(1 - 2)
الكلام الوارد في العنوان نُسب أيضاً للمتنبي بصياغة «أنا وأبو تمام.. «.. والأقرب أنّ حكيم المعرة أبا العلاء هو قائلها، فالمتنبي لا أظنه يُقارن نفسه بأحد.. فضلاً عن اعترافه بوجود من هو أشعر منه ولو استبدل ذلك بالحكمة.. ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً..
وفي ظني أن المعري نفسه هو الحكيم، أما أصحابه الثلاثة فشعراء، وإن جرت الحكمة على ألسنتهم، فالمتنبي يُقدِّم لنا الشعر أولاً، وما يردد في ثناياه من حكمه فهو ثانوي، وصيغ بحرارة الشاعر ومرارة التجربة.. أما المعري فقد كان رهين المحبسين يقول الحكمة عن تأمل وتفكير لا عن معاناة وتجربة، وربما كان للفراغ الذي يعيشه أبو العلاء دورٌ في تفكيره النظري أو الفلسفي فيصوغه حكمة، ولعل الفراغ أيضاً ولّدَ (لزوم ما لا يلزم).. فكرة الحكمة عند المعري تسبق الشعر..
أما المتنبي فشعره يسبق الحكمة، فهو يقول ما يشعر به إزاء المواقف والتجارب التي خاضها وعانى منها، ويكشف أعماق البشر.. تخرج حكمة المتنبي حارّة طازجة كرغيف الخبز الخارج من الفرن فوراً.. وتخرج حكمة المعري هادئة موزونة وأحياناً باردة.. ولو كانت صادقة.. بعض ما يُقال عنه حكمة في شعر المتنبي هو هجاء للناس والحياة عن مرارة تجربة وصدق إحساس وقد لا يقبله الحكيم..
المعري كان شديد الإعجاب بشعر المتنبي ولا يطيق أن ينتقصه أحد، وقد كان في مجلس أحد الولاة - قبل أن يعتزل في بيته - فسمع الوالي يُهوّن من شعر المتنبي فغضب وقال بهدوء وذكاء:
لو لم يقل المتنبي إلا قصيدته:
«لك يا منازل في القلوب منازلْ».. لكفت.. فغضب الوالي الذكي وأمر بطرد المعري من مجلسه، ثم قال: «أتدرون ماذا يقصد هذا الأعمى بذكر تلك القصيدة مع أن للمتنبي ما هو أجود منها؟ قالوا لا، فقال: إنه يعنيني ببيت ورد فيها:
وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ = فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ.
(2-2)
ألّف المعري في المتنبي كتاباً مُنكر الاسم لتعظيمه للمتنبي، أما أبو الطيب نفسه فلم يكن ليرى من يُدانيه شعراً فكيف يعتبر البحتري هو الشاعر، يقول المتنبي:
أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ = ضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ
والضبن: الإبط، وقال شويعر بالتصغير وهو يقصد أبا فراس الحمداني الشهير، والتصغير سائد في شعر المتنبي ومعظمُه للتحقير..
ويقول مفتخرا بنفسه وشعره (ويحق له) :
ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ = شِعْرِي ولا سمعتْ بسحري بابِلُ
مَنْ لي بفَهْمِ أُهَيْلِ عَصْرٍ يَدّعي = أنْ يَحْسُبَ الهِنديَّ فيهِمْ باقِلُ
وشعراء الجاهلية أصحاب المعلقات بالذات كانوا القمة عند النقاد وطلاب الفصاحة فنسفهم كلهم.. كعادته قال عن أهل عصره كلهم «أُهيل» للتحقير، قال ابن جنِّي: «وباقل هذا لم يؤت من سوء حسابه بل من سوء عبارته».
وابن جني يخرّج غلطات المتنبي النحوية؛ لأن المتنبي -بذكائه- قال: «ابن جنّي أخبر بشعري منّي»، وكثيرون انتقدوا المتنبي واتهموه بسرقة الشعر حسداً ، ولكنه لا يعبأ بهم، ولا بغيرهم، يقول:
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي = وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا = وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
فلينتقد - إذن- من شاء! ..
