أشعرُ وأنا أعود بذاكرتي إليه لأكتب عنه أنّي أمام شخص هو أكثر من أديب، هو مؤسّسة ثقافيّة في تاريخ ثقافتنا العربيّة، وعلامة بارزة في أدبنا الروائي. أكاد أحجم عن الكتابة أمام الذكريات الثريّة التي استيقظت في مخيّلتي.
أعود بهذه الذاكرة إلى يوم قرأتُ روايته “الحي اللاتيني”، ولم أكن أعرفه شخصيّاً، فارتسمتْ له، في مخيّلتي، صورة الراوي، وماهيتُ بينه وبين الطالب الذي خلع لباس الشيخ وسافر إلى باريس للدراسة، فإذا به يغرق في ملذات الحي اللاتيني.
أُعجبتُ بصراحته وبقدرته على التوفيق بين تجربته الحياتيّة المتحررة وما رافقها من معاناة، وبين دراسته الأكاديميّة وحصوله على درجة الدكتوراه.
كنتُ وقتها ما زلت تلميذة في الصفوف التكميليّة، أحلم بالسفر إلى باريس لمتابعة دراستي الجامعيّة. ولكني أنثى، لذا كان قتلي أهون على أهلي من تركي أحقِّق حلمي، وأذهب إلى بلادٍ بناتُها متحرّرات من قواعد ديننا الأخلاقيّة.
هكذا بقي روائي “الحي اللاتيني”، في ذهني، قبلة للحريّة، ولإرادة تحصيل العلم، بقي ذلك الشاب الذي يعيش تجربة اكتشاف أجواء باريس، ويكتسب من ثقافتها. لكن عندما التقيته بعد سنوات فاجأني بأن شخصه لا يشبه الـ أنا بطل الرواية وراويها.
في ذلك الوقت لم نكن بعد نملكُ المفاهيم النقديّة التي تخوِّلنا التمييز بين الكاتب والراوي، أو بين الكاتب وبطل الرواية الذي يروي عن نفسه. كنّا نظن أنَّ الراوي الذي يروي بضمير الـ أنا هو نفسه الكاتب/البطل الذي يحكي عن ذاته.
ولم أكن بعد قد قرأتُ عن معنى أن تكون السيرة الذاتيّة رواية، أي جنساً أدبيّاً هو قناع تخييلي تلتبس صدقيّته، وأنَّ التجنيس الروائي يضمر وضع المحكي، أي حكاية السيرة الذاتيّة، موضع المحتمل. الأمر الذي لا يخوّلنا اعتبار هذه الرواية سيرة ذاتيّة وإن استشفنا فيها ما يشير إلى ذات الكاتب.
كما أني لم أكن قد قرأت تعريف فيليب لوجون للسيرة الذاتيّة الذي يقول: هي “سردٌ استعاري نثري يعبِّر به شخصٌ واقعي عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركِّز على حياته الفرديّة وعلى تاريخ شخصه”. وهذا يعني أن رواية “الحي اللاتيني” ليست، بهذا المعنى، سيرة ذاتية. لكنّ البعض نسب كلَّ أفعال “أنا/الراوي” إلى الكاتب وخصّوا شخصه بأحكامهم الأخلاقيّة السلبيّة.
التقيتُه لأول مرة في اتحاد الكتاب اللبنانيين وكان هو رئيس هذا الاتحاد. بعد انتهاء الجلسة سألته عما إذا كان لديه رواية جديدة. ابتسم وأخبرني بإيجاز بأنّه منصرف، في هذا الوقت، إلى الاهتمام بالثقافة العربيّة عبر نشاطات اتحاد الكتاب اللبنانيين بصفته، حالياً، رئيسه، وعبر مجلة “الآداب” التي كان قد أنشأها عام 1953، والتي هي، إضافة إلى دار الآداب، مشروعه من أجل أدب قومي عربي، بل ثورة ثقافيّة تحرِّر المجتمع من أمراضه وتقاليده الباليه.
سألته: هل تعتبر هذا المشروع بمثابة رسالة؟
نعم. هو رسالة واعية حملتها معي، من باريس، بعد تعرّفي إلى ثقافة الغرب، وبشكل خاصّ إلى فلسفة سارتر الوجوديّة، وذلك من منطلق حرصي على “إبراز الأدب الجديد الواعي الذي يستمد حرارته من أرضنا”. وجعلت من صفحات مجلة “الآداب” مساحةً لحضور الأقلام المبدعة، والأقلام الواعدة، ولكلِّ فكر يناقش ويطرح الأسئلة، ويكشف بجرأة ما غرق في عتمة القمع، وحرمتْه الرقابةُ من الإفصاح.
يقال بأن “الآداب” هي مجلة ملتزمة. كيف أمكن لها أن تجمع بين الالتزام وبين انفتاحها، كما تقول: “على كلِّ فكر يناقش ويطرح الأسئلة”؟
إن الالتزام في مجلة “الآداب”، هو التزام بقضايا الواقع العربي، بالمشاعر القوميّة وبالهويّة العربيّة للخطاب الثقافي العربي ومن منظور التأكيد على هذه المشاعر القوميّة والهويّة العربيّة للخطاب الثقافي.
كيف أمكن للمجلة أن تجمع بين الالتزام بالهويّة العربيّة للخطاب الثقافي وبين انفتاحها، كما تقول: على “كل فكر يناقش ويطرح الأسئلة”؟
الهويّة العربيّة هي هويّتُنا، والالتزام بقضايا الواقع العربي لا يعني انغلاقاً على الذات، أو موقفاً عنصريّا عدائيّاً من الآخر، أو تمسّكاً أعمى بالتراث… أو إنتاجاً أدبيّاً على حساب حريّة الصنيع الفني الذي هو من شأن المبدعين، كما هو من صميم حريّتهم. هذا الموقف الفكري يتمثّل عمليّاً، بالنسبة لي، في نشر مقالات المبدعين في المجلة، وإصدار كتبهم عن دار الآداب إضافة إلى احتضانهم ومتابعتهم. يكفي أن أشير إلى الروائي الكبير حنا مينة الذي لازم الدار، وإلى الشاعر العظيم نزار قباني الذي التزم، لفترة طويلة، بنشر دواوينه في دار الآداب.
توطّدتْ علاقتي بالدكتور سهيل إدريس مع الوقت، كما بمجلة “الآداب” وبدار الآداب، ولم تكن هذه العلاقة تتناقض مع علاقتي بمجلة “الطريق” وبدار الفارابي. أي لم تكن علاقتي بمنبر ثقافي موسوم بفكر قومي عربي، تتناقض وعلاقتي بمنبر ثقافي معروف بانتمائه إلى الفكر المادي الماركسي. فقد كانت قضايا التحرّر الوطني، والثقافة الوطنيّة تجمع بين هذين المنبريْن في مناسبات عديدة.
كان أن زارني صاحب دار الآداب، في بيتي العائلي، وأهداني مجموعته القصصية، فازددت إعجابا به وبتواضعه النبيل.
سألني، يومذاك، إن كان لديّ من جديد. وعندما أخبرته بأني أكتب عن العلاقة بين تحوّلات البنية الروائيّة، في زمن الحرب اللبنانية/اللبنانية، ودمار الواقع المرجعي، أو عما سمّيْتُه ” تحوّل في التحوّل”، عبَّر عن رغبته في نشر هذا الكتاب في دار الآداب، بعد أن اقترح عليَّ عنوانا آخر. تمسكت بالعنوان باعتبار هذه العلاقة بين الأدبي والمرجعي لها، في نظري، خصوصيّتها وتميّزها، على مستوى البنية الفنيّة.
كان النقاش ثقافيّا ومفيدا، أدَّى إلى إضافة عنوان ثانوي توضيحي إلى العنوان الأول الرئيس.
أتذكّر تلك الأيام ونضالاتنا على أكثر من صعيد، هذه النضالات التي كنّا نحملها في قلوبنا ونجهر بها في كل المناسبات الأدبيّة التي كنّا نُدعى إليها في أكثر من بلد عربي. لا زلتُ أذكر منها تلك المناسبة التي أقيمت في عمّان بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الروائي الأردني غالب هلسا، المواطن الذي نُفي من وطنه، ليعاد إليه جثة في تابوت.
