة ولا عقلانيتها، مما زاد من تعجب الأهالي من وجود الناجين الثلاثة.
أحد الناجين أصيب بطلقة عبرت جانب ساقه دون أن تستقر فيها، محدثةً جرحاً سطحياً. لكنه مات بعد المعركة بعشرة أيام متأثراً بالحمى. أما الثاني فلم يصب سوى ببعض الكسور، نتجت من محاولة البعض الهرب متدافعين على غير هدى، فأسقطوه أرضاً وبنوا حوله درعاً بأجسادهم. لكنه بعد أن تماثل للشفاء قتل نفسه بخنجره ليختتم ليالٍ من الكوابيس والهذيانات.
أما الثالث فقد كان عظيم؛ ذاك الراعي هزيل الجسد الذي يقطن في غرفة طينية وسط أحد مزارع الماشية الطرفية التي تبعد خطوات قليلة عن الميدان. كان عظيم لا يزال متقرفصاً على الرمال حتى وصول الأهالي، لم يمسسه شيء، هادئاً وقد أغمض عينيه ورفع ذقنه نحو الأفق. لم يكن بحوزته سيف كما أن جلبابه الأبيض لم يتعفر بالغبار أو يُلوّث بالدماء. أحاطت به رمال فارغة من الأجساد والرصاص كأنه أُحيط بغرفة زجاجية أثناء المعركة. وبسبب حالته تلك أيقن الجميع أن عظيم قد فقد عقله.
بعد ذلك تكررت بعض المناورات الصغيرة والكمائن هنا وهناك لكن ظلت حادثة الميدان الغربي هي الأشهر لارتفاع عدد ضحاياها. ثم بخواتيم ذلك العام رحل الغزاة عن البلاد نهائياً بعد سنوات طويلة من الاحتلال، من دون أي معركة، وسلموا مقاليد الحكم من بعدهم لحكومة مؤقتة تتولى ضبط الأمن في البلاد والتنظيم للانتخابات التي ستُجرى للمرة الأولى.
– “نريد بث الروح الوطنية حتى لا يتكاسل الناس عن الانتخابات” قال المسؤول ذو النظارات السميكة بعد أن خفضها لحدود أنفه متأملاً عظيم. كان هذا الأخير ملتفاً بأقمشة ملونة بألوان العلم الجديد، بعد أن غُسل جسده بالصابون وتم تلقينه قصة ليسردها لجموع الناس التي التفت حول المنصة المنخفضة المنصوبة وسط السوق . “لا داعي ليشعر الناس بغباء محاولتكم، فلنجعلها قصة بطولية” همهم المسؤول بذلك حين تراجع للخلف مفسحاً المجال لعظيم للتقدم إلى المنصة. تلعثم قليلاً حين رأى الأعين المتوجهة نحوه، لكنه سرعان ما تحدث بصوت جهور وإلقاء مسرحي كخطيب متمكن فالتهبت أيادي الجمهور مصفّقة. وقبل أن يهبط عن المنصة غرز المسؤول ذو النظارة نجمة ذهبية لامعة على الأقمشة التي تغطيه، نُحتت عليها بعض الأحرف، ودس في يده مظروف مليء بنقود كانت كافية لترميم غرفته الطينية وتغيير عيدان القصب التي تراصت على ارتفاع خفيض مشكلة سقفها.
لم يكن على طول البلاد وعرضها من يعرف معنى كلمة ‘انتخابات’ إلا القلة من المتعلمين الذين يمكن عدهم بسهولة، لذلك كان إجراء الانتخاب أمراً شاقاً. لكن الناس فهمت العبارات الجديدة مثل الحرية والاستقلال والوطنية بالطريقة التالية: الرجل الأشقر ذو البندقية والرداء القصير لن يظهر بعد اليوم أمام دكاكينهم ليجمع الجبايات، ومادام ذلك سيحدث فلا يهُم صورة من ستُطبع على النقود أو بأي الألوان سيُصبغ العلم.
