منذ النشأة الأولى للرواية المصرية بين 1870 و1914 كان الكثير من الروايات يستلهم في أبنيته التعبيرية التراث السردي القديم. وقد صدرت روايات لجورجي زيدان تُحكَى بالطريقة التقليدية تضم عناصر من عدم الاحتمال والمبالغة وعناصر من المغامرة والأعمال الخارقة والحيل العجيبة: «المملوك الشارد»، «أرمانوسة المصرية»، «فتاة غسان» في أواخر القرن التاسع عشر و «غادة كربلاء» و «عروس فرغانة» وغيرها في السنوات الأولى من القرن العشرين. وتقنية السرد فيها مشابهة لما في «ألف ليلة وليلة». واستخدمت رواية «حديث عيسى ابن هشام» للمويلحي سردية المقامة لتصوير وقائع الحاضر. وحينما نقرأ رواية «نداء المجهول» لمحمود تيمور (1939) نلاحظ اختلاطًأ بين أحداث معاصرة وبعد أسطوري ورمزي ورومانسي في آن، ونسج لحكاية شفاهية في بناء الرواية، وهنا دمج لشكل الرومانس القديم القائم على ميول أبدية لا تتأثر بمرور الزمان، فالأشكال الحكائية التقليدية تهتم بالكلي والعام وما حدث في الماضي.
وبعد ذلك تكاثرت الروايات التي تسير في مسالكَ شتّى وأبرزُها رائعة «عودة الروح» لتوفيق الحكيم (1933)، وهي تقدم السابقة الأولى للتوازي بين أحداثِ واقع معين وشخصيات عادية وأوصاف تفصيلية من جهة ودلالات أسطورية من ناحية أخرى. وهذا التوازي سمة مميزة من سمات الحداثة في الرواية العالمية منذ أن قدم جيمز جويس روايته الشهيرة «يوليسس» وأقامها على التوازي بين عالم شخصيات عادية وعالم «الأوديسه» عند هوميروس. وعند الحكيم لا نجد اهتمامًا بدقة التوازي ولم يزد الدور البنائي للأسطورة عن كونه خلفية رمزية لسرد المعيش. فليست المشكلة عند الحكيم هي المطابقة الكاملة بين الشخصية والرمز، باستثناء سعد زغلول الذي يرمز لأوزوريس، بل قامت الرواية على الانتقال من تفرق شعبِ مصرَ إلى الوحدة والتماسك وراء زعيم يقترب من أن يكون معبودًا عن طريق ابتعاث الجوهر المكنون للشعب. إنها رواية يقظة بعد ركود آسن. وقد لاحظ بعض النقاد في «عودة الروح» اعتمادًا على خلفية بنائية تنتمي إلى الحكاية الشعبية، حيث يحاول ثلاثة أشخاص إنجاز مهمة (الاستيلاء على قلب سنية) ليخفق الأول والثاني ويفوزَ الثالث الموعود بالكنز بعد أن يحققَ التزامًا معينًا، أي أن ينفض عن نفسه السلبية.
ولم يكن البعد الأسطوري الرمزي مستمدًا من أي نزعة حداثية، فالتركيز في الوصف التفصيلي ظل محتاجًا إلى الرمز ليكمل غياب الجوهر الاجتماعي، فالرمز عكاز تغلّفه الرؤية المجردة للمؤلف ليربط بين التفاصيل. وتطرح رواية المازني «إبراهيم الكاتب» (1931) التي بدأ في كتابتها 1925 قضايا مهمة في التقنية الروائية فقد أطاحت بالحبكة التقليدية، ولم تنتظر مجيء الحداثة لكي لا تراعي في سردها التتابع الزمني، فهي تسير في الزمن جيئة وذهابًا، ويلعب التناص دورًا بنائيًا في الربط بين أجزاء الرواية. فهي تستخدم آيات من الكتاب المقدس في أول كل فصل من الفصول تعبيرًا عن معناه، كما تتضمن صفحات من رواية شهيرة، بل تدمج صفحات كاملة من كتب المؤلف. وتحاول الرواية رسم شخصية بطل إشكالي حافل بالتناقضات، وربما كانت أول محاولة لتقديم ملامح عقلية لشخصية بطل تلعب الأفكار دورًا موجهًا لسلوكه. وتحت طبقات من الاستطرادات والتعليقات والاستشهادات تتألق صور جزئية مرسومة بدقة تفصيلية وتعتمد الأسلوب الشعري.