ولا شك أن المتنبي من كبار شعراء العربية إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، ومع ذلك يحس بالاضطهاد لأنه يريد الإمارة أما الشعر فمضمون، لهذا مجّد نفسه وسخط على الناس.. ولكنه - كما قلنا - من المُستبعد جدا أن يقول: «أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري».
فالمتنبي - لشدة ثقته - إنْ لم أقل غروره بنفسه - لا يتنزل أن يقرن نفسه بأبي تمام فضلاً عن أن ينفي شاعريته ويقصرها على البحتري.
الكلام إذن لأبي العلاء المعري ولو سمعه منه المتنبي لهجاه مرَّ الهجاء رغم كل دفاع المعري عن المتنبي وإعجابه به.. فأبو الطيب يرى في نفسه أنه لا يحتاج لدفاع أحد، ولا يضره ذم أحد، ولا يهمه زيادة معجب ولو كان بقامة ومكانة المعري.
بعيداً عن الشعر وكأشخاص فالمتنبي مُنتفخ والمعري مُنفتح، ولم يكن البحتري أفضل حالاً من المتنبي فقد كان يُصَفّق لنفسه حين ينشد ثم يقول: «أحسنتُ» وينهر الحاضرين إذا لم يصفقوا أو يطربوا، أبو تمام كان متزنا جداً..
من ناحية رقة الصور وعذوبة الوصف كان البحتري أفضل فعلاً، أرق شعراً، وأجمل سبكاً، وأكثر إطراباً، لكن المتنبي له ميزة عظيمة هي التي جعلته أكبر شعراء العرب، وهي «قدرته على كشف النفس البشرية، والنفاذ إلى أعماقها. بشعرٍ مؤثر بليغ».
الكلام الوارد في العنوان نُسب أيضاً للمتنبي بصياغة «أنا وأبو تمام.. «.. والأقرب أنّ حكيم المعرة أبا العلاء هو قائلها، فالمتنبي لا أظنه يُقارن نفسه بأحد.. فضلاً عن اعترافه بوجود من هو أشعر منه ولو استبدل ذلك بالحكمة.. ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً..
وفي ظني أن المعري نفسه هو الحكيم، أما أصحابه الثلاثة فشعراء، وإن جرت الحكمة على ألسنتهم، فالمتنبي يُقدِّم لنا الشعر أولاً، وما يردد في ثناياه من حكمه فهو ثانوي، وصيغ بحرارة الشاعر ومرارة التجربة.. أما المعري فقد كان رهين المحبسين يقول الحكمة عن تأمل وتفكير لا عن معاناة وتجربة، وربما كان للفراغ الذي يعيشه أبو العلاء دورٌ في تفكيره النظري أو الفلسفي فيصوغه حكمة، ولعل الفراغ أيضاً ولّدَ (لزوم ما لا يلزم).. فكرة الحكمة عند المعري تسبق الشعر..
أما المتنبي فشعره يسبق الحكمة، فهو يقول ما يشعر به إزاء المواقف والتجارب التي خاضها وعانى منها، ويكشف أعماق البشر.. تخرج حكمة المتنبي حارّة طازجة كرغيف الخبز الخارج من الفرن فوراً.. وتخرج حكمة المعري هادئة موزونة وأحياناً باردة.. ولو كانت صادقة.. بعض ما يُقال عنه حكمة في شعر المتنبي هو هجاء للناس والحياة عن مرارة تجربة وصدق إحساس وقد لا يقبله الحكيم..
المعري كان شديد الإعجاب بشعر المتنبي ولا يطيق أن ينتقصه أحد، وقد كان في مجلس أحد الولاة - قبل أن يعتزل في بيته - فسمع الوالي يُهوّن من شعر المتنبي فغضب وقال بهدوء وذكاء:
لو لم يقل المتنبي إلا قصيدته:
«لك يا منازل في القلوب منازلْ».. لكفت.. فغضب الوالي الذكي وأمر بطرد المعري من مجلسه، ثم قال: «أتدرون ماذا يقصد هذا الأعمى بذكر تلك القصيدة مع أن للمتنبي ما هو أجود منها؟ قالوا لا، فقال: إنه يعنيني ببيت ورد فيها:
وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ = فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ.
