جورج سلوم - المهزوم.. قصة قصيرة

أوّاه يا أمّاه !!

لقد سبقوني .. وعدت إليك خائباً مهزوماً

مخذولاً متلعثماً بخطواتي باكياً بصمتٍ ذليل ، خجلاً من دموعي أكبتها خلف أجفاني خشية الشامتين .. ولكنّي أمامك سأفلتها من عقالها بلا خجل .

أين صدرك أدفن فيه رأسيَ المشجوج فأكتم في حناياه شهقات نشيجي .. وتلعبين بخصيلات شعري تلفلفينها .. وتحكحكين فروة رأسي فأغفو ككلبٍ منزليٍّ مدلل أنهكه النباح الوديع ، ولا ينبح عن جوع .. بل لأنّ الكلاب الشرسة تصول وتجول في حياض الدار ولا قدرة له على مواجهتها .. فيختبئ مذعوراً وينبح بما يشبه العويل

هل أنا جبانٌ يا أمي ؟.. لا لن تقوليها

وتحملينني إلى فراشي .. وقبل أن أستسلم للنوم أفتحُ نصف عيني وأطمئنُّ إلى وجهكِ السّمح يظللني ويحميني .. عندها فقط كنت أنام .. وأنام راضياً وكأنني ربحت جولتي الخاسرة .

أحنّ الآن إليك وأعود إلى بيتي مهزوماً تأكلني القشعريرة .. وأصيح دثّروني ولا من يرمي عليّ غطاءً يغمرني ويطمرني ويخفيني في قوقعة الهزيمة .

اليوم أنتِ في قبرك الموحش .. وصدرك البارد المتخشّب لا روح فيه .. هل أكسر أضلاعك لأدخل بينها؟

وأنا ورأسيَ الكبير محشوّان بالهموم ..وشعري الأشيب تدغدغين فروته كطفلٍ كبير ، وأمام قبرك الإنفراديّ لا دموع من عيوني الجافة .. ولا أنين من جوفي المليء بثمالات اليأس والفشل والخيبة.

أمام قبرك أجثو لا لأصلّي بل لأشكو وأقول ..

سبقوني يا أمي .. ويجب أن أصفّق لانتصاراتهم الجارحة لكبريائي المريض وعنفواني الكاذب .. لا لشيء إلا لأنّ اللعبة انتهت .. والنتيجة معروفة .. لقد خسرت وانتهى الأمر

لا مجال لتمديد الوقت واللعب بشوطٍ إضافيّ .. ولا إمكانية لإعادة المباراة لأنّ صافرة الحكم كانت قطعيّة ونهائيّة .. والنتيجة أعلنت على رؤوس الأشهاد .. لقد خسرت وخرجت من الميدان خاسراً كبطلٍ قديم سحبوا إكليل الغار عن رأسه وأعطوه للفائزين الجدد

لذا .. فلتعُد إلى أمّك حاسر الرأس .. ذليلاً مهزوماً

حتى التاريخ سيلفظك من ملاعبه .. وسيعيدون كتابة الصفحات لتمجيد الرابح الجديد .. قد يذكرونك في سياق الأخطاء والعثرات والثغرات التاريخية .. وقد ينسَونك في مزبلة التاريخ

لم أبقَ بطلاً إلا في ملعبكِ يا أمي .. تصفّقين لي كفارسٍ وحيد في الحلبة الفارغة .. وتقولين لي لا تبتئس فأنت البطل الظافر رغماً عن أنوفهم .. أنت القوي لأنك ابني .. وإن لم تنجح فذلك لأنّ الحظ لم يحالفك وطواحين الهواء كانت أقوى منك .. وتربّتين على كتفي وتزغردين وتهللين لي كفائزٍ بين يديك ولو كنت بالحقيقة خاسراً.

لا.. لا تنظري لاحتفالات تكريم الفائزين الجدد .. دعينا وأنتِ نجترّ انتصاراتنا القديمة ونبالغ فيها لا لشيء إلا لنأخذ جرعة من الرضى

لا تستمعي لمكبّرات الصوت تصمّ آذاني

يطلبونني بالإسم لأقدّم فروض الطاعة والموالاة للقيصر الجديد ، ليكون انتصارهم مضاعفاً .. وعليّ أن أطيع لأمشي في ركاب الخيل كالرّعاع يأتيهم الإيعاز بأن صفقوا فيصفقون .. طأطئوا فيطأطئون.. باركوا فيباركون

عيونهم تلاحقني ..

لا بل ويجب أن أهلل مع المهللين .. لا لشيء إلا لأنّ اللعبة انتهت وما بقي لي إلا أن أهلل للظافرين .. فاللعبة انتهى وقتها

اكذبي عليّ أيضاً وقولي أنت البطل .. لا لشيء إلا لأنكَ ابنيَ المنتصر !

