اللي ايذوق خبز المدينة.. ماعاد يالف بوالي .. قول ليبي
إبراهيم النجمي
1
منذ أن عرف الخير من الشرّ سلخ “اصميده” عمره في تعقب الأغنام، الحرفة التي ورثها أبا عن جدّ، وكان كعادته أن أستيقظ مع نجمة الصبح فصلي وأطلق من فم الخيمة نظره في الأفق البعيد فرأي السّماء مغيّمة وقدّر من خلال هبات ريح باردة أعقبتها رائحة غيث تميّز بخبرته من أية أرض أو وجهة هي قادمة وما نازعه شكّ في أنه سيبدأ بعد قليل خفيفا رطبا ثم يشهده الليل خيطا من سماء لا ينقطع رخّه الي أن يُغرّق التلال والوديان، وهكذا وما أن أوقد نارا وألتف في عباءة الصوف وأحتسي شايا أحمرا قويّا مع خبز التنّور حتّي صدقت توقعاته فأسفّت فتماوجت غلالات من مطر تقفّاها وابل عاصف ما لبث أن عوّم الأنحاء وقال لنفسه وهو يتراجع الي الداخل بعض الشيء ( لتمطر ألف عام كيما تربو الأرض فتهتزّ ويعمّ الرخاء ) وكانت رفيقته حينذاك أن استيقظت فصبّحت عليه بالخير ووضعت فوق رأسها جوالا وانطلقت الي الخارج لكي تثبّت وتشدّ جيدا أوتاد ورمم الخيمة وتسحب الأروقة فتضع الأحجار الثقيلة فوقها ثم تفتح مسارب للمياه بعيدا عنها، في الجانب الآخر كانت ارزيقة الكلبة تقوم بدورها المنوط بها والمتمثل في حشد وإدخال ما كان في الخارج من أغنام في الحظيرة ومنع خروج الباقي منها، لكن حين تعاظم المطر وأشتدّ هزيم الرعد أسرعت ارزيقة فدخلت الخيمة وأخذت تتمسح با صميدة الذي سارع فأحضر وعاء مخصص لها وأغرقه لبنا ثم قرّبها من النار فبسطت ذراعيها وغيّبت أنفها في الوعاء ( صحة وعافية، كل، كل، القادم أفضل،) كلّمها قائلا ( أما ترين خيرات الله، ما شاءا لله، انظر، انظر لهذا الغيث النافع واطلبي من ربك أن يرزقك بزوج يجلّي همّك ويمسح غمّك.. )
من أعمال التشكيلي عبدالرزاق الرياني.من أعمال التشكيلي عبدالرزاق الرياني.
-(بسم الله، ماذا دهاك يا رجل، تتكلم للكلبة؟ ) قالت رفيقته وهي تنتزع الجوال عن رأسها وتجلس قبالته. ابتسم وقال ممسدا رأس ارزيقه (بل هي التي تتكلّم اليّ، هذه كلبة أحسن من ألف كلب.. لو كان لنا ولد وقلنا له اخرج لتلم هذه الشياه في جو كهذا فهل سيفعل، لا يمكن، بعقلها ارزيقة، وأغضب مَن يدعوها بحيوان!)
نقّت ومصّت ريقها علامة السخرية وقالت ان من يسمعه يقول عنه فقد عقله، وانه لا يجب أن يتفوّه كلاما كهذا أمام أحد، لكنه ما كان ليعلّق بشيء ومسّد رأس ارزيقة ورفع حنكها بسبّابته فنظرت اليه بعينيها المزججتين ثم استوت قائمة وانطلقت الي الخارج أين بيتها الطيني الصغير المسقوف بالزنك في برّاكة الحمار.
-( ولِمَ لا أقول ذلك؟ ) قال وناولها كوب شاي وقطعة خبز ( لست أنا من فقد عقله بل من تأتمنه علي شي فيخونك وذلك هو الحيوان بعينه، كلبتي ليست حيوانة يا امرأة و لا أحد يعرفها سواي، تقولين لها ارقدي هنا فترقد، انهضي من هنا فتنهض، من نظراتك لها تعرف ماذا تريد منها، أرأيت كيف ذهبت تحت هذا الوابل كي تتأكد من وضع نعاجها، غريب،أحكي لك عنها وكما لو كنتِ واحدة أخري. )
– (أعرفها، لكن ليس للحد الذي تقول إنها ليست حيوانا، أتريد فقيهنا “مؤمن ” يشهّر بنا ويفضحنا في خطبة الجمعة).
– (أتمزحين أنت أم جادة؟ ليفعل ان كان رجلا، وبعدها سيري مّن مِنا سيشهّر بالآخر ويفضحه، ثم مَن هو الفقيه “مؤمن”؟ الصمت أفضل!)
أطرقت ولم تشأ التعليق بشيء وأنتظر هو الي أن أخذ الغيث في التباطؤ وتأكد له بنظرة خاطفة الي السماء شروع كوكبة سحب قاتمة السّواد في مغادرة رقعة منطقته والتحامها بأخرى في البعيد وقدّر أنها أمطرت لتوها هناك ثم تلفلف في عباءته وأخذ مقرونته من صندوقه فدسّها في صدريته وقصد غنمه، وحالما أبصرته كلبته ارزيقة حتي ركضت اليه وتعلقت به وتمسّحت ودارت حوله مرتين ثم سبقته الي حظيرة الاغنام، بعد لحظات ساق غنمه إلي المراعي البعيدة، وهناك أعتلى ربوة وأخرج مقرونته الموشّاة بعقيق ومثلثات عنبر وقرين وحويتة وطفق ينفث فيها شجونه ثم وبعدما أعقبها بغناوة علم سحب علبة تبغ معدنيّة فتناول منها مبسما نظّفه ثم عبّأه وشرع يدخن ومع نفثة أول غيمة من تبغه وتطلّعه في الأفق البعيد سمع عقله يقول له (إنك لراعي غنم مقفل الرأس، لا شيء تعرفه غير المقرونة وحرفتك هذه ورفيقتك التي شوّهتها الدّوالي وأحرق يديها خبز التنور، إن أصدقاءك من الرعاة شقّوا طريقهم مجرّبين حظهم في هذه الدنيا، ولا بد أنك سمعت عن من ذهب منهم الي المدينة وكيف عاد منها بمعرفة وعلم ومال بينما جنابك لا يزال قابعا هنا كجرذ، ففيما تنتظر، أهم أفضل منك؟)
حينئذ قرن حاجبيه وأزاح العباءة من فوق رأسه وقال محدثا نفسه (لا والله، لا أحد أفضل من أحد، أنا أيضا بإمكاني أن أجرّب حظي، رعاة جميعنا، نذهب أينما نذهب فيعصرنا الحنين إلي هذه الارض الخصبة وما نلبث أن نجيء، أنا راعي غنم ولأكن كذلك الي يوم القيامة، ثم الم يكن طيّب الوجه نبيّنا ” محمد ” عليه الصلاة والسلام راعي غنم؟ باسم الله الكريم، منذ متي بدأت التحدث مع نفسي؟!)
