"هذه أول أزمة تصيب حبنا نعم طالما آلمني الفراق الهين وأجهدني الشوق إلى اللقاء وعذبني
الدلال؛ أما الوداع أماالرحيل إلى قنا فهذا أمر جديد يدفع إلى نفسي شعورا بالحزن لا عهد لها به فهلا
عدلتِ عن هذا السفر....؟"
"لو كان الأمر إلى ما رغبت نفسي أدنى رغبة في السفر فما أحفل بقضاء الشتاءفي أعلي الصعيد
بعض احتفالي بالقرب منك كيماأواصل هذا اللقاء السعيد؛ ولكن ما حيلتي وهذا ما يريده أبى ويفعله
منذ أحيل إلى المعاش. ولقداعتاد أن يمضي شهرًا أو شهرين من الشتاء في قنا عند عمي الدكتور..".
"يستطيع عقلي أن يتصور المعجزات ولكن لا أستطيع أن أتصور ما عسى أن تكونعليه حياتي
هذين الشهرين فهذا الحب غدًاحياة لشعوري وهذا اللقاء أمسي ألفة لنفسي أجد فيها راحة بعد تعب
وعزاء عن شوق دائم فما عسى أنأصنع.”كيف.ما يكون زادي وسلوتي...؟"
فوضعت يدا خمرية ناعمة علىكتفه وداعبت بأطراف أناملها خده وهمست في أذنه:
"هذا شعوري وهذا حزني ولولا كراهيتي للعزاء لنصحت لك بالتعزي والتلهي، فليسأمامنا سوى
الصبر الجميل حتى ينطوي دهرالفراق ويتصل حبل اللقاء... ومع هذا فما أسعدك وما أبأسني..."
"كيف....؟"
"لن أسعد بقراءة كلمة لك طوال مدة غيابي لأنك لا تستطيع أن تكتب إلى أما أنتفتستطيع أن
تطلع على همسات روحي كلمامكنتني الفرص من اختلاس الكتابة إليه.... فأينا أسعد حظا...؟"
"من تؤاتيه فرص التعبير فيخفف عن مراجل عاطفته".
وهنا ظللت وجهه سحابة كدروسألها بعد تردد:
"هل لك أبناء عم ؟ ....."
فابتسمت ابتسامة دلت على أﻧﻬاسرت للقلق الذي بعث هذا السؤال وأجابته:
"نعم لى.... ولكنهم لم يجاوزوا عهد الطفولة لو كان الأمر كما تتوهم ما أوجبأدنى خوف أيها
الرعديد الغيور... والآن هاتفمك أودعك... وهيا نقول معًا هذه الكلمة المروعة التي تفرع لها
القلوب:
"أستودعك الله...."
من الغد يصبح له في قناحبيبان عزيزان: حبيبة القلب عائدة، وصديق الصبا وزميل عهد الدراسة
الأستاذ أحمد مرزوق المدرسبمدرسة قنا ولكنه بينما يتصل بصديقه بالكتابة فهو محروم بحكم الظروف
من تمام هذا الاتصال الروحيبحبيبته لأن حبهما ما يزال سرا خفيًا لما يَدْر بأمره الأهل...
وانقضت أربعة أيام على سفرعائدة ثم وصله منها كتاب جاء فيه:
"حبيبي حسنى !
أعجب لهذه الوحشية كيف تجثمعلى صدري وأنت معي... نعم أنت معي لم تفارقني لحظة سواء
في ضجيج النهار أو في سكونالليل؛ معي وأنا أرسل الطرف من نافذة القطار أشاهد الحقول الممتدة
وأشجار النخيل المبعثرة؛ معيوأنا بين أهل عمي أتلقى الأحاديث وارد عليها وأضاحك هذا وأسمع
لذاك؛ معي في كل مكان وكل حينفلا عجب لنفسي بعد ذلك أن هزها الحنين إليك أو استشعرت
وحشة وضيقًا في البعد عنك، أوألهبها الشوق عذابًا وجوى.
وأرجو ألا تتهمني بالتكاسل عنالكتابة إليك فبيت عمي عامر بالأطفال وهم لا يتركونني لحظة
أخلو إلى نفسي؛ وقد انبعثتكلمات هذا الكتاب من شعوري وامتلأ ﺑﻬا عقلي وتمثلت في حواسي
وحفظتها عن ظهر قلب قبل أنتؤاتيني الفرص فأسطرها لك خلسة على ضوء القمر المتسلل من نافذة
حجرتي والعيون قد أغمضها عنيالمنام.فاعذرني أن أن تأخرت عنك رسائلي وارجع أن شئت إلى قلبك
فاعتقادي أنه يملى عليك عنلساني ما أحب أن أقوله لك دائمًا.
أما عن قنا فجوها دافئ جميلوخلا ذلك فنحن في منفي ولولا ما يربحه أبي فيها من صحة وعافية
ما تركته يسكن إليها لحظة منالزمان ".
فأخذ من الكتاب كل ما استطاعأن يمنحه من العزاء والسلوى والسعادة.
وكان صديقه مرزوق لا نقطع عنمراسلته وأن خلت كتابته من الطرافة والجدة فهي التحيات
المحفوظة وبث الأشواق والتلهفعلى أدبار العام الدراسي وإقبال العطلة الصيفية إلا أنه أضاف إلى
هذه المحفوظات في آخر كتاب لهما نصه:
"طالما قلت لك أني أعيش في قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يخلق الله منه أمناحواء لا يقع بصري
على وجه امرأة قط وأن كنت أرىأحيانًا بعض الأصدقاء يشيرون إلى كتلة من الثياب السوداء الملفوفة
تسير كعمود من الدخان الكثيفوأسمعهم يقولون: أنظر إلى المرأة... ولكن وقع بالأمس ما يعد حدثًا
تاريخيًا في حياة قنا إذ حضرالدكتور سامي حسني مفتش الصحة إلى البستان العمومي وفي صحبته غادة
جميلة سافرة الوجه فهز البلدوزلزل كياﻧﻬا. أنه رجل جسور لا يعبأ بآراء المتزمتين وتجده دائمًا على
استعداد للرد على تطفلالمتطفلين بما يجعله مث ً لا وعبرة ولم يلبث أن شاع الخبر وملأ الأسماع فهرع
الشبان الموظفون من مدرسينومهندسين وكتبة إلى البستان وهم يسوون أربطة الرقبة ويحكمون أوضاع
الطربوش على رؤوسهم فلو رأيتالبستان حيث ذاك لحسبته حديقة غناء في مصر الجديدة أو قصر
النيل.
أﻧﻬا شابة جميلة تحمل فيطياﺗﻬا عطر القاهرة العبق فليهنأ قفر قنا ﺑﻬذا القطر العذب...."
فخفق قلبه لدى مطالعة الكتابولم يداخله أدنى شك في معرفة صاحبة الشخصية الجميلة التي
أثارت لوعة الشباب في قنا.