فاز بالانتخابات حزب أسمى نفسه الوطني. صرح قادته بأنهم المنظمين لكل العمليات الهجومية التي أنهكت الغزاة، وأنهم من زوّد فتيان معركة الميدان الغربي الشهيرة بالسلاح وبالتالي فهم المستحقين للولاية. ثم بعد فوزهم بوقت قصير ظهر جامعو الجبايات ثانية. هذه المرة بجلابيب كأصحاب الدكاكين ووجوه أكثر صرامة، لكنهم يطلبون أمولاً أكثر من تلك التي كان يطلبها أصحاب الأردية.
نجح الحزب الوطني في الانتخابات التالية بالإجماع رغم أن أحداً لم ير صندوق اقتراع واحد. فقط تغير اسم المسؤول الذي سيخرج للناس قائلاً بأن الجدب والحاقة جزاء من الله على أعمالهم، والغلاء جشع من التجار، وأن الخير كان ليعم البلاد لولا أنها مليئة بالخونة محاطة بالمتربصين.
ثم في الانتخابات التي تلتها لجأ مرشح الحزب الوطني إلى عظيم ليقص قبل أيام قليلة من الانتخابات قصة مفادها أن والده كان يتقدم الصفوف الأمامية في المعركة، وأنه قاتل ببسالة منقطعة النظير، وفي مقابل ذلك حصل عظيم على مظروف منتفخ، اشترى به جهاز مذياع صغير وضعه قرب سريره.
فاز الوطنيون بانتخابات رابعة رغم تزايد المعارضين داخل البلاد وخارجها. لكن الرعب الذي بثته في النفوس حملة الاغتيالات والموسيقى التي تصدح في الاحتفالات لتغطي على صوت الرصاص هو ما جعل النتيجة محسومة لصالحهم. على الرغم من ذلك ظهر عظيم ثانية ليحكي بطولة والد المرشح الجديد، وكيف حماه بجسده حين وقف حائلاً بينه وبين الرصاص. تهالكت البلاد وضاق بأهلها الحال فهاجر الكثيرون، وكثرت بين من تبقى الفتن والجرائم. لذلك سرعان ما استشرت في البلاد ثورة شعبية أنهت حكم الوطنيين.
أعقبهم حزب حديث النشوء، لم يعجبه تداول قصص بطولاتٍ ليس جزءاً منها، فصدرت أولى الأوامر بالتحقيق في رواية عظيم عن المعركة التاريخية وجُمع كل ما يتوافر من معلومات عنها. كانت كل القصص المتداولة شفهية وتنتهي دائماً بمصادر مجهولة لذلك لم تسفر التحقيقات عن شيء فانتقل البحث لحياة عظيم المثيرة للعجب، التي قضاها بجسد رجل أربعيني مكتمل القوة، رغم أن أجيالاً تعاقبت عليه. لكن الأبحاث لم تحرز أكثر من سابقتها؛ إذ لم تسفر عن عمره الحقيقي، ولا عن معلومات عن ذويه أو أين كان قبل أن يظهر ذلك الفجر في ساحة المعركة. لا يملك سجلات أو أي شيء سوى الغرفة الطينية التي كجسده لم يُكشف سرها والمذياع الذي لا يصمت أبدًا.
