-1-
الأزمة، هي نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها الأفراد أو الجماعات أو الدول، وهي في نظر العديد من الباحثين والفلاسفة نتيجة تأثير لموقف أو مشكل أو قضية، وهو ما يؤدي إلى ظهور أعراض سلوكية سلبية في الكثير من الأحيان.
والأزمة بهذه الصفة، كانت وما تزال من أكثر المصطلحات في اللغة العربية، كما في اللغات الحية استعمالا في عصرنا الحديث، فهي من أكثر الكلمات ارتباطا بجوهر الحياة في المجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة، وعلى صدر القواميس والموسوعات العالمية.
وعندما تحل الأزمة بأمة من الأمم، تبدأ هذه الكلمة الصغيرة تتخذ لها مجالات أوسع، لتصبح سيدة اللغة والتعبير والبلاغة، وسيدة المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اذ تنتقل بسرعة فائقة من مفاهيمها المعنوية والحسية، إلى مفاهيم أخرى، فتتخذ صورتها في الواقع...وفي الأذهان والتصورات والمخططات، حسب الظروف والملابسات.
-2-
وخطاب الأزمة استمر في الحياة البشرية وكأنه قدرنا الذي لا هروب لنا منه.
فقد وظف البعض خطاب الأزمة ليظهر في الإنسانية ما يسمى بأغنياء الأزمة على طريقة أغنياء الحرب في مناطق عدة من العالم، فباسم " الأزمة " وتحت يافطتها تهربت مؤسسات كثيرة من أداء واجباتها تجاه الدولة من ضرائب وغيرها من المستحقات، فيما يؤدي المواطن الكادح هنا وهناك ثمن أخطاء الآخرين، فهو – أي هذا المواطن الكادح- تقتطع من مرتبه الهزيل جميع " الواجبات" دون اختيار منه خاصة وأن هذه " الواجبات" تتعدد كل سنة وتتلون وتفرض عليه بقوة القانون.
لم يتوقف إذن خطاب الأزمة وترديده في المغرب وبقاع الدنيا، ليتحول إلى واقع يعايشه الجميع كعاهة تلزم صاحبها بقبولها والالتئام معها.
والغريب في الأمر أن عدوى الأزمة مست في العديد من الدول، مختلف المرافق، وبذلك طبقت نظرية الجدلية في علاقاتها، إذ نسمع في آن واحد خطابا أزمويا في الرياضة كما في الاقتصاد وفي القضايا الاجتماعية وكذا في الثقافة وغيرها من الأزمات الأخرى في التجارة والسياحة والماء والأخلاق وفي التعليم وفي كل ما له علاقة بالحياة.
ولكي يخرج العالم من دائرة " الأزمة " انعقدت خلال العقود الماضية ندوات ومناظرات ولقاءات لدراستها والبحث عن سبل تجاوزها، حيث تم إنشاء لجن مؤقتة (تتحول مع الزمن إلى لجن دائمة بالاحتفاظ بنفس الاسم المؤقت) وتصدر عنها توصيات وبرامج عمل لا تعرف طريقها إلى الترجمة الملموسة فتتراكم مشاكل وأسباب الأزمة، لتصبح أزمة مضاعفة ومزدوجة نعود بها إلى النقطة ما قبل الصفر(1).
ولأن كثيرا من القضايا الأساسية لم يتم الحسم فيها نهائيا، سقط العالم في أزمة بنيوية / هيكلية حيث أصبحنا في المعاهد والجامعات والمؤسسات الإعلامية نحلل الآن أزمة الأزمة وليس الأزمة في ذاتها كظاهرة عابرة.
-3-
هكذا أصبحت "الأزمة" حاضرة في خطب الساسة والزعماء والوزراء، وفي كتابات الشعراء والإعلاميين والمثقفين، كل يقلب أوراقها من موقعه بصيغ مختلفة ومتباينة، اذ تلقينا في الساحة السياسية، خطبا وكلمات، عن أزمات الاقتصاد، وأزمات التخطيط، وأزمات التشغيل، كما تلقينا في الساحة الثقافية مقالات ومحاضرات ودراسات، عن أزمات النص، وأزمات النقد، وأزمات المنهج، وأزمات الكتابة والقراءة...وجميعها تعبر عن الأزمات البنيوية والهيكلية التي لفت/ تلف حياتنا من كل جانب وزاوية..
