أمل الكردفاني- الخردة _ مسرحية من مشهد واحد

المسرح:
ساحة معركة قديمة ؛ تتوزع فيها بقايا أسلحة ثقيلة وخفيفة..وعلى وجه الخصوص مدفع طويل يخرج من رأس دبابة مدفونة حتى ثلثها بوضع جانبي وكأنما أصابها مدفع مضاد للدبابات..تتناثر خوذات وبقايا مدرعات وملابس ..الخ.
من الجانب الأيمن للمسرح يدخل أستاذ وخلفه سبعة طلاب ؛ اربعة ذكور وثلاث إناث في الثانية عشر من أعمارهم تقريبا..
يتجه الأستاذ نحو خوذة ويرفعها متأملا في حين يركز التلاميذ في الدبابة حيث يتسلقها أحدهم ويصدر ٱخر صوت طلقات رصاص بفمه....
يلتفت الأستاذ وراءه
الأستاذ: يا أولاد...تفرجوا على باقي معركة المجد...لا تركزوا كل نشاطكم في الدبابة ..إن الدبابة أضعف الأسلحة رغم حجمها الكبير...لا قيمة لها في حرب المدن..يستطيع جندي واحد أن يغطي نافذتها الصغيرة بالطين فلا يرى سائقها شيئا...ووفقا للتكنولوجيا الراهنة فاصابتها بطائرة درون من أعلى أسهل من ضرب أمهاتكم لكم قذفا بالنعال..
(يتأمل التلاميذ الدبابة بإعجاب..ويتجه الأستاذ لبقايا مدرعة..ينحني داخلها)..
الأستاذ: (يصيح) يا الله ..خاتم فضي منقوش عليه أسم خطيب وخطيبته...هل مات يا ترى...أم عاد وتزوجها...أو..أو ربما أصيب بإعاقة مزمنة..فتزوجت غيره..أو حتى عاد واختلف معها وتركا بعضهما..ربما اختلفا بسبب ضياع الخاتم منه فالفتيات يثرن المتاعب بسبب أشياء تافهة ويغضبن حتى وهن في الجنة...
(تصرخ صبية...فيجزع الأستاذ ويتجه نحوها)..
الصبية: (باكية) انه يمنعني من اللعب بالدبابة معه..
الصبي: (بخوف وكذب واضح) لم أمنعها..
الصبية: بل منعتني...
ولد ٱخر: بل منعتها..
الصبي: لا تكذب...
ولد ثان: لم يكذب...
الصبي: (يدور مغطيا وجهه بذراعيه ويجهش بالبكاء)..
الأستاذ: حسن..هذا ليس وقت الشجار حاولوا أن تستمتعوا ..
صبية ثانية: لا شيء ممتع هنا..
الأستاذ: كيف ذلك.. هنا كانت معركة الكرامة بين جيشنا قليل العدد وجيش الأعداء..لقد انهزمنا ولكن بعد أن قاوم أجدادنا مقاومة مستميتة..
الصبية الثانية: لا شيء جميل هنا..
الأستاذ: ستكبري وستفهمي ما أقوله لكم..
الصبية الثانية: (تبكي) أريد العودة إلى المنزل...
صبية ثالثة: وأنا كذلك...
الصبي الأول: أنا أيضا..
(يبكي جميع الأطفال)
الأستاذ: يا لكم من أولاد غير مهذبين.. انكم حتى لم تحاولوا سؤالي عن المعركة ولا تاريخها...
(يدير ظهره لهم ويتجه الى الركن الأيسر للمسرح ويلتقط سكينا من على الأرض فيتوقف الاولاد عن البكاء ويعودوا للدبابة)
على الدولة أن تحول هذا المكان لمتحف تاريخي..كم هي مهملة.. إنها المعركة التي هزت العالم بأسره...
(يدخل رجل وهو يجر حماره)
الرجل: ركوب الحمار بعشرة قروش يا أطفال...
(يبتهج الأولاد ويلتفوا حول الأستاذ يرجونه أن يدفع لهم ليركبوا الحمار)
الأستاذ: لا تقفوا خلف الحمار فرفسة واحدة منه قد تقتل أحدكم...
الرجل: لا تخش شيئا يا سيدي فحماري مستأنس ويحب الأطفال..
الأستاذ: في النهاية هو حيوان لا يؤمن جانبه...وأنت لن تدفع دية الميت.
الرجل: (بقلق) دية؟!! حقا..
(يهش الاولاد عن الحمار..)
الأستاذ: بكم ركوب الطفل الواحد..
الرجل: عشرة قروش سيدور بهم الحمار لعشر دقائق ويعود من تلقاء نفسه..
الأستاذ: حمار ذكي..