-(ولم لا؟) قال له عقله (عليك أن تجرّب حظك، الدنيا حظوظ يا اصميده، أجل حظوظ، لم تحكّ رأسك هكذا؟ لا داع للتفكير، اليوم الذي يمضي من عمرك لا يعود)
مع منتصف الليل عاد ركضا الي بيته لما تقاوي رخّ المطر وأشتدّ هزيم الرّعد وسنا البرق تاركا مهمة عوده شياهه للكلبة ارزيقة وكانت رفيقته تغط في نوم عميق وكعادته كلما قدم متأخرا ذهب الي أين احتفظت له بعشائه في ذيل الخيمة فأكل على ضوء الفنار ثم ارتمى بجانبها بلا حراك علي أنه لم يلبث أن وقع فريسة لكوابيس مزعجة جعلته يتقلب ويغمغم ويلوح بقبضته في الهواء ما قلل ذلك من هنائها فاستيقظت مفجوعة أكثر من مرة وسوّت من وضع رأسه على الوسادة، لاعنة حظها التعس ثم إدارات له ظهرها و نامت.. في الصباح اخبرها بأنه عازم على الذهاب الي المدينة لبيع شاتين وصفيحتي سمن و ديوك وعتاتيق لشراء ما يلزمها من أقمشة وعطور ولبان وبخورات وكل ما تحتاجه كمطببة ووشّامة وحنّاية لصبايا المنطقة وكذلك حاجيات البيت، ثم طلب اليها وهو يحمل البرذعة الي الحمار ويطوّح لها بلفة حبال أن تسارع بتجهيز صفيحتي السّمن المعدنيتين والدجاج والشاتين، وفي الحال بدأت بالدجاج فجمعته في قنّه ثم أختارت بعض من الديوك والعتاتيق السّمان وقطعت حبلا قدّرت طوله بخمس أذرع وزعته بالتساوي في طرفيه بحيث لا تعيق تدليته حركة سير الحمار، الشاتين جعلت لكل واحدة منهما حبلا حول عنقها معقودا بقطعة أخري بطول أربعة أمتار لتمكنه من جرها اذا ما صادف وأن أنحرفت احداهما عن جادتها المرسومة لها من قبل الكلبة ارزيقة المدربة علي لمّ أية شاة متأخرة أو منحرفة أو هاربة من قطيع هي في حراسته، أما صفيحتي السمن المعدنيتين اللتين كل واحدة منهما بحجم بطارية شاحنة صغيرة فضمتهما لبعض كما لو كانتا واحدة واقتطعت طولا مناسبا من حبل مرّرته مرارا وأرجعته من خلال حلَقاتهما تاركة طول ذراع متدل لكل منهما بحيث يتم عقدهما حول بطن الحمار. في أقل من نصف ساعة كانت قافلة ” اصميدة ” الصغيرة متوجهة الي المدينة، وكان هو مترجلا محاذيا الحمار الحامل لصفيحتي السمن وعنقودي الدجاج المتدليين ويقود الشاتين اللتين بينما ارزيقه ” راكضة لاهثة علي طول الطريق مرة علي يمينهما وأخري علي شمالهما وتنبح في وجه الدجاج كلما تعالت جوقة صياحه كما لو كانت تعمل علي اسكاته.
2-
أمام مقهى شعبي عند مدخل المدينة رأى “اصميده” أن يكيف رأسه الذي ضربته الشمس بكوب شاي احمر، وهكذا ربط حماره والشاتين الي عمود مظلة المقهى تاركا الكلبة لتحرسهم ودلف الي الداخل
-(شاي ينسّينا دواخنا؟) قال لصاحب المقهى
-(وين يا دُواخ! واااخ!) قال أحد الشباب ساخرا ثم ضحك آخرون وتضاحكوا من شلته وظلوا يتغامزون باستثناء واحد انفصل عنهم وأرتكن لوحده هناك
-(دعك منهم ) قال صاحب المقهى وفتح لهم راحته وعلّقها طالبا اليهم السّكوت
-(باداويسكا) رقّق نفس الشاب صوته كامرأة فأنفجر الآخرون ضحكا وأردف مكوّبا راحتيه في زاويتي فمه (أ للبيع السيارة؟ أوتوماتيكي أم عادية؟)
-(أية سيارة؟) قال “اصميده “
– (المربوطة الي العمود )
وضج المقهى ضحكا وضرب مناضد وتعليقات لاذعة ما دفع بعض الزبائن الي الخروج تجنبا للمشاكل، ورغم محاولات صاحب المقهى من خلف نضده لإسكاتهم ملوّحا لهم بيده وبالغمز تارة وقرض الشفة تارة أخري لكنهم تجاهلوه وراحوا يغيضون “اصميدة” بحركات غير اخلاقية جعلته ينتفض من مكانه كملسوع دافعا بالمنضدة أمامه والكرسي خلفه في آن معا ما أحدث ذلك صوتا كتمزّق منشور زجاجي و قوّس ذراعيه في وسطه كمقلاع وحلف لهم بالطلاق بأنه سيحطم وجوههم ان لم يكفّوا عن ما وصفه بسخافة وقلة حياء ودعاهم بالفاسدين و أبناء الحرام وهكذا وما أن خلع أحد خِفّيه و لوّح بها حتي مال عليه الشاب المرتكن لوحده وهو في طريقه الي الخارج وهمس في اذنه (ماذا تنتظر؟ أدّبهم، أتترك الساقطين التافهين ليضحكون منك وعليك) وفي الحال خلع عنه عباءته ورماها علي الكرسي ووضع فوقها كيس نقوده ثم وبعد أن سبقه اليهم احد خفّيه اندفع نحوهم شاتما لاعنا لكنهم لم يمكّنوه منهم –ومن الواضح أنهم متفقون علي ذلك- اذ أخذوا يلفّون به ويدورون حول المناضد كالأطفال مرددين في جوقة واحدة (باداويسكا، باداويسكا) الي أن أرهقوه فجعلوه يتعثر أكثر من مرة ويسقط ثم أخذوا يهربون الواحد تلو الآخر بينما هو يرغي ويزبد ويحاول عبثا الامساك بهذا أو ذاك وواصفهم بالكلاب وقليلي التربية، كل ذلك وصاحب المقهى وبعض الفضوليين من المارة يراقبون المشهد دون تدخّل، وكان لما عاد الي مكانه لم يجد لا عباءته ولا كيس نقوده فزاد هذا من غضبه وصرخ في وجه صاحب المقهى سائلا اياه أن يعمل رأسه ويبحث له عنهما من تحت الأرض :
-(وما أدراني بذلك) قال وتقهقر في وجه نظراته النارية وزبده المتطاير من زاويتي فمه ودقات قبضة يده المدوّية علي المنضدة ثم أسرع فتركه ولم يعره اهتماما وبينما هو يبحث هنا وهناك كان الشاب الذي شجعه على العراك قد صفّر له بفمه وأشار له بيده اشارة معيبة ثم فرّ هاربا على دراجته، (الربيع من فم الدار ايبان) سمع عقله يقول له وفكر في أن يطارده ولو الي آخر نقطة في العالم (هو من سرقك يا اصميدة، لتنس الموضوع ولا تأتي علي سيرته أمام أحد من أهلك أو اقربائك كي لا تصير مضغة في الأفواه، الشرطة؟ هه! لتنسهم هم ايضا، لديهم من قضايا نوعه ما لا يجعلهم يلتفتون لا لك ولا لغيرك، اسمع، توكل على الله وامش واحذر من ان يسرقوا رأسك، انهم يسرقون الكحل من العين) والتفت الي حماره وأطمأن الي أنه لا يزال بما فوقه هناك وكذلك الشاتين وكلبته ارزيقه
-(وأين الخفّان؟) صرخ بصوت أفجع صاحب المقهى فأسقط كأسي زجاج من يده، وتفاديا للمشاكل سارع فأحضرهما له من بين المناضد ووضعهما أمامه ورجع الي عمله، ولم تمض لحظات حتى خرج “اصميده” من المقهى وكان بعض المارة يتوقفون عنده وهو يحرر حماره و الشاتين والكلبة ارزيقة من مظلة المقهي ويسوّي البرذعة ويحكم وثاق حبل صفيحتي السمن المتدليتين وكذاك عنقودي الدجاج، ولم يكترث لمن ضحك او علّق بكلمة أولفّ من أمامه ومن خلفه ملتقطا صورا فوتغرافية له وهو محاذيا حماره وجارا الشاتين بينما كلبته تنبح علي هذا وذاك متقافزة عن يمين وشمال الشاتين كي لا تفلتان منها وتهربان. في سوق الأغنام التقي راعي قديم من ذوي قرباه يدعي ” مسعود ” لكنه لم يشأ أن يحدثه عن الواقعة وفهم منه انه يسكن مع مجموعة أكثرهم من العزّاب ويعمل بأحد المحاجر، وحين باع احدى الشاتين والدجاج وصفيحتي السمن اقنعه ” مسعود ” بأن يترك الشاة الأخرى كعشاء للمجموعة فوافقه علي ذلك قائلا (ليست خسارة في الصاحب)، وهكذا أجّر ” مسعود ” عربة حمار للشاة وسأله ان كان يتعين عليهما رفع الكلبة الي العربة أم ربطها اليها