يا له من كلام يحمل فرحًاوألمًا والألم فيه أكثر ! أيجوز أن تسعد قنا ومن فيها بحبيبته ويبقى هو في
القاهرة تسيل نفسه حسراتعليها...
وهم أن يكتب لصديقه كتابًايعلنه فيه بأن الفتاة التي هز مقدمها قنا هي حبيبته اليوم ثم خطيبته
وزوجه غدًا ولكنه جفل من هذاالإعلان ووجد رغبة خفية أن يكتمه إياه وأن يطلب منه أنت يوافيه
بأخبارها التي تستحق الروايةوالحديث.
لقد تردد لحظة وطرح على نفسههذا السؤال: ألا يعد هذا تجسسًا منه على حبيبته؟
وهل يجوز هذا في شرع المحبين؟ ... أو ليس الأفضل أن يربأ بنفسه عن أن يضع صاحبته موضع
الاﺗﻬام والظنة ؟...
ولكن عاطفة الندم هذه لمتستطع أن تقهر عواطف قلبه الجياشة السوداء فطردها من نفسه
وكتب إلى صديقه بما أملتشكوكه من بادئ الأمر.
وبعد حين وصله كتاب ثان منصديقه جاء فيه عن عائدة مايلي:
"تغيّر كل شئ في قنا وكل شئ في حياتي. لم تعد قنا قبرًا موحشًا فاغرًا فاهمكشرًا عن أنيابه؛ ولم
تعد حياتي سأمًا ثقي ً لا متصً لا. كيف لا يكون هذا وأنا مطمئن إلى أني سأحظى أصيل كل يوم برؤية
ذلك الوجه السافر المبتسمالذي يحيى موات النفوس ويبعث مصفر الأمل... ما أجملها وما أعذﺑﻬا...
علمت الآن أﻧﻬا ابنة أخو مفتشالصحة، أو هذا ما علمته قنا عامة وعلمه شباﺑﻬا خاصة. أن جميع
العيون تلتهمها التهام الجوعفلعل هذه الضجة تثير الغيرة في نفوس الآباء الموظفين فتشجعهم على
الاستهتار بتقاليد الصعيدوأهليه وإبراز بناﺗﻬم للعيان ومهما يكن من الأمر فنحن الرابحون.
لا تخشى على أخيك من قهر، فهوبطل صنديد وشخصية لا يشق لها غبار وأن عينىّ لتنفذان من
بين العيون جميعًا وتجذبانعينيها إلى فصبرًا ولتعلمن بعد حين في أي مخبأ من مخابئ القدر كانت تنتظره
هذه المفاجآت !..."
ما هذا الذي يقول مرزوق من أنعينيه تجذبان إليه عينيها ؟ . أن لعيني مرزوق أن تجذبا كيف
تشاءان. أما عينا صاحبته فمابالهما تنجذبان وتستجيبان ؟ ... هلا يكون ذلك مجرد نظر برئ فسره
صديقه على ما يهوى غروره ويحب؟ .... أنه لا يشك أبدًا في إخلاص عائدة ولكن ينبغي ألا ينسى
أن لصاحبه عينين جميلتين يحسالناظر إليهما سخونة في أعصابه ولذعة في قلبه وهو – إلى ذلك –
مدرس محترم من حملة الدبلوماتالعالية ومن ذوي المستقبل السعيد. أما هو فلم يزد على أن يكون
موظفًا صغيرًا كل مؤهلاتهشهادة البكالوريا ومستقبله مظلم محدود أفلا يكون لجميع هذه الفوارق أثر
في الحب ؟ ...
أنه يشعر بحزن عميق يخيم علىنفسه فيجعلها من الكآبة كنفس هرم متشائم ويحي بسم الغيرة
ينطلق من قلبه ويلوث دمه...أواه... أن أحلامه وآماله تترجح على كف رجيم...
وفي ذلك الوقت أتاه كتاب منعائدة فأنكب عليه بلهفة وتلاه مرة بعد أخرى ولم يكن يخرج في
معناه عن رسالتها الأولىفتزعزعت شكوكه وعاودته الثقة وذاق بعض الطمأنينة والشفاء، وجمّل غرور
صديقه إثم ما جنى عليه كتابهمن الشك والعذاب، ولكنه تسلم رسالة من صديقه بعد ذلك بأسبوع
جاء فيها:
"كن على يقين من أن العاطفة النامية لم تعد قاصرة على جانب واحد فعيناالفتاة – واسمها عائدة
– تقتحمان الحاضرين من الشبان وتستقران علىّ أنا. أني أطالع في وجهها عندحضوري سيما الشوق
والتطلع تحاول أن تخفيها بعدماكتراث مفتعل وأقرأ في عينيها استجابات خفيفة لرسائلي الصامتة الملتهبة
واستشف أحيانًا على فمهاابتسامات خفيفة ولعلها تخاطب عمها أو أحد أبنائه الصغار بصوت
مسموع وعي تعنيني. لا تدهشلأقوالي هذه فأني أطاردها في إصرار وأتتبعها في عناء وأخاطبها بصوت
مكتوم تنبئ عنه شفتايالمتحركتان وابعث إليها بإشارات الشكوى والرجاء وقد اقتربت منى مرة وهي
تلاعب كفلا من أبناء عمهاوسمعتها تقول له أو لي أن شئت: " دائمًا في أعقابي فماذا تصنع لو رجعت
إلى مصر ؟ ....”. فقلت لهاﺑﻬمس مسموع: " لعلك لا تعودين...." أﻧﻬا كلمة ذات مغزى خاص إذا
قالها شاب أعزب موظف مثلي.وقد كان لها الأثر الجميل. والآن أفتني فأنك خبير طبيب عالم بأحوالي
هل أقدم أم حسبي ما ذقت منلذة بريئة وأولى ظهري ودًا لن ينتهي بالتئام...؟ أن ثمرة الحب ناضجة
دانية تنتظر من يقطفها فمارأيك ؟ ...."
يا للظلام.... يا للألمالساخر... عبثًا يحاول دفع هذه الآيات بالشك والتكذيب فعائدة بلا ريب
هي التي لا تستطيع مغالبةالشوق بالتستر وعدم الاكتراث المفتعل وهي التي تحادث الغير وتعني اﻟﻤﺠدود
من الرجال وهي التي تجيبعيناها الإجابات الخفية...وهي تسكرها سيرة الزواج.
فيا للظلام ويا للخيبةالقاتلة... والأدهى أنه يريد منه أن يكون مستشارًا في مأساة قلبه...ولعله
يرجو أن يشير بما يقطع خيطالعنكبوت الذي يمسك بكفة أحلامه وسعادته... فيا للسخرية من
المستطاع أن يحاول إنقاذسعادته فيعلن صديقه بالحقيقة الساخرة ويضع آماله بين يدي شهامته وما
يعهد فيه من الإخلاص والمروءةولكن كبرياءه تأبى عليه أن يكون في حبه من المسترحمين السائلين وهو
يندفع برغبة جنونية نحو جحيمالعذاب كأنما غدًا يستطيب النار الموقدة؛ وأبى إلا أن يعرض حبه لأقسى
امتحان. فأما إلى نعيم الطمأنينةوإما إلى أهوال العذاب وعليه فقد تمالك وكتب إلى صديقه:
"إذا كانت ثمرة الحب ناضجة فاقطفها بلا تردفان حكمة الدنيا لنذوب حسرة علىثمرة حب
ناضجة يزهد فيها الإنسان أقدمولا تبال بالنتائج البعيدة وتمتع بالحب في منفي قنا ولا تحملن نفسك
هموم التفكير في الغد ولاتغفل عن تزويدي بكل جديد فأني أصبحت من تتبع حبك على حب شديد
."