ونرى بعد ذلك ملامح من واقعية السرد في روايات صدرت في الأربعينيات تشق طريقها داخل شكل السيرة الشعبية عند طه حسين في «شجرة البؤس» 1944 وتوفيق الحكيم في «الرباط المقدس» العام 1944، ومحمد فريد أبو حديد في «أبو الفوارش عنترة» 1947. وقد أخذت هذه الملامح الواقعية تتبلور عند نجيب محفوظ في سلسلة روايات مهمة وفيها يمكن الحديث عن اتجاه واقع نقدي عالي القيمة. وسنرى في الخمسينيات صدور قمة الواقعية المصرية ممثلة في ثلاثية محفوظ (1956-57)، و «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي (1953) و «الجبل» لفتحي غانم (1957) و «الحرام» ليوسف إدريس (1959). ويرسم أنصار الحداثة للواقعية في مصر صورة شائهة يسهل إلحاق الهزيمة بها، فقد تعني محاكاة سطح الواقع في تفاصيله اليومية التافهة، وسلخ جلود جوانبَ من الواقع وتكديسَها. وقد تهتم بتصوير حيوات فئات شعبية بعينها وتمجيدها، أو وصف بؤسها ومعاناتها، كما قد تعني الدفاع عن أفكار مجردة تتعلق بالوطنية أو العدالة الاجتماعية، وقد تعني خليطًا من كل ما سبق.
ومن الواضح أن ما نعنيه بكلمة «واقع» لا يمكن الخلط بينه وبين نص لغوي كالرواية، فالفن اللغوي يختلف عن فن بصري ناطق مثل الفيلم في أنه لا يستطيع تقديم انعكاس مباشر، بل يستطيع محاكاة طرائق تصوير الواقع في الفن التشكيلي والسينما، وطرائق كلام عن الواقع. فالواقعية في الرواية هي تمثيل التجربة على نحو وثيق الاقتراب من أوصاف تجربة مماثلة في الأعمال غير الأدبية من الثقافة نفسها. فالقص الواقعي يقدم أنساقًا من التجربة سبق إخضاعُها لتنظيم معين من حيث معانيها، فالأشياء والأحداث لها معانٍ بذاتها في ثقافة معينة، على الرغم من أن القص الواقعي يزعم أن طريقته في التمثيل وتقنياته بديهية تقدم الواقع نفسه وليس تصورات معينة عنه وأن صور شخصياته وحبكاته نابعة من طبائع الأمور يحدسها القارئ مباشرة من دون مرور ببنية سردية وتقنياتها ومواضعاتها. وللردّ على ذلك يمكن أخذ تصوير الواقعية للمكان، فهي تعتمد على مواضعة تقنية، مواضعة المنظور المركزي في التصوير، وتقدم تمثيلاً موحدًا للمكان من جانب واحد تسوده وجهة نظر واحدة تجعل القارئ يدرك أجزاء الحي أو المدينة في انطباع موحّد يقوم على التزامن. وهذه التقنية تفرض منطقًا داخليًا لوجهة النظر التي تقوم على التلاؤم المتبادل بين عناصر المكان.
وفي الستينيات أعيد النظر في التقنيات ورأى الروائي الواقع بعينيه لا بعيني الإيديولوجية الرسمية أو أية إيديولوجية أخرى، ولجأ إلى تقنية تصلح ممرًا إلى الحداثة، إلى تيار الشعور وعكس اتجاه الزمن والتوازي الأسطوري. وعند بعض روائيي السبيعينيات والثمانينيات مثلت الأفعال والأحداث أنماطًا أولية متصلة بشعائر الميلاد والوفاة ودوريات الحياة والخصوبة والتجدد أو الاضمحلال عند يوسف أبورية ومحسن يونس. وجاء صهر تقنيات تراثية وحداثية (جمال الغيطاني على سبيل المثال)، أو صهر تقنيات واقعية وحداثية (أصلان والبساطي وخصوصًا بهاء طاهر). وقد ظلت الرواية المصرية متنفسًا لتقنيات متعددة حتى الرومانسية عند إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب.
وقد ظهرت بشائر الحداثة باعتبارها عناصر انقلابية داخل التقليد الواقعي في «اللص والكلاب» لمحفوظ و «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم. وتحققت قطيعة مع التقنية الواقعية عند صنع الله ابراهيم، فهو يكسر عامدًا قواعد المنظور وتراتب أهمية التيمات والأحداث. ثم تألقت الحداثة على أرضية الحداثة عند إدوار الخراط، وبطريقة خاصة عند عبده جبير.