في ذلك الوقت كانت للصحف اليومية الكلمة الأولى ولقصصها الأثر الأعظم. لم تتراجع أخبار التحقيقات في قضية عظيم عن الصفحات الأولى. ذات يوم كتب صحفي مبتدئ قصة عن مشعوذ من عصور سابقة عُرف بقوة لا مثيل لها. كانت أحد أعماله تعويذة خطّها على جلد ماعز، ثم نقعها لثلاثة أيام في زيت يحوي بقايا مشيمة امرأة وقشور بيض، ثم علّقها بخيوط على رقبة عظيم قبل المعركة؛ لتجعل جلده مقاوماً لطلقات البنادق. لكنها -ولفرط جودتها- قاومت الأمراض والتجاعيد والموت. لم يبلغ الخبر عظيم لأن الإذاعة لم تبثه، ولم يعرف أيضاً أن في العدد التالي من الصحيفة ظهرت صورة رجل سبعيني يرتدي جلباباً مرقعاً بألوان عدة مكتوبٌ أسفلها تصريح مفاده بأن الرجل حفيد المشعوذ المنشود، ووريث مهنته. حكى قصصاً عصيّة على التصديق، وأفعالاً ليس بمقدور الشيطان نفسُه تصوّرها، ثم وضع وصفاً واضحاً لمكان إقامته محققاً بذلك ثراءً لن ينقطع لما تبقى من حياته. ولن يتأثر بالخبر الصادر في الجريدة نفسها وبواسطة الصحفي ذاته عن فوائد خبز النخالة في تطويل العمر ومنع الأمراض، مستشهداً -بالطبع- بعظيم الذي لا يأكل سوى خبز النخالة.
توالت السنون على البلاد، ووصل للحكم شباب بأجسادٍ مشدودة ونظاراتٍ أنيقة. قرؤوا الكتب وجابوا كل العالم بضغطة زر . ينسبون الفقر للسياسات العالمية بدلاً عن عقوبات الآلهة، والكوارث البيئية لثقب الأوزون بدلاً عن الخونة والمندسين. بنوا الشواهق من المساكن وعبّدوا الطرق. لكنهم أرادوا تاريخاً جيّداً يليق بمتاحفهم الجديدة ذات الحواجز الزجاجية وأنظمة المراقبة. ذلك اليوم قدمت عدداً من السيارات الفارهة المليئة بالرجال والمعدات إلى بيت عظيم. جلبوا معهم رسائل كتبت بواسطة خبراء لغويين وخبراء آخرين. جعلوا الأوراق تبدو صفراء ومتآكلة كما بدا جسده بعد الفراغ من وضع مساحيقهم الغريبة عليه ليبدو أكثر تناسباً مع الحدث الذي يقصه. رفع عظيم الأوراق بيدٍ تحاول الارتجاف أمام كاميرا التلفاز وهو يردد عبارات حفظها بعد عناء، عبارات توضح أن ما بين يديه مراسلات تنظيم المعركة التاريخية كان يحفظها في صندوق قديم يملكه، وقال أنها ستودع في المتحف القومي الجديد. ولم ينسَ قبل أن يطفئ ضوء كاميرا التسجيل اتهام أفراد من الحزب الوطني بأنهم حاولوا قتله ليطمسوا تاريخ البلاد. لم يعط مظروفاً هذه المرة؛ إذ لم يرَ فيه أفراد طاقم التصوير -الذين قرؤوا كل ما حدث في حياته في سطر واحد من كتاب التاريخ- غير ممثل رديء لا يستحق أجراً.
بعد ذلك بأشهر قلائل، حين كان المذياع قرب رأس عظيم يبث أغنيات قديمة -كما أسماها مقدم البرنامج، قاطع الموسيقى صوتٌ أجش معلناً بأنه تلقى خبراً عاجلاً من مجموعة علماء ينتمون لمركز دراسات متقدم، مفاده أن دراسة مطوّلة للآثار في الحدود الغربية للمدينة، وصورة فوتوغرافية تمت معالجتها بتقنيات توضيح حديثة أسفرت عن أن المنطقة المعنيّة لم تقم فيها معركة قط، وأن الصورة تُظهر ما يُشبه رجلاً مقرفصاً على الرمال شاخصاً نحو الأفق كمن يؤدي طقساً دينياً ما، لكن من المحتمل أيضاً بأنها صخرة غطاها الكلس الأبيض.
انتهى الصوت من إلقاء الخبر ، فعادت الأُغنية المنقطعة، لكنها كانت تُبث من مذياع قديم ملقى داخل إحدى حظائر الماشية بالقرب من الميدان الغربي للمدينة.