وأنتظر رد صاحبه بصبر نافذوجزع لجوجحتى وافاه منه كتاب جاء فيه عن عائدة مايلي:
"بوركت من حكيم سديد الرأي لقد اتبعت نصحك أيها الأخ وضربت لها موعدًا همسًاووافيت
إليه في صباح اليوم الثاني وأناحائر بين الشك واليقين بين اليأس والأمل؛ ولكن لشد ما كان فرحبي
عند ما رايتها قادمة والحقيقةأﻧﻬا كانت مترددة مذعورة على رغم خلو المكان الذي يوحي بالطمأنينة
في خفية عن أعين الرقباء وبلغﺑﻬا الذعر أﻧﻬا مرت بي غير ملتفتة إلى يدي الممتدة كأﻧﻬا جاءت لغير
موعدي فتبعتها وحييتهاوطمأنتها حتى قالت لي مضطربة:
" لا أدري كيف جئت.. كيف أطعتكم أنني مضطربة..." فهدأت خاطرها وسكنتاضطراﺑﻬا
ولاطفتها بما أوتيت من بيانومران وحماس حتى أفرخ روعها واطمأنت.
لقد تحدثنا طوي ً لا جدًا ولوأردت أن أسطر لك ما دار بيننا ما انتهيت وما وسعتني الأسطر؛
فحسبك أن تعلم أﻧﻬا فتاةجميلة رشيقة حلوة المعشر مهذبة الطباع وأن كانت تغلب عليها حدّة
الإحساس وتوقد العاطفةوالذهاب مع الخيال. وقد حامت بمهارة حول موضوع الزواج فجاريتها بخفة
ولباقة لا ﺗﻬويان ﺑﻬا إلىقرار اليأس ولا تعلوان ﺑﻬا إلى عقد الميثاق وعند الافتراق تناولت منها قبلة شهية
خلت لحلاوة جدﺗﻬا أﻧﻬا أولقبلة تنالها شفتاى....."
أنتهي الأمر وتبددت الأحلاموخابت الآمال وقضت على قلبه الذي أنتهي طوي ً لا بأفراح الحب
أن يتجرع آلام اليأس والخيبة.
وانقطعت عنه رسائلها ولكنهكان على علم متصل بأحوالها من رسائل صديقه التي جاءته تترى
وقد كتب إليه في إحداها:
"أنا – باختصار – سعيد جدًا فحياتي مليئة بالبهجة والمسرة، وعائدة خير عزاءعن الوحدة
والوحشة في هذا المنفي السحيقوأني كلما أذكر أني سأحرم هذه المتعة بعد شهر يشيب شعري من
الهول وأضمها إلى صدري بشغفوألتهم منها قبلات ملتهبة كأني أختزن منها ما أعود إليه عند الفراق.
أما هي فتعتقد أﻧﻬا لن تعودإلى القاهرة أو أﻧﻬا تعود لكي ترجع إلى إلى الأبد فمن يدريها أن لي خطيبة
تنتظرني في القاهرة من سنواتطويلة...
وﺑﻬذه المناسبة أقول لك أنعائدة من اللاتي وهبهن الله دلا ً لا وفتنة ولكنها على قدر غير هين من
الاستهتار والترق أما خطيبتيشابة حيية هادئة الطبع وعلى خلق عظيم وأني أدخرها للزواج وأنا
سعيد".
وكتب إليه في رسالة أخرى:
"معذرة أيها الصديق عن تأخير غير مقصود؛ والحق ماذا أقول لك ؟ .. فالحياةالجميلة هي
هي...لقاء فأحاديث فمداعباتفتقبيل وعناق فوداع ولقاء. أﻧﻬا غدت مجنونة بي وكلما مرت ساعة
اشتد ﺑﻬا الجزع وتكاد تنطقجوارحها: أن اذهب إلى والدي وخاطبه في حبنا لأكون كون لك طول
العمر.
أﻧﻬا أمنية طبيعية ولكن ما كلما يتمنى المرء يدركه..."
ثم كتب إليه بعد حين:
"قومت الألفة تلعثم الحياء وصيرت التلميح تصريحًا وأمست عائدة تلح على أنأكلم أباها لتتخذ
علاقتنا الصبغة الشرعيةالمقدسة وكانت حياتي تكون السعادة نفسها لولا هذه المنغصات.
والحق أنى أجد بين يديها سادةصافية جعلتني شديد العطف عليها وبعثت في الضمير ألما مبرحًا.
وأنه ليسوءني ما أبيت لها مننية الغدر والهجر لأني في الحقيقة لم أر فيها أكثر من ملهاة ممتعة أسكن
إليها في هذا المنفي القصى.وما أشبه غرامي هذا بغرام الرحالة الجواب تتعدد وعوده تعدد ما يجوبه من
البلدان. وما يثير النفس ياصديقي أني – أول أمس على أثر عودتي من لقاءها – جلست إلى مكتبي
شاردًا أقلب بعض الكتب فماراعني إلا ديوان شوقي تنشق صفحاته عن صورة حفظتها فيه وكدت
أنساها هي صورة خطيبتي بوجههاالصبيح الجميل وقد سطر على ظهرها بخط جميل " تذكار الوفاء"
فأنه سوط عذاب ألهبني نارًَاألا فليغفر الله ما تقدم من ذنبي وما تأخر أيتها الحبيبة والحق لقد اضطربت
فؤادي وألقيت على الصورة نظرةذعر سريعة ثم أخفيتها عن عيني أو أخفيت عيني عنها لأنه وقع في
نفسي أﻧﻬا تعلم بخبيئتي وأﻧﻬاتصوب نحوي نظرة لا تعيش أمامها الخيانة ".
وكتب إليه في رسالة أخرى يقول:
"لست فتى عصريا كما كنت أعتقد ولو أني كنت كذلك لما هالني الغدر ولا كبرتعلى نفسي
الخيانة ولسهل على اصطناعالوداد للفتيات اصطناع تحيات الصباح والمساء لهذا تجدني معذبًا موزع
القلب فلا أنا بالراضي علىنفسي لأني نكثت ميثاق خطيبتي ولا أنا بالسعيد بما ألقى من حب عائدة
التي رماني تفانيها في هاويةمن الندم.