(2-2)
ألّف المعري في المتنبي كتاباً مُنكر الاسم لتعظيمه للمتنبي، أما أبو الطيب نفسه فلم يكن ليرى من يُدانيه شعراً فكيف يعتبر البحتري هو الشاعر، يقول المتنبي:
أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ = ضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ
والضبن: الإبط، وقال شويعر بالتصغير وهو يقصد أبا فراس الحمداني الشهير، والتصغير سائد في شعر المتنبي ومعظمُه للتحقير..
ويقول مفتخرا بنفسه وشعره (ويحق له) :
ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ = شِعْرِي ولا سمعتْ بسحري بابِلُ
مَنْ لي بفَهْمِ أُهَيْلِ عَصْرٍ يَدّعي = أنْ يَحْسُبَ الهِنديَّ فيهِمْ باقِلُ
وشعراء الجاهلية أصحاب المعلقات بالذات كانوا القمة عند النقاد وطلاب الفصاحة فنسفهم كلهم.. كعادته قال عن أهل عصره كلهم «أُهيل» للتحقير، قال ابن جنِّي: «وباقل هذا لم يؤت من سوء حسابه بل من سوء عبارته».
وابن جني يخرّج غلطات المتنبي النحوية؛ لأن المتنبي -بذكائه- قال: «ابن جنّي أخبر بشعري منّي»، وكثيرون انتقدوا المتنبي واتهموه بسرقة الشعر حسداً ، ولكنه لا يعبأ بهم، ولا بغيرهم، يقول:
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي = وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا = وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
فلينتقد - إذن- من شاء! ..
ولا شك أن المتنبي من كبار شعراء العربية إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، ومع ذلك يحس بالاضطهاد لأنه يريد الإمارة أما الشعر فمضمون، لهذا مجّد نفسه وسخط على الناس.. ولكنه - كما قلنا - من المُستبعد جدا أن يقول: «أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري».
فالمتنبي - لشدة ثقته - إنْ لم أقل غروره بنفسه - لا يتنزل أن يقرن نفسه بأبي تمام فضلاً عن أن ينفي شاعريته ويقصرها على البحتري.
الكلام إذن لأبي العلاء المعري ولو سمعه منه المتنبي لهجاه مرَّ الهجاء رغم كل دفاع المعري عن المتنبي وإعجابه به.. فأبو الطيب يرى في نفسه أنه لا يحتاج لدفاع أحد، ولا يضره ذم أحد، ولا يهمه زيادة معجب ولو كان بقامة ومكانة المعري.
بعيداً عن الشعر وكأشخاص فالمتنبي مُنتفخ والمعري مُنفتح، ولم يكن البحتري أفضل حالاً من المتنبي فقد كان يُصَفّق لنفسه حين ينشد ثم يقول: «أحسنتُ» وينهر الحاضرين إذا لم يصفقوا أو يطربوا، أبو تمام كان متزنا جداً..
من ناحية رقة الصور وعذوبة الوصف كان البحتري أفضل فعلاً، أرق شعراً، وأجمل سبكاً، وأكثر إطراباً، لكن المتنبي له ميزة عظيمة هي التي جعلته أكبر شعراء العرب، وهي «قدرته على كشف النفس البشرية، والنفاذ إلى أعماقها. بشعرٍ مؤثر بليغ».
المتنبي وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري (1 - 2)
الكلام الوارد في العنوان نُسب أيضاً للمتنبي بصياغة «أنا وأبو تمام.. «.. والأقرب أنّ حكيم المعرة أبا العلاء هو قائلها، فالمتنبي لا أظنه يُقارن نفسه بأحد.. فضلاً عن اعترافه بوجود من هو أشعر منه ولو استبدل ذلك بالحكمة.. ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً.. وفي ظني أن المعري نفسه هو الحكيم،...
www.alriyadh.com