منذ عقود بعيدة، انتقلت هذه المفردة العجيبة بهدوء من تعابير المبدعين والمثقفين و النقاد، إلى تعابير السياسيين والاقتصاديين والحقوقيين والرياضيين، فأصبح كل في مجال تخصصه، يشرح لنا الأزمة. أو يفعل آليات مواجهتها. ففي المؤتمرات السياسية و الملتقيات الثقافية و الفكرية و الندوات، الصحفية، و المجالس الحكومية كما في الحملات الانتخابية تتحول الأزمة إلى أداة للعمل. وإلى خارطة طريق سالكة إلى عقول المناضلين و الناخبين و الرياضيين و الاقتصاديين و المثقفين، تتحول إلى عملة رابحة، للذين "يصنعون" الأزمة و الذين "يبحثون" لها عن حلول.
و منذ عقود بعيدة أيضا، لم يتوقف خطاب الأزمة على المستوى الشعبي، كما على المستوى الرسمي، لتصبح " الأزمة " قضية منهجية تعايشنا ونعايشها في كل ثانية من حياتنا، بعدما مست عدواها كل البيوت والمرافق والمؤسسات والقطاعات، لتصبح شاملة تمس كل الأحاسيس والمشاعر. و تسكن كل العقول والقلوب.
يعني ذلك، ان هذه الكلمة الصغيرة، الخفيفة، والمركزة، اتخذت لنفسها بسبب ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتردية، أوسع مجال في حياتنا العامة، لتصبح هذه الأزمة سيدة اللغة و التعبير و البلاغة في خطابنا السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي. ولتصبح سيدة الموقف في كل خطاب وبرنامج و إيديولوجية، تنتقل من مفهومها المادي إلى إلى مفاهيم معنوية حسية، تتخذ صورتها في الواقع، من خلال صورتها في مكونات و هياكل هذا الواقع.
يعني ذلك أيضا أن " الأزمة " في حياتنا / في واقعنا، لم تعد حالة اعتراضية، فقد أصبحت في عالمنا اليوم تمتد، تتوسع عبر مساحات لا نهائية، و كأنها قدر محتوم، تنتقل بين الناس والإدارات والمؤسسات، تتعمق في الوجدان، على جدارية الأخلاق، تتجاوز حدود الذات الفردية، لتشمل الذات الوطنية الشاملة.
-4-
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الأزمة في أوروبا وفي مناطق عديدة من العالم نتاج طبيعي و مباشر للخلخلة الاقتصادية ...ولنقص الإنتاج، ولم تكن تمس المناحي الأخرى في حياة الناس، لأنها كانت محاصرة بموانع الثقافة و الفكر، وبأسس التربية الأولية للأفراد... لكن يبدو أن " الأزمة " في عالم اليوم، تطورت كمفهوم و كواقع اقتصادي/ اجتماعي/ سياسي/ ثقافي عام، إلى الحد الذي أصبحت شاملة تتحدى كل الموانع الموضوعة في طريقها.
ولقياس حقيقة الأزمة، نتوقف قليلا عند الأزمة في المغرب الراهن. أن " أزمات " الجيل الماضي، الذي عاصر تاريخ الحماية الفرنسية (1955.1912) وقاسي من ويلاتها، تختلف أزماته شكلا ومضمونا بكل تأكيد عن أزمات الجيل الذي بعده، وأزمات الجيل الحالي ستختلف حتما عن أزمات الآتي بعده...مما يعني أن الظروف التاريخية والحضارية والاجتماعية، هي التي تتحكم بشكل أساسي ومباشر في نوعية وحجم وجنس الأزمات، وفي مسارها وتوجهاتها.
إن الجيل المغربي الذي عاش عهد الحماية، لم تمتد أزمته الاقتصادية إلى انهيار مقوماته الخلقية ولا إلى انهيار توازناته الإنسانية، بل كانت أعظم أزماته وأكبرها حجما على المستوى الفردي والجماعي هي الحرية.
الحرية كانت بالنسبة لهذا الجيل هي كل الأزمة، هي الهدف، هي المصير الذي يفصل بينه وبين المغتصب، فتحت تأثيرها تولدت لديه كل أدوات المقاومة التي حولت مسار المغرب، وحولت تاريخه إلى منعطف جديد، وتحت تأثيرها جاء الجيل الجديد بمطالبه وصراعاته...وبأزماته الجديدة.