الرجل:أحيانا لا أعرف أينا الحيوان وأينا الإنسان...تارة ينبهني لأشياء أغفل عنها...وتارة أنبهه لأشياء يغفل هو عنها...
الأستاذ: جيد...بينكما علاقة وطيدة..
الرجل: أربع سنوات ..أو ربما ثلاث.. لا أتذكر بالتحديد...اشتريته من امرأة عوراء..باعته لتدفع ثمن تكاليف معيشة ابنها في المدينة..إنه كان لا زال طالبا هناك...
الأستاذ: ألا تهتم الحكومة ببقايا هذه المعركة الخالدة؟
الرجل: لا أعرف..عاد الفتى قبل أشهر لأمه بساق واحدة...لقد أصيب بطلق ناري في احتجاجات سياسية...مع ذلك فقد تم تعيينه في دار البلدية...
الأستاذ: البلدية تحديدا هي التي يقع على عاتقها حماية هذه الٱثار التاريخية..
الرجل: نعم .. البلدية تعاني من الفساد..يبدو أن الفتى قاومهم ففبركوا له تهمة وتم طرده هو وأمه من هنا.. لكنني كسبت حمارا ذكيا في النهاية..أخبرت أمه زمان بأن على ابنها أن يأتي ويعمل معي بدلا عن التعليم الذي لا فائدة منه....
الأستاذ: (بحنق) التعليم لا فائدة منه..
الرجل: (يقلق) لا أقصد ذلك بالضبط..لكن أغلب شباب القرية عاد ولم يعمل...
الأستاذ: (غاضبا) هذا لا يعني أن التعليم لا جدوى منه...
الرجل: نعم..صحيح..ربما اخطأت التعبير..
الأستاذ: ليس ربما ..بل مؤكد أنك اخطأت التعبير... (ينظر تجاه الجمهور) كانت معركة حاسمة..انتصر الاعداء لكن السمعة الاعلامية للمعركة اضطرتهم للانسحاب..انتصرنا بسبب الهزيمة..
الرجل: لقد سمعت ان الفتى هاجر الى هناك.. وأمه ماتت. قبل أن تلحق به....
الأستاذ: لا بأس ..يبدو أنه ولد بلا قيم..لو كان له مبادئ لما هاجر لبلاد الأعداء ولخدم وطنه كما نفعل...
الرجل: لا أعرف..لكن الأطفال مهتمون بالدبابة أكثر من حماري...لو نستطيع تحريك هذه الدبابة قليلا...كانت لتساعدني على كسب بعض الرزق قليلا...هل سيركب الأولاد في حماري؟
الأستاذ: لا.. ميزانية الرحلة لم تتضمن ذلك..إننا مدرسة حكومية..
الرجل: ولكن أي رحلة هذه؟!!! هل إلى هذا المكان المقفر؟!!!
الأستاذ: هذا مكان تاريخي..معركة المجد...
الرجل: كل شيء انتهى..ما الفائدة من زيارة بقايا مدرعات؟!! هذا غير مسل خاصة للأطفال..
الأستاذ: المقصود هو ربط الطفل بتاريخ وطنه ليرتبط بوطنه...
(يدخل رجل وهو محام يرتدي ربطة عنقه ومعه رجل قصير يبدو أجنبيا)
المحامي: ها أنت ترى بنفسك سيدي الخردواتي أن هذا الحديد غال جدا...مدرعات..يعني حديدا ثقيلا...
الخردواتي: (بلغة مكسرة) صحيح..لكن الحديد الخفيف أفضل..
المحامي: تريد أن تمارس لعبة التجارة معي..ربما أنا محامي ولست تاجرا ولكنني شيطان في التجارة..لا تحاول التلاعب معي..ستدفع ثلاثة ملايين على هذه الخردة..
الخردواتي: (يضحك) انت تمزح بالتأكيد..
الأستاذ: (بارتياب) من أعطاك حق بيع ممتلكات الشعب يا سيد؟
المحامي: (يشعر بالفزع) من أنت..أنا محامي وأعرف ما أفعل بالضبط...
الأستاذ: ماذا تفعل بالضبط؟
المحامي: هذا ليس من شأنك..
الأستاذ: بل هو من شأني ما دمت مواطنا وهذا الحديد هو بقايا تاريخ وطني..
المحامي: لقد أبرمت اتفاقا مع الولاية ولا تملك أي شيء في يدك..
الأستاذ: بل أملك...أملك الإعلام..أملك رفع صوتي بالصراخ (يصرخ) تعالوا أيها المواطنون..تعالوا وانظروا كيف يبيعون تاريخكم...
الرجل صاحب الحمار: لا علاقة لي بهذا ..إلى اللقاء (يغادر)..
