تحت هذا العنوان صدر كتاب أروى صالح بعد سنوات من التعثر فى نشره.والحقيقة أن هذا الكتاب لا يمكن مناقشته بمعزل عن المرحلة الزمنية التى كتب فيها (والتى نوهت لها الكاتبة فى المقدمة)لأن عام 1991،الزمن الفعلى لهذه المادة،لم يكن عاديا بكل المقاييس فالجميع كان يدور فى فلك الانهيارات الكبرى.من انهيار الاتحاد السوفيتى،الى انهيار المشروع التحررى الوطنى فى بلادنا والعالم،الى تغيرات حادة فى البنى الاقتصادية والاجتماعية السابقة وبداية تشكل ملامح هلامية لكل ما هو جديد.
اللحظة كانت لحظة ضياع بكل معنى الكلمة ولم يكن أمام المؤمنين بقضايا الانسان والعدالة الاجتماعية،كأروى وأمثالها،فى مثل هذا المناخ الضبابى سوى أن يتشبسوا بغرائزهم الانسانية العميقة غير القابلة للترجمة بلغة"المنطق الواقعى"المعتادة.واذا كان هناك آخرون،ممن كان لهم مثل حلم أروى،اختاروا الملاحظة فى صمت أو التحرك بحذر لايجاد مواقع قدم للحركة،فان أروى محكومة بلحظة محمومة مليئة بالقلق المؤلم اختارت الكتابة الكاشفة بكل ما يعنيه ذلك من مغامرة تحمل بداخلها نزعة"قلها ومت".
وبالنسبة لى كان هذا هو عنصر قوة الكتاب ومنطقة ضعفه فى نفس الوقت.
عمق الحرقة للدفاع عن النفس الانسانية التواقة للأجمل التى تدفعك أحيانا للمحاكمات القاسية غير الرحيمة وغير الموضوعية لكل ما تراه مسئولا عن هزيمة أحلامك،فتحمله أحيانا ما عليه وأحيانا ما لا يخصه.
فى هذا السياق فقط أستطيع أن أقدم ملاحظاتى على كتاب أروى الذى أثارنى بنفس القوة ودفعنى طوال قراءته بين مناطق الاحتضان والتذمر.لقد نجحت أروى فى ارباك مشاعرى التى تحمل نفس همومها وأحلامها.لكنها لم تنجح فى ارباك عقلى المعترض على منطق النص.ولذلك سأحاول في هذه الكتابة أن أقدم بعضا من ملاحظاتي.
حين يعجز المرء عن فهم العالم،يحاكمه.
بهذا العنوان وصفت أروى"ابن البرجوازية الصغيرة"فى أحد الفصول.ومن هذا الوصف يمكننى البدء فى مناقشة كتابها.
لماذا قررت أروى أن تحاكم الحركة التى نشأت على أرضها وفى مسارها عندما عجزت عن فهم العالم ؟
لماذا لم تحاول أن تستعيد هدوءها وتحاول أن تفهم العالم وتفهم هذه الحركة لا أن تحاكمها ؟
لتنتقد وتشرح وتحلل،تحتقر وتحب،لتحاول أن تتجاوز وتدين كل ما هو رديء وغير حقيقي. لكن لماذا سيطر منطق المحاكمة على النص ؟
لقد أدانت الكاتبة المحاكمات"داخل الغرف المغلقة"غير أن المشكلة ليست فى الانتقال من المحاكمة داخل الغرف الى المحاكمة فى الهواء الطلق،وانما فى كيفية الانتقال من منطق المحاكمات الى المجادلة الحية،الى الدفع باتجاه مناطق الكشف للضعف والقوة واستدعاء عناصر القوة التى كانت تومض فى فقرات كثيرة داخل النص لتعود فتختفى تحت ركام المحاكمات الحادة.
ان التعثرات التى واجهها جيل يحمل بداخله كل تراث المصادرة السياسية والاجتماعية كانت تدفعه دفعا للتعثر والتهتهه السياسية عندما حاول للمرة الأولى.وهذا لا يعنى أنه يستحق الاحتقار وانما الرثاء والحزن والاعجاب بشرف المحاولة الأولى للخروج من تراث المصادرة.قد يكون معظمهم فشل فى الخروج منها وكثيرون منهم أصبحوا أدوات جديدة فى مشروعها،الا أن تجربتهم بالتأكيد قد تركت الكثير من الخبرات وفتحت العديد من الثغرات لمن سيحاول منهم مرة أخرى أو لمن سيأتى من بعدهم.
