خيل إلي أنني سمعت هذا الصوت من قبل… نفس الصوت الذي يتردد الآن في الفضاء… يتماوج ببطء _يتكسر_ يتصاعد في عنف، ويعود يتفتت _عواء وتشنج_ يتفتت إلى صرخات قصيرة.
نفس الصوت يدعوني إلى الوقوف في الصف بلهجة الأمر _لهجة صارمة لها امتداد كالصرير_ أفاجأ بالأمر والموقف من أساسه وأفاجأ بصورة خاصة من أمر الاتضمام إلى الطابور الآدمي الطويل لم يأت من شخص معين _أو مصدر محدد_ أما أن يكون أمر صارم وحسب _ويحمل نبرة تهديد_ ومتجاهل لاحتمالات الرفض وعواقبه _فهذا ما لم أستطع تقبله بسهولة_ ولم يكن ليخطر ببالي قط.
واصلت سيري المتمهل بلا مبالاة _تذكرت نكتة بذيئة_ وكنت على وشك أن أضحك مع نفسي. حينئذ اصطدمت بالصوت مرة أخرى _لعنة وغضب _صدى احتقار_ وحشي وصاعق على نحو يصيب المرء بالصمم.
كأنني فقدت وعيي أو كأن في الأمر قوة سحرية _استدرت على الفور_ واتجهت دون أن التفت نحو نهاية السور البشري _ووقفت في الخلف _كنت الأخير_ أخذت أجفف العرق البارد الذي غطى عنقي وجبيني وقد تلاشى الصوت المدوي وخيم صمت متوتر فوق الرؤوس _ولم يكن هناك أي شيء يتحرك أو ينم عن وجود حياة على امتداد السلسلة الآدمية_ ولم يكن يسمع غير صرير الباب الزجاجي الذي يفتح بين وقت وآخر ويبتلع أحد الرجال _الذي يدخل لا يرى يخرج مرة أخرى_ يقفل الباب_ يفغر فاه_ بعد لحظة_ من جديد_ في مواجهة الارتباك والخوف والعرق المتجمد.
تشاغلت عن تثاقل الوقت والشعور بالسأم والحيرة بأن غرقت في حديث صاخب مع نفسي.
الذي يقف في آخر الصف الآن بأمر مجهول يكتسب صفة السحر _هو مجرد موظف تعس_ هو أنا _تمثال من الطوب الهش_ يمتص الهواء والزمن ويغفو فوق عناوين الصحف اليومية_ يندس في الزحام ويتفرج على الناس وهم يركضون وينامون ويتناسلون فوق سرير كبير. يتخاصمون مع الأيام ويسلخون جلود النساء _يتكومون على حافة السرير في الوقت الذي كله فراغ ويثرثرون_ تتسخ ملاءة السرير تغسل بماء المطر _تجففها الشمس_ وما إن يسقط رجل أو امرأة من على حافة السرير _حتى تمتد عشرات الأيدي المعروقة تلتقط الجسد وتلقي به في صندوق خشبي مظلم ومحكم الغطاء وتطوح به بعيداً.
وعندئذٍ ينفض الرجال أيديهم في ضجر ويتكومون في وسط السرير يعددون خطايا الرجل الذي انتقل_ دون أن يدري إلى رحمة الله.
وفي كل صباح يكرر تمثال الطين لعبته المملة_ يندس في بذلة مغبرة ويتلمس رأسه ويخرج إلى الشارع_ ويفاجأ في كل وقت بأنه محاصر_ ولهذا نراه يفتعل المشاجرات مع الجدران والعربات_ يعلق عينيه بالشرفات_ تسقط الشرفات في عينيه_ يتفجر رعباً_ يكتشف أن في كل شرفة ثمة فتاة ميتة_ ويقسم تمثال الطين بالذي خلقه من طين بأنه لن يعود مطلقاً إلى غرس عينيه في اللحم الميت_ وإثارة الحرب مع الحجارة والظلال والعربات والنجوم المفرعة من الضوء.
وفي كل يوم يجدد التمثال قسمه الغليظ ولكن… هاهو الصوت اللعين يثور مرة أخرى ملتوياً ومقاطعاً.
لا تضع يدك في جيبك.
أستجيب للأمر بانتظار أن تحدث المعجزة ويتلاشى الضباب_ ويصبح في وسعي أن أطل على اللغز من أعلى أرى وجهه وأتفرس في ملامحه وأغمسه في الضوء_ أعود إلى أمي وأحكي القصة كلها مع أنها لن تصدق شيئاً مما سأقوله_ إذ أن أمي تؤكد دوماً أن السري الذي يتسع لكل شيء_ لا يضيق بالأكاذيب المضحكة في نهاية الأمر.
يتناقص الصف_ الذي يدخل لا يخرج_ ولم يبق ما يفصلني عن الباب سوى رجل واحد_ إنه نفس الرجل المرتعب_ والذي كنت أنصت إلى دقات قلبه كأنها دقات ساعة قديمة_ مرتعب حقيقة حتى أنه ارتجف عندما همست في أذنه متسائلاً عن الباب الزجاجي وما يضمنه المبنى الكبير_ ارتجف ولم يتكلم..
انسل أخيراً وراء صرير الباب الزجاجي_ بقيت وحيداً_ رحلت الشمس وامتدت ظلال غائمة فوق الأرض_ هبت رياح باردة_ وأحاطت بالمبنى ظلمة موحشة.
وفتح الباب للمرة الأخيرة ودخلت_ تلاشى في نفسي كل إحساس بالخوف_ سرت…. بضع خطوات في ممر شاحب الضوء_ على جانبيه أبواب مقفلة متقابلة_ وفوق الجدران تناثرت كتابات مختلفة ومشوشة.
ورحت أقرأ ما كتب بخط رديء_ بصعوبة أميز الحروف_ وكانت تفصل بين الجمل والكلمات نقاط مضيئة حمراء.
(انتبه..
(الضحك عادة بالية
(لا تحاول الفهم_ محاولة الفهم مصيبة.
(القناع_ أي قناع
الليل قناع).
شعرت بالأسى لأنني لم أفهم شيئاً واجتزت الممر مطارداً باليأس_ دلفت إلى قاعة فسيحة عارية من أي أثاث_ وكان هناك مصباح معلق في السقف يصب ضوءه فوق جسد امرأة عارية_ ممددة_ منفرجة الساقين فوق البلاط دون حركة.
أقترب من المرأة في وجل_ وقد خيل إلي في البداية أن ما أراه هو حلم يقظة_ المرأة السر_ وحلم أولئك الذين يموتون فجأة_ النشوة المحنطة. الانتظار المحرق على حافة السرير الكبير_ الدم المسفوح_ ثم… ثم هاهي امرأة مباحة وجاهزة.
أجتاز المسافة القصيرة بقفزة_ وأطل على العرى المضيء اللافح_ أضحك مشدوهاً_ أتذكر الذين مروا قبلي_ وأخطئ في عددهم_ كل ذلك لا يهم الآن_ الانتظار في الشمس والصوت الصارم_ كل ذلك انتهى إلى وليمة لحم خيالية.
انحنيت مرتعشاً_ مددت يداً راعشة_ اختلط فوران دمي بعرقي وأنفاسي الوحشية_ مات الزمن_ أمي العزيزة لن تصدق الحكاية_ أقترب من المرأة اللعنة والجحيم_ يسقط رأسي بين يدي_ وفجأة_ كما لو أنني كنت أهوي من جبل_ اكتشفت أن المرأة جثة_ جثة عارية متصلبة.
كل هذا الجمال بلا حرارة_ النار المنطفئة_ والشعر الطويل بلا لمعان_ له ملمس الخشب_ خشونته ولونه الباهت.
الثديان انكمشا فوق الصدر مترهلين_ منبعجين_ لا ينطلق منهما شرر ولا ضوء ولا رجفة_ الساقان منفرجتان وفي حالة انتظار_ مفتوحتين على الصمت والموت والخيبة_ تنتظران غزوة لن تقع_ ورخة مطرة جفت في الهواء_ تنتظران دفقات دماء غاضت_ الساقان ممر مغلق.
شيطان هو الذي لابد دبر هذه المكيدة_ أمسكت برأسي بين يدي_ وفي هذا الوقت تردد الصوت المألوف_ في وقار مفتعل ورصانة ثقيلة.
(وقع على الجسد وغادر الحجرة في الحال).
لم أجد في نفسي أي قوة لتحريك أصابعي… التوقيع أو الموت.
(الوقت ضيق).
عدت أحملق في اللحم قطعة اللحم المحنطة، ولاحظت في تلك اللحظة فقط أن كل الذين سبقوني إلى القاعة قد تركوا وراءهم توقيعاتهم وبصمات أصابعهم قبل أن يغادروا المكان_ ولمحت فوق الجثة دوائر صغيرة وخطوطاً ملتوية ومتشابكة وقطرات لعاب لزج_ وكان الجسد مغطى ببقع حمراء كأنها قرصات وحشية ملتهبة.
ولم يكتف البعض كما يبدو بالقرص وحده_ بل إن هناك من غرس أسنانه في اللحم الميت.
* * *
غادرت القاعة مسرعاً_ أغالب نوبة بكاء ولكن ضحكة غريبة انطلقت وراء ظهري المنحني_ ضحك ناعم ومنغم_ إنها المرأة التي كانت منذ قليل مشرعة الساقين تنتظر المطر_ المرأة الجثة التي حملت فوق جسدها توقيعات جميع سكان المدينة_ هاهي تعود إلى الحياة فجأة وتضحك بإغراء هائل.
جففت دموعي واستدرت عائداً إلى القاعة_ انطلق الصوت المعربد يسد طريقي ويهز المبنى كله من أساسه.
هي فرصة واحدة وضاعت وعليك أن تغادر المبنى حالاً.
خرجت ولم أترك ورائي غير الخيبة والمرأة العفنة_ والصوت المتصلب يتردد بلا انقطاع.
(أن تحيا كإنسان فرصة واحدة
أن تحيا…)
خرجت من المبنى الأسطوري ولم أستطع حتى الآن أن أخرج من قالب الطين الذي ورثته عن أبي وجدي.
فبراير 1975 م
خليفة حسين مصطفى
نفس الصوت يدعوني إلى الوقوف في الصف بلهجة الأمر _لهجة صارمة لها امتداد كالصرير_ أفاجأ بالأمر والموقف من أساسه وأفاجأ بصورة خاصة من أمر الاتضمام إلى الطابور الآدمي الطويل لم يأت من شخص معين _أو مصدر محدد_ أما أن يكون أمر صارم وحسب _ويحمل نبرة تهديد_ ومتجاهل لاحتمالات الرفض وعواقبه _فهذا ما لم أستطع تقبله بسهولة_ ولم يكن ليخطر ببالي قط.
واصلت سيري المتمهل بلا مبالاة _تذكرت نكتة بذيئة_ وكنت على وشك أن أضحك مع نفسي. حينئذ اصطدمت بالصوت مرة أخرى _لعنة وغضب _صدى احتقار_ وحشي وصاعق على نحو يصيب المرء بالصمم.
كأنني فقدت وعيي أو كأن في الأمر قوة سحرية _استدرت على الفور_ واتجهت دون أن التفت نحو نهاية السور البشري _ووقفت في الخلف _كنت الأخير_ أخذت أجفف العرق البارد الذي غطى عنقي وجبيني وقد تلاشى الصوت المدوي وخيم صمت متوتر فوق الرؤوس _ولم يكن هناك أي شيء يتحرك أو ينم عن وجود حياة على امتداد السلسلة الآدمية_ ولم يكن يسمع غير صرير الباب الزجاجي الذي يفتح بين وقت وآخر ويبتلع أحد الرجال _الذي يدخل لا يرى يخرج مرة أخرى_ يقفل الباب_ يفغر فاه_ بعد لحظة_ من جديد_ في مواجهة الارتباك والخوف والعرق المتجمد.
تشاغلت عن تثاقل الوقت والشعور بالسأم والحيرة بأن غرقت في حديث صاخب مع نفسي.
الذي يقف في آخر الصف الآن بأمر مجهول يكتسب صفة السحر _هو مجرد موظف تعس_ هو أنا _تمثال من الطوب الهش_ يمتص الهواء والزمن ويغفو فوق عناوين الصحف اليومية_ يندس في الزحام ويتفرج على الناس وهم يركضون وينامون ويتناسلون فوق سرير كبير. يتخاصمون مع الأيام ويسلخون جلود النساء _يتكومون على حافة السرير في الوقت الذي كله فراغ ويثرثرون_ تتسخ ملاءة السرير تغسل بماء المطر _تجففها الشمس_ وما إن يسقط رجل أو امرأة من على حافة السرير _حتى تمتد عشرات الأيدي المعروقة تلتقط الجسد وتلقي به في صندوق خشبي مظلم ومحكم الغطاء وتطوح به بعيداً.
وعندئذٍ ينفض الرجال أيديهم في ضجر ويتكومون في وسط السرير يعددون خطايا الرجل الذي انتقل_ دون أن يدري إلى رحمة الله.
وفي كل صباح يكرر تمثال الطين لعبته المملة_ يندس في بذلة مغبرة ويتلمس رأسه ويخرج إلى الشارع_ ويفاجأ في كل وقت بأنه محاصر_ ولهذا نراه يفتعل المشاجرات مع الجدران والعربات_ يعلق عينيه بالشرفات_ تسقط الشرفات في عينيه_ يتفجر رعباً_ يكتشف أن في كل شرفة ثمة فتاة ميتة_ ويقسم تمثال الطين بالذي خلقه من طين بأنه لن يعود مطلقاً إلى غرس عينيه في اللحم الميت_ وإثارة الحرب مع الحجارة والظلال والعربات والنجوم المفرعة من الضوء.
وفي كل يوم يجدد التمثال قسمه الغليظ ولكن… هاهو الصوت اللعين يثور مرة أخرى ملتوياً ومقاطعاً.
لا تضع يدك في جيبك.
أستجيب للأمر بانتظار أن تحدث المعجزة ويتلاشى الضباب_ ويصبح في وسعي أن أطل على اللغز من أعلى أرى وجهه وأتفرس في ملامحه وأغمسه في الضوء_ أعود إلى أمي وأحكي القصة كلها مع أنها لن تصدق شيئاً مما سأقوله_ إذ أن أمي تؤكد دوماً أن السري الذي يتسع لكل شيء_ لا يضيق بالأكاذيب المضحكة في نهاية الأمر.
يتناقص الصف_ الذي يدخل لا يخرج_ ولم يبق ما يفصلني عن الباب سوى رجل واحد_ إنه نفس الرجل المرتعب_ والذي كنت أنصت إلى دقات قلبه كأنها دقات ساعة قديمة_ مرتعب حقيقة حتى أنه ارتجف عندما همست في أذنه متسائلاً عن الباب الزجاجي وما يضمنه المبنى الكبير_ ارتجف ولم يتكلم..
انسل أخيراً وراء صرير الباب الزجاجي_ بقيت وحيداً_ رحلت الشمس وامتدت ظلال غائمة فوق الأرض_ هبت رياح باردة_ وأحاطت بالمبنى ظلمة موحشة.
وفتح الباب للمرة الأخيرة ودخلت_ تلاشى في نفسي كل إحساس بالخوف_ سرت…. بضع خطوات في ممر شاحب الضوء_ على جانبيه أبواب مقفلة متقابلة_ وفوق الجدران تناثرت كتابات مختلفة ومشوشة.
ورحت أقرأ ما كتب بخط رديء_ بصعوبة أميز الحروف_ وكانت تفصل بين الجمل والكلمات نقاط مضيئة حمراء.
(انتبه..
(الضحك عادة بالية
(لا تحاول الفهم_ محاولة الفهم مصيبة.
(القناع_ أي قناع
الليل قناع).
شعرت بالأسى لأنني لم أفهم شيئاً واجتزت الممر مطارداً باليأس_ دلفت إلى قاعة فسيحة عارية من أي أثاث_ وكان هناك مصباح معلق في السقف يصب ضوءه فوق جسد امرأة عارية_ ممددة_ منفرجة الساقين فوق البلاط دون حركة.
أقترب من المرأة في وجل_ وقد خيل إلي في البداية أن ما أراه هو حلم يقظة_ المرأة السر_ وحلم أولئك الذين يموتون فجأة_ النشوة المحنطة. الانتظار المحرق على حافة السرير الكبير_ الدم المسفوح_ ثم… ثم هاهي امرأة مباحة وجاهزة.
أجتاز المسافة القصيرة بقفزة_ وأطل على العرى المضيء اللافح_ أضحك مشدوهاً_ أتذكر الذين مروا قبلي_ وأخطئ في عددهم_ كل ذلك لا يهم الآن_ الانتظار في الشمس والصوت الصارم_ كل ذلك انتهى إلى وليمة لحم خيالية.
انحنيت مرتعشاً_ مددت يداً راعشة_ اختلط فوران دمي بعرقي وأنفاسي الوحشية_ مات الزمن_ أمي العزيزة لن تصدق الحكاية_ أقترب من المرأة اللعنة والجحيم_ يسقط رأسي بين يدي_ وفجأة_ كما لو أنني كنت أهوي من جبل_ اكتشفت أن المرأة جثة_ جثة عارية متصلبة.
كل هذا الجمال بلا حرارة_ النار المنطفئة_ والشعر الطويل بلا لمعان_ له ملمس الخشب_ خشونته ولونه الباهت.
الثديان انكمشا فوق الصدر مترهلين_ منبعجين_ لا ينطلق منهما شرر ولا ضوء ولا رجفة_ الساقان منفرجتان وفي حالة انتظار_ مفتوحتين على الصمت والموت والخيبة_ تنتظران غزوة لن تقع_ ورخة مطرة جفت في الهواء_ تنتظران دفقات دماء غاضت_ الساقان ممر مغلق.
شيطان هو الذي لابد دبر هذه المكيدة_ أمسكت برأسي بين يدي_ وفي هذا الوقت تردد الصوت المألوف_ في وقار مفتعل ورصانة ثقيلة.
(وقع على الجسد وغادر الحجرة في الحال).
لم أجد في نفسي أي قوة لتحريك أصابعي… التوقيع أو الموت.
(الوقت ضيق).
عدت أحملق في اللحم قطعة اللحم المحنطة، ولاحظت في تلك اللحظة فقط أن كل الذين سبقوني إلى القاعة قد تركوا وراءهم توقيعاتهم وبصمات أصابعهم قبل أن يغادروا المكان_ ولمحت فوق الجثة دوائر صغيرة وخطوطاً ملتوية ومتشابكة وقطرات لعاب لزج_ وكان الجسد مغطى ببقع حمراء كأنها قرصات وحشية ملتهبة.
ولم يكتف البعض كما يبدو بالقرص وحده_ بل إن هناك من غرس أسنانه في اللحم الميت.
* * *
غادرت القاعة مسرعاً_ أغالب نوبة بكاء ولكن ضحكة غريبة انطلقت وراء ظهري المنحني_ ضحك ناعم ومنغم_ إنها المرأة التي كانت منذ قليل مشرعة الساقين تنتظر المطر_ المرأة الجثة التي حملت فوق جسدها توقيعات جميع سكان المدينة_ هاهي تعود إلى الحياة فجأة وتضحك بإغراء هائل.
جففت دموعي واستدرت عائداً إلى القاعة_ انطلق الصوت المعربد يسد طريقي ويهز المبنى كله من أساسه.
هي فرصة واحدة وضاعت وعليك أن تغادر المبنى حالاً.
خرجت ولم أترك ورائي غير الخيبة والمرأة العفنة_ والصوت المتصلب يتردد بلا انقطاع.
(أن تحيا كإنسان فرصة واحدة
أن تحيا…)
خرجت من المبنى الأسطوري ولم أستطع حتى الآن أن أخرج من قالب الطين الذي ورثته عن أبي وجدي.
فبراير 1975 م
خليفة حسين مصطفى