" إن الوعي بالجنس الروائي في الممارسة الأدبية، لا يعتمد فقط مُسايرة حالات التطور التي تشهدها الكتابة الروائية، وتسجيل ملاحظات حول التحولات التي يعرفها نظام الكتابة وبنية الأسلوب، ورصد مظاهر التطور، ولكن تحقق هذا الوعي الروائي يظل مشروطا بقدرة القراءة الأدبية على استحضار ذاكرة الرواية وهي تُرافق زمن تطور الرواية.
ولعل بورخيس عبَر عن هذا المعنى بشكل بليغ، عندما اعتبر تاريخ الأدب هو تاريخ قراءة الأدب. تُصبح قراءة الرواية – حسب هذا التخريج- هي تاريخ الرواية، مع التذكير بالقراءة باعتبارها خطابا مُنتجا للمعرفة الروائية، وليس مجرد وصف للخطاب الروائي.
عندما نتبنى هذا المعنى في بناء الوعي الروائي في التجربة العربية، يُصبح السفر في الذاكرة الروائية، فعلا مُلازما للقراءة الروائية، لأن نصوص الذاكرة تُشكل محطات مهمة لتمثل سياق التحول/التطور الروائي من جهة، وتاريخ القراءة الروائية من جهة ثانية. نستحضر ـ ضمن هذا المعنى المعرفي- النص الأدبي الجزائري « حكاية العشاق في الحب والاشتياق» لمؤلفه محمد بن إبراهيم، الذي تم تأليفه سنة 1845، وظل يحيا في صمت تاريخي وهو مخطوط، إلى أن تم اكتشافه مخطوطا في المكتبة الوطنية الجزائرية ، من طرف أبو القاسم سعد الله، الذي عثر على المخطوط ونفض عنه غبار الصمت التاريخي، والإهمال النقدي، وأعلنه تحقيقا مكتوبا، وجنَسه رواية منشورة سنة 1977. إذا كان التركيز في هذا العمل يتم ـ في غالب الأحيان- في مستوى انتقال النص من وضعه المخطوط (سنة التأليف/المخطوط 1845) إلى وضعه المكتوب المُحقق (سنة التحقيق/ الكتاب 1977)، من خلال تحليل خطاب النص، وتفكيك مظاهر الرواية، من أجل إثبات شرعية « حكاية العشاق» الروائية، ومدى انتماء النص إلى الجنس الروائي، فإن اقترابا مختلفا لنص « حكاية العشاق» من مدخل تاريخ القراءة، يجعل هذا العمل مزدوج الدلالة في التعبير الروائي، أو بتعبير آخر، يقترح العمل شكلين من الرؤية تبعا لتطور ثقافة القراءة الأدبية، مع احتمال انفتاح النص على أشكال جديدة من الرؤى التي تُساهم في تطوير النقاش المعرفي حول وضعية الرواية في الثقافة العربية. تتحدد الرؤية الأولى من موقع نص « حكاية العشاق»، المخطوط في زمن تكوَن الرواية العربية، ووضعيته الفنية والبنائية والأسلوبية في دعم تأسيس الجنس الروائي في التجربة العربية. تأسيسا على خطاب قصة « حكاية العشاق» التي تنتمي إلى نمط ألف ليلة وليلة، تأتي « حكاية العشاق» الجزائرية استمرارا لنظام التأليف السردي التراثي العربي، من خلال عدة مقومات، نذكر منها اثنين: من جهة مقوم القصة التي تحكي قصة عشق جمعت بين ابن ملك أصابه حزن شديد لفراق والده، الذي ترك له وصية دعاه فيها بالتحلي بالأخلاق، والابتعاد عن العشق، وبين زهرة الأنس ابنة تاجر، اعتزلت الناس عند وفاة والدتها، ومن أجل إخراجها من الحزن، جلب لها والدها جواري، يعلمنها الشعر والغناء.
أما ابن الملك فقد اقترح عليه نديمه (حسن) الخروج للترويح عن نفسه. يحدث أن يسمع الأمير مصطفى ابن الملك طربا مقبلا من دار زهرة التي ستغرم بالأمير وهي عائدة من نزهة رفقة جواريها. يتحقق الوصال بين العشيقين، عبر الزيارات، والمراسلات ونظم الشعر، غير أن دخول عنصر راغبٍ في زهرة، سيُربك العشق، ويُحدث خللا في الحكاية، تنتهي بعودة الصفاء إلى الوصال بين الأمير وابنة التاجر. ومن جهة ثانية مقوم الراوي/السارد. فالقصة تنفتح سرديا بواسطة سارد يتخذ مواصفات الراوي في السرد التراثي العربي. يقدم السارد/الراوي النص بالحمدلة والبسملة وطلب مغفرة الذنوب.
