وُلدت (ميّ) ثم ماتت كما يولد النهر من قَطْر السماء، فتربيه الطبيعة الهادئة الفسيحة، ثم تبعثه برسالة الحياة إلى حوضه، فيشق بالجهد والصبر طريقة الموحش في صخور الجبل وقفار الأرض وأصول الغاب؛ ثم يُلقي على شاطئ الوادي ما حمل من فضل الله، فيحيا المَوات، وتتجمع الخيرات، وتنشأ الحضارات، وتتألف الملاحم، ويتكلم التاريخ؛ ثم يأخذ النهر مجراه بين
الحقول الناضرة والمدن العامرة شادياً بالمال والجمال والحب حتى يذهب في عباب البحر كما تذهب الروح الطيبة في قضاء اللانهاية!
لن تجد (لميّ) في حياتها وموتها أقرب من هذا التشبيه. فقد كانت من خلال ما غشى الشرق
من الهمود والظلام قبساً من الحياة من يمسَسْه وهيجه وساء انتعش ما همد منه، واستنار ما أظلم فيه
كانت (ميّ) في حياة القاهرة ظاهرة من الظواهر العجيبة! والعجب فيها أنها كانت كممدوح المتنبي واحدةً من ناس دنياها وليست منهم: كانت جنساً من الخلق الجميل تميز بخصائص الجنسين، فكان فيه أفضل ما في الرجل وخير ما في المرأة. فمن كان يسمعها خطيبة في محفل، أو يشهدها محدثة في منزل، كان يحسبها - وقد استدارت على رأسها الأنيق هالة من السحر والفتنة - (قليوبَ) إحدى بنات (جوبير) التسع، وإلهات الفنون التسعة، قد سرقت من أخواتها أسرار فنونهن ثم هبطت من فوق (البرناض) إلى ضفاف النيل تجدد في الناس آي المسيح تميت القنوط وتحي الأمل
ومن يستطيع أن يحسب (ميّ) غير هذا وهي فتاة قد نشأت في عهد كانت المرأة فيه شيئاً من المتاع، ترى ولا تعلم، وتسمع ولا تفهم؛ ثم تحذق هي الكتابة والشعر والفلسفة والتصوير والموسيقى، وتتقن العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية، وهي لم تولد في قصر، ولم تتخرج في جامعة؟!
أبصرتْ (ماري زيادة) الدنيا أول مرة في (الناصرة) بلد المسيح، ومن هنا استوحى أبواه اسمها الأول على ما أظن؛ ثم أرسلت إلى منبت أسرتها في قضاء كسروان بلبنان، فثقفت طفولتها قليلاً في (عين طورة)؛ ثم هاجرة إلى مصر مع والديها، فتفتح صباها الغض على ماء النيل، وتفتق ذهنها الصافي على نسيم الوادي. وكان والداها إلياس يحترف الصحافة ويصدر (المحروسة)؛ فكان لها من عمل أبيها، ومن أصالة الملكة فيها، حافز سديد
التوجيه إلى الأدب. ولكن أدبها على الرغم من نشوئه وبلوغه ونبوغه في القاهرة لم يتأثر
بأدب مصر، وإنما تأثر في شكله وموضوعه بأدب لبنان. ذلك لأن الأدب اللبناني كان وحده في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر مظهر الحياة والجدَّة والتنوع في الأدب العربي الحديث. فبينما كان الأدب المصري يصدر عن الأزهر، والأدب العراقي يصدر عن النجف، والأدب السوري يجري على أسلوب هذين الأدبين، كان الأدب اللبناني يصدر عن
مدارس تتسم بسمة الدين، ولكنها تعترف بوجود الدنيا؛ فهي تعلم العلوم الحديثة، وتلقن اللغات الحية، وتعتمد في أدب القلب على الإنجيل، وفي أدب اللسان على القرآن؛ فبيضت الكتب الصفراء، ورتبت المعاجم المشوشة، ونشرت الكتب المقهورة، ولقحت الآداب الأوربية، وكان من أثر هذا اللقاح النقد والترجمة والصحافة والتمثيل والقصص؛ وكان من ثمر هذا اللقاح طلائع هذه النهضة من آل اليازجي والبستاني والشرتوني وزيدان وصروف وشميل والريحاني