أما الجيل الثاني، جيل ما بعد الاستقلال، الذي جاء كنتاج شرعي للجيل الذي قبله، فقد تطورت أزماته، بتطور طموحاته المتنوعة والعديدة، أزماته لم تتركه يتنفس الصعداء، ليعقلن أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والحضارية عموما، ولم تتح له الفرصة للخروج بالتاريخ إلى مرحلة أشمل وأرحب وأكبر. فبقي أسير أزماته وطموحاتها إلى أن جاء الجيل الذي يعده، ليوسع من هذه الأزمة، ويعطيها الامتداد التاريخي اللازم، إذن هناك تصاعد في الأزمة وهناك تراكم في آلياتها وهناك توسع لسلطاتها، وهو ما أدى بها إلى اكتساح إنسانية الإنسان، والسيطرة على صيرورته وكينونته. إذ تعمقت في وجدانه وحياته، فأصبحت تربط بين الخبز والعنف، بين الخبز والإلحاد بين الحيرة والرعب والضياع، والانهيار الخلقي والتجرد من القيم وهو ما يعني بوضوح أن الأزمات تجاوزت الإنسان بعدما سيطرت على أوضاع الإنسان.
إن الجيل الجديد الذي وجد نفسه في عهد الاستقلال، يتحمل أكثر من مسؤولية في ظرفه التاريخي المتميز بالصراعات الإيديولوجية والحضارية، وجد نفسه أيضا، ينغمس في سلسلة من الأزمات لا بداية لها ولا نهاية، أزمات تمتد على طول وعرض جدارية الأخلاق والسياسة والجنس والعقيدة والإيديولوجية والفكر... وتتجاوز أحيانا حدود الذات الفردية لتشمل الذات الوطنية، وهذا ما يجعلها خطيرة وقاسية.
إن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي ارتبطت بأزمات هذا الجيل منذ ميلاده، قادته بالتأكيد إلى أن يطبع سلوكه الفردي والجماعي بسلسلة أزمات متشابكة ومتداخلة، كما قادته ليتلبس بهذه الأزمات، لتصبح في النهاية جزء من كينونته ومن صيرورته النفسية والأخلاقية.
على المستوى الاجتماعي، يتواجد الجيل المغربي الجديد داخل أكثر الطبقات اكتظاظا وأكبرها حجما وهي طبقة الفقراء والعاطلين والمعطلين والمهمشين، وبفعل هذا التواجد، وجد نفسه مرغما يتفاعل مع الفقر والجوع والأمية والجهل، بين المدن القصديرية المرمية خارج أسوار الحضارة... وبين أرياف العالم القروي، القابعة في التهميش، ومن خلال هذا التفاعل تكون لهذا الجيل المسكين رصيده القوي من الأزمات الروحية والمادية الخفية والظاهرة، من أزمات الجنس، إلى أزمات الإخصاب والتناسل، إلى أزمات الفكر والحرية والاستمرار.
وعلى المستوى الفكري/ الحضاري، يتساكن هذا الجيل مع طموحاته الهادفة إلى الثورة والتغيير، ووحدة التراب الوطني وتحرير ما تبقى منه تحت السيطرة الأجنبية، ولكن صدامه المستمر مع أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية فرض / يفرض عليه حصارا خطيرا وثقيلا وقاسيا.
في المدن والبوادي حيث آلاف الأطفال والشباب في سن الرشد والعطاء، يقتلون حياتهم وأوقاتهم بكل السموم الصغرى والكبرى : القمار، الحشيش،الخمور، اللصوصية، الفساد الجنسي والأخلاقي، وحيث آلاف الشباب يمضون أوقاتهم في فراغ ممل، لا جدوى منه، الأزمات المتراكمة على حياة هذا الجيل، توضح أن شبابنا الذي يغطي مساحة هامة من تراثنا البشري (%80 من مجموع السكان) يعيش بفعل الفساد والبؤس والفقر والفراغ والأمية، سلسلة تمزقات ليست عادية ولا طبيعية، فهو في المدن متسكع يمارس فراغه الروحي والجسدي بين المقاهي والحانات والأندية الليلية، وفي البوادي بئيس يتسول، ينتحر بين بيوت القصدير، تتكاثف حوله الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، يعيش حرب إبادة غير ممنهجة، العدو الأول والأخير فيها، أزماته.. أزماته التي يكبر حجمها كل يوم بالممارسة، وبالإعلام وبالتحدي الحضاري... والمناهج المضادة.