-(لا رفعها ولا ربطها، ستتبعنا) قال ” اصميده “
– ( الا تخاف عليها من السيارات أو تضيع في الزحمة؟ )
– (لا، كلبتي وأعرفها، الظاهر ان المدينة أنستك أو نسيت معها أنك راعي غنم يعرف أية طبيعة هي لكلابنا؟)
– (ممكن )
وساعده علي ربط وتوثيق الشاة بسلك معدني ورفعاها الي العربة، وفي الطريق كانا متجانبين، “مسعود” مع سائق العربة وهو الي جانبه علي حماره وكلبته من خلفه وكان أن حكي له “مسعود” عن تجاربه مع المدينة دون تحفظ ودون أن يكترث لما يري من السائق من تصرفات لم يدري ان كانت مقصودة أو أنها بعض من طبائعه متمثلة في نقّات تعقبها بصقات من مضغته ثم رفعة راس وضحكة صفراء مع كل نهاية جملة من جمل ” مسعود “، ومن ضمن ما حكي له كيفية قدومه لأول مرة الي المدينة وحصوله على عمل، وكيف أغوته واحدة وأقنعته بالزواج منها ثم سلبته وتركته وذهب في تفاصيل أخري عنها حرص اصميده علي الا تفوته منها كلمة واحدة وعلّق قائلا لما طلب اليه رأيه فيها (اللي ايحط روحه في النخال ايبربشه الدجاج). وما أن وصلا و ظهرا في رأس الشارع حتي ابصرا شابا واقفا علي عتبة الباب ويدخن ( من جماعتنا ) قال مسعود ( هكذا هو – دائما- لا يبارح الباب، متي يتزوجان وننتهي من قصتيهما، لا ندري، هو في الباب وهي في سطوح البيت المقابل) نقّ عندئذ صاحب العربة نقة أعقبتها بصقة من مضغته ثم رفعة راس وضحكة صفراء ما أثار استغراب “اصميده” الذي لاحظ عليه ذلك هو الآخر منذ البداية وسأل ” مسعود ” ما اذا كان طبيعيا فقلب له شفته بمعني لا يدري، وما هي الا لحظات حتي كانا امام البيت، وكما لو كان علي موعد معهما هب الشاب اليهما فحياهما وسلّم علي “اصميدة” باليد والخد، ثم فتح الباب ونادي أحدا ما في الداخل فخرج ثلاثة، رحب اثنان باصميده، واحد باليد والآخر بالخد أما الثالث فسحب الشاة من وثاقها ودلف بها الي الداخل، كل ذلك وارزيقة تنبح تارة وتتمسح تارة أخري بقدمي اصميده، وبينما نقد “مسعود” صاحب العربة اجرته بعد أن نقّ له نقّته وأعقبها ببصقة ممثلة من مضغة ورفع رأسه وضحك ضحكة صفراء أخبرهما الشاب أنه يعرف سائق العربة وانه اتهم ذات يوم ظلما في قضية لا ناقة له فيها ولا جمل وانه ومن كثرة ما ضربوه وفعلوا به ما فعلوه في السجن خرج أخرسا وفاقد الذاكرة، وحينها أشفقا عليه وتأسّفا له مربتين علي كتفيه ثم جادا عليه ببعض المال وتركاه ليمضي الي حال سبيله. قبل أن يدخلا البيت دبّر ” مسعود ” مكانا للحمار في قطعة أرض فضاء مسوّرة بعد البيت الذي يليهم مباشرة قائلا انها تخص أحد معارفه بينما –وبناء علي اصرار اصميدة– تركت الكلبة لتبقي معه كيلا تنزعج حسب قوله من تغير الجو عليها فتظل تنبح وتقلل راحة الجيران، وهكذا وبعد أن تأكدا ان الأمور ستجري علي ما يرام دخلا البيت. في الداخل كان ثمة أربعة، واحد مستلقيا على سريره يتلوى مثل قطعة فلين ويمسح بيده على صورة عارية ملصقة بعجينة على الجدار، الثاني كان سارحا مع أغنية شرقية قديمة ويهز رأسه مثل درويش اما الآخران فكانا منشغلين بإعداد طعام الغداء، تقدم الثلاثة ورحبوا به اما الرابع فلم يرحب به بسبب هيامه بأغنيته الشرقية
-(الناس أسرار) قال “أصميدة “
-(دعك منه) قال “مسعود” (هكذا هو علي الدوام)
وتطلع اصميده الي الرجل المنصت للأغنية الشرقية وحوّل نظره الي الآخر المستلقي على السرير وحس انهما قد اكتويا بنار الحب معا وحين دخلت الكلبة وتمسحت بقدمي اصميده انتفض المستلقي على السرير وادار وجهه للجدار بلا حراك وحتى حين دعوه لتناول الطعام تظاهر بالنوم وتعالى شخيره. في المساء احتفلت المجموعة بالشاة وحكى لهم اصميده عن سيرة الهلالية والعفاريت وتجاربه مع النساء ونسي ما قاله له عقله فحكي لهم واقعة العباءة وكيس النقود، وحين ناموا جميعا جمع ما تناثر من خبز يابس في البيت ليعشي به حماره وتسلل الي الخارج وفي الحال كان الي جانب حماره يفتت له الخبز ويمسد رأسه، وفجأة حدث ما جعله يخفض من طوله على مستوي السور الواطي ويتلع عنقه وكان أن رأي الباب المجاور لباب الجماعة يفتح على نحو موارب محدثا صريرا متقطعا وتطلعت امرٌأة بنصف رأسها من هناك. رمقها وعادت المرأة فأخفت رأسها مثل سلحفاة في لحظة خوف، تعالى صرير الباب بشكل حاد وعادت فمدت رقبتها من جديد وسرقت نظرة خاطفة باتجاه الشمال ولحظتها كان هو شبه ميت ولقد حوّل نظره الي أين نظرت وشاهد رجلا مر من أمام بابها وأومأ لها برأسه صوب خربة مجاورة، واذاك تغربل اصميده من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وسمع عقله يتحدث اليه بأشياء لم يعد قادرا على تمييزها. كانت المرأة قد مرقت من الباب المجاور في لمح البصر واختفت هناك، ومن دون أن يشعر ندا عنه صوت كفحيح أفعى هو مزيج من التشوّق والحسرة وعاد لتفتيت الخبز من جديد ÷ وفي البدء راودته فكرة اقتحام الخربة لكنه سرعان ما عدل عنها حين تذكر بعضا من مواقف سابقه ونزقة له بين المراعي وتلال التبن (الله يحسن الخاتمة) قال هامسا في أذن حماره وأضاف (والآن اصميده يريد ان ينام فتسلي بخبزك وانعم بعودتها من الخربة لوحدك.. حين استيقظ صباحا لم يشأ أن يحدثهم عن حكاية جارتهم ولأنه كان مشغولا بالعباءة وكيس النقود فلم يجد الرغبة في تناول وجبة الافطار
– (انس يا رجل، اما تزال تفكر في النقود؟)
– (انا لا افكر في النقود بل في الوجه الذي سوف اقابل به اهلي) واحنى رأسه وظل يفكر فيما خرج اثنان وقال الاخر الذي افاق من نومه لتوه (ما شأننا بنقودك، نقود وسرقت، أمر عادي ولا يستحق أن تٌصدّعنا من أجله)
-(ماذا؟) قال اصميده منتفضا في مكانه (طبعا، انت تقول هذا لأنها ليست نقودك، استحلفك بالله ان تقفل فاك لا يحس بالنار الا من يطأها)
عندئذ تدخل “مسعود” واقنعه بان ينسى قصة السرقة وينضم للعمل معه في المحجر، وحينها اشرقت أساريره وهز رأسه موافقا.
