انتهت المعركة الصغيرة التي أيضاً أمنحها بكرم لقب التافهة، حيث خضناها ضد المسلحين المتمردين غرب جبل مرة بإقليم دارفور، تحت سلسلة جبلية بغيضة لا ماء فيها، لا ظل، ولا حتى هواء يحرك عناد أشعة الشمس الحارقة العنيدة المرابطة على مراكز رؤوسنا.
ما زالت رائحة البارود تعلق في الهواء، أنين الجرحى وصرخات المصابين تتردد في الفراغ، مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو وكأنه في حداد أبدي لموت كل شيء في المكان، هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب.
مرهقين وخائفين من كل شيء، حتى من نصرنا السريع غير المتوقع واللا مفهوم؛ حيث ظللنا نتوقع الهزيمة أو النصر الصعب، كنا محاصرين ولا خيار لدينا؛ إما الموت البطيء أو الحرب، كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا وطعامنا ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين شرسين ماكرين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه وذئابه، نسمع أصواتهم وضحكاتهم، تصيبنا رصاصاتهم ولا نراهم، وفي أول هجوم يائس منَّا عليهم إنتصرنا، لا ندري كيف حدث هذا!
ها هي جثث موتاهم، وها هم جرحاهم يصرخون، الجثامين تنتشر في كل مكان، تغرق في بِرك من الدم المختلط بالرمال الساخنة الصفراء، موتى من كتيبتنا وجرحى أيضاً.
لم نقم بعمليات الدفن بعد، بل إننا لم نقم باستجواب الأسرى الجرحى بعد، وهو الشيء الذي كان علينا إعطاؤه الأولوية لكي نقرأ ميدان المعركة قراءة جيدة، وأن نتوقع ما سوف يكون عليه الحال، وهو من أبجديات دروس العسكرية.
لقد كنَّا مرتبكين وقلقين وأفكارنا في حالة تشتت تام، قمنا بوضع الجرحى تحت صخرة كبيرة تلتوى في شكل كهف صغير، ولكنه يمتد عميقًا في الجبلربما استخدمته بعض الوحوش وجرًا أيام أن كانت هنالك وحوش وحيوانات برية، تركنا الموتى يستأنسون بالغياب والشمس، رددنا لتأوهات جرحى المتمردين وندائهم ببعض الشتائم القلقة المتوترة، وربما الركلات، لكن موسى أو ما نسميه بموسى الرحيم قام بإسعاف كل الجرحى، لم يفرق ما بين عدوٍّ وصليح، دون إستثناء، بمهارة، بسرعة، بإتقان، بمسئولية، برحمة معهودة فيه وحده.
تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمرالدولية، هكذا كان يقول دائماً ، وكل شيء كان سيمضي على كل حال لولا أن الجاويش المهدي أصرَّ على قتل أحد الجرحى الأسرى، قال إنه يستحق الموت لسبب يعرفه هو وحده وسوف لا يخبر به: زول.
قيل فيما بعد أن الأسير الجريح أشار إلى المهدي بالأصبع الوسطى، كالعادة تصدى له موسى الرحيم؛ حيث إنه الشخص الوحيد الذي يتبنى كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسرى، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم إسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه وبلسانه وبيده أيضًا.
بدآ بمشادة كلامية حادة ثم تدافعا بالأيدي، ثم إستخدم الجاويش المهدي دبشك بندقيته، وبركلة بهلوانية ألقى موسى الرحيم على الأرض، وعندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة تدخلنا الستة عشر رجلاً وامرأتين لفضها والفصل بينهم.
كان المهدي قد حمل بندقيته معمرة وفي وضع إطلاق النار، واتخذ موضعاً حربيٍّا دفاعيٍاً هجوميٍاً خطيراً بالقرب من صخرة الجرحى، الذين نسوا آلامهم في الحال، توقفوا عن التأوه، الصراخ، طلب الماء وتبادل الوصايا.
أخذوا يحملقون بعيون زائغة مفتوحة إلى آخرها فينا، في المهدي، في موسى الرحيم المرمي على الأرض فاقداً الوعي، يصدر الآن أصواتاً غير مفهومة، تمثل إحتضار
فرصتهم الأخيرة في الحياة.
طلب المهدي من الجميع الجلوس و إلآ:
لحستكم كلكم واحد واحد.
جلسنا.
أمرنا بأن نضع أيادينا على رؤوسنا، وأن ننظر في إتجاه الشمال مقابلين إياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك:
زي الهوا.
فعلنا.
هددنا بأنه إذا تحرك أيٌّ منَّا أيةَ حركة، مُريبة كانت أم صَدِيقة، لأي اتجاه كان سوف:
أشربه.
أومأنا برؤوسنا أنْ:
فهمنا وأطعنا.
عندما سمعنا هوهوة الرصاصات، بالرغم من كل التهديد والوعيد، إتجهنا جميعاً في لحظة واحدة نحوه.
