قالت له: جئتك لتكتب ما أشعر به..
شعرها الأسود ملفوف للخلف ككعكة كبيرة..
نفث دخان سجارته وعدل نظارته وهو يحدق في وجهها بقلق.
قالت بنفاد صبر: أنت -صحفي..أليس كذلك؟
رمش بجفنيه عدة مرات وكأنه يقول نعم..
قالت: طيب ..هذا يعني أنك تجيد الكتابة.. وأنا لا أجيدها...
قال: حسن.. بماذا تشعرين...
ثم رفع حاسبه المحمول على فخذيه وقال:
- يجب أن تفهمي يا سيدتي أنني لست طبيبا نفسيا...مع ذلك فالكاتب الجيد يملك خبرة لا بأس بها سايكولوجيا..
أخرجت سجارة رفيعة وطويلة ثم أشعلتها:
- هل يمكنني التدخين..
- كنت أدخن أمامك قبل قليل..
قالت بضجر: هذا السؤال من باب الذوق..
قال: حسن.. آسف .. إن الأمر مربك برمته...والآن..ماذا تريدين أن تقولي؟
نزعت السجارة عن ثغرها ونظرت اليه كأنما تلومه:
- لو كنت أعرف لما لجأت إليك؟ لا تجعلني أشعر بأنني لجأت للشخص الخطأ..
كان بإمكانه طردها بسبب هذه الوقاحة لكنها كانت جميلة وحمقاء...
قال:
- لكن يجب أن تكون هناك علامات أو إشارات لكي أعرف..لست نبيا... مثلا لماذا تريدين كتابة ما تشعرين به...وماذا ستفعلين به بعد ذلك..هل تودين نشره في كتاب مثلا...
أطفأت السجارة ورفعت رأسها محدقة في السقف بحيرة...ثم غمغمت:
- لا أعرف.. لكنني اتألم على نحو ما...أعتقد أنني لو كتبت شعوري فقد يختفي..أو..أو.. ربما أفهم نفسي..
- من أي شيء تتألمين؟
حدقت فيه بعينيها ذات الرموش الكثيفة مندهشة:
- يا إلهي..قلت لك لا أعرف..
وضع حاسبه في الطاولة وقال:
- قلت لك لست نبيا...
قالت غاضبة:
- هل تعني أنك لا تريد مساعدتي؟
قال بخجل:
- أريد مساعدتك ولكن بما أستطيع يا سيدتي...أما أن أغوص داخل أعماقك فهذا خارج قدراتي الطبيعية كبشري..
ارتسم الحزن على وجهها..وارتخى جسدها على مقعدها باستسلام...
قال: حتى اللغة لا تفلح كثيرا مع من يجيدون استخدامها..انها ناقصة جدا...فضفاضة جدا .. ليست كاملة كما يظن الناس..كلها مجازات فقط لمحاولة تقريب ما نشعر به أو نفكر فيه لأذهان الآخرين...ربما..ربما انت لا تحتاجين لمن يكتب لك..ربما تحتاجين أكثر من ذلك..ربما تحتاجين تعلم فن من الفنون التعبيرية..الرسم أو العزف على ٱلة موسيقية.. وإن كنت غير راغبة في ذلك فعليك أن تستمعي كثيرا للموسيقى وتشاهدي الرسومات وتقرأي الكتب...تأكدي أنك ستجدي أنتاجا فنيا أو أدبيا يعبر عما يختلج بأعماقك...عندها أشيري نحوه وقولي: هذا يعبر.. يعبر عني...نعم..أو كما يقولون الآن: هذا يمثلني.. مع ذلك فلا حاجة بي للتمسك بدقائق الاختلاف حول معاني المفردات ما دمنا نشعر بها..
همست:
- أنت لا تفهم...أنا لا احتمل الانتظار حتى أقرأ كل الأشعار وأشاهد كل رسومات العالم.. ما بأعماقي من ألم يجب أن ينقضي..الآن...الآن فورا...يجب أن تكتب .. بل عليك أن تكتب...
قال بتوسل لا يبرره سوى جمالها:
- ولكن يا سيدتي..حاولي أن تفهميني...
قالت بلهجة حادة:
- بل أنت من يجب أن يفهمني..أنا من لجأت إليك وليس العكس..
- ولكن كيف أفهم...لا أريد أن أكون شريرا...إنني أمنع نفسي من طرح بعض الأسئلة عليك حتى لا أنحدر عبرها إلى مناطق لا يمكن العودة منها...
أغمضت عينيها:
- الجنس ليس من أولوياتي..الحب ليس من أولوياتي...أستطيع الحصول عليهما حتى من شخص مثلك...