3
شهر كامل مضى على” اصميده” دون ان يفكر في العودة الي أهله، لقد راقت له حياة المدينة وفتح عينيه على أشياء لم يكن ليعرفها وعلى الرغم من المطبات التي اعترضته كتحقيق الشرطة معه بسبب اعتداء كلبته على الناس ومغازلته لأحدى الدلالات في أحد متاجر العطارين إلا انه اعتبر ذلك امرا عاديا قد يساعده على معرفة طريقه في نهاية المطاف، وفي ذات ليلة طلب المجموعة من اصميده ان يتكيف من مبسمه ويسليهم بالحديث عن المطلقات والسيرة الهلالية وخوارق الأدب الشعبي وأمام الحاحهم الشديد حشا اصميده مبسمه واعتدل في جلسته ثم طفق يحكي لهم عن كل شيء فيما مد احدهم يده تحت السرير فسحب جالون بلاستيك وصب منه في كوب صغير
-(ما هذا) قال اصميده (م اهذا السائل الأصفر؟)
-(دواء للكبد وسوء الحظ ) أجابه
حين أحتسي “اصميده” ثلاث اكواب متوسطة لمعت عيناه علا صوته وساءت ألفاظه وأكثر من الحلف بالطلاق وفيما احرق جوفه بثلاثة اكواب اخرى مد يده الي جرابه الجلدي الصغير فتناول مقرونته وطلب من المجموعة ان تصاحبه بالتصفيق فرحبّوا بالفكرة وقام احدهم فلوى حول وسطه قطعة قماش وانطلق يرقص بجنون. امتدت السهرة حتى ساعة متأخرة من الليل و لما انتهت انطلق اصميده مترنما خارج البيت ليتبول في الخربة ومصادفة كانت المرأة لحظتها هناك وحين ابصرته قطعت الحركة وانتظرته حتى دخل وادار لها ظهره ثم انطلقت الي الخارج وفي اللحظة ذاتها كان زوجها بانتظارها عند فم الباب ولقد تركها تدخل دون ان يتكلم اليها وظل ملازما لمكانه وحين ابصر “اصميده” قادما من الخربة توارى وترك الباب مواربا وعرفه في النهاية حين مر من امامه وصفق الباب وراءه بشدة. في الصباح نقل “اصميده” الي المستشفى فاقدا وعيه ولم يفق الا مع منتصف النهار (بسم الله الكريم) قال اصميده (ما الذي جاء بي الي هنا؟)
ضحكت الممرضة واهتمت بالمريض المجاور ومر شريط البارحة على ذهن “اصميده ” وتعوذ من الشيطان الرجيم وطلب من الله ان يغفر له هذه الزلة.
-(حين جاؤا بك الي هنا كنت تطوح بيديك مثل مجنون) قال المريض المجاور (اجل تطوح بيديك وتحاول ضم الممرضة من خصرها)
-(هذا غير معقول، قل كلاما غير هذا)
-(اقسم لك بالله، انت غير مصدق، بماذا تريدني أن احلف لك؟)
بعد لحظات كان اصميده يتجول في ردهات المستشفى ويمازح الممرضات وعاملات النظافة وفجأة وبالقرب من مريضين توقف وسمعهما يتحاوران
-(حين دخل المقهى سرقت عباءته وكيس نقوده )
-(هذا غير معقول)
-(اقسم لك)
-(كل هذا ولم يفطن لك؟)
-(يفطن! هه، ماذا تزيده عن كونه بدوي)
عندئذ فار دم “اصميده” واندفع نحوه، امسكه من حنجرته، طوح راسه الي الجدار، تجمع بعض النزلاء والممرضين وفضوا النزاع، سرد لهم اصميده الحكاية بكاملها، أعادوه الي سريره بالقوة وحين عجزوا عن اقناعه ذكروا له الشرطة فالتزم الصمت لكنه بالطبع كان يغلي من الداخل وحلف لهم بالطلاق بان يقصف رقبته ويشرب من دمه طال الدهر ام قصر وحين تركوه لوحده اخرج علبة التبغ وحشا مبسمه وظل يدخن وقال له عقله جئت لتبيع فباعوك هذا جزاء من يحرث في السبخة يا اصميده
-(وليكن ما يكون، مَن عضك أيقظك لأسنانك.) كان في تلك اللحظة تناهى الي “اصميدة” صوت في الخارج فنهض واقفا وسرق خطوات سريعة في غفلة من الممرضين وتطلع عبر النافذة الي الباب الخارجي، كان ثمة رجل يلوح بيديه هناك وكان الخفير يقفل الباب الحديدي في وجهه ويمنعه من الدخول. فتح اصميده النافذة وسمع الرجل يقول للخفير (لقد رأيته بعينيّ هاتين، اقسم لك رأيته يخرج في أثرها من الخربة ويدخل الباب المجاور، انا متأكد منه ولقد طعنني في شرفي) عندئذ تجمد دم “أصميده” في عروقه وسمع عقله يقول له (هذه ليست مسألة كيس نقود، هذه المرة تورطت الي النهاية، ماذا قلت؟) وفكر اصميده قليلا، اذن عليه ان يتخذ قرارا فالرجل بعد قليل سيقنع الخفير بالدخول ويدلف الي الداخل، وتطلع “اصميده” مرة الي اليمين ومرة الي الشمال، تأكد أن لا أحد يراه، انطلق بمحاذاة الجدار كاسرا طوله وبطريقة ما كان في لحظات خارج المستشفى.
حين أخذ حماره وانطلق يجوب أزقة المدينة توقف في السوق وأشترى كل ما أراده وسلك الطريق المؤدي الي أهله. في الطريق توقف امام مقهى كيس النقود وضحك حتى كاد ان يسقط من على ظهر الحمار حين فوجئ بكلبته تنتظره هناك. وفيما ظل يحث حماره على السير تراءت له رفيقته ووهج التنور وتماوج سنابل القمح الفضية ورائحة السمن والصوف وثغاء الأغنام والأغاني الشجية في مواسم الجلامة وبيوت الربيع الفارهة ونزق الحطابات ونصب الشباك للحمام البري والفتيات على آبار المياه وركض الخرفان المكتنزة عبر الهضاب وضباب المطر وصدى مزامير الرعاة عبر الأودية. ولقد كانت هذه الأشياء جميعها من شأنها أن تشعره بالحنين الدائم الي الأراضي ألخصبة.