وجبران ومطران؛ وكان لابد لمارى العربية أن تجنى ثمر الثقافة مما غرس الفرنسيسكان والأمريكان والمارون، وأن تقبس نور العروبة من الضياء والهلال والمقطف، وأن تناجى عنادلنا الغَرِدة في رياض مصر وخمائل لبنان ومنارة الدنيا الجديدة، وأن يحملها الاعتداد بجنسها ولغتها على أن نقتصر من أسمها الأعجمي على طرفيه ليكون منها اسمها العربي (مي). وعلى هذا النهج بلغت مي غايتها من الأدب والعلم والفن، فاستفاض ذكرها على الألسنة، وعظمت مكانتها في الأفئدة؛ ووصلت بينها وبين كثير من أولى الفكر والجاه أسباب من الروح، فكان صالونها في أيام الثلاثاوات كصالون الولادة بنت المستكفي منتجع الصفوة من أقطاب السياسة وأعيان الأدب، يعكفون على أصدق مثال للأناقة واللباقة والذوق في فتاة بارعة الظرف، تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة! لقد كان لي ولصالون مي في أدب العصر آثار وسمات: ألهمت صبري، وأوهمت الرافعي، وألهبت جبران؛ ثم أخرجت من سواد المداد صوراً مختلفة الألوان متنوعة الأفنان أضافت إلى ذخائر الفكر الإنساني ثروة.
ثم تقدم العصر وطوت (مي) أكثر مراحل الشباب، فتنكر الدهر وتغير الناس؛ وورد أبواها متعاقبين حياض المنون فاستكانت للحزن، وأخلدت إلى الوحدة، فانفض السامر الأنيس، وانطفأ السراج اللامع، وانحدرت (مي) في طريق الوحشة والمرض والنسيان إلى نهايتها الأليمة!
أما بعد فقد قال بشار لبعض جلسائه ذات يوم: ما سمعت شعر امرأة قط إلا أحسست فيه الضعف! فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ فقال في لهجة الفطِن المحترس: تلك فوق الرجال!
ونحن نقول في مي مقال بشار في الخنساء، ونزيد عليه أن مي هي الأدبية الكاملة في تاريخ الأدب العربي كله! أما إجمال هذا التفصيل فله مناسبة أخرى.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 440
بتاريخ: 08 - 12 - 1941
الحقول الناضرة والمدن العامرة شادياً بالمال والجمال والحب حتى يذهب في عباب البحر كما تذهب الروح الطيبة في قضاء اللانهاية!
لن تجد (لميّ) في حياتها وموتها أقرب من هذا التشبيه. فقد كانت من خلال ما غشى الشرق
من الهمود والظلام قبساً من الحياة من يمسَسْه وهيجه وساء انتعش ما همد منه، واستنار ما أظلم فيه
كانت (ميّ) في حياة القاهرة ظاهرة من الظواهر العجيبة! والعجب فيها أنها كانت كممدوح المتنبي واحدةً من ناس دنياها وليست منهم: كانت جنساً من الخلق الجميل تميز بخصائص الجنسين، فكان فيه أفضل ما في الرجل وخير ما في المرأة. فمن كان يسمعها خطيبة في محفل، أو يشهدها محدثة في منزل، كان يحسبها - وقد استدارت على رأسها الأنيق هالة من السحر والفتنة - (قليوبَ) إحدى بنات (جوبير) التسع، وإلهات الفنون التسعة، قد سرقت من أخواتها أسرار فنونهن ثم هبطت من فوق (البرناض) إلى ضفاف النيل تجدد في الناس آي المسيح تميت القنوط وتحي الأمل
ومن يستطيع أن يحسب (ميّ) غير هذا وهي فتاة قد نشأت في عهد كانت المرأة فيه شيئاً من المتاع، ترى ولا تعلم، وتسمع ولا تفهم؛ ثم تحذق هي الكتابة والشعر والفلسفة والتصوير والموسيقى، وتتقن العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية، وهي لم تولد في قصر، ولم تتخرج في جامعة؟!