ولا يخفي عليك أن الملل عرفطريقه إلى نفسي وأنب بت منه في سقام؛ وقد كان ذلك مقدورًا
ولكن ما الذي عجل به ؟ ..لعله ذكرى خطيبتي أو لعله أني أقبلت على مائدة إقبال مفهوم جائع
فامتصصت حلاوﺗﻬا في رشفة أوربما كان ذلك لأن جمالها طلاء لا يخفي من ورائه شخصية ذات ﺑﻬاء
وجلال ".
ثم كتب:
"أمسى اللقاء غير ذي متعة لأني من ناحية بت أغاني من السأم وإرهاق الضمير،ومن ناحية
أخرى فالفتاة تصر على مخاطبتيفي شأن الزواج ولا تكاد تصبر عن هذا الموضوع فرمت بي في الحرج
والحيرة وينتهي موعد اللقاءونحن لم نفرغ من الجدل العقيم والتضييق السقيم والاعتذار والتهرب
المفضوحين".
وأخيرًا كتب إليه يقول:
"لأول مرة أخلف الميعاد وأني لأعذر نفسي وأغبطها وأرجو أن تفهم الفتاة أنهذا مني اعلان
بالقطيعة ولم يكن من هذا بدبعد أن بلغنا في علاقتنا موضعًا ينبغي أن يتقرر فيه المصير فإما إلى يمين وإما
إلى شمال وما كان ينبغي لي أنأختار من جديد وما أحببت ذلك قط فأن خطيبتي تنتظر أوبتي بفارغ
الصبر وهي أكرم على نفسي منهذه الفتاة التافهة الثرثارة التي لم يميزها الله إلا بمظاهر الجمال المبتذل لا
يلبث أن يتبخر أثره فيالهواء. ومهما يكن من الأمر فلن ينقضي أسبوع حتى تكون الآنسة عائدة في
طريقها إلى حيث ألقت "
قرأ جميع هذه الرسائل – رسائلصديقه وقاتله – بإمعان شديد
وكانت تتسلط على نفسه في ذلكالوقت عاطفتان: عاطفة حزن عميق وشعور حاد بالخيبة
والغيرة واﻧﻬيار الأمل جعلتهلا يذوق لذة في اليقظة ولا راحة في السهاد وعاطفة تشف وانتقام أن تنتهي
ﺑﻬا الخيانة إلى مثل ما انتهتبه الحال من خيبة أمل واﻧﻬيار صرح سعادة...
ولم يفرط في واحدة من هذهالرسائل التي سجلت تاريخ أكبر هزة عنيفة امتحن ﺑﻬا شبابه فجمعها
في رزمة وحفظها في حق عاجيجميل ووضعها في مكان أمين وأنتظر...
جاءته رسالة مقتضبة من عائدةنفسها تعلنه بقدومها وترجو أن يذهب للقاؤها في موعدهما
المعهود عند العصر...
وفكر في أمره طوي ً لا تفكيرمن تسيطر عليه عاطفة مسمومة ونفس جريحة حتى أنتهي من أمره إلى
تدبيرفذهب إلى الموعد فيالساعة المعهودة ولم ينتظر هذه المرة لأنه وجدها في انتظاره واستقبلته بيدين
مفتوحتين وابتسامة مشرقةفضمها بين ذارعيه ولثم شفتيها وهو يبتسم ابتسامة كلفته غاليًا من الجهد
وضبط النفس.
وجلسا إلى نفسيهما كما كانتيفعلان في الأيام الخوالي السعيدة وسمعها تقول بفرح فائض:
"وأخيرًا"
فردد قولها: "وأخيرًا" ثم نظر إليها بعينين مبتهجتين تخفيان دهشة وقال لنفسه: يا عجبًا !ما
أقدركن أيتها النساء علىإخفاء مشاعركن وتكلف ما ليس بكن !
وانطلقت هي تقول:
"أتستطيع أن أخبرك كم ثانية غبتها عني طوالي هذه المدة الثقيلة لا أرجعهاالله ".
"الذي يبدو لي أن استغراقك في حساب الزمن شغلك في الكتابة إلى.
"أتسخر مني... آه لو تعلم كم كانت تكلفني الرسالة أكتبها إليك ! .. كنتأتسلل إلى مكان
قصي بالبيت كي أخفي نفسي عنأعين أبناء عمي... فيجدون في أثري ويبددون عزلتي ويفزعون
أخيلتي المنسجمة وعواطفيالحارة فإذا انتهيت منها اخترت كيف أسلمها إلى صندوق البريد".
"ألم يكن الخروج هينًا عليك..."
"أحيانًا مع عمى".
"لم لم تخرجي في الصباح وعمك في عمله والجو خال ؟..."
"لو فعلت لكان أمرًا مثيرًا... والشبان هناك جائعون أراذل عديمو الشرف..."
“يا سلام...!"
"نعم يا عزيزي..."
فهز كتفيه وقال وهم ينعم فيهاالنظر:
"أرى عذرهم بينا... فمن يطالع هذا الوجه الجميل ولا يقهر على الحب قلبه ولكنماذا صنعوا
معك حتى استحقوا عندك هذاالحكم القسي ؟"
فصمتت لحظة ثم قالت:
"أﻧﻬا صغائر مألوفة لاينى عنها الشبان... ولكنها ليست بذي بال... فلندع هذاالآن.. فاعتقادي
أنه لدينا ما يلذ لنا حديثهأكثر من هذا..."
“طبعًا... طبعًا... ولكن وا أسفاه قد قدر على أن أحرم هذه اللذة الليلة...لأن أمي مريضة
وينبغي أن أكون إلى جانبهاسريعًا فلنؤجل هذا الحديث الممتع إلى المرة القادمة.
فنظرت إليه قلقة وسألت:
"مالك ؟ لست كعهدي بك ! تقول أن أمك مريضة ؟ لا باس عليها ... أمضطر أنت إلى
الذهاب إلها حا ً لا ؟"
أنه يحس برغبة شديدة تدفعهإلى الانفجار لينفس عن صدره بعض غليانه المكتوم وحقده المدفون
ويود لو يجبه هذا الرياء بمايمزق قناعه ويهتك ستره ويفضح شناعته لو فعل ما جنى على الرحمة والعدالة
فمن حقه أن يصب جام غضبهويثأر لآلام قلبه ويمحق الخيانة والمكر السيئ.
ولكنه كان قد أنتهي من أمرهإلى مرفأ لا يريم عنه وكان بطبعه هادئا رزينا كتومًا يبذ فيه العقل
الهوى وتتغلب لديه الحكمة علىالثورة فغالب دواعي الغضب في نفسه حتى اسكنها وقال ﺑﻬدوء
غريب:
"أني تعب مهموم مكدود الذهن ولولا شدة توقي لرؤيتكما هان علىّ أن أغادر أميوهي طريحة
الفراش... فلنفرغ من هذااللقاء ولو على مضض... والآن اسمحي لي أن أقدم إليك هدية جميلة: هذا
الحق العاجي... ورجائي ألاتمسّيه إلا حين خلوتك إلى نفسك في غرفتك لتحظى بالمفاجأة السعيدة في
غيبة عن أعين الرقباء.. و إلىاللقاء القريب أيتها الحبيبة.
الدلال؛ أما الوداع أماالرحيل إلى قنا فهذا أمر جديد يدفع إلى نفسي شعورا بالحزن لا عهد لها به فهلا
عدلتِ عن هذا السفر....؟"
"لو كان الأمر إلى ما رغبت نفسي أدنى رغبة في السفر فما أحفل بقضاء الشتاءفي أعلي الصعيد
بعض احتفالي بالقرب منك كيماأواصل هذا اللقاء السعيد؛ ولكن ما حيلتي وهذا ما يريده أبى ويفعله
منذ أحيل إلى المعاش. ولقداعتاد أن يمضي شهرًا أو شهرين من الشتاء في قنا عند عمي الدكتور..".
"يستطيع عقلي أن يتصور المعجزات ولكن لا أستطيع أن أتصور ما عسى أن تكونعليه حياتي
هذين الشهرين فهذا الحب غدًاحياة لشعوري وهذا اللقاء أمسي ألفة لنفسي أجد فيها راحة بعد تعب
وعزاء عن شوق دائم فما عسى أنأصنع.”كيف.ما يكون زادي وسلوتي...؟"
فوضعت يدا خمرية ناعمة علىكتفه وداعبت بأطراف أناملها خده وهمست في أذنه:
"هذا شعوري وهذا حزني ولولا كراهيتي للعزاء لنصحت لك بالتعزي والتلهي، فليسأمامنا سوى
الصبر الجميل حتى ينطوي دهرالفراق ويتصل حبل اللقاء... ومع هذا فما أسعدك وما أبأسني..."
"كيف....؟"
"لن أسعد بقراءة كلمة لك طوال مدة غيابي لأنك لا تستطيع أن تكتب إلى أما أنتفتستطيع أن
تطلع على همسات روحي كلمامكنتني الفرص من اختلاس الكتابة إليه.... فأينا أسعد حظا...؟"
"من تؤاتيه فرص التعبير فيخفف عن مراجل عاطفته".
وهنا ظللت وجهه سحابة كدروسألها بعد تردد:
"هل لك أبناء عم ؟ ....."
فابتسمت ابتسامة دلت على أﻧﻬاسرت للقلق الذي بعث هذا السؤال وأجابته:
"نعم لى.... ولكنهم لم يجاوزوا عهد الطفولة لو كان الأمر كما تتوهم ما أوجبأدنى خوف أيها
الرعديد الغيور... والآن هاتفمك أودعك... وهيا نقول معًا هذه الكلمة المروعة التي تفرع لها
القلوب:
"أستودعك الله...."
من الغد يصبح له في قناحبيبان عزيزان: حبيبة القلب عائدة، وصديق الصبا وزميل عهد الدراسة
الأستاذ أحمد مرزوق المدرسبمدرسة قنا ولكنه بينما يتصل بصديقه بالكتابة فهو محروم بحكم الظروف
من تمام هذا الاتصال الروحيبحبيبته لأن حبهما ما يزال سرا خفيًا لما يَدْر بأمره الأهل...
وانقضت أربعة أيام على سفرعائدة ثم وصله منها كتاب جاء فيه:
"حبيبي حسنى !
أعجب لهذه الوحشية كيف تجثمعلى صدري وأنت معي... نعم أنت معي لم تفارقني لحظة سواء
في ضجيج النهار أو في سكونالليل؛ معي وأنا أرسل الطرف من نافذة القطار أشاهد الحقول الممتدة
وأشجار النخيل المبعثرة؛ معيوأنا بين أهل عمي أتلقى الأحاديث وارد عليها وأضاحك هذا وأسمع
لذاك؛ معي في كل مكان وكل حينفلا عجب لنفسي بعد ذلك أن هزها الحنين إليك أو استشعرت
وحشة وضيقًا في البعد عنك، أوألهبها الشوق عذابًا وجوى.
وأرجو ألا تتهمني بالتكاسل عنالكتابة إليك فبيت عمي عامر بالأطفال وهم لا يتركونني لحظة
أخلو إلى نفسي؛ وقد انبعثتكلمات هذا الكتاب من شعوري وامتلأ ﺑﻬا عقلي وتمثلت في حواسي
وحفظتها عن ظهر قلب قبل أنتؤاتيني الفرص فأسطرها لك خلسة على ضوء القمر المتسلل من نافذة
حجرتي والعيون قد أغمضها عنيالمنام.فاعذرني أن أن تأخرت عنك رسائلي وارجع أن شئت إلى قلبك
فاعتقادي أنه يملى عليك عنلساني ما أحب أن أقوله لك دائمًا.
أما عن قنا فجوها دافئ جميلوخلا ذلك فنحن في منفي ولولا ما يربحه أبي فيها من صحة وعافية
ما تركته يسكن إليها لحظة منالزمان ".
فأخذ من الكتاب كل ما استطاعأن يمنحه من العزاء والسلوى والسعادة.
وكان صديقه مرزوق لا نقطع عنمراسلته وأن خلت كتابته من الطرافة والجدة فهي التحيات
المحفوظة وبث الأشواق والتلهفعلى أدبار العام الدراسي وإقبال العطلة الصيفية إلا أنه أضاف إلى
هذه المحفوظات في آخر كتاب لهما نصه:
"طالما قلت لك أني أعيش في قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يخلق الله منه أمناحواء لا يقع بصري
على وجه امرأة قط وأن كنت أرىأحيانًا بعض الأصدقاء يشيرون إلى كتلة من الثياب السوداء الملفوفة
تسير كعمود من الدخان الكثيفوأسمعهم يقولون: أنظر إلى المرأة... ولكن وقع بالأمس ما يعد حدثًا
تاريخيًا في حياة قنا إذ حضرالدكتور سامي حسني مفتش الصحة إلى البستان العمومي وفي صحبته غادة
جميلة سافرة الوجه فهز البلدوزلزل كياﻧﻬا. أنه رجل جسور لا يعبأ بآراء المتزمتين وتجده دائمًا على
استعداد للرد على تطفلالمتطفلين بما يجعله مث ً لا وعبرة ولم يلبث أن شاع الخبر وملأ الأسماع فهرع
الشبان الموظفون من مدرسينومهندسين وكتبة إلى البستان وهم يسوون أربطة الرقبة ويحكمون أوضاع
الطربوش على رؤوسهم فلو رأيتالبستان حيث ذاك لحسبته حديقة غناء في مصر الجديدة أو قصر
النيل.
أﻧﻬا شابة جميلة تحمل فيطياﺗﻬا عطر القاهرة العبق فليهنأ قفر قنا ﺑﻬذا القطر العذب...."
فخفق قلبه لدى مطالعة الكتابولم يداخله أدنى شك في معرفة صاحبة الشخصية الجميلة التي
أثارت لوعة الشباب في قنا.
يا له من كلام يحمل فرحًاوألمًا والألم فيه أكثر ! أيجوز أن تسعد قنا ومن فيها بحبيبته ويبقى هو في
القاهرة تسيل نفسه حسراتعليها...