كما انى أعتقد،ولا أظن فى نفسي المبالغة، عندما أقول أن كتاب"المبتسرون" هو فى حد ذاته نموذجا لهذه التهتهه.فهى تنتقد الجيتو بلغة الجيتو،وتنتقد الدوجما بلغة الدوجما،وتنتقد البرجوازية الصغيرة بلغة البرجوازية الصغيرة.
النص كله يحمل هذا التناقض ما بين حلم التجاوز وقصور الأدوات المنهجية التى تعتمدها الكاتبة كجزء من تاريخ هذا النوع من اللغة،المحكمة الاغلاق،التى عليها أن تتجاوزها لتكتب نصا قادرا حقا على التحرر من لغة المحاكمة والمصادرات.ولفتح مساحات لحركة الأشياء بعيدا عن علاقات الدائرة المغلقة لرسم الصورة.
لقد نمذجت أروى فى كتابها المئات بل الآلاف داخل "فورمات"غير حية.والخدعة - غير المقصودة طبعا - أنها بكلامها عن النماذج الحية التى عرفتها تعطي الانطباع بالحياة،وتعممها على الجميع.لكن حتى من عرفتهم الكاتبة لا أعتقد أنه يمكن تلخيصهم بهذه المسارات النمطية.ان ما رصدته الكاتبة من ملامح دقيقة فى وصفها للمسارات المتشعبة التى شقت طريقها فى العلاقات الاجتماعية والانسانية قد فقدت قوتها عندما أخضعت للنمذجة.وكان من الأجدر بالكاتبة أن ترسمها كملامح ضمن مسار أكثر غنى واتساع،وأن ترصد التناقضات الأكثر تعقيدا فى حركتها لا فى سكونها.لو أنها فعلت ذلك لكانت أعطتها غنى التجربة الذاتية بدلا من فقر التعميمات القاطعة المانعة،خاصة مع مجتمع كالمجتمع المصرى،صمته مخادع لأنه كصمت البحر،سكون خارجى لتحولات وحركة غير عادية فى الأعماق وعلى كل الأصعدة.
الحقيقة أن أروى لم تكذب ولكنها لم تقل الحقيقة.لقد اختارت أجزاء منها وجمعتها لتعطى مصداقية للحكم الذى أرادته.لذا لا أستطيع أن أرى النص منصفا،بل أجده يتحرك فى منطقة"الكتش"التى أدانتها أروى فى مقدمتها،والتى تصفها بأنها " تعطى الاجابات مسبقا محرمة بذلك أى سؤال جديد".
مشاكل حقيقية حولتها لادانات مطلقة:"النقاش بلا نهاية لاناس لا ثمن للوقت عندهم…بديل عن العمل المنتج والتواصل الانسانى المفقود"،أوهام"الصفوة" التى تحمل "الوعي" للجماهير،منطق العزلة…الخ.
قد يكون الرصد لعجز البرجوازية الصغيرة،فى صراع أعلى من امكانياتها،ولتخيلاتها الكاريكاتورية عن حجمها القيادي،يحمل ومضات ذكية جدا للكاتبة،لكن الواقع الذى ترصده لا يحتمل بالتأكيد مثل هذه الشماتة، فالوضع أكثر مأساوية. من جهة أخرى لا يستدعى الأمر كل هذا الكم من جلد الذات لدرجة الانسحاق.وهذا فى اعتقادي وجه آخر لمآسي أفكار البرجوازية الصغيرة التى تعجز دائماعن رصد تاريخنا بدقة كجزء من تاريخ عام نحركه ويحركنا، نحن مواده الحية، نحن الفعل والفاعل والمفعول به فى آن واحد.
مأزق كتاب المبتسرون أنه لم يتجاوز اللغة التى أراد نقدها، رغم الرغبة الجميلة المحمومة لكشف زيف هذه اللغة. فبدا وكأنه يبحث فى صندوق ملئ بالأشياء الصغيرة وهو فى أقصى الاحتياج لشئ ما مصيري يختفي هناك، فيبدأ بنثر الأشياء من داخل الصندوق وهو محموم فى عملية البحث، يخرج بأشياء تبدو مفيدة ولكنها ليست ما يبحث عنه.
