في وقت ليس كهذا كان يمكن اعتبار أن ما حدث أمامي صباح هذا اليوم شيء استثنائي وربما محزن أو في حد أدنى هو مدعاة للتشاؤم , وفي كل الأحوال لم يكن هذا الصباح ككل صباح، على الأقل بالنسبة لي: كنت مارا في الطريق الرئيس نفسه , حركة الناس نفسها ونفسها البلادة المسطحة على الوجوه , ثمة على بعد أمتار أمامي شيء من الزحام وبعض الضجيج وحين اقتربت كان واضحا أن شجرة قد تنحت من على الرصيف ليسقط القسم الأكبر منها على الاسفلت.. سألت بفضول لماذا سقطت الشجرة ؟ تطوع أحدهم مجيبا : قالوا : لوحدها ! سألت العجوز المتكيء على الحائط القريب اذ كنت ألحظ وجوده دائما قرب الشجرة ولا شك أنه من أهل المكان : ياحاج بالله كم عمرها ؟ نظر الي ثم التفت الي صبية مرت من أمامنا يسبقها عطرها ووقع خطواتها على ما تبقى من بلاط الرصيف وسأل بنبرة قريبة من الاستنكار:
– من هي ؟!
– قلت على الفور : الشجرة طبعا.
لم يجب وهو يتجه ليأخذ مكانه المعتاد ملتصقا بالحائط في مواجهة الطريق العام.. أدرت ظهري بدوري مستكملا طريقي نحو مقر عملي وأنا أستعيد شكل الشجرة الممددة خلفي ولا أدري لماذا رجعت بي الذاكرة الى عنوان كتاب أندري مالرو (سقوط السنديان) اذ لا علاقة بالطبع بين هذه الشجرة البائسة وسنديانة مالرو التي عنون بها نصا حواريا فذّا مع صديقه الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول.. جرني سياق الذاكرة الى جملة ديغول العبقرية “انه زمن نهاية الجنازات العظيمة” مصححا حديث مالرو عما أسماه بـ ” زمن نهاية الامبراطوريات العظيمة” تلك الجملة التي أتبعها بقوله ” أفكر بالمحرقة التي أسسقطت الكرات المشتعلة من جثة غاندي ،وصفارات القطارات الروسية وهي تعلن موت ستالين في العزلات السيبيرية وموكبي تشرشل وكينيدي وفيلة نهرو ” لا شك أنه فكر أيضا في نعش ناصر يطفو فوق الأمواج البشرية التي غطت شوارع القاهرة مودعة زعيمها.. كل ذلك كان يدور في رأسي بينما تكفل عقلي الباطني بقيادة قدميّ حتى كانت الانعطافة الأخيرة المؤدية الى الشارع الجانبي حيث مقر العمل..
هنا اختفى من الذاكرة السيد مالرو ونصه وصرت أنا الذي أقود قدمي الآن وأزيد من سرعة حركتهما لأقترب من ذلك الضجيج القادم من آخر الشارع هناك أمامي حيث سبقني نفر غير قليل وآخرون من خلفهم مشكلين تجمعا بدا يأخذ شكل الزحام , وها أنا على تماس مع الخط الخلفي للزحام ثم يجرني الفضول لأتوغل نحو الخط الأمامي , وأمد عنقي في ذهول أمام مشهد : شجرة تسقط سادة الطريق كحاجز وضع عن عمد بينما ظل ثلث جذعها ثابتا على الرصيف ! التفت الى أقرب شخص أسأله بلهفة من يبحث عن عزيز فقده للتو:
– متى سقطت ؟!
– يبدو أنها سقطت الآن..
– كيف ؟!
– قالوا لوحدها !
يا الهي ، أية مصادفة هذه ؟! في دقائق يمكن أن أحسبها بأصابع يديّ تسقط أمامي شجرتان هكذا ولا ريح ولا شبه عاصفة في المكان!! ما حدث كان مربكا لتفكيري وكافيا لتتلبسني حالة تشاؤم من الآتي , لكنه كان كافيا أيضا ليطعن في صدقية تلك المقولة التي حفظناها وكتبناها في خانة الحكمة بجرائدنا الحائطية المدرسية (الأشجار تموت واقفة) هاهو دليل على أن الأشجار لا تموت دائما واقفة.. أدير ظهري للجميع لأغادر المكان شبه هارب مستكملا طريقي الذي بدا طويلا هذا اليوم ، ويعود السيد مالرو وكتابه الى الذاكرة مرة أخرى – لماذا تقفز الى ذاكرتي أسطر في كتاب قرأته منذ عشرين عاما ؟ ربما الحديث عن الشجرة , لا أدري ــ سأل مالرو ديغول اذا كان اطلع على حوار القائد العسكري الألماني هيلموت مولتكه مع بسمارك الذي سأله فيه الأخير:
– هل يوجد بعد هذه الأحداث شيء جدير بأن نعيش من أجله ؟ وأجابه مولتكه:
– نعم صاحب الدولة , أن نرى شجرة تنمو..