كان ذلك أواخر الثمانينيات. وكان أن عدتُ إلى بيروت قبل انتهاء المناسبة. عدتُ بصحبة الدكتور سهيل إدريس ولكن كان لكلٍّ منّا سببه.
في الطائرة سألته عن رأيه في هذا الذي جرى بحضوره وحملني على العودة إلى بيروت قبل انتهاء الاحتفال بتلك المناسبة.
قال: لقد طلبتُ من رئيس اتحاد الكتاب الأردنيين أن يعتذر منكِ.
نعم لقد اعتذر، قلتُ بسخريّة، ولكن بحذف كلامي وصورتي من الشريط التلفزيوني الذي سيبثّ بهذه المناسبة. لقد أمر الأمير بإلغاء حضوري في الشريط. لو كنتُ من البلد الذي هو أميرها لأمر بسجني.
دعينا في تلك المناسبة إلى لقاء مع الأمير: يودّ الأمير أن يتحدّثْ إليكم ويحاوركم.
وحدَّثنا الأمير… حدَّثنا عن الحريّة والديمقراطيّة وعن السجون التي طُليتْ جدرانُها بالأبيض، ليقول لنا بأنَّ المثقفين في بلده ينعمون اليوم بحريّة التعبير، وأنَّ السجون شاغرة، وأن الديمقراطيّة حقٌّ يتمتّع به المواطنون.
هكذا سألته حين أُعطينا: هل بإمكان المثقّفين المبعَدين العودة إلى وطنهم بدون أن يُحاسبوا على ما اتهِموا به؟
لم يجب الأمير على سؤالي، بل سأل من كان يجلس إلى جانبه: من هي هذه؟
كان التصفيق الذي ملأ به شبابُ الجامعة القاعةَ جواباً كافياً على “من هي هذه”، وانتهى اللقاء قبل أن ينتهي.
أتذكر.. أعود بذاكرتي اليوم إلى تلك المناسبة. أسمع التصفيق. أرى الدكتور سهيل إدريس جالساً خلف منبره في دار الآداب، أسأله: متى عدتَ؟
هل تعلم كم عدد “الأمراء” الذين صاروا لا يكتفون بوضع مواطنيهم في السجون، بل يقتلونهم في البيوت والساحات؟
هل تعلم أنَّ أبناء الشعوب العربيّة أصبحوا أسرى الموت بسبب الجوع والحروب والدمار؟
هل تعلم أن أمراء الحرب في لبنان صادروا مدخراتنا الصغيرة في مصارفهم، فكان أن توقفتْ معظم دور النشر في لبنان عن إصدار الكتب، وغاب معرض الكتاب عن بيروت، ولم نعد نرى أكشاك الصحف تزيّن أرصفتها؟
هل تعلم…؟
لعل روحك تعلم! فسلام لهذه الروح التي أعطت الكثير وحقَّ لها ذكرى لإحياء عطاءاتها.
* أديب موسوعي ومجاهد ثقافي، أحبَّ الصحافة وآمن برسالتها. مواليد بيروت 1925 ــ 2008
* درس في الكلية الشرعيّة وتخرّج منها شيخاً.
* عام 1949 سافر إلى باريس لمتابعة دراسته، بعد أن تخلى عن زيّه الديني، ونال شهادة الدكتوراه، وقد تأثر بسارتر وبالفلسفة الوجودية.
* أسَّس مجلة “الآداب” سنة 1953، كما أسَّس مع رئيف خوري وحسين مروَّة “جمعية القلم المستقل” عام 1956، ودار الآداب عام 1968.
* ترأس اتحاد الكتاب اللبنانيين بعد أن استقلَّ عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب.
* بين مؤلفاته، في الرواية: “الحي اللاتيني” التي نالت شهرة واسعة، “الخندق الغميق”، “أصابعنا التي تحترق”؛ وفي المجموعات القصصية: “نيران وثلوج”، “كلّهن نساء”، “الدمع المرّ”، “رحماك يا دمشق”.
نقل إلى العربية العديد من الأعمال، خاصة عن اللغة الفرنسية، لأمثال جان بول سارتر وألبير كامو ومارغريت دوراس.
أعود بهذه الذاكرة إلى يوم قرأتُ روايته “الحي اللاتيني”، ولم أكن أعرفه شخصيّاً، فارتسمتْ له، في مخيّلتي، صورة الراوي، وماهيتُ بينه وبين الطالب الذي خلع لباس الشيخ وسافر إلى باريس للدراسة، فإذا به يغرق في ملذات الحي اللاتيني.
أُعجبتُ بصراحته وبقدرته على التوفيق بين تجربته الحياتيّة المتحررة وما رافقها من معاناة، وبين دراسته الأكاديميّة وحصوله على درجة الدكتوراه.
كنتُ وقتها ما زلت تلميذة في الصفوف التكميليّة، أحلم بالسفر إلى باريس لمتابعة دراستي الجامعيّة. ولكني أنثى، لذا كان قتلي أهون على أهلي من تركي أحقِّق حلمي، وأذهب إلى بلادٍ بناتُها متحرّرات من قواعد ديننا الأخلاقيّة.
هكذا بقي روائي “الحي اللاتيني”، في ذهني، قبلة للحريّة، ولإرادة تحصيل العلم، بقي ذلك الشاب الذي يعيش تجربة اكتشاف أجواء باريس، ويكتسب من ثقافتها. لكن عندما التقيته بعد سنوات فاجأني بأن شخصه لا يشبه الـ أنا بطل الرواية وراويها.
في ذلك الوقت لم نكن بعد نملكُ المفاهيم النقديّة التي تخوِّلنا التمييز بين الكاتب والراوي، أو بين الكاتب وبطل الرواية الذي يروي عن نفسه. كنّا نظن أنَّ الراوي الذي يروي بضمير الـ أنا هو نفسه الكاتب/البطل الذي يحكي عن ذاته.
ولم أكن بعد قد قرأتُ عن معنى أن تكون السيرة الذاتيّة رواية، أي جنساً أدبيّاً هو قناع تخييلي تلتبس صدقيّته، وأنَّ التجنيس الروائي يضمر وضع المحكي، أي حكاية السيرة الذاتيّة، موضع المحتمل. الأمر الذي لا يخوّلنا اعتبار هذه الرواية سيرة ذاتيّة وإن استشفنا فيها ما يشير إلى ذات الكاتب.
كما أني لم أكن قد قرأت تعريف فيليب لوجون للسيرة الذاتيّة الذي يقول: هي “سردٌ استعاري نثري يعبِّر به شخصٌ واقعي عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركِّز على حياته الفرديّة وعلى تاريخ شخصه”. وهذا يعني أن رواية “الحي اللاتيني” ليست، بهذا المعنى، سيرة ذاتية. لكنّ البعض نسب كلَّ أفعال “أنا/الراوي” إلى الكاتب وخصّوا شخصه بأحكامهم الأخلاقيّة السلبيّة.
التقيتُه لأول مرة في اتحاد الكتاب اللبنانيين وكان هو رئيس هذا الاتحاد. بعد انتهاء الجلسة سألته عما إذا كان لديه رواية جديدة. ابتسم وأخبرني بإيجاز بأنّه منصرف، في هذا الوقت، إلى الاهتمام بالثقافة العربيّة عبر نشاطات اتحاد الكتاب اللبنانيين بصفته، حالياً، رئيسه، وعبر مجلة “الآداب” التي كان قد أنشأها عام 1953، والتي هي، إضافة إلى دار الآداب، مشروعه من أجل أدب قومي عربي، بل ثورة ثقافيّة تحرِّر المجتمع من أمراضه وتقاليده الباليه.
سألته: هل تعتبر هذا المشروع بمثابة رسالة؟
نعم. هو رسالة واعية حملتها معي، من باريس، بعد تعرّفي إلى ثقافة الغرب، وبشكل خاصّ إلى فلسفة سارتر الوجوديّة، وذلك من منطلق حرصي على “إبراز الأدب الجديد الواعي الذي يستمد حرارته من أرضنا”. وجعلت من صفحات مجلة “الآداب” مساحةً لحضور الأقلام المبدعة، والأقلام الواعدة، ولكلِّ فكر يناقش ويطرح الأسئلة، ويكشف بجرأة ما غرق في عتمة القمع، وحرمتْه الرقابةُ من الإفصاح.