وفي التسعينيات اعتبر التاريخ قائماً على أوهام الذاكرة والوجود متاهةً عند مصطفى ذكري ومنتصر القفاش، وحدث التصدي لمسائل فلسفية روائية عندهما وعند منصورة عز الدين. وتعتمد ميرال الطحاوي على شعرية الأداء في إزالة الحواجز بين الحلم والصحو، والأسطورة والتاريخ، والخيال والذاكرة التسجيلية. وفي العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين انصهرت الرؤية والتقنية على نحو مغاير. واتسمت التقنية أحيانًا بالتشظي والتجريد أو الفانتازيا والعدمية وتصدير التساؤل حول علاقتها بمسائل التدين أو الواقع الافتراضي أو التاريخ أو اللغة عند ابراهيم عبد المجيد وعز الدين شكري وأمينة زيدان وهالة البدري، ثم عند طارق إمام وأحمد عبد اللطيف ومحمد علاء الدين على نحو مزعج للثوابت.
إبراهيم فتحي
وبعد ذلك تكاثرت الروايات التي تسير في مسالكَ شتّى وأبرزُها رائعة «عودة الروح» لتوفيق الحكيم (1933)، وهي تقدم السابقة الأولى للتوازي بين أحداثِ واقع معين وشخصيات عادية وأوصاف تفصيلية من جهة ودلالات أسطورية من ناحية أخرى. وهذا التوازي سمة مميزة من سمات الحداثة في الرواية العالمية منذ أن قدم جيمز جويس روايته الشهيرة «يوليسس» وأقامها على التوازي بين عالم شخصيات عادية وعالم «الأوديسه» عند هوميروس. وعند الحكيم لا نجد اهتمامًا بدقة التوازي ولم يزد الدور البنائي للأسطورة عن كونه خلفية رمزية لسرد المعيش. فليست المشكلة عند الحكيم هي المطابقة الكاملة بين الشخصية والرمز، باستثناء سعد زغلول الذي يرمز لأوزوريس، بل قامت الرواية على الانتقال من تفرق شعبِ مصرَ إلى الوحدة والتماسك وراء زعيم يقترب من أن يكون معبودًا عن طريق ابتعاث الجوهر المكنون للشعب. إنها رواية يقظة بعد ركود آسن. وقد لاحظ بعض النقاد في «عودة الروح» اعتمادًا على خلفية بنائية تنتمي إلى الحكاية الشعبية، حيث يحاول ثلاثة أشخاص إنجاز مهمة (الاستيلاء على قلب سنية) ليخفق الأول والثاني ويفوزَ الثالث الموعود بالكنز بعد أن يحققَ التزامًا معينًا، أي أن ينفض عن نفسه السلبية.
ولم يكن البعد الأسطوري الرمزي مستمدًا من أي نزعة حداثية، فالتركيز في الوصف التفصيلي ظل محتاجًا إلى الرمز ليكمل غياب الجوهر الاجتماعي، فالرمز عكاز تغلّفه الرؤية المجردة للمؤلف ليربط بين التفاصيل. وتطرح رواية المازني «إبراهيم الكاتب» (1931) التي بدأ في كتابتها 1925 قضايا مهمة في التقنية الروائية فقد أطاحت بالحبكة التقليدية، ولم تنتظر مجيء الحداثة لكي لا تراعي في سردها التتابع الزمني، فهي تسير في الزمن جيئة وذهابًا، ويلعب التناص دورًا بنائيًا في الربط بين أجزاء الرواية. فهي تستخدم آيات من الكتاب المقدس في أول كل فصل من الفصول تعبيرًا عن معناه، كما تتضمن صفحات من رواية شهيرة، بل تدمج صفحات كاملة من كتب المؤلف. وتحاول الرواية رسم شخصية بطل إشكالي حافل بالتناقضات، وربما كانت أول محاولة لتقديم ملامح عقلية لشخصية بطل تلعب الأفكار دورًا موجهًا لسلوكه. وتحت طبقات من الاستطرادات والتعليقات والاستشهادات تتألق صور جزئية مرسومة بدقة تفصيلية وتعتمد الأسلوب الشعري.
ونرى بعد ذلك ملامح من واقعية السرد في روايات صدرت في الأربعينيات تشق طريقها داخل شكل السيرة الشعبية عند طه حسين في «شجرة البؤس» 1944 وتوفيق الحكيم في «الرباط المقدس» العام 1944، ومحمد فريد أبو حديد في «أبو الفوارش عنترة» 1947. وقد أخذت هذه الملامح الواقعية تتبلور عند نجيب محفوظ في سلسلة روايات مهمة وفيها يمكن الحديث عن اتجاه واقع نقدي عالي القيمة. وسنرى في الخمسينيات صدور قمة الواقعية المصرية ممثلة في ثلاثية محفوظ (1956-57)، و «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي (1953) و «الجبل» لفتحي غانم (1957) و «الحرام» ليوسف إدريس (1959). ويرسم أنصار الحداثة للواقعية في مصر صورة شائهة يسهل إلحاق الهزيمة بها، فقد تعني محاكاة سطح الواقع في تفاصيله اليومية التافهة، وسلخ جلود جوانبَ من الواقع وتكديسَها. وقد تهتم بتصوير حيوات فئات شعبية بعينها وتمجيدها، أو وصف بؤسها ومعاناتها، كما قد تعني الدفاع عن أفكار مجردة تتعلق بالوطنية أو العدالة الاجتماعية، وقد تعني خليطًا من كل ما سبق.