وهم أن يكتب لصديقه كتابًايعلنه فيه بأن الفتاة التي هز مقدمها قنا هي حبيبته اليوم ثم خطيبته
وزوجه غدًا ولكنه جفل من هذاالإعلان ووجد رغبة خفية أن يكتمه إياه وأن يطلب منه أنت يوافيه
بأخبارها التي تستحق الروايةوالحديث.
لقد تردد لحظة وطرح على نفسههذا السؤال: ألا يعد هذا تجسسًا منه على حبيبته؟
وهل يجوز هذا في شرع المحبين؟ ... أو ليس الأفضل أن يربأ بنفسه عن أن يضع صاحبته موضع
الاﺗﻬام والظنة ؟...
ولكن عاطفة الندم هذه لمتستطع أن تقهر عواطف قلبه الجياشة السوداء فطردها من نفسه
وكتب إلى صديقه بما أملتشكوكه من بادئ الأمر.
وبعد حين وصله كتاب ثان منصديقه جاء فيه عن عائدة مايلي:
"تغيّر كل شئ في قنا وكل شئ في حياتي. لم تعد قنا قبرًا موحشًا فاغرًا فاهمكشرًا عن أنيابه؛ ولم
تعد حياتي سأمًا ثقي ً لا متصً لا. كيف لا يكون هذا وأنا مطمئن إلى أني سأحظى أصيل كل يوم برؤية
ذلك الوجه السافر المبتسمالذي يحيى موات النفوس ويبعث مصفر الأمل... ما أجملها وما أعذﺑﻬا...
علمت الآن أﻧﻬا ابنة أخو مفتشالصحة، أو هذا ما علمته قنا عامة وعلمه شباﺑﻬا خاصة. أن جميع
العيون تلتهمها التهام الجوعفلعل هذه الضجة تثير الغيرة في نفوس الآباء الموظفين فتشجعهم على
الاستهتار بتقاليد الصعيدوأهليه وإبراز بناﺗﻬم للعيان ومهما يكن من الأمر فنحن الرابحون.
لا تخشى على أخيك من قهر، فهوبطل صنديد وشخصية لا يشق لها غبار وأن عينىّ لتنفذان من
بين العيون جميعًا وتجذبانعينيها إلى فصبرًا ولتعلمن بعد حين في أي مخبأ من مخابئ القدر كانت تنتظره
هذه المفاجآت !..."
ما هذا الذي يقول مرزوق من أنعينيه تجذبان إليه عينيها ؟ . أن لعيني مرزوق أن تجذبا كيف
تشاءان. أما عينا صاحبته فمابالهما تنجذبان وتستجيبان ؟ ... هلا يكون ذلك مجرد نظر برئ فسره
صديقه على ما يهوى غروره ويحب؟ .... أنه لا يشك أبدًا في إخلاص عائدة ولكن ينبغي ألا ينسى
أن لصاحبه عينين جميلتين يحسالناظر إليهما سخونة في أعصابه ولذعة في قلبه وهو – إلى ذلك –
مدرس محترم من حملة الدبلوماتالعالية ومن ذوي المستقبل السعيد. أما هو فلم يزد على أن يكون
موظفًا صغيرًا كل مؤهلاتهشهادة البكالوريا ومستقبله مظلم محدود أفلا يكون لجميع هذه الفوارق أثر
في الحب ؟ ...
أنه يشعر بحزن عميق يخيم علىنفسه فيجعلها من الكآبة كنفس هرم متشائم ويحي بسم الغيرة
ينطلق من قلبه ويلوث دمه...أواه... أن أحلامه وآماله تترجح على كف رجيم...
وفي ذلك الوقت أتاه كتاب منعائدة فأنكب عليه بلهفة وتلاه مرة بعد أخرى ولم يكن يخرج في
معناه عن رسالتها الأولىفتزعزعت شكوكه وعاودته الثقة وذاق بعض الطمأنينة والشفاء، وجمّل غرور
صديقه إثم ما جنى عليه كتابهمن الشك والعذاب، ولكنه تسلم رسالة من صديقه بعد ذلك بأسبوع
جاء فيها:
"كن على يقين من أن العاطفة النامية لم تعد قاصرة على جانب واحد فعيناالفتاة – واسمها عائدة
– تقتحمان الحاضرين من الشبان وتستقران علىّ أنا. أني أطالع في وجهها عندحضوري سيما الشوق
والتطلع تحاول أن تخفيها بعدماكتراث مفتعل وأقرأ في عينيها استجابات خفيفة لرسائلي الصامتة الملتهبة
واستشف أحيانًا على فمهاابتسامات خفيفة ولعلها تخاطب عمها أو أحد أبنائه الصغار بصوت
مسموع وعي تعنيني. لا تدهشلأقوالي هذه فأني أطاردها في إصرار وأتتبعها في عناء وأخاطبها بصوت
مكتوم تنبئ عنه شفتايالمتحركتان وابعث إليها بإشارات الشكوى والرجاء وقد اقتربت منى مرة وهي
تلاعب كفلا من أبناء عمهاوسمعتها تقول له أو لي أن شئت: " دائمًا في أعقابي فماذا تصنع لو رجعت
إلى مصر ؟ ....”. فقلت لهاﺑﻬمس مسموع: " لعلك لا تعودين...." أﻧﻬا كلمة ذات مغزى خاص إذا
قالها شاب أعزب موظف مثلي.وقد كان لها الأثر الجميل. والآن أفتني فأنك خبير طبيب عالم بأحوالي
هل أقدم أم حسبي ما ذقت منلذة بريئة وأولى ظهري ودًا لن ينتهي بالتئام...؟ أن ثمرة الحب ناضجة
دانية تنتظر من يقطفها فمارأيك ؟ ...."
يا للظلام.... يا للألمالساخر... عبثًا يحاول دفع هذه الآيات بالشك والتكذيب فعائدة بلا ريب
هي التي لا تستطيع مغالبةالشوق بالتستر وعدم الاكتراث المفتعل وهي التي تحادث الغير وتعني اﻟﻤﺠدود
من الرجال وهي التي تجيبعيناها الإجابات الخفية...وهي تسكرها سيرة الزواج.
فيا للظلام ويا للخيبةالقاتلة... والأدهى أنه يريد منه أن يكون مستشارًا في مأساة قلبه...ولعله
يرجو أن يشير بما يقطع خيطالعنكبوت الذي يمسك بكفة أحلامه وسعادته... فيا للسخرية من
المستطاع أن يحاول إنقاذسعادته فيعلن صديقه بالحقيقة الساخرة ويضع آماله بين يدي شهامته وما
يعهد فيه من الإخلاص والمروءةولكن كبرياءه تأبى عليه أن يكون في حبه من المسترحمين السائلين وهو
يندفع برغبة جنونية نحو جحيمالعذاب كأنما غدًا يستطيب النار الموقدة؛ وأبى إلا أن يعرض حبه لأقسى
امتحان. فأما إلى نعيم الطمأنينةوإما إلى أهوال العذاب وعليه فقد تمالك وكتب إلى صديقه:
"إذا كانت ثمرة الحب ناضجة فاقطفها بلا تردفان حكمة الدنيا لنذوب حسرة علىثمرة حب
ناضجة يزهد فيها الإنسان أقدمولا تبال بالنتائج البعيدة وتمتع بالحب في منفي قنا ولا تحملن نفسك
هموم التفكير في الغد ولاتغفل عن تزويدي بكل جديد فأني أصبحت من تتبع حبك على حب شديد
."