أبصرتْ (ماري زيادة) الدنيا أول مرة في (الناصرة) بلد المسيح، ومن هنا استوحى أبواه اسمها الأول على ما أظن؛ ثم أرسلت إلى منبت أسرتها في قضاء كسروان بلبنان، فثقفت طفولتها قليلاً في (عين طورة)؛ ثم هاجرة إلى مصر مع والديها، فتفتح صباها الغض على ماء النيل، وتفتق ذهنها الصافي على نسيم الوادي. وكان والداها إلياس يحترف الصحافة ويصدر (المحروسة)؛ فكان لها من عمل أبيها، ومن أصالة الملكة فيها، حافز سديد
التوجيه إلى الأدب. ولكن أدبها على الرغم من نشوئه وبلوغه ونبوغه في القاهرة لم يتأثر
بأدب مصر، وإنما تأثر في شكله وموضوعه بأدب لبنان. ذلك لأن الأدب اللبناني كان وحده في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر مظهر الحياة والجدَّة والتنوع في الأدب العربي الحديث. فبينما كان الأدب المصري يصدر عن الأزهر، والأدب العراقي يصدر عن النجف، والأدب السوري يجري على أسلوب هذين الأدبين، كان الأدب اللبناني يصدر عن
مدارس تتسم بسمة الدين، ولكنها تعترف بوجود الدنيا؛ فهي تعلم العلوم الحديثة، وتلقن اللغات الحية، وتعتمد في أدب القلب على الإنجيل، وفي أدب اللسان على القرآن؛ فبيضت الكتب الصفراء، ورتبت المعاجم المشوشة، ونشرت الكتب المقهورة، ولقحت الآداب الأوربية، وكان من أثر هذا اللقاح النقد والترجمة والصحافة والتمثيل والقصص؛ وكان من ثمر هذا اللقاح طلائع هذه النهضة من آل اليازجي والبستاني والشرتوني وزيدان وصروف وشميل والريحاني وجبران ومطران؛ وكان لابد لمارى العربية أن تجنى ثمر الثقافة مما غرس الفرنسيسكان والأمريكان والمارون، وأن تقبس نور العروبة من الضياء والهلال والمقطف، وأن تناجى عنادلنا الغَرِدة في رياض مصر وخمائل لبنان ومنارة الدنيا الجديدة، وأن يحملها الاعتداد بجنسها ولغتها على أن نقتصر من أسمها الأعجمي على طرفيه ليكون منها اسمها العربي (مي). وعلى هذا النهج بلغت مي غايتها من الأدب والعلم والفن، فاستفاض ذكرها على الألسنة، وعظمت مكانتها في الأفئدة؛ ووصلت بينها وبين كثير من أولى الفكر والجاه أسباب من الروح، فكان صالونها في أيام الثلاثاوات كصالون الولادة بنت المستكفي منتجع الصفوة من أقطاب السياسة وأعيان الأدب، يعكفون على أصدق مثال للأناقة واللباقة والذوق في فتاة بارعة الظرف، تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة! لقد كان لي ولصالون مي في أدب العصر آثار وسمات: ألهمت صبري، وأوهمت الرافعي، وألهبت جبران؛ ثم أخرجت من سواد المداد صوراً مختلفة الألوان متنوعة الأفنان أضافت إلى ذخائر الفكر الإنساني ثروة.
ثم تقدم العصر وطوت (مي) أكثر مراحل الشباب، فتنكر الدهر وتغير الناس؛ وورد أبواها متعاقبين حياض المنون فاستكانت للحزن، وأخلدت إلى الوحدة، فانفض السامر الأنيس، وانطفأ السراج اللامع، وانحدرت (مي) في طريق الوحشة والمرض والنسيان إلى نهايتها الأليمة!
أما بعد فقد قال بشار لبعض جلسائه ذات يوم: ما سمعت شعر امرأة قط إلا أحسست فيه الضعف! فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ فقال في لهجة الفطِن المحترس: تلك فوق الرجال!
ونحن نقول في مي مقال بشار في الخنساء، ونزيد عليه أن مي هي الأدبية الكاملة في تاريخ الأدب العربي كله! أما إجمال هذا التفصيل فله مناسبة أخرى.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 440
بتاريخ: 08 - 12 - 1941