ومن الواضح أن ما نعنيه بكلمة «واقع» لا يمكن الخلط بينه وبين نص لغوي كالرواية، فالفن اللغوي يختلف عن فن بصري ناطق مثل الفيلم في أنه لا يستطيع تقديم انعكاس مباشر، بل يستطيع محاكاة طرائق تصوير الواقع في الفن التشكيلي والسينما، وطرائق كلام عن الواقع. فالواقعية في الرواية هي تمثيل التجربة على نحو وثيق الاقتراب من أوصاف تجربة مماثلة في الأعمال غير الأدبية من الثقافة نفسها. فالقص الواقعي يقدم أنساقًا من التجربة سبق إخضاعُها لتنظيم معين من حيث معانيها، فالأشياء والأحداث لها معانٍ بذاتها في ثقافة معينة، على الرغم من أن القص الواقعي يزعم أن طريقته في التمثيل وتقنياته بديهية تقدم الواقع نفسه وليس تصورات معينة عنه وأن صور شخصياته وحبكاته نابعة من طبائع الأمور يحدسها القارئ مباشرة من دون مرور ببنية سردية وتقنياتها ومواضعاتها. وللردّ على ذلك يمكن أخذ تصوير الواقعية للمكان، فهي تعتمد على مواضعة تقنية، مواضعة المنظور المركزي في التصوير، وتقدم تمثيلاً موحدًا للمكان من جانب واحد تسوده وجهة نظر واحدة تجعل القارئ يدرك أجزاء الحي أو المدينة في انطباع موحّد يقوم على التزامن. وهذه التقنية تفرض منطقًا داخليًا لوجهة النظر التي تقوم على التلاؤم المتبادل بين عناصر المكان.
وفي الستينيات أعيد النظر في التقنيات ورأى الروائي الواقع بعينيه لا بعيني الإيديولوجية الرسمية أو أية إيديولوجية أخرى، ولجأ إلى تقنية تصلح ممرًا إلى الحداثة، إلى تيار الشعور وعكس اتجاه الزمن والتوازي الأسطوري. وعند بعض روائيي السبيعينيات والثمانينيات مثلت الأفعال والأحداث أنماطًا أولية متصلة بشعائر الميلاد والوفاة ودوريات الحياة والخصوبة والتجدد أو الاضمحلال عند يوسف أبورية ومحسن يونس. وجاء صهر تقنيات تراثية وحداثية (جمال الغيطاني على سبيل المثال)، أو صهر تقنيات واقعية وحداثية (أصلان والبساطي وخصوصًا بهاء طاهر). وقد ظلت الرواية المصرية متنفسًا لتقنيات متعددة حتى الرومانسية عند إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب.
وقد ظهرت بشائر الحداثة باعتبارها عناصر انقلابية داخل التقليد الواقعي في «اللص والكلاب» لمحفوظ و «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم. وتحققت قطيعة مع التقنية الواقعية عند صنع الله ابراهيم، فهو يكسر عامدًا قواعد المنظور وتراتب أهمية التيمات والأحداث. ثم تألقت الحداثة على أرضية الحداثة عند إدوار الخراط، وبطريقة خاصة عند عبده جبير.
وفي التسعينيات اعتبر التاريخ قائماً على أوهام الذاكرة والوجود متاهةً عند مصطفى ذكري ومنتصر القفاش، وحدث التصدي لمسائل فلسفية روائية عندهما وعند منصورة عز الدين. وتعتمد ميرال الطحاوي على شعرية الأداء في إزالة الحواجز بين الحلم والصحو، والأسطورة والتاريخ، والخيال والذاكرة التسجيلية. وفي العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين انصهرت الرؤية والتقنية على نحو مغاير. واتسمت التقنية أحيانًا بالتشظي والتجريد أو الفانتازيا والعدمية وتصدير التساؤل حول علاقتها بمسائل التدين أو الواقع الافتراضي أو التاريخ أو اللغة عند ابراهيم عبد المجيد وعز الدين شكري وأمينة زيدان وهالة البدري، ثم عند طارق إمام وأحمد عبد اللطيف ومحمد علاء الدين على نحو مزعج للثوابت.
إبراهيم فتحي