ماذا أفعل ؟.. وكيف أقوم من كبوتي؟

لا قِبَل لي لمجاراتهم .. وأشعر أنّ الريح تهبُّ لمصلحتهم والملعبَ ملعبُهم والدار ديارهم وأنا غريب الدار في وطني .. وا أمّاه!

هذه هي الحقيقة المرّة وأنا خائبٌ فاشل ولو كنت ابنكِ المحبّب.. وميادين الخيل لا ترحم .. وصافرة النهاية أطلقها الحكم .. كطلقة غادرة في صدر الخاسرين .. لملمي ثمالاتك يا نفسي .. واستجمعي بقاياك .. واشتملي بعباءة الخيبة والإنطواء والندب في زوايا العزلة بعيداً عن الضوء .. فدموعك مخجلة مقرّحة للجفون وكفاكِ ما نلتِ من ابتسامات الشامتين وطبطبات المشفقين

بجانب قبرك أشتكي إليك .. قومي من رقادك .. وقولي لي كلماتك التي تبلسم جراحي كالعادة .. كلماتكِ التي أعشقها وتعيد الرجولة والطفولة إليّ بوقتٍ واحد

لقد خسرت .. وما عاد أحدٌ يراهن علي

كحصانٍ اعتبروه شاخ وباخ .. وابتلاه العجز في ميادين السَّبَق .. فانتبذوه في زريبة الخيل إلى زاوية العتمة .. فيتأخّرون بإطعامه حتى يطلبه بلسان الجوع وهوان الترجّي وماؤه الشروب قد لا يأتيه ، وسائس الخيل ما عاد مهتمّاً به ولا يعنيه .. لأنّ ربَّ الزريبة ما عاد يسأل عنه .

اتركوه في زاوية الإتلاف والضمور والإنطفاء .. عتّموا عليه

حتى الذّبح غير منصوح له ، فلحمُه المحقون بالهورمونات فاقدٌ للطعوم .

اتركوه يرى من نافذته كيف يدللون الفائز الجديد ويلمّعون جلدته ويدهنونه بالزيت ويمشطون ذيله ويقلّمون أظافره .. واتركوا له الباب مفتوحاً ليهرب إلى شأنه

اتركوه يرى حفلات زفاف الخيل .. وكيف يأتون للفائز بالفرسة الشابة جاهزة للتلقيح ويهللون له إن امتطاها .. ويركلونها وينعرونها ويضربونها إن لم تمكّنه من ظهرها البكر .. يريدون نسلاً مستنسَخاً من الفائز فقط .. والخاسر دعوه يعضّ أسنان الخيبة والشهوة التي لا تُستَجاب .. اتركوه يحفحف أفخاذه الشبقة ببعضها ، ومناكبه بالجدران الخشنة ويذبُّ الذباب عن وجهه الدبق بذيله الأشعث .. فيموت في غيظه

أمي .. سأهرب من زريبتهم التي ولِدتُ فيها .. ما عدت أرى نفسي منتمياً لها .. ما عادت تعنيني .. سأهاجر إلى الحقول الخضراء المفتوحة على الشمس .. فأشرب من برك الماء المطريّ ولو كانت آسنة .. سأروي ظمئي من مياه غريبة وأعبّ منها فقد تكون ثمالاتها أنظف من أوعيتهم المغسولة .. لأنني عندها سأشرب بحرّية .. وأقضم من الكلأ البرّي ولو كان مشوكاً .. ثم أجري في مضامير الحرية بدون حدود المضمار الذي ارتسموه .. بدون جمهور المراهنين على السابق واللاحق .. ثم أفترش الأرض إن تعبت .. وأتقلّب على تربةٍ نديّة ولا أرى جدراناً مبنيّة

أمي .. لا تخافي عليّ من الذئب إذا جنّ الليل .. فما أحيلى الموت بعد مطاردة وحشية .. لا تخافي ولو أحاطت بيَ الأنياب والمخالب .. عندها سأخضع لشريعة الغاب الربّانية .. وأخرج من شريعة الزريبة الحضارية وقانون السائس الذي لا سياسة له

أمي .. لا تخافي من حارس الزريبة إن هربت .. لن يطلق عليّ رصاصاته لأنه مكلّف بحراسة الفائز فقط وحراسة السائس من الكلاب الشاردة .. لذا تركوا ليَ الباب مفتوحاً

بإذن الله غداً سأسرج نفسي وأنطلق مع انبلاج الصبح وحقيبتي بظهري كحصانٍ بلا خيّال .. ولا لجام ولا هوية