إبراهيم النجمي
1
منذ أن عرف الخير من الشرّ سلخ “اصميده” عمره في تعقب الأغنام، الحرفة التي ورثها أبا عن جدّ، وكان كعادته أن أستيقظ مع نجمة الصبح فصلي وأطلق من فم الخيمة نظره في الأفق البعيد فرأي السّماء مغيّمة وقدّر من خلال هبات ريح باردة أعقبتها رائحة غيث تميّز بخبرته من أية أرض أو وجهة هي قادمة وما نازعه شكّ في أنه سيبدأ بعد قليل خفيفا رطبا ثم يشهده الليل خيطا من سماء لا ينقطع رخّه الي أن يُغرّق التلال والوديان، وهكذا وما أن أوقد نارا وألتف في عباءة الصوف وأحتسي شايا أحمرا قويّا مع خبز التنّور حتّي صدقت توقعاته فأسفّت فتماوجت غلالات من مطر تقفّاها وابل عاصف ما لبث أن عوّم الأنحاء وقال لنفسه وهو يتراجع الي الداخل بعض الشيء ( لتمطر ألف عام كيما تربو الأرض فتهتزّ ويعمّ الرخاء ) وكانت رفيقته حينذاك أن استيقظت فصبّحت عليه بالخير ووضعت فوق رأسها جوالا وانطلقت الي الخارج لكي تثبّت وتشدّ جيدا أوتاد ورمم الخيمة وتسحب الأروقة فتضع الأحجار الثقيلة فوقها ثم تفتح مسارب للمياه بعيدا عنها، في الجانب الآخر كانت ارزيقة الكلبة تقوم بدورها المنوط بها والمتمثل في حشد وإدخال ما كان في الخارج من أغنام في الحظيرة ومنع خروج الباقي منها، لكن حين تعاظم المطر وأشتدّ هزيم الرعد أسرعت ارزيقة فدخلت الخيمة وأخذت تتمسح با صميدة الذي سارع فأحضر وعاء مخصص لها وأغرقه لبنا ثم قرّبها من النار فبسطت ذراعيها وغيّبت أنفها في الوعاء ( صحة وعافية، كل، كل، القادم أفضل،) كلّمها قائلا ( أما ترين خيرات الله، ما شاءا لله، انظر، انظر لهذا الغيث النافع واطلبي من ربك أن يرزقك بزوج يجلّي همّك ويمسح غمّك.. )
من أعمال التشكيلي عبدالرزاق الرياني.من أعمال التشكيلي عبدالرزاق الرياني.
-(بسم الله، ماذا دهاك يا رجل، تتكلم للكلبة؟ ) قالت رفيقته وهي تنتزع الجوال عن رأسها وتجلس قبالته. ابتسم وقال ممسدا رأس ارزيقه (بل هي التي تتكلّم اليّ، هذه كلبة أحسن من ألف كلب.. لو كان لنا ولد وقلنا له اخرج لتلم هذه الشياه في جو كهذا فهل سيفعل، لا يمكن، بعقلها ارزيقة، وأغضب مَن يدعوها بحيوان!)
نقّت ومصّت ريقها علامة السخرية وقالت ان من يسمعه يقول عنه فقد عقله، وانه لا يجب أن يتفوّه كلاما كهذا أمام أحد، لكنه ما كان ليعلّق بشيء ومسّد رأس ارزيقة ورفع حنكها بسبّابته فنظرت اليه بعينيها المزججتين ثم استوت قائمة وانطلقت الي الخارج أين بيتها الطيني الصغير المسقوف بالزنك في برّاكة الحمار.
-( ولِمَ لا أقول ذلك؟ ) قال وناولها كوب شاي وقطعة خبز ( لست أنا من فقد عقله بل من تأتمنه علي شي فيخونك وذلك هو الحيوان بعينه، كلبتي ليست حيوانة يا امرأة و لا أحد يعرفها سواي، تقولين لها ارقدي هنا فترقد، انهضي من هنا فتنهض، من نظراتك لها تعرف ماذا تريد منها، أرأيت كيف ذهبت تحت هذا الوابل كي تتأكد من وضع نعاجها، غريب،أحكي لك عنها وكما لو كنتِ واحدة أخري. )
– (أعرفها، لكن ليس للحد الذي تقول إنها ليست حيوانا، أتريد فقيهنا “مؤمن ” يشهّر بنا ويفضحنا في خطبة الجمعة).
– (أتمزحين أنت أم جادة؟ ليفعل ان كان رجلا، وبعدها سيري مّن مِنا سيشهّر بالآخر ويفضحه، ثم مَن هو الفقيه “مؤمن”؟ الصمت أفضل!)
أطرقت ولم تشأ التعليق بشيء وأنتظر هو الي أن أخذ الغيث في التباطؤ وتأكد له بنظرة خاطفة الي السماء شروع كوكبة سحب قاتمة السّواد في مغادرة رقعة منطقته والتحامها بأخرى في البعيد وقدّر أنها أمطرت لتوها هناك ثم تلفلف في عباءته وأخذ مقرونته من صندوقه فدسّها في صدريته وقصد غنمه، وحالما أبصرته كلبته ارزيقة حتي ركضت اليه وتعلقت به وتمسّحت ودارت حوله مرتين ثم سبقته الي حظيرة الاغنام، بعد لحظات ساق غنمه إلي المراعي البعيدة، وهناك أعتلى ربوة وأخرج مقرونته الموشّاة بعقيق ومثلثات عنبر وقرين وحويتة وطفق ينفث فيها شجونه ثم وبعدما أعقبها بغناوة علم سحب علبة تبغ معدنيّة فتناول منها مبسما نظّفه ثم عبّأه وشرع يدخن ومع نفثة أول غيمة من تبغه وتطلّعه في الأفق البعيد سمع عقله يقول له (إنك لراعي غنم مقفل الرأس، لا شيء تعرفه غير المقرونة وحرفتك هذه ورفيقتك التي شوّهتها الدّوالي وأحرق يديها خبز التنور، إن أصدقاءك من الرعاة شقّوا طريقهم مجرّبين حظهم في هذه الدنيا، ولا بد أنك سمعت عن من ذهب منهم الي المدينة وكيف عاد منها بمعرفة وعلم ومال بينما جنابك لا يزال قابعا هنا كجرذ، ففيما تنتظر، أهم أفضل منك؟)
حينئذ قرن حاجبيه وأزاح العباءة من فوق رأسه وقال محدثا نفسه (لا والله، لا أحد أفضل من أحد، أنا أيضا بإمكاني أن أجرّب حظي، رعاة جميعنا، نذهب أينما نذهب فيعصرنا الحنين إلي هذه الارض الخصبة وما نلبث أن نجيء، أنا راعي غنم ولأكن كذلك الي يوم القيامة، ثم الم يكن طيّب الوجه نبيّنا ” محمد ” عليه الصلاة والسلام راعي غنم؟ باسم الله الكريم، منذ متي بدأت التحدث مع نفسي؟!)