بشير زعبية
– من هي ؟!
– قلت على الفور : الشجرة طبعا.
لم يجب وهو يتجه ليأخذ مكانه المعتاد ملتصقا بالحائط في مواجهة الطريق العام.. أدرت ظهري بدوري مستكملا طريقي نحو مقر عملي وأنا أستعيد شكل الشجرة الممددة خلفي ولا أدري لماذا رجعت بي الذاكرة الى عنوان كتاب أندري مالرو (سقوط السنديان) اذ لا علاقة بالطبع بين هذه الشجرة البائسة وسنديانة مالرو التي عنون بها نصا حواريا فذّا مع صديقه الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول.. جرني سياق الذاكرة الى جملة ديغول العبقرية “انه زمن نهاية الجنازات العظيمة” مصححا حديث مالرو عما أسماه بـ ” زمن نهاية الامبراطوريات العظيمة” تلك الجملة التي أتبعها بقوله ” أفكر بالمحرقة التي أسسقطت الكرات المشتعلة من جثة غاندي ،وصفارات القطارات الروسية وهي تعلن موت ستالين في العزلات السيبيرية وموكبي تشرشل وكينيدي وفيلة نهرو ” لا شك أنه فكر أيضا في نعش ناصر يطفو فوق الأمواج البشرية التي غطت شوارع القاهرة مودعة زعيمها.. كل ذلك كان يدور في رأسي بينما تكفل عقلي الباطني بقيادة قدميّ حتى كانت الانعطافة الأخيرة المؤدية الى الشارع الجانبي حيث مقر العمل..
هنا اختفى من الذاكرة السيد مالرو ونصه وصرت أنا الذي أقود قدمي الآن وأزيد من سرعة حركتهما لأقترب من ذلك الضجيج القادم من آخر الشارع هناك أمامي حيث سبقني نفر غير قليل وآخرون من خلفهم مشكلين تجمعا بدا يأخذ شكل الزحام , وها أنا على تماس مع الخط الخلفي للزحام ثم يجرني الفضول لأتوغل نحو الخط الأمامي , وأمد عنقي في ذهول أمام مشهد : شجرة تسقط سادة الطريق كحاجز وضع عن عمد بينما ظل ثلث جذعها ثابتا على الرصيف ! التفت الى أقرب شخص أسأله بلهفة من يبحث عن عزيز فقده للتو:
– متى سقطت ؟!
– يبدو أنها سقطت الآن..
– كيف ؟!
– قالوا لوحدها !
يا الهي ، أية مصادفة هذه ؟! في دقائق يمكن أن أحسبها بأصابع يديّ تسقط أمامي شجرتان هكذا ولا ريح ولا شبه عاصفة في المكان!! ما حدث كان مربكا لتفكيري وكافيا لتتلبسني حالة تشاؤم من الآتي , لكنه كان كافيا أيضا ليطعن في صدقية تلك المقولة التي حفظناها وكتبناها في خانة الحكمة بجرائدنا الحائطية المدرسية (الأشجار تموت واقفة) هاهو دليل على أن الأشجار لا تموت دائما واقفة.. أدير ظهري للجميع لأغادر المكان شبه هارب مستكملا طريقي الذي بدا طويلا هذا اليوم ، ويعود السيد مالرو وكتابه الى الذاكرة مرة أخرى – لماذا تقفز الى ذاكرتي أسطر في كتاب قرأته منذ عشرين عاما ؟ ربما الحديث عن الشجرة , لا أدري ــ سأل مالرو ديغول اذا كان اطلع على حوار القائد العسكري الألماني هيلموت مولتكه مع بسمارك الذي سأله فيه الأخير:
– هل يوجد بعد هذه الأحداث شيء جدير بأن نعيش من أجله ؟ وأجابه مولتكه:
– نعم صاحب الدولة , أن نرى شجرة تنمو..
بشير زعبية