قال بغضب:
- شخص مثلي؟..ماذا تقصدين؟
قالت: أقصد أنك صحفي مشهور وجاد مع ذلك استطيع كسر كل جديتك بسهولة...
قال:
- حسن...على أي حال فكسر جديتي سهل دائما..
ضحكت ضحكة سريعة..أخفتها براحتها الرقيقة..
- إذا..اسألني ما تريد..
قال: فلنبدأ من طفولتك..الطفلة المدللة من بين إخوتها..لأنها جميلة..
قالت بحذر:
- على فكرة..لم أكن جميلة في طفولتي..كل هذا حدث إثر البلوغ مباشرة...أصبحت جميلة أكثر مما كنت أتوقع...ربما لو رأيت صورتي وأنا طفلة لما صدقت أنها صورتي..كنت أشبه الصبيان...
حك جفنه بظفر سبابته ؛ وبدا حائرا:
- شيء محير....ولكن يجب أن تكوني منجذبة لشيء ما..هل تحبين المال؟
- المال ليس كل شيء؟
قال: وكيف ستشتري أدوات التجميل ومنعمات البشرة والفساتين الراقية الجميلة والحلي بدون مال؟
حارت نظراتها وقالت:
- حسن.. المال مهم...ربما.. ولكن.. لا ..فلأكن صريحة..المال مهم....
قال:
- ما رأيك في الإنقلاب العسكري الأخير...
قالت:
- لا.. لست مكترثة بهذه المسائل...
- والرياضة؟
- أمارس المشي بانتظام وعلى حميتي الغذائية وهذا يكفيني على ما أظن...
قال بتردد:
- هل تظنين أن هناك فتاة تنافسك في الجمال؟
قالت بسرعة وثقة:
- لا.. ولا في الأحلام..
غطى فمه وكح.. كان في الواقع يخفي ضحكة صغيرة..
قال: هل تخشين من الزمن؟
اكفهرت ملامحها:
- بل أكرهه....
- ولكن لا مفر من الخضوع لقبضته؟
- لا أعرف....
غمغم:
- لا أحد يعرف....
ثم أضاف بجدية:
- ألا ترغبين في الزواج والانجاب وتكوين أسرة....
قالت:
- لماذا؟
قال:
- لكي تكوني كبقية البشر..
قالت:
- ولكن هذا سيعرقل مسيرتي..إنني أتذكر أمي دائما..شيء غير مفرح أبدا...
قال:
- ولكن الحياة باردة بدون ذلك؟
ثقبت الأرض بنظرة طويلة غاضبة وقالت:
- لا أعرف...
نهض واتجه نحو ثلاجة صغيرة ..قال:
- عصير أم آيسكريم..
قالت:
- لا ..شكرا..
حمل هو علبة آيسكريم ثم جلس يأكل أمامها بصمت:
- لا اتبع حمية كما ترين...
قالت:
- لأنك لست مضطرا لأن تظل جميلا...
- هذا حقيقي...
أضاف:
- هذه فانيلا...مع قليل من الكراميل.. كبرجوازيين وحدنا من يملك حق الحديث عن هذه الأشياء في دولة فقيرة كهذي...
قالت:
- برجوازي؟!
قال:
- نعم.. الطبقة الغنية..الطبقة الرأسمالية..البرجوازية كانت مضطهدة في بادئ عهدها..لم يكن يمارس التجارة سوى العبيد ووضيعي الأصل...غير أن هؤلاء أصبحوا أغنياء..حتى هددوا الارستقراطية التي كانت سيدة عليهم..من مالها بدأوا احترافهم ثم قفزوا على الأسياد .. قبل أن ينقضوا عليهم في آخر الأمر ..بعدها تحولوا هم أنفسهم لاستقراطية جديدة ...لكي أكون صادقا فالأدوات مختلفة قليلا...
قالت وهي تمسك جبهتها:
- أشعر بصداع..كل ذلك بسبب حديثك الفارغ هذا...هذا إن لم يكن هذيانا...
قال:
- أنا آسف...
مر وقت صامت بينهما...ثم نهضت بتثاقل وهي تقول:
- علي أن أغادر...
ثم انصرفت وانغلق الباب خلفها...
ظل هو جالسا .. وعيناه مسمرتان في كرسيها..فستانها القرمزي ذو الخصر الضيق وحوضها الفاره..وعطرها النفاذ..ومخها الفارغ...مع ذلك فهي تتألم...نهض وفتح النافذة ليطرد رائحة التبغ عن مكتبه لكنه شاهدها تعتلي سيارتها الصغيرة وتغادر...
غمغم:
- هكذا تكون الأنثى...هكذا تكون الأنثى..
وطاف خيال لحن سماوي لا يمكن التعبير عنه..