محمد أديب السلاوي
الأزمة، هي نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها الأفراد أو الجماعات أو الدول، وهي في نظر العديد من الباحثين والفلاسفة نتيجة تأثير لموقف أو مشكل أو قضية، وهو ما يؤدي إلى ظهور أعراض سلوكية سلبية في الكثير من الأحيان.
والأزمة بهذه الصفة، كانت وما تزال من أكثر المصطلحات في اللغة العربية، كما في اللغات الحية استعمالا في عصرنا الحديث، فهي من أكثر الكلمات ارتباطا بجوهر الحياة في المجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة، وعلى صدر القواميس والموسوعات العالمية.
وعندما تحل الأزمة بأمة من الأمم، تبدأ هذه الكلمة الصغيرة تتخذ لها مجالات أوسع، لتصبح سيدة اللغة والتعبير والبلاغة، وسيدة المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، اذ تنتقل بسرعة فائقة من مفاهيمها المعنوية والحسية، إلى مفاهيم أخرى، فتتخذ صورتها في الواقع...وفي الأذهان والتصورات والمخططات، حسب الظروف والملابسات.
-2-
وخطاب الأزمة استمر في الحياة البشرية وكأنه قدرنا الذي لا هروب لنا منه.
فقد وظف البعض خطاب الأزمة ليظهر في الإنسانية ما يسمى بأغنياء الأزمة على طريقة أغنياء الحرب في مناطق عدة من العالم، فباسم " الأزمة " وتحت يافطتها تهربت مؤسسات كثيرة من أداء واجباتها تجاه الدولة من ضرائب وغيرها من المستحقات، فيما يؤدي المواطن الكادح هنا وهناك ثمن أخطاء الآخرين، فهو – أي هذا المواطن الكادح- تقتطع من مرتبه الهزيل جميع " الواجبات" دون اختيار منه خاصة وأن هذه " الواجبات" تتعدد كل سنة وتتلون وتفرض عليه بقوة القانون.
لم يتوقف إذن خطاب الأزمة وترديده في المغرب وبقاع الدنيا، ليتحول إلى واقع يعايشه الجميع كعاهة تلزم صاحبها بقبولها والالتئام معها.
والغريب في الأمر أن عدوى الأزمة مست في العديد من الدول، مختلف المرافق، وبذلك طبقت نظرية الجدلية في علاقاتها، إذ نسمع في آن واحد خطابا أزمويا في الرياضة كما في الاقتصاد وفي القضايا الاجتماعية وكذا في الثقافة وغيرها من الأزمات الأخرى في التجارة والسياحة والماء والأخلاق وفي التعليم وفي كل ما له علاقة بالحياة.
ولكي يخرج العالم من دائرة " الأزمة " انعقدت خلال العقود الماضية ندوات ومناظرات ولقاءات لدراستها والبحث عن سبل تجاوزها، حيث تم إنشاء لجن مؤقتة (تتحول مع الزمن إلى لجن دائمة بالاحتفاظ بنفس الاسم المؤقت) وتصدر عنها توصيات وبرامج عمل لا تعرف طريقها إلى الترجمة الملموسة فتتراكم مشاكل وأسباب الأزمة، لتصبح أزمة مضاعفة ومزدوجة نعود بها إلى النقطة ما قبل الصفر(1).
ولأن كثيرا من القضايا الأساسية لم يتم الحسم فيها نهائيا، سقط العالم في أزمة بنيوية / هيكلية حيث أصبحنا في المعاهد والجامعات والمؤسسات الإعلامية نحلل الآن أزمة الأزمة وليس الأزمة في ذاتها كظاهرة عابرة.
-3-
هكذا أصبحت "الأزمة" حاضرة في خطب الساسة والزعماء والوزراء، وفي كتابات الشعراء والإعلاميين والمثقفين، كل يقلب أوراقها من موقعه بصيغ مختلفة ومتباينة، اذ تلقينا في الساحة السياسية، خطبا وكلمات، عن أزمات الاقتصاد، وأزمات التخطيط، وأزمات التشغيل، كما تلقينا في الساحة الثقافية مقالات ومحاضرات ودراسات، عن أزمات النص، وأزمات النقد، وأزمات المنهج، وأزمات الكتابة والقراءة...وجميعها تعبر عن الأزمات البنيوية والهيكلية التي لفت/ تلف حياتنا من كل جانب وزاوية..