-(ولم لا؟) قال له عقله (عليك أن تجرّب حظك، الدنيا حظوظ يا اصميده، أجل حظوظ، لم تحكّ رأسك هكذا؟ لا داع للتفكير، اليوم الذي يمضي من عمرك لا يعود)
مع منتصف الليل عاد ركضا الي بيته لما تقاوي رخّ المطر وأشتدّ هزيم الرّعد وسنا البرق تاركا مهمة عوده شياهه للكلبة ارزيقة وكانت رفيقته تغط في نوم عميق وكعادته كلما قدم متأخرا ذهب الي أين احتفظت له بعشائه في ذيل الخيمة فأكل على ضوء الفنار ثم ارتمى بجانبها بلا حراك علي أنه لم يلبث أن وقع فريسة لكوابيس مزعجة جعلته يتقلب ويغمغم ويلوح بقبضته في الهواء ما قلل ذلك من هنائها فاستيقظت مفجوعة أكثر من مرة وسوّت من وضع رأسه على الوسادة، لاعنة حظها التعس ثم إدارات له ظهرها و نامت.. في الصباح اخبرها بأنه عازم على الذهاب الي المدينة لبيع شاتين وصفيحتي سمن و ديوك وعتاتيق لشراء ما يلزمها من أقمشة وعطور ولبان وبخورات وكل ما تحتاجه كمطببة ووشّامة وحنّاية لصبايا المنطقة وكذلك حاجيات البيت، ثم طلب اليها وهو يحمل البرذعة الي الحمار ويطوّح لها بلفة حبال أن تسارع بتجهيز صفيحتي السّمن المعدنيتين والدجاج والشاتين، وفي الحال بدأت بالدجاج فجمعته في قنّه ثم أختارت بعض من الديوك والعتاتيق السّمان وقطعت حبلا قدّرت طوله بخمس أذرع وزعته بالتساوي في طرفيه بحيث لا تعيق تدليته حركة سير الحمار، الشاتين جعلت لكل واحدة منهما حبلا حول عنقها معقودا بقطعة أخري بطول أربعة أمتار لتمكنه من جرها اذا ما صادف وأن أنحرفت احداهما عن جادتها المرسومة لها من قبل الكلبة ارزيقة المدربة علي لمّ أية شاة متأخرة أو منحرفة أو هاربة من قطيع هي في حراسته، أما صفيحتي السمن المعدنيتين اللتين كل واحدة منهما بحجم بطارية شاحنة صغيرة فضمتهما لبعض كما لو كانتا واحدة واقتطعت طولا مناسبا من حبل مرّرته مرارا وأرجعته من خلال حلَقاتهما تاركة طول ذراع متدل لكل منهما بحيث يتم عقدهما حول بطن الحمار. في أقل من نصف ساعة كانت قافلة ” اصميدة ” الصغيرة متوجهة الي المدينة، وكان هو مترجلا محاذيا الحمار الحامل لصفيحتي السمن وعنقودي الدجاج المتدليين ويقود الشاتين اللتين بينما ارزيقه ” راكضة لاهثة علي طول الطريق مرة علي يمينهما وأخري علي شمالهما وتنبح في وجه الدجاج كلما تعالت جوقة صياحه كما لو كانت تعمل علي اسكاته.
2-
أمام مقهى شعبي عند مدخل المدينة رأى “اصميده” أن يكيف رأسه الذي ضربته الشمس بكوب شاي احمر، وهكذا ربط حماره والشاتين الي عمود مظلة المقهى تاركا الكلبة لتحرسهم ودلف الي الداخل
-(شاي ينسّينا دواخنا؟) قال لصاحب المقهى
-(وين يا دُواخ! واااخ!) قال أحد الشباب ساخرا ثم ضحك آخرون وتضاحكوا من شلته وظلوا يتغامزون باستثناء واحد انفصل عنهم وأرتكن لوحده هناك
-(دعك منهم ) قال صاحب المقهى وفتح لهم راحته وعلّقها طالبا اليهم السّكوت
-(باداويسكا) رقّق نفس الشاب صوته كامرأة فأنفجر الآخرون ضحكا وأردف مكوّبا راحتيه في زاويتي فمه (أ للبيع السيارة؟ أوتوماتيكي أم عادية؟)
-(أية سيارة؟) قال “اصميده “
– (المربوطة الي العمود )
وضج المقهى ضحكا وضرب مناضد وتعليقات لاذعة ما دفع بعض الزبائن الي الخروج تجنبا للمشاكل، ورغم محاولات صاحب المقهى من خلف نضده لإسكاتهم ملوّحا لهم بيده وبالغمز تارة وقرض الشفة تارة أخري لكنهم تجاهلوه وراحوا يغيضون “اصميدة” بحركات غير اخلاقية جعلته ينتفض من مكانه كملسوع دافعا بالمنضدة أمامه والكرسي خلفه في آن معا ما أحدث ذلك صوتا كتمزّق منشور زجاجي و قوّس ذراعيه في وسطه كمقلاع وحلف لهم بالطلاق بأنه سيحطم وجوههم ان لم يكفّوا عن ما وصفه بسخافة وقلة حياء ودعاهم بالفاسدين و أبناء الحرام وهكذا وما أن خلع أحد خِفّيه و لوّح بها حتي مال عليه الشاب المرتكن لوحده وهو في طريقه الي الخارج وهمس في اذنه (ماذا تنتظر؟ أدّبهم، أتترك الساقطين التافهين ليضحكون منك وعليك) وفي الحال خلع عنه عباءته ورماها علي الكرسي ووضع فوقها كيس نقوده ثم وبعد أن سبقه اليهم احد خفّيه اندفع نحوهم شاتما لاعنا لكنهم لم يمكّنوه منهم –ومن الواضح أنهم متفقون علي ذلك- اذ أخذوا يلفّون به ويدورون حول المناضد كالأطفال مرددين في جوقة واحدة (باداويسكا، باداويسكا) الي أن أرهقوه فجعلوه يتعثر أكثر من مرة ويسقط ثم أخذوا يهربون الواحد تلو الآخر بينما هو يرغي ويزبد ويحاول عبثا الامساك بهذا أو ذاك وواصفهم بالكلاب وقليلي التربية، كل ذلك وصاحب المقهى وبعض الفضوليين من المارة يراقبون المشهد دون تدخّل، وكان لما عاد الي مكانه لم يجد لا عباءته ولا كيس نقوده فزاد هذا من غضبه وصرخ في وجه صاحب المقهى سائلا اياه أن يعمل رأسه ويبحث له عنهما من تحت الأرض :
-(وما أدراني بذلك) قال وتقهقر في وجه نظراته النارية وزبده المتطاير من زاويتي فمه ودقات قبضة يده المدوّية علي المنضدة ثم أسرع فتركه ولم يعره اهتماما وبينما هو يبحث هنا وهناك كان الشاب الذي شجعه على العراك قد صفّر له بفمه وأشار له بيده اشارة معيبة ثم فرّ هاربا على دراجته، (الربيع من فم الدار ايبان) سمع عقله يقول له وفكر في أن يطارده ولو الي آخر نقطة في العالم (هو من سرقك يا اصميدة، لتنس الموضوع ولا تأتي علي سيرته أمام أحد من أهلك أو اقربائك كي لا تصير مضغة في الأفواه، الشرطة؟ هه! لتنسهم هم ايضا، لديهم من قضايا نوعه ما لا يجعلهم يلتفتون لا لك ولا لغيرك، اسمع، توكل على الله وامش واحذر من ان يسرقوا رأسك، انهم يسرقون الكحل من العين) والتفت الي حماره وأطمأن الي أنه لا يزال بما فوقه هناك وكذلك الشاتين وكلبته ارزيقه
-(وأين الخفّان؟) صرخ بصوت أفجع صاحب المقهى فأسقط كأسي زجاج من يده، وتفاديا للمشاكل سارع فأحضرهما له من بين المناضد ووضعهما أمامه ورجع الي عمله، ولم تمض لحظات حتى خرج “اصميده” من المقهى وكان بعض المارة يتوقفون عنده وهو يحرر حماره و الشاتين والكلبة ارزيقة من مظلة المقهي ويسوّي البرذعة ويحكم وثاق حبل صفيحتي السمن المتدليتين وكذاك عنقودي الدجاج، ولم يكترث لمن ضحك او علّق بكلمة أولفّ من أمامه ومن خلفه ملتقطا صورا فوتغرافية له وهو محاذيا حماره وجارا الشاتين بينما كلبته تنبح علي هذا وذاك متقافزة عن يمين وشمال الشاتين كي لا تفلتان منها وتهربان. في سوق الأغنام التقي راعي قديم من ذوي قرباه يدعي ” مسعود ” لكنه لم يشأ أن يحدثه عن الواقعة وفهم منه انه يسكن مع مجموعة أكثرهم من العزّاب ويعمل بأحد المحاجر، وحين باع احدى الشاتين والدجاج وصفيحتي السمن اقنعه ” مسعود ” بأن يترك الشاة الأخرى كعشاء للمجموعة فوافقه علي ذلك قائلا (ليست خسارة في الصاحب)، وهكذا أجّر ” مسعود ” عربة حمار للشاة وسأله ان كان يتعين عليهما رفع الكلبة الي العربة أم ربطها اليها