(تمت)
شعرها الأسود ملفوف للخلف ككعكة كبيرة..
نفث دخان سجارته وعدل نظارته وهو يحدق في وجهها بقلق.
قالت بنفاد صبر: أنت -صحفي..أليس كذلك؟
رمش بجفنيه عدة مرات وكأنه يقول نعم..
قالت: طيب ..هذا يعني أنك تجيد الكتابة.. وأنا لا أجيدها...
قال: حسن.. بماذا تشعرين...
ثم رفع حاسبه المحمول على فخذيه وقال:
- يجب أن تفهمي يا سيدتي أنني لست طبيبا نفسيا...مع ذلك فالكاتب الجيد يملك خبرة لا بأس بها سايكولوجيا..
أخرجت سجارة رفيعة وطويلة ثم أشعلتها:
- هل يمكنني التدخين..
- كنت أدخن أمامك قبل قليل..
قالت بضجر: هذا السؤال من باب الذوق..
قال: حسن.. آسف .. إن الأمر مربك برمته...والآن..ماذا تريدين أن تقولي؟
نزعت السجارة عن ثغرها ونظرت اليه كأنما تلومه:
- لو كنت أعرف لما لجأت إليك؟ لا تجعلني أشعر بأنني لجأت للشخص الخطأ..
كان بإمكانه طردها بسبب هذه الوقاحة لكنها كانت جميلة وحمقاء...
قال:
- لكن يجب أن تكون هناك علامات أو إشارات لكي أعرف..لست نبيا... مثلا لماذا تريدين كتابة ما تشعرين به...وماذا ستفعلين به بعد ذلك..هل تودين نشره في كتاب مثلا...
أطفأت السجارة ورفعت رأسها محدقة في السقف بحيرة...ثم غمغمت:
- لا أعرف.. لكنني اتألم على نحو ما...أعتقد أنني لو كتبت شعوري فقد يختفي..أو..أو.. ربما أفهم نفسي..
- من أي شيء تتألمين؟
حدقت فيه بعينيها ذات الرموش الكثيفة مندهشة:
- يا إلهي..قلت لك لا أعرف..
وضع حاسبه في الطاولة وقال:
- قلت لك لست نبيا...
قالت غاضبة:
- هل تعني أنك لا تريد مساعدتي؟
قال بخجل:
- أريد مساعدتك ولكن بما أستطيع يا سيدتي...أما أن أغوص داخل أعماقك فهذا خارج قدراتي الطبيعية كبشري..
ارتسم الحزن على وجهها..وارتخى جسدها على مقعدها باستسلام...
قال: حتى اللغة لا تفلح كثيرا مع من يجيدون استخدامها..انها ناقصة جدا...فضفاضة جدا .. ليست كاملة كما يظن الناس..كلها مجازات فقط لمحاولة تقريب ما نشعر به أو نفكر فيه لأذهان الآخرين...ربما..ربما انت لا تحتاجين لمن يكتب لك..ربما تحتاجين أكثر من ذلك..ربما تحتاجين تعلم فن من الفنون التعبيرية..الرسم أو العزف على ٱلة موسيقية.. وإن كنت غير راغبة في ذلك فعليك أن تستمعي كثيرا للموسيقى وتشاهدي الرسومات وتقرأي الكتب...تأكدي أنك ستجدي أنتاجا فنيا أو أدبيا يعبر عما يختلج بأعماقك...عندها أشيري نحوه وقولي: هذا يعبر.. يعبر عني...نعم..أو كما يقولون الآن: هذا يمثلني.. مع ذلك فلا حاجة بي للتمسك بدقائق الاختلاف حول معاني المفردات ما دمنا نشعر بها..
همست:
- أنت لا تفهم...أنا لا احتمل الانتظار حتى أقرأ كل الأشعار وأشاهد كل رسومات العالم.. ما بأعماقي من ألم يجب أن ينقضي..الآن...الآن فورا...يجب أن تكتب .. بل عليك أن تكتب...
قال بتوسل لا يبرره سوى جمالها:
- ولكن يا سيدتي..حاولي أن تفهميني...
قالت بلهجة حادة:
- بل أنت من يجب أن يفهمني..أنا من لجأت إليك وليس العكس..
- ولكن كيف أفهم...لا أريد أن أكون شريرا...إنني أمنع نفسي من طرح بعض الأسئلة عليك حتى لا أنحدر عبرها إلى مناطق لا يمكن العودة منها...
أغمضت عينيها:
- الجنس ليس من أولوياتي..الحب ليس من أولوياتي...أستطيع الحصول عليهما حتى من شخص مثلك...