منذ عقود بعيدة، انتقلت هذه المفردة العجيبة بهدوء من تعابير المبدعين والمثقفين و النقاد، إلى تعابير السياسيين والاقتصاديين والحقوقيين والرياضيين، فأصبح كل في مجال تخصصه، يشرح لنا الأزمة. أو يفعل آليات مواجهتها. ففي المؤتمرات السياسية و الملتقيات الثقافية و الفكرية و الندوات، الصحفية، و المجالس الحكومية كما في الحملات الانتخابية تتحول الأزمة إلى أداة للعمل. وإلى خارطة طريق سالكة إلى عقول المناضلين و الناخبين و الرياضيين و الاقتصاديين و المثقفين، تتحول إلى عملة رابحة، للذين "يصنعون" الأزمة و الذين "يبحثون" لها عن حلول.
و منذ عقود بعيدة أيضا، لم يتوقف خطاب الأزمة على المستوى الشعبي، كما على المستوى الرسمي، لتصبح " الأزمة " قضية منهجية تعايشنا ونعايشها في كل ثانية من حياتنا، بعدما مست عدواها كل البيوت والمرافق والمؤسسات والقطاعات، لتصبح شاملة تمس كل الأحاسيس والمشاعر. و تسكن كل العقول والقلوب.
يعني ذلك، ان هذه الكلمة الصغيرة، الخفيفة، والمركزة، اتخذت لنفسها بسبب ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتردية، أوسع مجال في حياتنا العامة، لتصبح هذه الأزمة سيدة اللغة و التعبير و البلاغة في خطابنا السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي. ولتصبح سيدة الموقف في كل خطاب وبرنامج و إيديولوجية، تنتقل من مفهومها المادي إلى إلى مفاهيم معنوية حسية، تتخذ صورتها في الواقع، من خلال صورتها في مكونات و هياكل هذا الواقع.
يعني ذلك أيضا أن " الأزمة " في حياتنا / في واقعنا، لم تعد حالة اعتراضية، فقد أصبحت في عالمنا اليوم تمتد، تتوسع عبر مساحات لا نهائية، و كأنها قدر محتوم، تنتقل بين الناس والإدارات والمؤسسات، تتعمق في الوجدان، على جدارية الأخلاق، تتجاوز حدود الذات الفردية، لتشمل الذات الوطنية الشاملة.
-4-
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الأزمة في أوروبا وفي مناطق عديدة من العالم نتاج طبيعي و مباشر للخلخلة الاقتصادية ...ولنقص الإنتاج، ولم تكن تمس المناحي الأخرى في حياة الناس، لأنها كانت محاصرة بموانع الثقافة و الفكر، وبأسس التربية الأولية للأفراد... لكن يبدو أن " الأزمة " في عالم اليوم، تطورت كمفهوم و كواقع اقتصادي/ اجتماعي/ سياسي/ ثقافي عام، إلى الحد الذي أصبحت شاملة تتحدى كل الموانع الموضوعة في طريقها.
ولقياس حقيقة الأزمة، نتوقف قليلا عند الأزمة في المغرب الراهن. أن " أزمات " الجيل الماضي، الذي عاصر تاريخ الحماية الفرنسية (1955.1912) وقاسي من ويلاتها، تختلف أزماته شكلا ومضمونا بكل تأكيد عن أزمات الجيل الذي بعده، وأزمات الجيل الحالي ستختلف حتما عن أزمات الآتي بعده...مما يعني أن الظروف التاريخية والحضارية والاجتماعية، هي التي تتحكم بشكل أساسي ومباشر في نوعية وحجم وجنس الأزمات، وفي مسارها وتوجهاتها.
إن الجيل المغربي الذي عاش عهد الحماية، لم تمتد أزمته الاقتصادية إلى انهيار مقوماته الخلقية ولا إلى انهيار توازناته الإنسانية، بل كانت أعظم أزماته وأكبرها حجما على المستوى الفردي والجماعي هي الحرية.
الحرية كانت بالنسبة لهذا الجيل هي كل الأزمة، هي الهدف، هي المصير الذي يفصل بينه وبين المغتصب، فتحت تأثيرها تولدت لديه كل أدوات المقاومة التي حولت مسار المغرب، وحولت تاريخه إلى منعطف جديد، وتحت تأثيرها جاء الجيل الجديد بمطالبه وصراعاته...وبأزماته الجديدة.