يقال بأن “الآداب” هي مجلة ملتزمة. كيف أمكن لها أن تجمع بين الالتزام وبين انفتاحها، كما تقول: “على كلِّ فكر يناقش ويطرح الأسئلة”؟
إن الالتزام في مجلة “الآداب”، هو التزام بقضايا الواقع العربي، بالمشاعر القوميّة وبالهويّة العربيّة للخطاب الثقافي العربي ومن منظور التأكيد على هذه المشاعر القوميّة والهويّة العربيّة للخطاب الثقافي.
كيف أمكن للمجلة أن تجمع بين الالتزام بالهويّة العربيّة للخطاب الثقافي وبين انفتاحها، كما تقول: على “كل فكر يناقش ويطرح الأسئلة”؟
الهويّة العربيّة هي هويّتُنا، والالتزام بقضايا الواقع العربي لا يعني انغلاقاً على الذات، أو موقفاً عنصريّا عدائيّاً من الآخر، أو تمسّكاً أعمى بالتراث… أو إنتاجاً أدبيّاً على حساب حريّة الصنيع الفني الذي هو من شأن المبدعين، كما هو من صميم حريّتهم. هذا الموقف الفكري يتمثّل عمليّاً، بالنسبة لي، في نشر مقالات المبدعين في المجلة، وإصدار كتبهم عن دار الآداب إضافة إلى احتضانهم ومتابعتهم. يكفي أن أشير إلى الروائي الكبير حنا مينة الذي لازم الدار، وإلى الشاعر العظيم نزار قباني الذي التزم، لفترة طويلة، بنشر دواوينه في دار الآداب.
توطّدتْ علاقتي بالدكتور سهيل إدريس مع الوقت، كما بمجلة “الآداب” وبدار الآداب، ولم تكن هذه العلاقة تتناقض مع علاقتي بمجلة “الطريق” وبدار الفارابي. أي لم تكن علاقتي بمنبر ثقافي موسوم بفكر قومي عربي، تتناقض وعلاقتي بمنبر ثقافي معروف بانتمائه إلى الفكر المادي الماركسي. فقد كانت قضايا التحرّر الوطني، والثقافة الوطنيّة تجمع بين هذين المنبريْن في مناسبات عديدة.
كان أن زارني صاحب دار الآداب، في بيتي العائلي، وأهداني مجموعته القصصية، فازددت إعجابا به وبتواضعه النبيل.
سألني، يومذاك، إن كان لديّ من جديد. وعندما أخبرته بأني أكتب عن العلاقة بين تحوّلات البنية الروائيّة، في زمن الحرب اللبنانية/اللبنانية، ودمار الواقع المرجعي، أو عما سمّيْتُه ” تحوّل في التحوّل”، عبَّر عن رغبته في نشر هذا الكتاب في دار الآداب، بعد أن اقترح عليَّ عنوانا آخر. تمسكت بالعنوان باعتبار هذه العلاقة بين الأدبي والمرجعي لها، في نظري، خصوصيّتها وتميّزها، على مستوى البنية الفنيّة.
كان النقاش ثقافيّا ومفيدا، أدَّى إلى إضافة عنوان ثانوي توضيحي إلى العنوان الأول الرئيس.
أتذكّر تلك الأيام ونضالاتنا على أكثر من صعيد، هذه النضالات التي كنّا نحملها في قلوبنا ونجهر بها في كل المناسبات الأدبيّة التي كنّا نُدعى إليها في أكثر من بلد عربي. لا زلتُ أذكر منها تلك المناسبة التي أقيمت في عمّان بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الروائي الأردني غالب هلسا، المواطن الذي نُفي من وطنه، ليعاد إليه جثة في تابوت.
كان ذلك أواخر الثمانينيات. وكان أن عدتُ إلى بيروت قبل انتهاء المناسبة. عدتُ بصحبة الدكتور سهيل إدريس ولكن كان لكلٍّ منّا سببه.
في الطائرة سألته عن رأيه في هذا الذي جرى بحضوره وحملني على العودة إلى بيروت قبل انتهاء الاحتفال بتلك المناسبة.