المحامي: (ينقض على الأستاذ ويكمم فمه بيده) لا تصرخ أيها المزعج...
(يتحلق الأطفال حول الرجال الثلاثة)..
الأستاذ: سأصرخ ..إنك لم تر شيئا بعد أيها الخائن..العميل..المندس..
المحامي: لا تكن أحمقا..(يلتفت للخردواتي) ستة ملايين هو ثلاثة وأنا ثلاثة..ما رأيك..لا نملك الكثير من الوقت..ها أنت ترى أن كل دقيقة ستحول بينك وبين هذا الكنز...
الأستاذ: هذا هو المستحيل بعينه...تاريخ الوطن لا يقيم بكنوز الدنيا...
الخردواتي: وافقت أيها الرجل..لا تعطل مصالحنا..
الأستاذ: على أي شيء توافق..هل أنت مجنون..حقا أنت مجنون لو كنت تتصور أن تاريخنا يمكن أن يكون محلا للبيع والشراء.. واهم..سوف أضعكما في السجن أيها. اللصوص..
المحامي: لن تستطيع..أنت تضيع علينا الملايين....هذه خردة لا فائدة منها...لا تكن مغفلا..فالوطن للأذكياء أمثالنا والوطنية للأغبياء..
الأستاذ: بل. الوطن والوطنية لنا..أما أنت وأمثالك فأنتم خونة ومكانكم المشانق...(ينظر للخردواتي) أيها الخردواتي اللص..سوف أعلقك على المشنقة إلى جانبه..
الخردواتي: وما علاقتي أنا..
الأستاذ: علاقتك أنك جاسوس ضد وطني...
الخردواتي: (بفزع) لست جاسوسا...
الأستاذ: بل جاسوس..تريد شراء تاريخ شعب كامل بستة ملايين أيها اللص..
الخردواتي: إنها مجرد خردة..
الأستاذ: أيها الكذاب..إنك تعلم جيدا أنها آثار تاريخية محلها المتاحف العالمية لمعركة انقضت قبل قرن من الزمان...وأن أي متحف سيكون مستعدا لشرائها بعشرين مليونا على الأقل..
الخردواتي: لن يشتروها بهذا الثمن..
الأستاذ: هل تراهن؟.. سأجري الآن اتصالا بصديق خبير في الآثار..
الخردواتي: لكنني لست متحفا..أنا تاجر آثار صغير...
المحامي: (ينظر للخردواتي بدهشة) ألست خردواتي؟
الخردواتي: (بنفاد صبر) خردواتي طبعا وتجارة الآثار جزء من عملي..
الأستاذ: هل رأيت أيها المحامي الخائن كيف كان يستغل جهلك..
المحامي: (يطأطئ رأسه خجلا)..حقا..لقد..لقد خدعني هذا اللص..
الأستاذ: خمسة عشر مليونا لا تنقص مليما واحدا...أو أغرب عن وجهي..
الخردواتي: ألا يمكننا أن نتفاوض..
الأستاذ: لا تفاوض..تعطي هذا المحامي الجاهل ثلاثة ملايين والباقي لي..هل فهمت..
الخردواتي: (يمد يده مصافحا) اتفقنا...
الأستاذ: لا أصافح الجواسيس..هيا انجز عملك بسرعة... وأنت أيها المحامي الفاشل..أنجز عقودنا فورا...
المحامي: (يرتبك) حسن..حسن..
الأستاذ: (يجمع الأطفال) أنظروا يا أطفال...هل رأيتم تاريخ أجدادكم هذا..إنه تاريخ مخز...سوف تتخرجون من الجامعات وتهاجروا للبلاد التي طرد أجدادكم شعوبها من أرضهم...لأن أجدادكم حمقى ومتخلفين...
التلاميذ: أجدادنا ليسو حمقى..
الأستاذ: بل حمقى..
التلاميذ: ليسو حمقى..
الأستاذ: سأشتري لكم دراجات كهربائية..
(يقفز الأطفال فرحا)
الأستاذ: (يتجه نحو مقدمة المسرح ويتحدث بعينين براقتين) هيييه.. التاريخ هو ككل شيء.. هو ككل شيء.. نحن من نعطه قيمة أو ننزع عنه كل قيمة...تماما كالنظريات..ولكن نحن أبناء الحياة..لا شك في قيمة حياتنا ووجودنا الراهن...(يلتفت للمحامي) هيا انجز عملك أيها المحامي الفاشل ولا تقف جامدا كالتمثال هكذا..
المحامي: حسن..إذا..فلنذهب إلى مكتبي لاتمام الصفقة..
(يخرج الجميع)

(ستار)
التفاعلات: عبد الرحيم سليلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...