أما الجيل الثاني، جيل ما بعد الاستقلال، الذي جاء كنتاج شرعي للجيل الذي قبله، فقد تطورت أزماته، بتطور طموحاته المتنوعة والعديدة، أزماته لم تتركه يتنفس الصعداء، ليعقلن أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والحضارية عموما، ولم تتح له الفرصة للخروج بالتاريخ إلى مرحلة أشمل وأرحب وأكبر. فبقي أسير أزماته وطموحاتها إلى أن جاء الجيل الذي يعده، ليوسع من هذه الأزمة، ويعطيها الامتداد التاريخي اللازم، إذن هناك تصاعد في الأزمة وهناك تراكم في آلياتها وهناك توسع لسلطاتها، وهو ما أدى بها إلى اكتساح إنسانية الإنسان، والسيطرة على صيرورته وكينونته. إذ تعمقت في وجدانه وحياته، فأصبحت تربط بين الخبز والعنف، بين الخبز والإلحاد بين الحيرة والرعب والضياع، والانهيار الخلقي والتجرد من القيم وهو ما يعني بوضوح أن الأزمات تجاوزت الإنسان بعدما سيطرت على أوضاع الإنسان.
إن الجيل الجديد الذي وجد نفسه في عهد الاستقلال، يتحمل أكثر من مسؤولية في ظرفه التاريخي المتميز بالصراعات الإيديولوجية والحضارية، وجد نفسه أيضا، ينغمس في سلسلة من الأزمات لا بداية لها ولا نهاية، أزمات تمتد على طول وعرض جدارية الأخلاق والسياسة والجنس والعقيدة والإيديولوجية والفكر... وتتجاوز أحيانا حدود الذات الفردية لتشمل الذات الوطنية، وهذا ما يجعلها خطيرة وقاسية.
إن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي ارتبطت بأزمات هذا الجيل منذ ميلاده، قادته بالتأكيد إلى أن يطبع سلوكه الفردي والجماعي بسلسلة أزمات متشابكة ومتداخلة، كما قادته ليتلبس بهذه الأزمات، لتصبح في النهاية جزء من كينونته ومن صيرورته النفسية والأخلاقية.
على المستوى الاجتماعي، يتواجد الجيل المغربي الجديد داخل أكثر الطبقات اكتظاظا وأكبرها حجما وهي طبقة الفقراء والعاطلين والمعطلين والمهمشين، وبفعل هذا التواجد، وجد نفسه مرغما يتفاعل مع الفقر والجوع والأمية والجهل، بين المدن القصديرية المرمية خارج أسوار الحضارة... وبين أرياف العالم القروي، القابعة في التهميش، ومن خلال هذا التفاعل تكون لهذا الجيل المسكين رصيده القوي من الأزمات الروحية والمادية الخفية والظاهرة، من أزمات الجنس، إلى أزمات الإخصاب والتناسل، إلى أزمات الفكر والحرية والاستمرار.
وعلى المستوى الفكري/ الحضاري، يتساكن هذا الجيل مع طموحاته الهادفة إلى الثورة والتغيير، ووحدة التراب الوطني وتحرير ما تبقى منه تحت السيطرة الأجنبية، ولكن صدامه المستمر مع أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية فرض / يفرض عليه حصارا خطيرا وثقيلا وقاسيا.
في المدن والبوادي حيث آلاف الأطفال والشباب في سن الرشد والعطاء، يقتلون حياتهم وأوقاتهم بكل السموم الصغرى والكبرى : القمار، الحشيش،الخمور، اللصوصية، الفساد الجنسي والأخلاقي، وحيث آلاف الشباب يمضون أوقاتهم في فراغ ممل، لا جدوى منه، الأزمات المتراكمة على حياة هذا الجيل، توضح أن شبابنا الذي يغطي مساحة هامة من تراثنا البشري (%80 من مجموع السكان) يعيش بفعل الفساد والبؤس والفقر والفراغ والأمية، سلسلة تمزقات ليست عادية ولا طبيعية، فهو في المدن متسكع يمارس فراغه الروحي والجسدي بين المقاهي والحانات والأندية الليلية، وفي البوادي بئيس يتسول، ينتحر بين بيوت القصدير، تتكاثف حوله الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، يعيش حرب إبادة غير ممنهجة، العدو الأول والأخير فيها، أزماته.. أزماته التي يكبر حجمها كل يوم بالممارسة، وبالإعلام وبالتحدي الحضاري... والمناهج المضادة.
محمد أديب السلاوي