كان يدوس برجله على ظهر الأسير الجريح الذي يرقد مُيَمَّماً وجهه شطر الأرض ورأسه غارق في الرمل الأصفر الحارق تحت ثقل بوت وجسد المهدي. وفي ناحية قلب الأسير الجريح يطلق المهدي الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
ست رصاصات قاتلات نافذات من كلاشنكوفه، صمت الأسير الجريح نهائيٍّا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية وحقيقية، ولا شك فيها مطلقاً:
مات كما يجب أن يموت أسيرجريح، أطُلقتْ ست رصاصات من كلاشنكوف جاويش عجوز في قلبه: طاخ طاخ طاخ
طاخ طاخ طاخ.
عندما رفع المهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت نهض الأسير الجريح الميت؛ أغبر أشعث طويلاً مرعباً وصامتاً.
وقف المهدي مندهشاً فاغراً فاه في بلادة بيِّنة بائسة، مع عجزٍ كامل عن النطق أو التعبير.
عاجلَ الأسيرُ الجريح الميت المهديَ بلكمة واحدة قوية في رأسه فأرداه صريعاً على الأرض، بحركة أخرى جيدة قام الأسير الجريح الميت بقلب المهدي على ظهره ببطء.
وضع رجله اليمني على ظهر المهدي، أحنى الأسير الجريح الميت جسده في شكل قوس عملاق رهيب فوق جسد المهدي المسجي على الرمال.
أمسك الرأس بكفتيه الكبيرتين الملوثتين بالتراب، أدارها ناحية اليمين في رفق وعناية فائقتين، ثم بذات الرفق والعناية الفائقتين، أدار الرأس ناحية الشمال بهدوء وصبر، كأنه نطاسي عليم يدرس حركة عنق مريضه.
ثم في سرعة البرق وبمهارة شيطان رجيم حنى الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلى فرقعة عظام رقبة المهدي وهي تتحطم، مصحوبة بشخير عميق وقح، وما يشبه نغمة دو وازا منفلتة، ظل طنينها عالقاً في الهواء لزمن طويل، بينما كانت بعض أطيار الكلج كلج تغرد عابرة السماء العارية نحو الشرق.
رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطى في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ ثم مات مرة أخرى.
ما زالت رائحة البارود تعلق في الهواء، أنين الجرحى وصرخات المصابين تتردد في الفراغ، مربكة سخونة الهواء الساكن الثقيل الذي يبدو وكأنه في حداد أبدي لموت كل شيء في المكان، هذا المكان الذي كان جنة حقيقية قبل الحرب.
مرهقين وخائفين من كل شيء، حتى من نصرنا السريع غير المتوقع واللا مفهوم؛ حيث ظللنا نتوقع الهزيمة أو النصر الصعب، كنا محاصرين ولا خيار لدينا؛ إما الموت البطيء أو الحرب، كادت أن تنفد ذخائرنا ووقود عرباتنا، نفد ماؤنا وطعامنا ولم يستطع الطيران فك الحصار المضروب علينا من قبل محاربين شرسين ماكرين يعرفون المكان أكثر من ثعابينه وذئابه، نسمع أصواتهم وضحكاتهم، تصيبنا رصاصاتهم ولا نراهم، وفي أول هجوم يائس منَّا عليهم إنتصرنا، لا ندري كيف حدث هذا!
ها هي جثث موتاهم، وها هم جرحاهم يصرخون، الجثامين تنتشر في كل مكان، تغرق في بِرك من الدم المختلط بالرمال الساخنة الصفراء، موتى من كتيبتنا وجرحى أيضاً.
لم نقم بعمليات الدفن بعد، بل إننا لم نقم باستجواب الأسرى الجرحى بعد، وهو الشيء الذي كان علينا إعطاؤه الأولوية لكي نقرأ ميدان المعركة قراءة جيدة، وأن نتوقع ما سوف يكون عليه الحال، وهو من أبجديات دروس العسكرية.
لقد كنَّا مرتبكين وقلقين وأفكارنا في حالة تشتت تام، قمنا بوضع الجرحى تحت صخرة كبيرة تلتوى في شكل كهف صغير، ولكنه يمتد عميقًا في الجبلربما استخدمته بعض الوحوش وجرًا أيام أن كانت هنالك وحوش وحيوانات برية، تركنا الموتى يستأنسون بالغياب والشمس، رددنا لتأوهات جرحى المتمردين وندائهم ببعض الشتائم القلقة المتوترة، وربما الركلات، لكن موسى أو ما نسميه بموسى الرحيم قام بإسعاف كل الجرحى، لم يفرق ما بين عدوٍّ وصليح، دون إستثناء، بمهارة، بسرعة، بإتقان، بمسئولية، برحمة معهودة فيه وحده.
تعلم ذلك من منظمة الصليب الأحمرالدولية، هكذا كان يقول دائماً ، وكل شيء كان سيمضي على كل حال لولا أن الجاويش المهدي أصرَّ على قتل أحد الجرحى الأسرى، قال إنه يستحق الموت لسبب يعرفه هو وحده وسوف لا يخبر به: زول.