بعد ذلك، يعلن عن ضميره المفرد المتكلم بتصريحه: « وبعد، أقول والله أعلم بغيبه وأحكم…». ليتضح من البداية أن النص يندرج في مساحة الكلام عبر منطق الكتابة. يُدعم موقع السارد بمواصفات الراوي التراثي، حضور تقنيات أسلوبية كثيرة مقبلة من نسق الكتابة السردية التراثية. ومع هذا المستوى من حضور النص باعتباره مخطوطا، تجعل الرؤية الأولى « حكاية العشاق» عبارة عن عتبة روائية، شكلت إلى جانب نصوص / عتبات أخرى أرضية تأصيل فن الرواية في التربة العربية، وتخصيب هذا الجنس الأدبي بمقومات السرد العربي.
أما الرؤية الثانية، فإنها تغتني بتطور الفكر النقدي الذي تزامن مع مرحلة تحقيق المخطوط كتابة سردية. لذا، فإن الوعي الروائي بنص « حكاية العشاق» سيختلف عن مرحلة المخطوط، بحكم تحولات تاريخ القراءة.
يقول محقق النص أبو القاسم سعد الله في مقدمة التحقيق : « عثرنا على رواية أدبية تاريخية مخطوطة برقم 1923 في المكتبة الوطنية في الجزائر عنوانها «حكاية العشاق في الحب والاشتياق وما جرى لابن الملك مع زهرة الأنس بنت التاجر»، وهي رواية تروى بمغامرات عاطفية جرت بين البطلين المذكورين، وقد كتبت بأسلوب رقيق جمع بين النثر الصافي الذي يكاد يكون فصيحا والشعر الملحون…». نلاحظ اعتماد التحقيق على مفهوم الرواية في تعيين « حكاية العشاق» بدون إكراهات التجنيس، أو ملابسات طبيعة السرد في هذا النص. وهذا راجع لكون زمن التحقيق كان مؤهلا لاستقبال النص باعتباره رواية بعيدا عن أسئلة التجنيس. فالمحقق تعامل مع النص باعتباره رواية، مع إضافة تعيينات فرعية حددها في المقدمة مثل « رواية شعبية جزائرية» و»أدبية تاريخية». تُشير هذه التوصيفات الفرعية إلى القراءة أكثر مما تشير إلى النص الذي يظل واحدا، غير أن الاقتراب منه يتجدد ويتحول، فيجعل النص أكثر قدرة على إنتاج الوعي الروائي. ولهذا، تقترب الرؤية الثانية من النص جاعلة منه رواية، تقع في ملتقى الأدبي – التاريخي والشعبي- المحلي / الجزائري، غير أنها تنتصر لروائية حكاية العشاق.
ولعل مظاهر سردية تسمح بهذا الانتصار، منها تراجع السارد بصيغة الراوي التراثي، الذي يتوارى خلف سارد آخر، يأتي مبطنا تحت صيغة: «قال صاحب الحديث» لنصبح أمام ساردين، أولهما ظاهر ومعلن عن ضميره، ويلتبس ـ أحيانا- مع المؤلف كما تدل على ذلك مؤشرات نصية، تتضح أكثر في نهاية النص، وسارد ضمني يسلمه السارد الظاهر سلطة السرد، ليقدم الحكاية بأحداثها، وأمكنتها وشخصياتها، كما يرتب المقاطع السردية، ويوزع الأدوار والكلام بين الشخصيات، ويعقد التواصل بين المقاطع الإخبارية، ويوظف من أجل ذلك، تقنيات سردية تعمل على تنظيم الحكي وترتيبه، مثل التلخيص من أجل اختزال المعرفة في صيغ تعبيرية مثل «وأخبرتها بجميع ما قال ابن الملك». كما يلجأ إلى الحذف، حتى لا يقع في التكرار، فيضمن لسرده الاسترسال والمتعة للقارئ. يشتغل هذا السارد في وضعية السارد الراوي، لهذا يمكن اعتبار نظام سرده عبارة عن زمن التخلص من نظام السرد التراثي. وربما هذا ما حدا ببعض الدارسين والنقاد إلى اعتباره «حكاية العشاق» ملتقى سرديا للمقامة والقصة والرواية.
تأتي أهمية نصوص العتبات الروائية كونها تمثل لحظة الاصطدام بين الأشكال والأساليب الفنية والأدبية التي تنتمي إلى حقب تاريخية متفرقة، ولذا ستظل ذاكرة ثقافية إلى جانب كونها ذاكرة روائية، تُوثق للحظات التحول التاريخي في المجتمعات العربية من جهة، ومن جهة ثانية لشكل حضور هذا التحول في التعبير الأدبي. عندما نقترب من حكاية العشاق مخطوطا نلتقي بوعي روائي يسمح لنا بتمثل مفهوم العتبة الروائية، وعندما نستقبل الحكاية وقد تحققت عملا سرديا فإن الوعي الروائي يتطور باتجاه البحث في شكل الرواية العربية وهي تخوض لحظة تشكلها. إن تاريخ الرواية العربية هو تاريخ القراءة في التجربة العربية."