المسافة الفاصلة بين المجموعتين كانت دليلاً على سوء تنظيم المعركة ولا عقلانيتها، مما زاد من تعجب الأهالي من وجود الناجين الثلاثة.
أحد الناجين أصيب بطلقة عبرت جانب ساقه دون أن تستقر فيها، محدثةً جرحاً سطحياً. لكنه مات بعد المعركة بعشرة أيام متأثراً بالحمى. أما الثاني فلم يصب سوى ببعض الكسور، نتجت من محاولة البعض الهرب متدافعين على غير هدى، فأسقطوه أرضاً وبنوا حوله درعاً بأجسادهم. لكنه بعد أن تماثل للشفاء قتل نفسه بخنجره ليختتم ليالٍ من الكوابيس والهذيانات.
أما الثالث فقد كان عظيم؛ ذاك الراعي هزيل الجسد الذي يقطن في غرفة طينية وسط أحد مزارع الماشية الطرفية التي تبعد خطوات قليلة عن الميدان. كان عظيم لا يزال متقرفصاً على الرمال حتى وصول الأهالي، لم يمسسه شيء، هادئاً وقد أغمض عينيه ورفع ذقنه نحو الأفق. لم يكن بحوزته سيف كما أن جلبابه الأبيض لم يتعفر بالغبار أو يُلوّث بالدماء. أحاطت به رمال فارغة من الأجساد والرصاص كأنه أُحيط بغرفة زجاجية أثناء المعركة. وبسبب حالته تلك أيقن الجميع أن عظيم قد فقد عقله.
بعد ذلك تكررت بعض المناورات الصغيرة والكمائن هنا وهناك لكن ظلت حادثة الميدان الغربي هي الأشهر لارتفاع عدد ضحاياها. ثم بخواتيم ذلك العام رحل الغزاة عن البلاد نهائياً بعد سنوات طويلة من الاحتلال، من دون أي معركة، وسلموا مقاليد الحكم من بعدهم لحكومة مؤقتة تتولى ضبط الأمن في البلاد والتنظيم للانتخابات التي ستُجرى للمرة الأولى.
– “نريد بث الروح الوطنية حتى لا يتكاسل الناس عن الانتخابات” قال المسؤول ذو النظارات السميكة بعد أن خفضها لحدود أنفه متأملاً عظيم. كان هذا الأخير ملتفاً بأقمشة ملونة بألوان العلم الجديد، بعد أن غُسل جسده بالصابون وتم تلقينه قصة ليسردها لجموع الناس التي التفت حول المنصة المنخفضة المنصوبة وسط السوق . “لا داعي ليشعر الناس بغباء محاولتكم، فلنجعلها قصة بطولية” همهم المسؤول بذلك حين تراجع للخلف مفسحاً المجال لعظيم للتقدم إلى المنصة. تلعثم قليلاً حين رأى الأعين المتوجهة نحوه، لكنه سرعان ما تحدث بصوت جهور وإلقاء مسرحي كخطيب متمكن فالتهبت أيادي الجمهور مصفّقة. وقبل أن يهبط عن المنصة غرز المسؤول ذو النظارة نجمة ذهبية لامعة على الأقمشة التي تغطيه، نُحتت عليها بعض الأحرف، ودس في يده مظروف مليء بنقود كانت كافية لترميم غرفته الطينية وتغيير عيدان القصب التي تراصت على ارتفاع خفيض مشكلة سقفها.
لم يكن على طول البلاد وعرضها من يعرف معنى كلمة ‘انتخابات’ إلا القلة من المتعلمين الذين يمكن عدهم بسهولة، لذلك كان إجراء الانتخاب أمراً شاقاً. لكن الناس فهمت العبارات الجديدة مثل الحرية والاستقلال والوطنية بالطريقة التالية: الرجل الأشقر ذو البندقية والرداء القصير لن يظهر بعد اليوم أمام دكاكينهم ليجمع الجبايات، ومادام ذلك سيحدث فلا يهُم صورة من ستُطبع على النقود أو بأي الألوان سيُصبغ العلم.