قيل فيما بعد أن الأسير الجريح أشار إلى المهدي بالأصبع الوسطى، كالعادة تصدى له موسى الرحيم؛ حيث إنه الشخص الوحيد الذي يتبنى كل الأفكار التي تحرم الإساءة للأسرى، قتلهم أو تعذيبهم أو تركهم للموت بعدم إسعافهم، ويفعل ذلك بقلبه وبلسانه وبيده أيضًا.
بدآ بمشادة كلامية حادة ثم تدافعا بالأيدي، ثم إستخدم الجاويش المهدي دبشك بندقيته، وبركلة بهلوانية ألقى موسى الرحيم على الأرض، وعندما انتبهنا للمعركة الصغيرة الدائرة بين الرجلين النحيفين الطويلين الذين هما من كتيبة واحدة تدخلنا الستة عشر رجلاً وامرأتين لفضها والفصل بينهم.
كان المهدي قد حمل بندقيته معمرة وفي وضع إطلاق النار، واتخذ موضعاً حربيٍّا دفاعيٍاً هجوميٍاً خطيراً بالقرب من صخرة الجرحى، الذين نسوا آلامهم في الحال، توقفوا عن التأوه، الصراخ، طلب الماء وتبادل الوصايا.
أخذوا يحملقون بعيون زائغة مفتوحة إلى آخرها فينا، في المهدي، في موسى الرحيم المرمي على الأرض فاقداً الوعي، يصدر الآن أصواتاً غير مفهومة، تمثل إحتضار
فرصتهم الأخيرة في الحياة.
طلب المهدي من الجميع الجلوس و إلآ:
لحستكم كلكم واحد واحد.
جلسنا.
أمرنا بأن نضع أيادينا على رؤوسنا، وأن ننظر في إتجاه الشمال مقابلين إياه بظهورنا، ويريد أن يحدث ذلك:
زي الهوا.
فعلنا.
هددنا بأنه إذا تحرك أيٌّ منَّا أيةَ حركة، مُريبة كانت أم صَدِيقة، لأي اتجاه كان سوف:
أشربه.
أومأنا برؤوسنا أنْ:
فهمنا وأطعنا.
عندما سمعنا هوهوة الرصاصات، بالرغم من كل التهديد والوعيد، إتجهنا جميعاً في لحظة واحدة نحوه.
كان يدوس برجله على ظهر الأسير الجريح الذي يرقد مُيَمَّماً وجهه شطر الأرض ورأسه غارق في الرمل الأصفر الحارق تحت ثقل بوت وجسد المهدي. وفي ناحية قلب الأسير الجريح يطلق المهدي الرصاص: طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ طاخ.
ست رصاصات قاتلات نافذات من كلاشنكوفه، صمت الأسير الجريح نهائيٍّا في حالة من الموت كاملة تامة فعلية وحقيقية، ولا شك فيها مطلقاً:
مات كما يجب أن يموت أسيرجريح، أطُلقتْ ست رصاصات من كلاشنكوف جاويش عجوز في قلبه: طاخ طاخ طاخ
طاخ طاخ طاخ.
عندما رفع المهدي رجله من رأس الأسير الجريح الميت نهض الأسير الجريح الميت؛ أغبر أشعث طويلاً مرعباً وصامتاً.
وقف المهدي مندهشاً فاغراً فاه في بلادة بيِّنة بائسة، مع عجزٍ كامل عن النطق أو التعبير.
عاجلَ الأسيرُ الجريح الميت المهديَ بلكمة واحدة قوية في رأسه فأرداه صريعاً على الأرض، بحركة أخرى جيدة قام الأسير الجريح الميت بقلب المهدي على ظهره ببطء.
وضع رجله اليمني على ظهر المهدي، أحنى الأسير الجريح الميت جسده في شكل قوس عملاق رهيب فوق جسد المهدي المسجي على الرمال.
أمسك الرأس بكفتيه الكبيرتين الملوثتين بالتراب، أدارها ناحية اليمين في رفق وعناية فائقتين، ثم بذات الرفق والعناية الفائقتين، أدار الرأس ناحية الشمال بهدوء وصبر، كأنه نطاسي عليم يدرس حركة عنق مريضه.
ثم في سرعة البرق وبمهارة شيطان رجيم حنى الرأس للوراء في زاوية حادة، ليجعلنا نستمع إلى فرقعة عظام رقبة المهدي وهي تتحطم، مصحوبة بشخير عميق وقح، وما يشبه نغمة دو وازا منفلتة، ظل طنينها عالقاً في الهواء لزمن طويل، بينما كانت بعض أطيار الكلج كلج تغرد عابرة السماء العارية نحو الشرق.
رقد الرجل الأسير الجريح الميت، تمطى في متعة خاصة، وضع يديه في حزية مع جسده الطويل الثقيل الهادئ ثم مات مرة أخرى.