وأنتظر رد صاحبه بصبر نافذوجزع لجوجحتى وافاه منه كتاب جاء فيه عن عائدة مايلي:
"بوركت من حكيم سديد الرأي لقد اتبعت نصحك أيها الأخ وضربت لها موعدًا همسًاووافيت
إليه في صباح اليوم الثاني وأناحائر بين الشك واليقين بين اليأس والأمل؛ ولكن لشد ما كان فرحبي
عند ما رايتها قادمة والحقيقةأﻧﻬا كانت مترددة مذعورة على رغم خلو المكان الذي يوحي بالطمأنينة
في خفية عن أعين الرقباء وبلغﺑﻬا الذعر أﻧﻬا مرت بي غير ملتفتة إلى يدي الممتدة كأﻧﻬا جاءت لغير
موعدي فتبعتها وحييتهاوطمأنتها حتى قالت لي مضطربة:
" لا أدري كيف جئت.. كيف أطعتكم أنني مضطربة..." فهدأت خاطرها وسكنتاضطراﺑﻬا
ولاطفتها بما أوتيت من بيانومران وحماس حتى أفرخ روعها واطمأنت.
لقد تحدثنا طوي ً لا جدًا ولوأردت أن أسطر لك ما دار بيننا ما انتهيت وما وسعتني الأسطر؛
فحسبك أن تعلم أﻧﻬا فتاةجميلة رشيقة حلوة المعشر مهذبة الطباع وأن كانت تغلب عليها حدّة
الإحساس وتوقد العاطفةوالذهاب مع الخيال. وقد حامت بمهارة حول موضوع الزواج فجاريتها بخفة
ولباقة لا ﺗﻬويان ﺑﻬا إلىقرار اليأس ولا تعلوان ﺑﻬا إلى عقد الميثاق وعند الافتراق تناولت منها قبلة شهية
خلت لحلاوة جدﺗﻬا أﻧﻬا أولقبلة تنالها شفتاى....."
أنتهي الأمر وتبددت الأحلاموخابت الآمال وقضت على قلبه الذي أنتهي طوي ً لا بأفراح الحب
أن يتجرع آلام اليأس والخيبة.
وانقطعت عنه رسائلها ولكنهكان على علم متصل بأحوالها من رسائل صديقه التي جاءته تترى
وقد كتب إليه في إحداها:
"أنا – باختصار – سعيد جدًا فحياتي مليئة بالبهجة والمسرة، وعائدة خير عزاءعن الوحدة
والوحشة في هذا المنفي السحيقوأني كلما أذكر أني سأحرم هذه المتعة بعد شهر يشيب شعري من
الهول وأضمها إلى صدري بشغفوألتهم منها قبلات ملتهبة كأني أختزن منها ما أعود إليه عند الفراق.
أما هي فتعتقد أﻧﻬا لن تعودإلى القاهرة أو أﻧﻬا تعود لكي ترجع إلى إلى الأبد فمن يدريها أن لي خطيبة
تنتظرني في القاهرة من سنواتطويلة...
وﺑﻬذه المناسبة أقول لك أنعائدة من اللاتي وهبهن الله دلا ً لا وفتنة ولكنها على قدر غير هين من
الاستهتار والترق أما خطيبتيشابة حيية هادئة الطبع وعلى خلق عظيم وأني أدخرها للزواج وأنا
سعيد".
وكتب إليه في رسالة أخرى:
"معذرة أيها الصديق عن تأخير غير مقصود؛ والحق ماذا أقول لك ؟ .. فالحياةالجميلة هي
هي...لقاء فأحاديث فمداعباتفتقبيل وعناق فوداع ولقاء. أﻧﻬا غدت مجنونة بي وكلما مرت ساعة
اشتد ﺑﻬا الجزع وتكاد تنطقجوارحها: أن اذهب إلى والدي وخاطبه في حبنا لأكون كون لك طول
العمر.
أﻧﻬا أمنية طبيعية ولكن ما كلما يتمنى المرء يدركه..."
ثم كتب إليه بعد حين:
"قومت الألفة تلعثم الحياء وصيرت التلميح تصريحًا وأمست عائدة تلح على أنأكلم أباها لتتخذ
علاقتنا الصبغة الشرعيةالمقدسة وكانت حياتي تكون السعادة نفسها لولا هذه المنغصات.
والحق أنى أجد بين يديها سادةصافية جعلتني شديد العطف عليها وبعثت في الضمير ألما مبرحًا.
وأنه ليسوءني ما أبيت لها مننية الغدر والهجر لأني في الحقيقة لم أر فيها أكثر من ملهاة ممتعة أسكن
إليها في هذا المنفي القصى.وما أشبه غرامي هذا بغرام الرحالة الجواب تتعدد وعوده تعدد ما يجوبه من
البلدان. وما يثير النفس ياصديقي أني – أول أمس على أثر عودتي من لقاءها – جلست إلى مكتبي
شاردًا أقلب بعض الكتب فماراعني إلا ديوان شوقي تنشق صفحاته عن صورة حفظتها فيه وكدت
أنساها هي صورة خطيبتي بوجههاالصبيح الجميل وقد سطر على ظهرها بخط جميل " تذكار الوفاء"
فأنه سوط عذاب ألهبني نارًَاألا فليغفر الله ما تقدم من ذنبي وما تأخر أيتها الحبيبة والحق لقد اضطربت
فؤادي وألقيت على الصورة نظرةذعر سريعة ثم أخفيتها عن عيني أو أخفيت عيني عنها لأنه وقع في
نفسي أﻧﻬا تعلم بخبيئتي وأﻧﻬاتصوب نحوي نظرة لا تعيش أمامها الخيانة ".
وكتب إليه في رسالة أخرى يقول:
"لست فتى عصريا كما كنت أعتقد ولو أني كنت كذلك لما هالني الغدر ولا كبرتعلى نفسي
الخيانة ولسهل على اصطناعالوداد للفتيات اصطناع تحيات الصباح والمساء لهذا تجدني معذبًا موزع
القلب فلا أنا بالراضي علىنفسي لأني نكثت ميثاق خطيبتي ولا أنا بالسعيد بما ألقى من حب عائدة
التي رماني تفانيها في هاويةمن الندم.