-(لا رفعها ولا ربطها، ستتبعنا) قال ” اصميده “
– ( الا تخاف عليها من السيارات أو تضيع في الزحمة؟ )
– (لا، كلبتي وأعرفها، الظاهر ان المدينة أنستك أو نسيت معها أنك راعي غنم يعرف أية طبيعة هي لكلابنا؟)
– (ممكن )
وساعده علي ربط وتوثيق الشاة بسلك معدني ورفعاها الي العربة، وفي الطريق كانا متجانبين، “مسعود” مع سائق العربة وهو الي جانبه علي حماره وكلبته من خلفه وكان أن حكي له “مسعود” عن تجاربه مع المدينة دون تحفظ ودون أن يكترث لما يري من السائق من تصرفات لم يدري ان كانت مقصودة أو أنها بعض من طبائعه متمثلة في نقّات تعقبها بصقات من مضغته ثم رفعة راس وضحكة صفراء مع كل نهاية جملة من جمل ” مسعود “، ومن ضمن ما حكي له كيفية قدومه لأول مرة الي المدينة وحصوله على عمل، وكيف أغوته واحدة وأقنعته بالزواج منها ثم سلبته وتركته وذهب في تفاصيل أخري عنها حرص اصميده علي الا تفوته منها كلمة واحدة وعلّق قائلا لما طلب اليه رأيه فيها (اللي ايحط روحه في النخال ايبربشه الدجاج). وما أن وصلا و ظهرا في رأس الشارع حتي ابصرا شابا واقفا علي عتبة الباب ويدخن ( من جماعتنا ) قال مسعود ( هكذا هو – دائما- لا يبارح الباب، متي يتزوجان وننتهي من قصتيهما، لا ندري، هو في الباب وهي في سطوح البيت المقابل) نقّ عندئذ صاحب العربة نقة أعقبتها بصقة من مضغته ثم رفعة راس وضحكة صفراء ما أثار استغراب “اصميده” الذي لاحظ عليه ذلك هو الآخر منذ البداية وسأل ” مسعود ” ما اذا كان طبيعيا فقلب له شفته بمعني لا يدري، وما هي الا لحظات حتي كانا امام البيت، وكما لو كان علي موعد معهما هب الشاب اليهما فحياهما وسلّم علي “اصميدة” باليد والخد، ثم فتح الباب ونادي أحدا ما في الداخل فخرج ثلاثة، رحب اثنان باصميده، واحد باليد والآخر بالخد أما الثالث فسحب الشاة من وثاقها ودلف بها الي الداخل، كل ذلك وارزيقة تنبح تارة وتتمسح تارة أخري بقدمي اصميده، وبينما نقد “مسعود” صاحب العربة اجرته بعد أن نقّ له نقّته وأعقبها ببصقة ممثلة من مضغة ورفع رأسه وضحك ضحكة صفراء أخبرهما الشاب أنه يعرف سائق العربة وانه اتهم ذات يوم ظلما في قضية لا ناقة له فيها ولا جمل وانه ومن كثرة ما ضربوه وفعلوا به ما فعلوه في السجن خرج أخرسا وفاقد الذاكرة، وحينها أشفقا عليه وتأسّفا له مربتين علي كتفيه ثم جادا عليه ببعض المال وتركاه ليمضي الي حال سبيله. قبل أن يدخلا البيت دبّر ” مسعود ” مكانا للحمار في قطعة أرض فضاء مسوّرة بعد البيت الذي يليهم مباشرة قائلا انها تخص أحد معارفه بينما –وبناء علي اصرار اصميدة– تركت الكلبة لتبقي معه كيلا تنزعج حسب قوله من تغير الجو عليها فتظل تنبح وتقلل راحة الجيران، وهكذا وبعد أن تأكدا ان الأمور ستجري علي ما يرام دخلا البيت. في الداخل كان ثمة أربعة، واحد مستلقيا على سريره يتلوى مثل قطعة فلين ويمسح بيده على صورة عارية ملصقة بعجينة على الجدار، الثاني كان سارحا مع أغنية شرقية قديمة ويهز رأسه مثل درويش اما الآخران فكانا منشغلين بإعداد طعام الغداء، تقدم الثلاثة ورحبوا به اما الرابع فلم يرحب به بسبب هيامه بأغنيته الشرقية
-(الناس أسرار) قال “أصميدة “
-(دعك منه) قال “مسعود” (هكذا هو علي الدوام)
وتطلع اصميده الي الرجل المنصت للأغنية الشرقية وحوّل نظره الي الآخر المستلقي على السرير وحس انهما قد اكتويا بنار الحب معا وحين دخلت الكلبة وتمسحت بقدمي اصميده انتفض المستلقي على السرير وادار وجهه للجدار بلا حراك وحتى حين دعوه لتناول الطعام تظاهر بالنوم وتعالى شخيره. في المساء احتفلت المجموعة بالشاة وحكى لهم اصميده عن سيرة الهلالية والعفاريت وتجاربه مع النساء ونسي ما قاله له عقله فحكي لهم واقعة العباءة وكيس النقود، وحين ناموا جميعا جمع ما تناثر من خبز يابس في البيت ليعشي به حماره وتسلل الي الخارج وفي الحال كان الي جانب حماره يفتت له الخبز ويمسد رأسه، وفجأة حدث ما جعله يخفض من طوله على مستوي السور الواطي ويتلع عنقه وكان أن رأي الباب المجاور لباب الجماعة يفتح على نحو موارب محدثا صريرا متقطعا وتطلعت امرٌأة بنصف رأسها من هناك. رمقها وعادت المرأة فأخفت رأسها مثل سلحفاة في لحظة خوف، تعالى صرير الباب بشكل حاد وعادت فمدت رقبتها من جديد وسرقت نظرة خاطفة باتجاه الشمال ولحظتها كان هو شبه ميت ولقد حوّل نظره الي أين نظرت وشاهد رجلا مر من أمام بابها وأومأ لها برأسه صوب خربة مجاورة، واذاك تغربل اصميده من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وسمع عقله يتحدث اليه بأشياء لم يعد قادرا على تمييزها. كانت المرأة قد مرقت من الباب المجاور في لمح البصر واختفت هناك، ومن دون أن يشعر ندا عنه صوت كفحيح أفعى هو مزيج من التشوّق والحسرة وعاد لتفتيت الخبز من جديد ÷ وفي البدء راودته فكرة اقتحام الخربة لكنه سرعان ما عدل عنها حين تذكر بعضا من مواقف سابقه ونزقة له بين المراعي وتلال التبن (الله يحسن الخاتمة) قال هامسا في أذن حماره وأضاف (والآن اصميده يريد ان ينام فتسلي بخبزك وانعم بعودتها من الخربة لوحدك.. حين استيقظ صباحا لم يشأ أن يحدثهم عن حكاية جارتهم ولأنه كان مشغولا بالعباءة وكيس النقود فلم يجد الرغبة في تناول وجبة الافطار
– (انس يا رجل، اما تزال تفكر في النقود؟)
– (انا لا افكر في النقود بل في الوجه الذي سوف اقابل به اهلي) واحنى رأسه وظل يفكر فيما خرج اثنان وقال الاخر الذي افاق من نومه لتوه (ما شأننا بنقودك، نقود وسرقت، أمر عادي ولا يستحق أن تٌصدّعنا من أجله)
-(ماذا؟) قال اصميده منتفضا في مكانه (طبعا، انت تقول هذا لأنها ليست نقودك، استحلفك بالله ان تقفل فاك لا يحس بالنار الا من يطأها)
عندئذ تدخل “مسعود” واقنعه بان ينسى قصة السرقة وينضم للعمل معه في المحجر، وحينها اشرقت أساريره وهز رأسه موافقا.
3
شهر كامل مضى على” اصميده” دون ان يفكر في العودة الي أهله، لقد راقت له حياة المدينة وفتح عينيه على أشياء لم يكن ليعرفها وعلى الرغم من المطبات التي اعترضته كتحقيق الشرطة معه بسبب اعتداء كلبته على الناس ومغازلته لأحدى الدلالات في أحد متاجر العطارين إلا انه اعتبر ذلك امرا عاديا قد يساعده على معرفة طريقه في نهاية المطاف، وفي ذات ليلة طلب المجموعة من اصميده ان يتكيف من مبسمه ويسليهم بالحديث عن المطلقات والسيرة الهلالية وخوارق الأدب الشعبي وأمام الحاحهم الشديد حشا اصميده مبسمه واعتدل في جلسته ثم طفق يحكي لهم عن كل شيء فيما مد احدهم يده تحت السرير فسحب جالون بلاستيك وصب منه في كوب صغير
-(ما هذا) قال اصميده (م اهذا السائل الأصفر؟)
-(دواء للكبد وسوء الحظ ) أجابه
حين أحتسي “اصميده” ثلاث اكواب متوسطة لمعت عيناه علا صوته وساءت ألفاظه وأكثر من الحلف بالطلاق وفيما احرق جوفه بثلاثة اكواب اخرى مد يده الي جرابه الجلدي الصغير فتناول مقرونته وطلب من المجموعة ان تصاحبه بالتصفيق فرحبّوا بالفكرة وقام احدهم فلوى حول وسطه قطعة قماش وانطلق يرقص بجنون. امتدت السهرة حتى ساعة متأخرة من الليل و لما انتهت انطلق اصميده مترنما خارج البيت ليتبول في الخربة ومصادفة كانت المرأة لحظتها هناك وحين ابصرته قطعت الحركة وانتظرته حتى دخل وادار لها ظهره ثم انطلقت الي الخارج وفي اللحظة ذاتها كان زوجها بانتظارها عند فم الباب ولقد تركها تدخل دون ان يتكلم اليها وظل ملازما لمكانه وحين ابصر “اصميده” قادما من الخربة توارى وترك الباب مواربا وعرفه في النهاية حين مر من امامه وصفق الباب وراءه بشدة. في الصباح نقل “اصميده” الي المستشفى فاقدا وعيه ولم يفق الا مع منتصف النهار (بسم الله الكريم) قال اصميده (ما الذي جاء بي الي هنا؟)
ضحكت الممرضة واهتمت بالمريض المجاور ومر شريط البارحة على ذهن “اصميده ” وتعوذ من الشيطان الرجيم وطلب من الله ان يغفر له هذه الزلة.
-(حين جاؤا بك الي هنا كنت تطوح بيديك مثل مجنون) قال المريض المجاور (اجل تطوح بيديك وتحاول ضم الممرضة من خصرها)
-(هذا غير معقول، قل كلاما غير هذا)
-(اقسم لك بالله، انت غير مصدق، بماذا تريدني أن احلف لك؟)
بعد لحظات كان اصميده يتجول في ردهات المستشفى ويمازح الممرضات وعاملات النظافة وفجأة وبالقرب من مريضين توقف وسمعهما يتحاوران
-(حين دخل المقهى سرقت عباءته وكيس نقوده )
-(هذا غير معقول)
-(اقسم لك)
-(كل هذا ولم يفطن لك؟)
-(يفطن! هه، ماذا تزيده عن كونه بدوي)
عندئذ فار دم “اصميده” واندفع نحوه، امسكه من حنجرته، طوح راسه الي الجدار، تجمع بعض النزلاء والممرضين وفضوا النزاع، سرد لهم اصميده الحكاية بكاملها، أعادوه الي سريره بالقوة وحين عجزوا عن اقناعه ذكروا له الشرطة فالتزم الصمت لكنه بالطبع كان يغلي من الداخل وحلف لهم بالطلاق بان يقصف رقبته ويشرب من دمه طال الدهر ام قصر وحين تركوه لوحده اخرج علبة التبغ وحشا مبسمه وظل يدخن وقال له عقله جئت لتبيع فباعوك هذا جزاء من يحرث في السبخة يا اصميده
-(وليكن ما يكون، مَن عضك أيقظك لأسنانك.) كان في تلك اللحظة تناهى الي “اصميدة” صوت في الخارج فنهض واقفا وسرق خطوات سريعة في غفلة من الممرضين وتطلع عبر النافذة الي الباب الخارجي، كان ثمة رجل يلوح بيديه هناك وكان الخفير يقفل الباب الحديدي في وجهه ويمنعه من الدخول. فتح اصميده النافذة وسمع الرجل يقول للخفير (لقد رأيته بعينيّ هاتين، اقسم لك رأيته يخرج في أثرها من الخربة ويدخل الباب المجاور، انا متأكد منه ولقد طعنني في شرفي) عندئذ تجمد دم “أصميده” في عروقه وسمع عقله يقول له (هذه ليست مسألة كيس نقود، هذه المرة تورطت الي النهاية، ماذا قلت؟) وفكر اصميده قليلا، اذن عليه ان يتخذ قرارا فالرجل بعد قليل سيقنع الخفير بالدخول ويدلف الي الداخل، وتطلع “اصميده” مرة الي اليمين ومرة الي الشمال، تأكد أن لا أحد يراه، انطلق بمحاذاة الجدار كاسرا طوله وبطريقة ما كان في لحظات خارج المستشفى.
حين أخذ حماره وانطلق يجوب أزقة المدينة توقف في السوق وأشترى كل ما أراده وسلك الطريق المؤدي الي أهله. في الطريق توقف امام مقهى كيس النقود وضحك حتى كاد ان يسقط من على ظهر الحمار حين فوجئ بكلبته تنتظره هناك. وفيما ظل يحث حماره على السير تراءت له رفيقته ووهج التنور وتماوج سنابل القمح الفضية ورائحة السمن والصوف وثغاء الأغنام والأغاني الشجية في مواسم الجلامة وبيوت الربيع الفارهة ونزق الحطابات ونصب الشباك للحمام البري والفتيات على آبار المياه وركض الخرفان المكتنزة عبر الهضاب وضباب المطر وصدى مزامير الرعاة عبر الأودية. ولقد كانت هذه الأشياء جميعها من شأنها أن تشعره بالحنين الدائم الي الأراضي ألخصبة.