قال بغضب:
- شخص مثلي؟..ماذا تقصدين؟
قالت: أقصد أنك صحفي مشهور وجاد مع ذلك استطيع كسر كل جديتك بسهولة...
قال:
- حسن...على أي حال فكسر جديتي سهل دائما..
ضحكت ضحكة سريعة..أخفتها براحتها الرقيقة..
- إذا..اسألني ما تريد..
قال: فلنبدأ من طفولتك..الطفلة المدللة من بين إخوتها..لأنها جميلة..
قالت بحذر:
- على فكرة..لم أكن جميلة في طفولتي..كل هذا حدث إثر البلوغ مباشرة...أصبحت جميلة أكثر مما كنت أتوقع...ربما لو رأيت صورتي وأنا طفلة لما صدقت أنها صورتي..كنت أشبه الصبيان...
حك جفنه بظفر سبابته ؛ وبدا حائرا:
- شيء محير....ولكن يجب أن تكوني منجذبة لشيء ما..هل تحبين المال؟
- المال ليس كل شيء؟
قال: وكيف ستشتري أدوات التجميل ومنعمات البشرة والفساتين الراقية الجميلة والحلي بدون مال؟
حارت نظراتها وقالت:
- حسن.. المال مهم...ربما.. ولكن.. لا ..فلأكن صريحة..المال مهم....
قال:
- ما رأيك في الإنقلاب العسكري الأخير...
قالت:
- لا.. لست مكترثة بهذه المسائل...
- والرياضة؟
- أمارس المشي بانتظام وعلى حميتي الغذائية وهذا يكفيني على ما أظن...
قال بتردد:
- هل تظنين أن هناك فتاة تنافسك في الجمال؟
قالت بسرعة وثقة:
- لا.. ولا في الأحلام..
غطى فمه وكح.. كان في الواقع يخفي ضحكة صغيرة..
قال: هل تخشين من الزمن؟
اكفهرت ملامحها:
- بل أكرهه....
- ولكن لا مفر من الخضوع لقبضته؟
- لا أعرف....
غمغم:
- لا أحد يعرف....
ثم أضاف بجدية:
- ألا ترغبين في الزواج والانجاب وتكوين أسرة....
قالت:
- لماذا؟
قال:
- لكي تكوني كبقية البشر..
قالت:
- ولكن هذا سيعرقل مسيرتي..إنني أتذكر أمي دائما..شيء غير مفرح أبدا...
قال:
- ولكن الحياة باردة بدون ذلك؟
ثقبت الأرض بنظرة طويلة غاضبة وقالت:
- لا أعرف...
نهض واتجه نحو ثلاجة صغيرة ..قال:
- عصير أم آيسكريم..
قالت:
- لا ..شكرا..
حمل هو علبة آيسكريم ثم جلس يأكل أمامها بصمت:
- لا اتبع حمية كما ترين...
قالت:
- لأنك لست مضطرا لأن تظل جميلا...
- هذا حقيقي...
أضاف:
- هذه فانيلا...مع قليل من الكراميل.. كبرجوازيين وحدنا من يملك حق الحديث عن هذه الأشياء في دولة فقيرة كهذي...
قالت:
- برجوازي؟!
قال:
- نعم.. الطبقة الغنية..الطبقة الرأسمالية..البرجوازية كانت مضطهدة في بادئ عهدها..لم يكن يمارس التجارة سوى العبيد ووضيعي الأصل...غير أن هؤلاء أصبحوا أغنياء..حتى هددوا الارستقراطية التي كانت سيدة عليهم..من مالها بدأوا احترافهم ثم قفزوا على الأسياد .. قبل أن ينقضوا عليهم في آخر الأمر ..بعدها تحولوا هم أنفسهم لاستقراطية جديدة ...لكي أكون صادقا فالأدوات مختلفة قليلا...
قالت وهي تمسك جبهتها:
- أشعر بصداع..كل ذلك بسبب حديثك الفارغ هذا...هذا إن لم يكن هذيانا...
قال:
- أنا آسف...
مر وقت صامت بينهما...ثم نهضت بتثاقل وهي تقول:
- علي أن أغادر...
ثم انصرفت وانغلق الباب خلفها...
ظل هو جالسا .. وعيناه مسمرتان في كرسيها..فستانها القرمزي ذو الخصر الضيق وحوضها الفاره..وعطرها النفاذ..ومخها الفارغ...مع ذلك فهي تتألم...نهض وفتح النافذة ليطرد رائحة التبغ عن مكتبه لكنه شاهدها تعتلي سيارتها الصغيرة وتغادر...
غمغم:
- هكذا تكون الأنثى...هكذا تكون الأنثى..
وطاف خيال لحن سماوي لا يمكن التعبير عنه..
(تمت)