ولا يخفي عليك أن الملل عرفطريقه إلى نفسي وأنب بت منه في سقام؛ وقد كان ذلك مقدورًا
ولكن ما الذي عجل به ؟ ..لعله ذكرى خطيبتي أو لعله أني أقبلت على مائدة إقبال مفهوم جائع
فامتصصت حلاوﺗﻬا في رشفة أوربما كان ذلك لأن جمالها طلاء لا يخفي من ورائه شخصية ذات ﺑﻬاء
وجلال ".
ثم كتب:
"أمسى اللقاء غير ذي متعة لأني من ناحية بت أغاني من السأم وإرهاق الضمير،ومن ناحية
أخرى فالفتاة تصر على مخاطبتيفي شأن الزواج ولا تكاد تصبر عن هذا الموضوع فرمت بي في الحرج
والحيرة وينتهي موعد اللقاءونحن لم نفرغ من الجدل العقيم والتضييق السقيم والاعتذار والتهرب
المفضوحين".
وأخيرًا كتب إليه يقول:
"لأول مرة أخلف الميعاد وأني لأعذر نفسي وأغبطها وأرجو أن تفهم الفتاة أنهذا مني اعلان
بالقطيعة ولم يكن من هذا بدبعد أن بلغنا في علاقتنا موضعًا ينبغي أن يتقرر فيه المصير فإما إلى يمين وإما
إلى شمال وما كان ينبغي لي أنأختار من جديد وما أحببت ذلك قط فأن خطيبتي تنتظر أوبتي بفارغ
الصبر وهي أكرم على نفسي منهذه الفتاة التافهة الثرثارة التي لم يميزها الله إلا بمظاهر الجمال المبتذل لا
يلبث أن يتبخر أثره فيالهواء. ومهما يكن من الأمر فلن ينقضي أسبوع حتى تكون الآنسة عائدة في
طريقها إلى حيث ألقت "
قرأ جميع هذه الرسائل – رسائلصديقه وقاتله – بإمعان شديد
وكانت تتسلط على نفسه في ذلكالوقت عاطفتان: عاطفة حزن عميق وشعور حاد بالخيبة
والغيرة واﻧﻬيار الأمل جعلتهلا يذوق لذة في اليقظة ولا راحة في السهاد وعاطفة تشف وانتقام أن تنتهي
ﺑﻬا الخيانة إلى مثل ما انتهتبه الحال من خيبة أمل واﻧﻬيار صرح سعادة...
ولم يفرط في واحدة من هذهالرسائل التي سجلت تاريخ أكبر هزة عنيفة امتحن ﺑﻬا شبابه فجمعها
في رزمة وحفظها في حق عاجيجميل ووضعها في مكان أمين وأنتظر...
جاءته رسالة مقتضبة من عائدةنفسها تعلنه بقدومها وترجو أن يذهب للقاؤها في موعدهما
المعهود عند العصر...
وفكر في أمره طوي ً لا تفكيرمن تسيطر عليه عاطفة مسمومة ونفس جريحة حتى أنتهي من أمره إلى
تدبيرفذهب إلى الموعد فيالساعة المعهودة ولم ينتظر هذه المرة لأنه وجدها في انتظاره واستقبلته بيدين
مفتوحتين وابتسامة مشرقةفضمها بين ذارعيه ولثم شفتيها وهو يبتسم ابتسامة كلفته غاليًا من الجهد
وضبط النفس.
وجلسا إلى نفسيهما كما كانتيفعلان في الأيام الخوالي السعيدة وسمعها تقول بفرح فائض:
"وأخيرًا"
فردد قولها: "وأخيرًا" ثم نظر إليها بعينين مبتهجتين تخفيان دهشة وقال لنفسه: يا عجبًا !ما
أقدركن أيتها النساء علىإخفاء مشاعركن وتكلف ما ليس بكن !
وانطلقت هي تقول:
"أتستطيع أن أخبرك كم ثانية غبتها عني طوالي هذه المدة الثقيلة لا أرجعهاالله ".
"الذي يبدو لي أن استغراقك في حساب الزمن شغلك في الكتابة إلى.
"أتسخر مني... آه لو تعلم كم كانت تكلفني الرسالة أكتبها إليك ! .. كنتأتسلل إلى مكان
قصي بالبيت كي أخفي نفسي عنأعين أبناء عمي... فيجدون في أثري ويبددون عزلتي ويفزعون
أخيلتي المنسجمة وعواطفيالحارة فإذا انتهيت منها اخترت كيف أسلمها إلى صندوق البريد".
"ألم يكن الخروج هينًا عليك..."
"أحيانًا مع عمى".
"لم لم تخرجي في الصباح وعمك في عمله والجو خال ؟..."
"لو فعلت لكان أمرًا مثيرًا... والشبان هناك جائعون أراذل عديمو الشرف..."
“يا سلام...!"
"نعم يا عزيزي..."
فهز كتفيه وقال وهم ينعم فيهاالنظر:
"أرى عذرهم بينا... فمن يطالع هذا الوجه الجميل ولا يقهر على الحب قلبه ولكنماذا صنعوا
معك حتى استحقوا عندك هذاالحكم القسي ؟"
فصمتت لحظة ثم قالت:
"أﻧﻬا صغائر مألوفة لاينى عنها الشبان... ولكنها ليست بذي بال... فلندع هذاالآن.. فاعتقادي
أنه لدينا ما يلذ لنا حديثهأكثر من هذا..."
“طبعًا... طبعًا... ولكن وا أسفاه قد قدر على أن أحرم هذه اللذة الليلة...لأن أمي مريضة
وينبغي أن أكون إلى جانبهاسريعًا فلنؤجل هذا الحديث الممتع إلى المرة القادمة.
فنظرت إليه قلقة وسألت:
"مالك ؟ لست كعهدي بك ! تقول أن أمك مريضة ؟ لا باس عليها ... أمضطر أنت إلى
الذهاب إلها حا ً لا ؟"
أنه يحس برغبة شديدة تدفعهإلى الانفجار لينفس عن صدره بعض غليانه المكتوم وحقده المدفون
ويود لو يجبه هذا الرياء بمايمزق قناعه ويهتك ستره ويفضح شناعته لو فعل ما جنى على الرحمة والعدالة
فمن حقه أن يصب جام غضبهويثأر لآلام قلبه ويمحق الخيانة والمكر السيئ.
ولكنه كان قد أنتهي من أمرهإلى مرفأ لا يريم عنه وكان بطبعه هادئا رزينا كتومًا يبذ فيه العقل
الهوى وتتغلب لديه الحكمة علىالثورة فغالب دواعي الغضب في نفسه حتى اسكنها وقال ﺑﻬدوء
غريب:
"أني تعب مهموم مكدود الذهن ولولا شدة توقي لرؤيتكما هان علىّ أن أغادر أميوهي طريحة
الفراش... فلنفرغ من هذااللقاء ولو على مضض... والآن اسمحي لي أن أقدم إليك هدية جميلة: هذا
الحق العاجي... ورجائي ألاتمسّيه إلا حين خلوتك إلى نفسك في غرفتك لتحظى بالمفاجأة السعيدة في
غيبة عن أعين الرقباء.. و إلىاللقاء القريب أيتها الحبيبة.