قال: لقد طلبتُ من رئيس اتحاد الكتاب الأردنيين أن يعتذر منكِ.
نعم لقد اعتذر، قلتُ بسخريّة، ولكن بحذف كلامي وصورتي من الشريط التلفزيوني الذي سيبثّ بهذه المناسبة. لقد أمر الأمير بإلغاء حضوري في الشريط. لو كنتُ من البلد الذي هو أميرها لأمر بسجني.
دعينا في تلك المناسبة إلى لقاء مع الأمير: يودّ الأمير أن يتحدّثْ إليكم ويحاوركم.
وحدَّثنا الأمير… حدَّثنا عن الحريّة والديمقراطيّة وعن السجون التي طُليتْ جدرانُها بالأبيض، ليقول لنا بأنَّ المثقفين في بلده ينعمون اليوم بحريّة التعبير، وأنَّ السجون شاغرة، وأن الديمقراطيّة حقٌّ يتمتّع به المواطنون.
هكذا سألته حين أُعطينا: هل بإمكان المثقّفين المبعَدين العودة إلى وطنهم بدون أن يُحاسبوا على ما اتهِموا به؟
لم يجب الأمير على سؤالي، بل سأل من كان يجلس إلى جانبه: من هي هذه؟
كان التصفيق الذي ملأ به شبابُ الجامعة القاعةَ جواباً كافياً على “من هي هذه”، وانتهى اللقاء قبل أن ينتهي.
أتذكر.. أعود بذاكرتي اليوم إلى تلك المناسبة. أسمع التصفيق. أرى الدكتور سهيل إدريس جالساً خلف منبره في دار الآداب، أسأله: متى عدتَ؟
هل تعلم كم عدد “الأمراء” الذين صاروا لا يكتفون بوضع مواطنيهم في السجون، بل يقتلونهم في البيوت والساحات؟
هل تعلم أنَّ أبناء الشعوب العربيّة أصبحوا أسرى الموت بسبب الجوع والحروب والدمار؟
هل تعلم أن أمراء الحرب في لبنان صادروا مدخراتنا الصغيرة في مصارفهم، فكان أن توقفتْ معظم دور النشر في لبنان عن إصدار الكتب، وغاب معرض الكتاب عن بيروت، ولم نعد نرى أكشاك الصحف تزيّن أرصفتها؟
هل تعلم…؟
لعل روحك تعلم! فسلام لهذه الروح التي أعطت الكثير وحقَّ لها ذكرى لإحياء عطاءاتها.
* أديب موسوعي ومجاهد ثقافي، أحبَّ الصحافة وآمن برسالتها. مواليد بيروت 1925 ــ 2008
* درس في الكلية الشرعيّة وتخرّج منها شيخاً.
* عام 1949 سافر إلى باريس لمتابعة دراسته، بعد أن تخلى عن زيّه الديني، ونال شهادة الدكتوراه، وقد تأثر بسارتر وبالفلسفة الوجودية.
* أسَّس مجلة “الآداب” سنة 1953، كما أسَّس مع رئيف خوري وحسين مروَّة “جمعية القلم المستقل” عام 1956، ودار الآداب عام 1968.
* ترأس اتحاد الكتاب اللبنانيين بعد أن استقلَّ عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب.
* بين مؤلفاته، في الرواية: “الحي اللاتيني” التي نالت شهرة واسعة، “الخندق الغميق”، “أصابعنا التي تحترق”؛ وفي المجموعات القصصية: “نيران وثلوج”، “كلّهن نساء”، “الدمع المرّ”، “رحماك يا دمشق”.
نقل إلى العربية العديد من الأعمال، خاصة عن اللغة الفرنسية، لأمثال جان بول سارتر وألبير كامو ومارغريت دوراس.
سهيل إدريس: الأديب بوصفه مؤسسة ثقافية | يمنى العيد
أشعرُ وأنا أعود بذاكرتي إليه لأكتب عنه أنّي أمام شخص هو أكثر من أديب، هو مؤسّسة ثقافيّة في تاريخ ثقافتنا العربيّة، وعلامة بارزة في أدبنا الروائي. أكاد أحجم عن الكتابة أمام الذكريات الثريّة التي استيقظ
www.alquds.co.uk