زهور كرام
ولعل بورخيس عبَر عن هذا المعنى بشكل بليغ، عندما اعتبر تاريخ الأدب هو تاريخ قراءة الأدب. تُصبح قراءة الرواية – حسب هذا التخريج- هي تاريخ الرواية، مع التذكير بالقراءة باعتبارها خطابا مُنتجا للمعرفة الروائية، وليس مجرد وصف للخطاب الروائي.
عندما نتبنى هذا المعنى في بناء الوعي الروائي في التجربة العربية، يُصبح السفر في الذاكرة الروائية، فعلا مُلازما للقراءة الروائية، لأن نصوص الذاكرة تُشكل محطات مهمة لتمثل سياق التحول/التطور الروائي من جهة، وتاريخ القراءة الروائية من جهة ثانية. نستحضر ـ ضمن هذا المعنى المعرفي- النص الأدبي الجزائري « حكاية العشاق في الحب والاشتياق» لمؤلفه محمد بن إبراهيم، الذي تم تأليفه سنة 1845، وظل يحيا في صمت تاريخي وهو مخطوط، إلى أن تم اكتشافه مخطوطا في المكتبة الوطنية الجزائرية ، من طرف أبو القاسم سعد الله، الذي عثر على المخطوط ونفض عنه غبار الصمت التاريخي، والإهمال النقدي، وأعلنه تحقيقا مكتوبا، وجنَسه رواية منشورة سنة 1977. إذا كان التركيز في هذا العمل يتم ـ في غالب الأحيان- في مستوى انتقال النص من وضعه المخطوط (سنة التأليف/المخطوط 1845) إلى وضعه المكتوب المُحقق (سنة التحقيق/ الكتاب 1977)، من خلال تحليل خطاب النص، وتفكيك مظاهر الرواية، من أجل إثبات شرعية « حكاية العشاق» الروائية، ومدى انتماء النص إلى الجنس الروائي، فإن اقترابا مختلفا لنص « حكاية العشاق» من مدخل تاريخ القراءة، يجعل هذا العمل مزدوج الدلالة في التعبير الروائي، أو بتعبير آخر، يقترح العمل شكلين من الرؤية تبعا لتطور ثقافة القراءة الأدبية، مع احتمال انفتاح النص على أشكال جديدة من الرؤى التي تُساهم في تطوير النقاش المعرفي حول وضعية الرواية في الثقافة العربية. تتحدد الرؤية الأولى من موقع نص « حكاية العشاق»، المخطوط في زمن تكوَن الرواية العربية، ووضعيته الفنية والبنائية والأسلوبية في دعم تأسيس الجنس الروائي في التجربة العربية. تأسيسا على خطاب قصة « حكاية العشاق» التي تنتمي إلى نمط ألف ليلة وليلة، تأتي « حكاية العشاق» الجزائرية استمرارا لنظام التأليف السردي التراثي العربي، من خلال عدة مقومات، نذكر منها اثنين: من جهة مقوم القصة التي تحكي قصة عشق جمعت بين ابن ملك أصابه حزن شديد لفراق والده، الذي ترك له وصية دعاه فيها بالتحلي بالأخلاق، والابتعاد عن العشق، وبين زهرة الأنس ابنة تاجر، اعتزلت الناس عند وفاة والدتها، ومن أجل إخراجها من الحزن، جلب لها والدها جواري، يعلمنها الشعر والغناء.
أما ابن الملك فقد اقترح عليه نديمه (حسن) الخروج للترويح عن نفسه. يحدث أن يسمع الأمير مصطفى ابن الملك طربا مقبلا من دار زهرة التي ستغرم بالأمير وهي عائدة من نزهة رفقة جواريها. يتحقق الوصال بين العشيقين، عبر الزيارات، والمراسلات ونظم الشعر، غير أن دخول عنصر راغبٍ في زهرة، سيُربك العشق، ويُحدث خللا في الحكاية، تنتهي بعودة الصفاء إلى الوصال بين الأمير وابنة التاجر. ومن جهة ثانية مقوم الراوي/السارد. فالقصة تنفتح سرديا بواسطة سارد يتخذ مواصفات الراوي في السرد التراثي العربي. يقدم السارد/الراوي النص بالحمدلة والبسملة وطلب مغفرة الذنوب.