فاز بالانتخابات حزب أسمى نفسه الوطني. صرح قادته بأنهم المنظمين لكل العمليات الهجومية التي أنهكت الغزاة، وأنهم من زوّد فتيان معركة الميدان الغربي الشهيرة بالسلاح وبالتالي فهم المستحقين للولاية. ثم بعد فوزهم بوقت قصير ظهر جامعو الجبايات ثانية. هذه المرة بجلابيب كأصحاب الدكاكين ووجوه أكثر صرامة، لكنهم يطلبون أمولاً أكثر من تلك التي كان يطلبها أصحاب الأردية.
نجح الحزب الوطني في الانتخابات التالية بالإجماع رغم أن أحداً لم ير صندوق اقتراع واحد. فقط تغير اسم المسؤول الذي سيخرج للناس قائلاً بأن الجدب والحاقة جزاء من الله على أعمالهم، والغلاء جشع من التجار، وأن الخير كان ليعم البلاد لولا أنها مليئة بالخونة محاطة بالمتربصين.
ثم في الانتخابات التي تلتها لجأ مرشح الحزب الوطني إلى عظيم ليقص قبل أيام قليلة من الانتخابات قصة مفادها أن والده كان يتقدم الصفوف الأمامية في المعركة، وأنه قاتل ببسالة منقطعة النظير، وفي مقابل ذلك حصل عظيم على مظروف منتفخ، اشترى به جهاز مذياع صغير وضعه قرب سريره.
فاز الوطنيون بانتخابات رابعة رغم تزايد المعارضين داخل البلاد وخارجها. لكن الرعب الذي بثته في النفوس حملة الاغتيالات والموسيقى التي تصدح في الاحتفالات لتغطي على صوت الرصاص هو ما جعل النتيجة محسومة لصالحهم. على الرغم من ذلك ظهر عظيم ثانية ليحكي بطولة والد المرشح الجديد، وكيف حماه بجسده حين وقف حائلاً بينه وبين الرصاص. تهالكت البلاد وضاق بأهلها الحال فهاجر الكثيرون، وكثرت بين من تبقى الفتن والجرائم. لذلك سرعان ما استشرت في البلاد ثورة شعبية أنهت حكم الوطنيين.
أعقبهم حزب حديث النشوء، لم يعجبه تداول قصص بطولاتٍ ليس جزءاً منها، فصدرت أولى الأوامر بالتحقيق في رواية عظيم عن المعركة التاريخية وجُمع كل ما يتوافر من معلومات عنها. كانت كل القصص المتداولة شفهية وتنتهي دائماً بمصادر مجهولة لذلك لم تسفر التحقيقات عن شيء فانتقل البحث لحياة عظيم المثيرة للعجب، التي قضاها بجسد رجل أربعيني مكتمل القوة، رغم أن أجيالاً تعاقبت عليه. لكن الأبحاث لم تحرز أكثر من سابقتها؛ إذ لم تسفر عن عمره الحقيقي، ولا عن معلومات عن ذويه أو أين كان قبل أن يظهر ذلك الفجر في ساحة المعركة. لا يملك سجلات أو أي شيء سوى الغرفة الطينية التي كجسده لم يُكشف سرها والمذياع الذي لا يصمت أبدًا.