وداعاً يا قبر أمي .. قد أعود إليكِ يوماً فأقرأ فاتحتي عند خاتمتك

ما أجمل وقع حوافري في البريّة .. موسيقا حقيقيّة .. وغبارٌ يتطاير خلفي .. في سباقي المجنون متجاوزاً كلّ الحدود المرسومة والأعراف المرعية .. انظروا وثَباتي فوق الحواجز الصخرية والخنادق المحفورة والموانع والأسلاك الشائكة .. لقد تجاوزتُ أرقاماً قياسية في السموّ والعلو والإرتقاء عندما أصبحت بلا لجام وبلا مراقب وبلا جمهور وبلا ساعات رقمية تحسب الوقت لكل انفلات عن القيد ولكل خروج عن النص

انظري يا أمي .. والبرية كلها لي على امتداد ناظري حتى الأفق المرئي .. فلا ذئاب أرضية ولا عقبان سماوية .. ما أجمل رائحة الحرية .. سأصهل بأعلى صوتي فلن ينهرني السائس .. ولن يمتعضَ جارٌ لي قريب في الزريبة لأنه كان غارقاً في أحلام الفروسية الكاذبة .. لا تخافي لن يجذب صهيلي شهيّة الضباع والذئاب..

انظري أنا أدقّ الأرض بقدمي ووقعُ حوافري مرسومٌ ومحتفر ولن يمحوه أحد .. وداعاً يا حادي الخيل الآن ارتحت من مساميرك تدقها بقدمي لا لشيء إلا لتوحّد البصمة على الأرض بين خيول الزريبة تسوسها بسياستك .. ولن تهترئ حوافري لأنها لن تدوس على طرقكم المعبّدة بالزفت الأسود والإسفلت المعجون بالحصى..

ونمت هنيئاً والمطر الناعم يجلل شعر ناصيتي ويغسل وجهي المعروق .. لا ذباب هنا .. والعصفور الذي يسايرني لم يتساءل عن وجهتي .. يتنقل معي من حقل إلى حقل فإن لم يجد غصناً يحمله ارتاح على ظهري كراكبٍ للخيل لا تتدلى سيقانه في ركابي .. وترهزني مهاميزه في بطني أن انطلقْ .. ويصفعني سوطه على وجهي أن اذهبْ يمنة أو يسرة .. ولا يقول لي صهٍ

عندما غاب العصفور عن مرافقتي أحسست بأنني في منطقة محرّمة .. وأحسست بأقدامي ثقيلة وكأنني أغوص في وحلٍ مصطنع .. وبدأت أحسب حساباً لكل خطوة أخطوها..

ووجدت نفسي فجأة في شركٍ من الحبال القوية .. لقد وقعت في المصيدة !

وأحاط بي الغرباء ولم أفهم لغتهم الأجنبية ..

عندما تأكّدوا أن لا راكب لي من البشر ولست مأموراً من أحد باختراق الحدود .. وأنّ سرجي فارغٌ من الممنوعات .. اقتادوني كأسير إلى زريبة إلكترونية كل ما فيها يعمل بالكهرباء الذاتية .. أطعموني من معلباتهم مسبقة الصنع وشربت من زجاجاتهم العقيمة .. وأدخلوني من باب إلى باب ومن باب إلى باب ..وألبسوني ثيابهم الزرقاء .. وساقوني في اليوم الثاني إلى العمل فوجدت نفسي بين قطعان مستأنسة من الحمير والبغال يعملون بصمت..

لن أصهل بعد الآن يا أمي ..

فمهما صهلت لن يعتبروني حصاناً

ولن يسمحون لي بالجري ولا السباق فما عاد تصنيفي حصاناً عندهم .

وبين الفينة والأخرى .. كنت أحلم بفرسة شقراء مهفهفة ممّن كنت أرمقهنّ خلف السياج .. فأغمزها وترتكس لي .. ولم يُسمَح لي بأن أغمز من طرفها .

أنا حصانٌ عربيٌّ أصيل أيها الأجانب .. وكم كنتم تدفعون لاستيراد حصان عربي أصيل .. لكنّ زماننا الصعب جعل خيولنا تهاجر إليكم صاغرة بلا ثمن

وداعاً يا قبر أمي .. قد لا أحظى بتقبيل شاهدتك البيضاء ثانية

كم أحنّ حتى إلى مقابر قومي المهجورة .. والمخيفة .. والفوضوية والعشوائية .. أشتاق إلى رائحة زريبتكم وبخور روثكم .. زريبتكم كانت أكثر حناناً يا بني أمي .. على الأقل كنت أسمع الصهيل بالعربية فأطرب له.

*****************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...