الرغبة لم تشبع والحمى تتولد مع كل لحظة لتؤكد عجزه عن الوصول لمناطق الرغبة الحقيقية.
* كتب هذا المقال في التسعينات ( فى 15 -7 -1997 )
، قبل وفاة أروى صالح بأشهر قليلة و قد نشر في جريدة السفير اللبنانية في الصفحة الثقافية:
اللحظة كانت لحظة ضياع بكل معنى الكلمة ولم يكن أمام المؤمنين بقضايا الانسان والعدالة الاجتماعية،كأروى وأمثالها،فى مثل هذا المناخ الضبابى سوى أن يتشبسوا بغرائزهم الانسانية العميقة غير القابلة للترجمة بلغة"المنطق الواقعى"المعتادة.واذا كان هناك آخرون،ممن كان لهم مثل حلم أروى،اختاروا الملاحظة فى صمت أو التحرك بحذر لايجاد مواقع قدم للحركة،فان أروى محكومة بلحظة محمومة مليئة بالقلق المؤلم اختارت الكتابة الكاشفة بكل ما يعنيه ذلك من مغامرة تحمل بداخلها نزعة"قلها ومت".
وبالنسبة لى كان هذا هو عنصر قوة الكتاب ومنطقة ضعفه فى نفس الوقت.
عمق الحرقة للدفاع عن النفس الانسانية التواقة للأجمل التى تدفعك أحيانا للمحاكمات القاسية غير الرحيمة وغير الموضوعية لكل ما تراه مسئولا عن هزيمة أحلامك،فتحمله أحيانا ما عليه وأحيانا ما لا يخصه.
فى هذا السياق فقط أستطيع أن أقدم ملاحظاتى على كتاب أروى الذى أثارنى بنفس القوة ودفعنى طوال قراءته بين مناطق الاحتضان والتذمر.لقد نجحت أروى فى ارباك مشاعرى التى تحمل نفس همومها وأحلامها.لكنها لم تنجح فى ارباك عقلى المعترض على منطق النص.ولذلك سأحاول في هذه الكتابة أن أقدم بعضا من ملاحظاتي.
حين يعجز المرء عن فهم العالم،يحاكمه.
بهذا العنوان وصفت أروى"ابن البرجوازية الصغيرة"فى أحد الفصول.ومن هذا الوصف يمكننى البدء فى مناقشة كتابها.
لماذا قررت أروى أن تحاكم الحركة التى نشأت على أرضها وفى مسارها عندما عجزت عن فهم العالم ؟
لماذا لم تحاول أن تستعيد هدوءها وتحاول أن تفهم العالم وتفهم هذه الحركة لا أن تحاكمها ؟
لتنتقد وتشرح وتحلل،تحتقر وتحب،لتحاول أن تتجاوز وتدين كل ما هو رديء وغير حقيقي. لكن لماذا سيطر منطق المحاكمة على النص ؟
لقد أدانت الكاتبة المحاكمات"داخل الغرف المغلقة"غير أن المشكلة ليست فى الانتقال من المحاكمة داخل الغرف الى المحاكمة فى الهواء الطلق،وانما فى كيفية الانتقال من منطق المحاكمات الى المجادلة الحية،الى الدفع باتجاه مناطق الكشف للضعف والقوة واستدعاء عناصر القوة التى كانت تومض فى فقرات كثيرة داخل النص لتعود فتختفى تحت ركام المحاكمات الحادة.
ان التعثرات التى واجهها جيل يحمل بداخله كل تراث المصادرة السياسية والاجتماعية كانت تدفعه دفعا للتعثر والتهتهه السياسية عندما حاول للمرة الأولى.وهذا لا يعنى أنه يستحق الاحتقار وانما الرثاء والحزن والاعجاب بشرف المحاولة الأولى للخروج من تراث المصادرة.قد يكون معظمهم فشل فى الخروج منها وكثيرون منهم أصبحوا أدوات جديدة فى مشروعها،الا أن تجربتهم بالتأكيد قد تركت الكثير من الخبرات وفتحت العديد من الثغرات لمن سيحاول منهم مرة أخرى أو لمن سيأتى من بعدهم.
كما انى أعتقد،ولا أظن فى نفسي المبالغة، عندما أقول أن كتاب"المبتسرون" هو فى حد ذاته نموذجا لهذه التهتهه.فهى تنتقد الجيتو بلغة الجيتو،وتنتقد الدوجما بلغة الدوجما،وتنتقد البرجوازية الصغيرة بلغة البرجوازية الصغيرة.