بعد ذلك، يعلن عن ضميره المفرد المتكلم بتصريحه: « وبعد، أقول والله أعلم بغيبه وأحكم…». ليتضح من البداية أن النص يندرج في مساحة الكلام عبر منطق الكتابة. يُدعم موقع السارد بمواصفات الراوي التراثي، حضور تقنيات أسلوبية كثيرة مقبلة من نسق الكتابة السردية التراثية. ومع هذا المستوى من حضور النص باعتباره مخطوطا، تجعل الرؤية الأولى « حكاية العشاق» عبارة عن عتبة روائية، شكلت إلى جانب نصوص / عتبات أخرى أرضية تأصيل فن الرواية في التربة العربية، وتخصيب هذا الجنس الأدبي بمقومات السرد العربي.
أما الرؤية الثانية، فإنها تغتني بتطور الفكر النقدي الذي تزامن مع مرحلة تحقيق المخطوط كتابة سردية. لذا، فإن الوعي الروائي بنص « حكاية العشاق» سيختلف عن مرحلة المخطوط، بحكم تحولات تاريخ القراءة.
يقول محقق النص أبو القاسم سعد الله في مقدمة التحقيق : « عثرنا على رواية أدبية تاريخية مخطوطة برقم 1923 في المكتبة الوطنية في الجزائر عنوانها «حكاية العشاق في الحب والاشتياق وما جرى لابن الملك مع زهرة الأنس بنت التاجر»، وهي رواية تروى بمغامرات عاطفية جرت بين البطلين المذكورين، وقد كتبت بأسلوب رقيق جمع بين النثر الصافي الذي يكاد يكون فصيحا والشعر الملحون…». نلاحظ اعتماد التحقيق على مفهوم الرواية في تعيين « حكاية العشاق» بدون إكراهات التجنيس، أو ملابسات طبيعة السرد في هذا النص. وهذا راجع لكون زمن التحقيق كان مؤهلا لاستقبال النص باعتباره رواية بعيدا عن أسئلة التجنيس. فالمحقق تعامل مع النص باعتباره رواية، مع إضافة تعيينات فرعية حددها في المقدمة مثل « رواية شعبية جزائرية» و»أدبية تاريخية». تُشير هذه التوصيفات الفرعية إلى القراءة أكثر مما تشير إلى النص الذي يظل واحدا، غير أن الاقتراب منه يتجدد ويتحول، فيجعل النص أكثر قدرة على إنتاج الوعي الروائي. ولهذا، تقترب الرؤية الثانية من النص جاعلة منه رواية، تقع في ملتقى الأدبي – التاريخي والشعبي- المحلي / الجزائري، غير أنها تنتصر لروائية حكاية العشاق.
ولعل مظاهر سردية تسمح بهذا الانتصار، منها تراجع السارد بصيغة الراوي التراثي، الذي يتوارى خلف سارد آخر، يأتي مبطنا تحت صيغة: «قال صاحب الحديث» لنصبح أمام ساردين، أولهما ظاهر ومعلن عن ضميره، ويلتبس ـ أحيانا- مع المؤلف كما تدل على ذلك مؤشرات نصية، تتضح أكثر في نهاية النص، وسارد ضمني يسلمه السارد الظاهر سلطة السرد، ليقدم الحكاية بأحداثها، وأمكنتها وشخصياتها، كما يرتب المقاطع السردية، ويوزع الأدوار والكلام بين الشخصيات، ويعقد التواصل بين المقاطع الإخبارية، ويوظف من أجل ذلك، تقنيات سردية تعمل على تنظيم الحكي وترتيبه، مثل التلخيص من أجل اختزال المعرفة في صيغ تعبيرية مثل «وأخبرتها بجميع ما قال ابن الملك». كما يلجأ إلى الحذف، حتى لا يقع في التكرار، فيضمن لسرده الاسترسال والمتعة للقارئ. يشتغل هذا السارد في وضعية السارد الراوي، لهذا يمكن اعتبار نظام سرده عبارة عن زمن التخلص من نظام السرد التراثي. وربما هذا ما حدا ببعض الدارسين والنقاد إلى اعتباره «حكاية العشاق» ملتقى سرديا للمقامة والقصة والرواية.
تأتي أهمية نصوص العتبات الروائية كونها تمثل لحظة الاصطدام بين الأشكال والأساليب الفنية والأدبية التي تنتمي إلى حقب تاريخية متفرقة، ولذا ستظل ذاكرة ثقافية إلى جانب كونها ذاكرة روائية، تُوثق للحظات التحول التاريخي في المجتمعات العربية من جهة، ومن جهة ثانية لشكل حضور هذا التحول في التعبير الأدبي. عندما نقترب من حكاية العشاق مخطوطا نلتقي بوعي روائي يسمح لنا بتمثل مفهوم العتبة الروائية، وعندما نستقبل الحكاية وقد تحققت عملا سرديا فإن الوعي الروائي يتطور باتجاه البحث في شكل الرواية العربية وهي تخوض لحظة تشكلها. إن تاريخ الرواية العربية هو تاريخ القراءة في التجربة العربية."
زهور كرام