في ذلك الوقت كانت للصحف اليومية الكلمة الأولى ولقصصها الأثر الأعظم. لم تتراجع أخبار التحقيقات في قضية عظيم عن الصفحات الأولى. ذات يوم كتب صحفي مبتدئ قصة عن مشعوذ من عصور سابقة عُرف بقوة لا مثيل لها. كانت أحد أعماله تعويذة خطّها على جلد ماعز، ثم نقعها لثلاثة أيام في زيت يحوي بقايا مشيمة امرأة وقشور بيض، ثم علّقها بخيوط على رقبة عظيم قبل المعركة؛ لتجعل جلده مقاوماً لطلقات البنادق. لكنها -ولفرط جودتها- قاومت الأمراض والتجاعيد والموت. لم يبلغ الخبر عظيم لأن الإذاعة لم تبثه، ولم يعرف أيضاً أن في العدد التالي من الصحيفة ظهرت صورة رجل سبعيني يرتدي جلباباً مرقعاً بألوان عدة مكتوبٌ أسفلها تصريح مفاده بأن الرجل حفيد المشعوذ المنشود، ووريث مهنته. حكى قصصاً عصيّة على التصديق، وأفعالاً ليس بمقدور الشيطان نفسُه تصوّرها، ثم وضع وصفاً واضحاً لمكان إقامته محققاً بذلك ثراءً لن ينقطع لما تبقى من حياته. ولن يتأثر بالخبر الصادر في الجريدة نفسها وبواسطة الصحفي ذاته عن فوائد خبز النخالة في تطويل العمر ومنع الأمراض، مستشهداً -بالطبع- بعظيم الذي لا يأكل سوى خبز النخالة.
توالت السنون على البلاد، ووصل للحكم شباب بأجسادٍ مشدودة ونظاراتٍ أنيقة. قرؤوا الكتب وجابوا كل العالم بضغطة زر . ينسبون الفقر للسياسات العالمية بدلاً عن عقوبات الآلهة، والكوارث البيئية لثقب الأوزون بدلاً عن الخونة والمندسين. بنوا الشواهق من المساكن وعبّدوا الطرق. لكنهم أرادوا تاريخاً جيّداً يليق بمتاحفهم الجديدة ذات الحواجز الزجاجية وأنظمة المراقبة. ذلك اليوم قدمت عدداً من السيارات الفارهة المليئة بالرجال والمعدات إلى بيت عظيم. جلبوا معهم رسائل كتبت بواسطة خبراء لغويين وخبراء آخرين. جعلوا الأوراق تبدو صفراء ومتآكلة كما بدا جسده بعد الفراغ من وضع مساحيقهم الغريبة عليه ليبدو أكثر تناسباً مع الحدث الذي يقصه. رفع عظيم الأوراق بيدٍ تحاول الارتجاف أمام كاميرا التلفاز وهو يردد عبارات حفظها بعد عناء، عبارات توضح أن ما بين يديه مراسلات تنظيم المعركة التاريخية كان يحفظها في صندوق قديم يملكه، وقال أنها ستودع في المتحف القومي الجديد. ولم ينسَ قبل أن يطفئ ضوء كاميرا التسجيل اتهام أفراد من الحزب الوطني بأنهم حاولوا قتله ليطمسوا تاريخ البلاد. لم يعط مظروفاً هذه المرة؛ إذ لم يرَ فيه أفراد طاقم التصوير -الذين قرؤوا كل ما حدث في حياته في سطر واحد من كتاب التاريخ- غير ممثل رديء لا يستحق أجراً.
بعد ذلك بأشهر قلائل، حين كان المذياع قرب رأس عظيم يبث أغنيات قديمة -كما أسماها مقدم البرنامج، قاطع الموسيقى صوتٌ أجش معلناً بأنه تلقى خبراً عاجلاً من مجموعة علماء ينتمون لمركز دراسات متقدم، مفاده أن دراسة مطوّلة للآثار في الحدود الغربية للمدينة، وصورة فوتوغرافية تمت معالجتها بتقنيات توضيح حديثة أسفرت عن أن المنطقة المعنيّة لم تقم فيها معركة قط، وأن الصورة تُظهر ما يُشبه رجلاً مقرفصاً على الرمال شاخصاً نحو الأفق كمن يؤدي طقساً دينياً ما، لكن من المحتمل أيضاً بأنها صخرة غطاها الكلس الأبيض.
انتهى الصوت من إلقاء الخبر ، فعادت الأُغنية المنقطعة، لكنها كانت تُبث من مذياع قديم ملقى داخل إحدى حظائر الماشية بالقرب من الميدان الغربي للمدينة.