النص كله يحمل هذا التناقض ما بين حلم التجاوز وقصور الأدوات المنهجية التى تعتمدها الكاتبة كجزء من تاريخ هذا النوع من اللغة،المحكمة الاغلاق،التى عليها أن تتجاوزها لتكتب نصا قادرا حقا على التحرر من لغة المحاكمة والمصادرات.ولفتح مساحات لحركة الأشياء بعيدا عن علاقات الدائرة المغلقة لرسم الصورة.
لقد نمذجت أروى فى كتابها المئات بل الآلاف داخل "فورمات"غير حية.والخدعة - غير المقصودة طبعا - أنها بكلامها عن النماذج الحية التى عرفتها تعطي الانطباع بالحياة،وتعممها على الجميع.لكن حتى من عرفتهم الكاتبة لا أعتقد أنه يمكن تلخيصهم بهذه المسارات النمطية.ان ما رصدته الكاتبة من ملامح دقيقة فى وصفها للمسارات المتشعبة التى شقت طريقها فى العلاقات الاجتماعية والانسانية قد فقدت قوتها عندما أخضعت للنمذجة.وكان من الأجدر بالكاتبة أن ترسمها كملامح ضمن مسار أكثر غنى واتساع،وأن ترصد التناقضات الأكثر تعقيدا فى حركتها لا فى سكونها.لو أنها فعلت ذلك لكانت أعطتها غنى التجربة الذاتية بدلا من فقر التعميمات القاطعة المانعة،خاصة مع مجتمع كالمجتمع المصرى،صمته مخادع لأنه كصمت البحر،سكون خارجى لتحولات وحركة غير عادية فى الأعماق وعلى كل الأصعدة.
الحقيقة أن أروى لم تكذب ولكنها لم تقل الحقيقة.لقد اختارت أجزاء منها وجمعتها لتعطى مصداقية للحكم الذى أرادته.لذا لا أستطيع أن أرى النص منصفا،بل أجده يتحرك فى منطقة"الكتش"التى أدانتها أروى فى مقدمتها،والتى تصفها بأنها " تعطى الاجابات مسبقا محرمة بذلك أى سؤال جديد".
مشاكل حقيقية حولتها لادانات مطلقة:"النقاش بلا نهاية لاناس لا ثمن للوقت عندهم…بديل عن العمل المنتج والتواصل الانسانى المفقود"،أوهام"الصفوة" التى تحمل "الوعي" للجماهير،منطق العزلة…الخ.
قد يكون الرصد لعجز البرجوازية الصغيرة،فى صراع أعلى من امكانياتها،ولتخيلاتها الكاريكاتورية عن حجمها القيادي،يحمل ومضات ذكية جدا للكاتبة،لكن الواقع الذى ترصده لا يحتمل بالتأكيد مثل هذه الشماتة، فالوضع أكثر مأساوية. من جهة أخرى لا يستدعى الأمر كل هذا الكم من جلد الذات لدرجة الانسحاق.وهذا فى اعتقادي وجه آخر لمآسي أفكار البرجوازية الصغيرة التى تعجز دائماعن رصد تاريخنا بدقة كجزء من تاريخ عام نحركه ويحركنا، نحن مواده الحية، نحن الفعل والفاعل والمفعول به فى آن واحد.
مأزق كتاب المبتسرون أنه لم يتجاوز اللغة التى أراد نقدها، رغم الرغبة الجميلة المحمومة لكشف زيف هذه اللغة. فبدا وكأنه يبحث فى صندوق ملئ بالأشياء الصغيرة وهو فى أقصى الاحتياج لشئ ما مصيري يختفي هناك، فيبدأ بنثر الأشياء من داخل الصندوق وهو محموم فى عملية البحث، يخرج بأشياء تبدو مفيدة ولكنها ليست ما يبحث عنه.
الرغبة لم تشبع والحمى تتولد مع كل لحظة لتؤكد عجزه عن الوصول لمناطق الرغبة الحقيقية.
* كتب هذا المقال في التسعينات ( فى 15 -7 -1997 )
، قبل وفاة أروى صالح بأشهر قليلة و قد نشر في جريدة السفير اللبنانية في الصفحة الثقافية: