كانت ليلى رستم قد استعدّت كثيرا قبل إجراء تلك المقابلة. أقل من ذلك الجهد الذي بذلته لن يرضي طه حسين وهو على أيّ حال انتقد، على الهواء، دعوتها الكتّاب العشرة إلى مناقشته فيما كان الاتفاق جاريا على خمسة. قال ذلك أمامهم، هم كبار كتاب مصر ومفكّريها في ذلك الزمن. ليلى رستم قدّمت لكل من هؤلاء العشرة باسمه فقط، خاليا من أي تعريف يسبقه أو يدلّ على صفته الكتابية. نجيب محفوظ، وكان واحدا من هؤلاء العشرة، هو نجيب محفوظ فقط من دون أن يُعرَّف بأنه روائي، ومثله عبد الرحمن بدوي أو محمود أمين العالم لم يُعرّفوا إلا بأسمائهم. وكانت ليلى رستم تعرف ماذا سيسأل كل منهم، حين يُعطى الدور، فتقول مثلا إن يوسف السباعي سيسأل عن كذا. كان جليا ذلك التراتب بين الأستاذ الكبير وبين سائليه، إذ لم يكونوا محاوريه طالما أنهم اكتفوا جميعا بما سألوا. وطه حسين يجيب على ما يُسأل عنه، بلغة عربية فصيحة دائما.
السؤال الأول، حسب الترتيب المسبق، جاء من يوسف السباعي. كان سؤاله، هو الروائي، عن رأي الكاتب الكبير بالعامية لغةً للكتابة. في جوابه عاد طه حسين إلى القرن الثالث الهجري ذاكرا ما كان قاله الجاحظ عن ذلك بأن «لا بأس به إذا احتيج إليه». لم يكن طه حسين ضد إدخال عبارات من العامية إلى النص الفصيح، لكن ليس إلى ما يفوق حدّ أن يفهم المغربي مثلا نصّا كتبه مصري أو عراقي. قال أيضا إن الكلام على العامية والفصحى ليس جديدا في مصر، ومع ذلك لم يقدّم إضافة إلى ذلك السجال القديم بل كان ما قاله هو الكلام الأكثر شيوعا عنه. ولم يعلّق أي من الحاضرين على ما قاله الأستاذ الكبير ولم يضف إليه. لم يقل أحد بأن هذا السؤال، وكذلك الجواب عليه، قد يكونان قائمين على مواقف سياسية وفكرية. لقد اكتُفي بالجواب البديهي الذي ما زال هو نفسه منذ أن طرح لأول مرّة في مصر.
وكانت تلك البديهية، بل والحيادية، حاضرة في الإجابة عن سؤال الالتزام، الذي طرحه محمود أمين العالم. هنا أيضا جرى الكلام على الالتزام حسب ما كان يمكن أن يقوله أرسطو مثلا. لا ربط للالتزام بالسياسة أو بالعقائدية أو الحزبية. ثم لا أمثلة على ذلك، لا تذكير بحادثة مضت، ولا إن كان هناك داعون للأدب الملتزم في مصر، ولا إن كان السائل (محمود أمين العالم) آتيا من ثقافة لها مناصروها ودعاتها هناك.
أما نجيب محفوظ، الذي سيصبح بعد ذلك كاتب مصر الأول، بل كاتبها الخالد أو الأكثر خلودا من طه حسين الذي تكرّرت له هذ الصفة في المقابلة، فسأل عن رأي الأستاذ الكبير بالقصة الفلسفية. وقد حظي محفوظ، من بين كوكبة العشرة، بقول صريح، ومنحاز، من طه حسين. قال إنه لا يحب آلان روب غريية (رائد الرواية الجديدة في فرنسا) ولا ناتالي ساروت فكلامهما، حسبه، «ثرثرة في غير فائدة». قصص ألبير كامو ثرثرة هي أيضا، وخصوصا روايته «الطاعون». الرواية الوحيدة «الطبيعية» بين ما كتبه كامو هي «الغريب»، وكل ما سواها بلا معنى. ثم أن كامو متشائم. أبو العلاء المعري متشائم أيضا، لكن مع فارق في العمق كبير وهائل بين الإثنين.
ولم يجب محفوظ، ولم يعلّق. لا بد أن سطوة طه حسين كانت قاهرة آنذاك حتى يلتزم مفكرّو مصر وكتّابها الصمتَ المطبق بإزاء كل ما يسمعونه. كانوا قد جاؤوا من تيارات أكثر حداثة مما يدعو إليه طه حسين، المجاهر بالتزامه المنهج الديكارتي التزاما لا محيد عنه، لكنهم ارتضوا جميعا بالسماع وعدم التعليق. هل هي المكانة الأدبية السابقة على مكاناتهم، هل هو منصب وزير المعارف الذي كان تولاه طه حسين، هل ذلك عائد إلى رغبة الجميع في لعب دور العائلة الواحدة المرغوب، أو المطلوب، في ذلك الزمن. هل هو طه حسين نفسه، أقصد شخصيته التي كانت من القوة بحيث أن كتابا معاصرين له، من خارج أولئك العشرة، تساءلوا إن كانت في أهمية أدبه.
ما كنت أسعى إليه من الرجوع إلى تلك المقابلة هو مشاهدة اللقاء الذي جمع بين نجيب محفوظ وطه حسين. هكذا كتبت سائلا اليوتيوب: «طه حسين ونجيب محفوظ»، فجاءني ما وصفت بعضا منه أعلاه. لا أعرف إن كان عالم نجيب محفوظ الروائي ما يزال حاضرا في ثقافة الجيل الحاضر، لكن الماضي الذي كرّس له طه حسين اهتمامه بات بعيدا إلى حدّ الغياب.
لم يعد المتنبي وأبو العلاء المعري والجاحظ حاضرين الآن، وهؤلاء كانوا في صلب اهتمام عميد الأدب العربي، إذ عملت العقود القليلة الأخيرة على استبعادهم بعد حضور لم يتوقف على مدى تلك القرون الكثيرة.
ثم أن زمن صدر الإسلام لم يعد، كما في زمن طه حسين، المجال الأول للكتابة. لم تعد استعادة الماضي وتأويله الشغل الشاغل للكتابة والكتّاب، كما كان دأب طه حسين. بات الحال اليوم بين من يسعى إلى نسيان ذلك الماضي ومن يسعى إلى أن يعيشه كما هو، ومن دون ثرثرة الكتاب والمثقفين.
حسن داوود
السؤال الأول، حسب الترتيب المسبق، جاء من يوسف السباعي. كان سؤاله، هو الروائي، عن رأي الكاتب الكبير بالعامية لغةً للكتابة. في جوابه عاد طه حسين إلى القرن الثالث الهجري ذاكرا ما كان قاله الجاحظ عن ذلك بأن «لا بأس به إذا احتيج إليه». لم يكن طه حسين ضد إدخال عبارات من العامية إلى النص الفصيح، لكن ليس إلى ما يفوق حدّ أن يفهم المغربي مثلا نصّا كتبه مصري أو عراقي. قال أيضا إن الكلام على العامية والفصحى ليس جديدا في مصر، ومع ذلك لم يقدّم إضافة إلى ذلك السجال القديم بل كان ما قاله هو الكلام الأكثر شيوعا عنه. ولم يعلّق أي من الحاضرين على ما قاله الأستاذ الكبير ولم يضف إليه. لم يقل أحد بأن هذا السؤال، وكذلك الجواب عليه، قد يكونان قائمين على مواقف سياسية وفكرية. لقد اكتُفي بالجواب البديهي الذي ما زال هو نفسه منذ أن طرح لأول مرّة في مصر.
وكانت تلك البديهية، بل والحيادية، حاضرة في الإجابة عن سؤال الالتزام، الذي طرحه محمود أمين العالم. هنا أيضا جرى الكلام على الالتزام حسب ما كان يمكن أن يقوله أرسطو مثلا. لا ربط للالتزام بالسياسة أو بالعقائدية أو الحزبية. ثم لا أمثلة على ذلك، لا تذكير بحادثة مضت، ولا إن كان هناك داعون للأدب الملتزم في مصر، ولا إن كان السائل (محمود أمين العالم) آتيا من ثقافة لها مناصروها ودعاتها هناك.
أما نجيب محفوظ، الذي سيصبح بعد ذلك كاتب مصر الأول، بل كاتبها الخالد أو الأكثر خلودا من طه حسين الذي تكرّرت له هذ الصفة في المقابلة، فسأل عن رأي الأستاذ الكبير بالقصة الفلسفية. وقد حظي محفوظ، من بين كوكبة العشرة، بقول صريح، ومنحاز، من طه حسين. قال إنه لا يحب آلان روب غريية (رائد الرواية الجديدة في فرنسا) ولا ناتالي ساروت فكلامهما، حسبه، «ثرثرة في غير فائدة». قصص ألبير كامو ثرثرة هي أيضا، وخصوصا روايته «الطاعون». الرواية الوحيدة «الطبيعية» بين ما كتبه كامو هي «الغريب»، وكل ما سواها بلا معنى. ثم أن كامو متشائم. أبو العلاء المعري متشائم أيضا، لكن مع فارق في العمق كبير وهائل بين الإثنين.
ولم يجب محفوظ، ولم يعلّق. لا بد أن سطوة طه حسين كانت قاهرة آنذاك حتى يلتزم مفكرّو مصر وكتّابها الصمتَ المطبق بإزاء كل ما يسمعونه. كانوا قد جاؤوا من تيارات أكثر حداثة مما يدعو إليه طه حسين، المجاهر بالتزامه المنهج الديكارتي التزاما لا محيد عنه، لكنهم ارتضوا جميعا بالسماع وعدم التعليق. هل هي المكانة الأدبية السابقة على مكاناتهم، هل هو منصب وزير المعارف الذي كان تولاه طه حسين، هل ذلك عائد إلى رغبة الجميع في لعب دور العائلة الواحدة المرغوب، أو المطلوب، في ذلك الزمن. هل هو طه حسين نفسه، أقصد شخصيته التي كانت من القوة بحيث أن كتابا معاصرين له، من خارج أولئك العشرة، تساءلوا إن كانت في أهمية أدبه.
ما كنت أسعى إليه من الرجوع إلى تلك المقابلة هو مشاهدة اللقاء الذي جمع بين نجيب محفوظ وطه حسين. هكذا كتبت سائلا اليوتيوب: «طه حسين ونجيب محفوظ»، فجاءني ما وصفت بعضا منه أعلاه. لا أعرف إن كان عالم نجيب محفوظ الروائي ما يزال حاضرا في ثقافة الجيل الحاضر، لكن الماضي الذي كرّس له طه حسين اهتمامه بات بعيدا إلى حدّ الغياب.
لم يعد المتنبي وأبو العلاء المعري والجاحظ حاضرين الآن، وهؤلاء كانوا في صلب اهتمام عميد الأدب العربي، إذ عملت العقود القليلة الأخيرة على استبعادهم بعد حضور لم يتوقف على مدى تلك القرون الكثيرة.
ثم أن زمن صدر الإسلام لم يعد، كما في زمن طه حسين، المجال الأول للكتابة. لم تعد استعادة الماضي وتأويله الشغل الشاغل للكتابة والكتّاب، كما كان دأب طه حسين. بات الحال اليوم بين من يسعى إلى نسيان ذلك الماضي ومن يسعى إلى أن يعيشه كما هو، ومن دون ثرثرة الكتاب والمثقفين.
حسن داوود